ثورة الحسين ظروفها الإجتماعيّة وآثارها الإنسانيّة

الشيخ محمّد مهدي شمس الدّين

ثورة الحسين ظروفها الإجتماعيّة وآثارها الإنسانيّة

المؤلف:

الشيخ محمّد مهدي شمس الدّين


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: المؤسسة الدوليّة للدراسات والنشر
الطبعة: ٧
الصفحات: ٢٢٩

«يا أخي ، والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى ، لما بايعت يزيد بن معاوية» (١).

وها هو يتمثّل بأبيات يزيد بن مفرغ الحميري حين انسلّ من المدينة في جنح الليل إلى مكة :

لا ذُعِرَتُ السّوامَ في فلقِ الصّبحِ

مُغيراً ولا دُعِيتُ يزيدا

يوم أُعطي على المهانةِ ضيماً

والمنايا تَرصَدنني أن أحيدا (٢)

وها هو يُجيب الحر بن يزيد الرياحي (١) حين قال له : أذكرك الله في نفسك ؛ فإنّي أشهد لئن قاتلت لتُقتلن ، ولئن قُوتلت لتهلكن. فقال له الحسين عليه‌السلام : «أبالموت تخوّفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟ ما أدري ما أقول لك! ولكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه ـ ولقيه وهو يريد نصرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقال له : أين تذهب فإنّك مقتول ، فقال :

سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى

إذا ما نوى خيراً وجاهدَ مسلما

وواسى رجالاً صالحينَ بنفسه

وخالفَ مثبوراً وفارقَ مجرما

فإن عشتُ لم أندم وإن متُّ لم أُلم

كفى بكَ ذُلاً أن تعيشَ وتُرغما» (١)

__________________

(١) أعيان الشيعة ٤ ـ قسم أول ـ ١٨٦

(٢) الطبري ٤ ـ ٢٥٣ ، والكامل ٣ ـ ٢٦٥

(١) المصدرين السابقين علي التوالي : ٤ ـ ٣٠٥ و ٣ ـ ٢٧٠ ـ ٢٨١.

٢١

وها هو ـ وقد أُحيط به ، وقيل له : انزل على حكم بني عمّك ـ يقول : «لا والله ، لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أُقرّ إقرار العبيد ، ألا وإنّ الدّعي ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين : بين السّلة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، وجدود طابت ، وحجور طهرت ، واُنوف حمية ، ونفوس أبيّة لا تُؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام» (١).

كلّ هذا يكشف عن طبيعة السلوك الذي اختطّه الحسين عليه‌السلام لنفسه ولمَنْ معه في كربلاء ، وألهب به الرّوح الإسلاميّة بعد ذلك ، وبثّ فيها قوّة جديدة.

* * *

لقد عرفت كيف كان الزعماء الدينيون والسياسيون يُمارسون حياتهم ، وهذا يرسم لك صورة عن نوع الحياة التي كان يُمارسها الإنسان العادي إذ ذاك. لقد كان همّ الرجل العادي هو حياته الخاصة ، يعمل لها ، ويكدح في سبيلها ، ولا يُفكّر إلاّ فيها ، فإذا اتّسع أُفقه كانت القبيلة محل اهتمامه. أمّا المجتمع وآلامه ، المجمع الكبير فلم يكن ليستأثر من الرجل العادي بأي اهتمام. كانت القضايا العامّة بعيدة عن اهتمامه ، لقد كان العمل فيها وظيفة زُعمائه الدينيين والسياسيين ، يُفكّرون ويرسمون خُطّة العمل ، وعليه أن يسير فقط ، فلم تكن للرّجل العادي مشاركة جدّية إيجابية في قضايا المجتمع العامّة.

وكان يهتم غاية الاهتمام بعطائه ، فيُحافظ عليه ، ويُطيع توجيهات زُعمائه خشية أن يُمحى اسمه من العطاء ، ويسكت عن نقد ما يراه جوراً

__________________

(١) أعيان الشيعة ٤ قسم الاول ٢٥٨ ـ ٢٥٩.

٢٢

بسبب ذلك ، وكان يهتمّ بمفاخر قبيلته ، ومثالب غيرها من القبائل ، ويروي الأشعار في هذا وذاك.

وهذا مُخطّط لحياة الرجل العادي إذ ذاك.

أمّا أصحاب الحسين عليه‌السلام فقد كان لهم شأن آخر.

لقد كانت العُصبة التي رافقت الحسين عليه‌السلام وشاركته في مصيره رجالاً عاديين ، لكلّ منهم بيت وزوجة ، وأطفال وصداقات ، ولكلّ منهم عطاء من بيت المال ، وكان كثير منهم لا يزال في ميعة الصبا ، في حياته مُتّسع للاستمتاع بالحُبّ وطيّبات الحياة ، ولكنّهم جميعاً خرجوا عن ذلك كلّه ، وواجهوا مُجتمعهم بعزمهم على الموت مع الحسين عليه‌السلام ... لقد ثاروا على مُجتمعهم القبلي ، وعلى مُجتمعهم الكبير في سبيل مبدأ آمنوا به ، وصمّموا على الموت في سبيله.

* * *

ولقد عملت هذه الأخلاق عملها في إكساب الحياة الإسلاميّة سِمَة كانت قد فقدتها قبل ثورة الحسين عليه‌السلام بوقت طويل ، ذلك هو الدور الذي غدا الرجل العادي يقوم به في الحياة العامّة بعد أن تأثّر وجدانه بسلوك الثائرين في كربلاء ، قد بدأ الحكام المُجافون للإسلام يحسبون حساباً لهؤلاء الرجال العاديين ، وبدأ المجتمع الإسلامي يشهد من حين لآخر ثورات عارمة يقوم بها الرجال العاديون على الحاكمين الظالمين وأعوانهم ؛ لبُعدهم عن الإسلام ، وعدم استجابتهم لأوامر الله ونواهيه في سلوكهم. ثورات كانت رُوح كربلاء تلهب أكثر القائمين بها ، وتدفعهم إلى الاستماتة في سبيل ما يرونه حقّاً.

ولقد تحطّمت دولة أُميّة بهذه الثورات ، وقامت دولة العبّاسيين بوحي من الأفكار التي كانت تُبشر بها هذه الثورات. ولمّا تبيّن للناس أنّ العبّاسيين

٢٣

كمَنْ سبقهم لم يسكنوا بل ثاروا ... واستمرت الثورات التي تقودها رُوح كربلاء بدون انقطاع ضدّ كلّ ظلم وطُغيان وفساد. ولئن تغيّرت أساليب الصراع اليوم فإنّ روح كربلاء هي التي يجب أن تقود خُطى المسلمين في كفاحهم للمبادئ المعادية للإسلام ، وهي الكفيلة بأن تقودهم ـ في النهاية ـ إلى النصر إن تمسّكوا بها واستلهموها ، وكانوا لباعثيها ـ أهل البيت عليهم‌السلام ـ أتباعاً.

محمد مهدي شمس الدين

٢٤

الفصل الأوّل

الظروف السياسيّة والاجتماعيّة

٢٥
٢٦

الحكم الاُموي كما صوّره خليفة اُموي

فَدَعْ عنكَ ادّكارَكَ آلَ سعدى

فنحنُ الأكثرونَ حصىً ومالا

ونحنُ المالكونَ الناسَ قسرا

نسومُهمُ المذلّةَ والنّكالا

ونوردُهم حياضَ الخسفِ ذُلاً

وما نألوهُمُ إلاّ خبالا

الوليد بن يزيد الاُموي

بُويع بالخلافة يوم الأربعاء ٦ / ربيع الثاني / سنة ١٢٥ هـ ـ ٧٤٣ م ، وقُتل بالبَحراء (قرية من قرى دمشق) يوم الخميس ٢٨ / جمادى الثانية / سنة ١٢٦ هـ ـ ٧٤٤ م.

٢٧
٢٨

تمهيد

لعلّ أصعب ما يواجه الباحث المؤرّخ هو أن يضع خطّاً حاسماً يفصل بين مرحلتين تأريخيتين لمُجتمع ما ؛ فإنّ تحوّل المُجتمع من حالة إلى أُخرى بطيء وتدريجي ، ولذلك فمن العسير تعيين وحدة زمنية والقول بأنّها خاتمة عهد وبداية عهد جديد.

وهذه هي الصعوبة التي نواجهها هنا حين نبغي وضع تحديد زماني دقيق للمرحلة التأريخيّة التي بدأت الأمّة المُسلمة تشهد فيها الانحراف الصريح عن مبادئ الإسلام ، ولكنّنا نستطيع أن نشهد هذا التحوّل واضحاً منذ بداية النصف الثاني من عهد عثمان.

ومن الطبيعي إذاً أن تكون قد أعدّت ومهّدت سبيل الظهور لهذا التّيار الجديد في المُجتمع أحداث وأشكال جديدة في التنظيم نشأ ـ هذا التيار ـ من تفاعلها مع ذهنية الفئات التي كانت تحكم المُجتمع الإسلامي آنذاك وتقوده.

وعلينا ـ لكي تستوفي هذه الدراسة شروط البحث الموضوعي ـ ألاّ نكتفي بالظواهر فقط ، بل نمضي في البحث عن جذور هذه الظواهر في تصرّفات الجماعات والرجال الذين صاغوا تأريخ هذه الفترة ، مُنبّهين إلى

٢٩

أنّنا هنا إنّما نبحث عن طبيعة الأحداث وآليتها ، ومدى مساهمتها في التّعجيل بظهور هذا التّيار الجديد في الحياة الإسلاميّة ، دون أن نعني بإصدار حكم أخلاقي على الرجال الذين صنعوا تأريخ هذه الفترة ، أو الأعمال التي كوّنت هذا التأريخ ، بل نهدف من بحثنا إلى اكتشاف الظروف الاجتماعيّة والإنسانيّة التي مهّدت لثورة الحسين عليه‌السلام ؛ لاعتقادنا بأنّ هذه الثورة كغيرها من الأحداث الاجتماعيّة الهامّة لم تكن وليدة اندفاعات وقتيّة ، وإنّما كانت نتاجاً للظروف الاجتماعيّة التي سبقتها.

ـ ١ ـ

وإذا استعرضنا جملة الأحداث التي كان لها تأثير في التّمهيد للتّطورات الكبرى في عهد عثمان وجدناها كثيرة ، ولعلّ أهمّها ثلاثة : منطق السّقيفة ، ومبدأ عمر في العطاء ، وحادثة الشورى. ونظراً لِما لهذه الأحداث من أهميّة بالغة في تكوين هذه الفترة فإنّنا نخصّ كلّ واحد منها بشيء من الحديث.

٣٠

أ ـ منطق السّقيفة :

لا يسع الباحث أن يُنكر أنّ وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد كشفت عن أنّ الرّوح القبلية كانت لا تزال مُتمكّنة في نفوس كثير من المسلمين ، فقد عبّرت هذه الرّوح عن نفسها في أعمال الرجال الذين ظهروا على الصعيد السياسي في المدينة بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بساعات ، وتحكّمت في توجيه سير الأحداث التي توالت بسرعة مذهلة.

ففي سقيفة بني سعادة اجتمع الأنصار يتداولون ـ بمعزل عن سائر المسلمين ـ في مسألة الحكم بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويرون أنّه من حقّهم ، بينما تكتّل ضدّهم فريق من القرشيين يُنازعهم هذا الأمر ، مع العلم بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يُفارقهم إلاّ بعد أن عهد بالحكم من بعده إلى علي بن أبي طالب عليه‌السلام الذي لم يشترك في أحداث السّقيفة ؛ بسبب انشغاله مع الهاشميّين وبعض الأنصار بجثمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان لم يُدفن بعد ، ولكنّ تيّار الأحداث الجارف ، وتسابق الكُتل السياسيّة إلى اغتنام فرصة الذّهول الذي أصاب أكثر المسلمين لوفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أجل الوصول إلى الحكم ، حمل الجميع على تناسي عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وقد تولّى عمر في خلافته تبرير هذا الموقف في عدّة أحاديث له مع عبد الله بن عباس (١).

وإذا فحصنا المنطق الذي استُخدم في الجدل الذي دار آنذاك بين المهاجرين والأنصار نجد أنّ الرّوح القبلية ظاهرة فيه ظهوراً بيّناً ؛ فقد أثار كلام أبي بكر الأحقاد والإحن الكامنة بين الأوس والخزرج ، وأغرى بينهما ؛ حيث تحدّث عمّا بين الحيين من القتلى ، وعن الجُراح التي لا تُداوى ، بينما

__________________

(١) الطبري ٥ ـ ٣١ ، والكامل لابن الأثير ٣ ـ ٣١ ، وابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة «بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم» ٢ ـ ٥٧ و ١٢ ـ ٩ ، ٢٠ ـ ٢١ ـ ٧٨ ـ ٧٩ ـ ٨٢. وفي تاريخ اليعقوبي : «وكان المهاجرون والأنصار لا يشكّون في علي عليه‌السلام». وقريب منه في شرح نهج البلاغة ٢ ـ ٨٣. ولاحظ للمؤلف : «نظام الحكم والإدارة في الإسلام».

٣١

نرى أنّ الحبّاب بن المنذر ، خطيب الأنصار ـ قد تكلّم بنفس جاهلي صرف حين تحدّث إلى الأنصار يُهيجهم ويشدّ من عزائمهم. ولم يخرج لسان المهاجرين عن هذه الرّوح حين قال :

«مَنْ يُنازعنا سلطان محمد ونحن أولياؤه وعشيرته»

وقد سارت الأحداث في الاتّجاه الذي رسمه أبو بكر ؛ فانقسم الأنصار بتأثير الرّوح القبلية التي تأججت ، وانخذل سعد بن عبادة الخزرجي ـ مُرشحهم للخلاقة ـ حيث بادرت الأوس فبايعت أبا بكر (١).

هذه الرّوح القبلية التي عبّرت عن نفسها يوم السّقيفة فتحت على المسلمين باباً من أبواب الفتنة.

فقد خرجت قريش من هذه التّجربة وهي ترى أنّ الحكم حقّ من حقوقها. وأنّ الخلافة وراثة آلت إليها بحكم كون نبيّ المسلمين منها. ممّا سبّب أسوأ الآثار في فهم القرشيين لمهمّة الحكم في الإسلام. وستظهر هذه الآثار واضحة في عهد عثمان.

__________________

(١) ممّا لا يخلو من مغزى أنّ عمر حين فرض العطاء على مبدئه في تفضيل بعض المسلمين على بعض ، فضّل الأوس على الخزرج في ذلك. راجع فتوح البلدان : ٤٣٧. وقد احتجّ سعد بن عبادة على توجيه الأحداث السياسيّة بهذا الشكل ، فلعنه عمر وأبو بكر جهاراً ، وبرءا منه ، وأخرجاه من المدينة إلى الشام حيث قُتل هناك. وكان ممّا قال فيه عمر : (اقتلوا سعداً ، قتل الله سعداً ، اقتلوه فإنّه منافق).

ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة / ج ٢٠ ص ـ ١٧ و ٢١.

٣٢

ب ـ مبدأ عمر في العطاء :

سوّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بين المسلمين في العطاء ، فلم يُفضّل أحداً منهم على أحد ، وجرى على مبدأ التّسوية في العطاء أبو بكر مدّة خلافته ، أمّا عمر فقد جرى ـ حين فرض العطاء في سنة عشرين للهجرة ـ على مبدأ التّفضيل :

«ففضّل السابقين على غيرهم ، وفضّل المهاجرين من قريش على غيرهم من المهاجرين ، وفضّل المهاجرين كافّة على الأنصار كافّة ، وفضّل العرب على العجم ، وفضّل الصريح على المولى» (١).

وفضّل مضر على ربيعة ، ففرض لمضر في ثلاثمئة ، ولربيعة في مائتين (٢) ، وفضّل الأوس على الخزرج (٣).

وقد ولّد هذا المبدأ فيما بعد أسوأ الآثار في الحياة الإسلاميّة ؛ حيث إنّه وضع أساس تكوّن الطبقات في المجتمع الإسلامي ، وجعل المزية الدينية من سُبل التفوّق المادي ، وزََوّد الإرستقراطية القرشية التي مكّنت لنفسها من جديد بتمكّن أبي بكر من الحكم بمبرر جديد للاستعلاء والتحكّم بمقدّرات المسلمين ، فجميع اعتبارات التفضيل تجعل القرشيين أفضل في العطاء من غير القرشيين (٤) ، وهذا يعني أنّ قريشاً هي أفضل النّاس ؛ لأنّها قريش ، وكفى بهذا مبرراً للتحكيم والاستعلاء.

وقد كوّن هذا المبدأ سبباً جديداً من أسباب الصراع القبلي بين ربيعة

__________________

(١) ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ٨ / ١١١.

(٢) تأريخ اليعقوبي ٢ / ١٠٦.

(٣) فتوح البلدان / ٤٣٧.

(٤) فَهُم عرب ، وقريشيون ، ومضريون ، ومهاجرون.

٣٣

ومضر وبين الأوس والخزرج بما تضمّن من تفضيل سائر مضر على سائر ربيعة ، وتفضيل الأوس على الخزرج. ونظن أن هذا المبدأ قد أرسى أوّل أساس من أسس الصراع العنصري بين المسلمين العرب وغيرهم من المسلمين بما جرى عليه عمر من تفضيل العرب على العجم ، والصّريح على المولى.

وكأنّ عمر قد أدرك في آخر أيّامه الأخطار السياسيّة والاجتماعيّة التي يؤدّي إليها مبدؤه هذا ، ولعلّه رأى بعض الآثار الضّارة التي خلّفها هذا المبدأ في حياة المسلمين ، ومنها هذه الظاهرة التي دلّت على تسرّب روح التحزّب والانقسام إلى مجتمع المدينة ، والتي لاحظها عمر وحذّر منها بقوله :

«بلغني أنّكم تتّخذون مجالس ، لا يجلس اثنان معاً حتّى يُقال : من صحابة فلان ، من جلساء فلان ، حتّى تُحُوميت المجالس. وأيم الله إنّ هذا لسريع في دينكم ، سريع في شرفكم ، سريع في ذات بينكم ...» (١).

ولذلك أعلن عزمه على الرجوع إلى المبدأ النبويّ في العطاء فقال :

«إنّي كنت تألّفت الناس بما صنعت في تفضيل بعض على بعض ، وإن عشت هذه السّنَة ساويت بين الناس فلم أفضّل أحمر على أسود ، ولا عربياً على أعجمي ، وصنعت كما صنع رسول الله وأبو بكر» (٢).

ولكنّ عمر قُتل قبل أن يرجع عن هذا المبدأ ، فجاء عهد عثمان وسار عليه ، فظهرت آثاره الضّارة في الحياة الإسلاميّة ، وكان من أهم العوامل التي مهّدت للفتنة بين المسلمين.

__________________

(١) الطبري ٥ / ٢٥ في أحداث سنة ثلاث وعشرين.

(٢) تأريخ اليعقوبي ٢ / ١٠٧ ، شرح نهج البلاغة (بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم) ٢ / ١٣١ ـ ١٣٢ ، ابن الطنطقي في الفخري : ٧٣.

٣٤

ج ـ الشورى

وإذا كان التفضيل في العطاء قد خلق شعوراً بالامتياز والتفرّد لدى قريش فإنّ الشّورى التي اقترحها عمر قد أثارت في نفوس كثير من الأشخاص البارزين في قريش آنذاك ، وفي نفوس قبائلهم وأنصارهم مطامح سياسية ما كانوا ليحلموا بها ؛ فقد جعل عمر الشّورى في ستة نفر من قريش ، وكلّهم مرشّح للخلافة. وها نحن نُثبت هنا نصّاً يصوّر لنا توزيع القوى السياسيّة أمام الحدث الذي يوشك أن يقع ، وهو بيعة خليفة جديد للمسلمين بعد عمر بن الخطّاب من بين هؤلاء المرشّحين :

«... فخرج عبد الرحمن ـ ابن عوف ـ فمكث ثلاثة أيّام يُشاور الناس ثمّ رجع ، واجتمع الناس وكثروا على الباب ، لا يشكّون أنّه يبايع علي بن أبي طالب عليه‌السلام (١) ، وكان هوى قريش كافّة ـ ما عدا بني هاشم ـ في عثمان ، وهوى طائفة من الأنصار مع علي عليه‌السلام ، وهوى طائفة أخرى مع عثمان ، وهي أقل الطائفتين» (٢).

فالناس يريدون علياً عليه‌السلام ؛ لأنّهم يخشون سلطان بني أُميّة ، أمّا قريش فهي تخشى علياً وعدله واستقامته ، ولعلّ كثيرين منهم كانوا على علم ببعض آرائه في المال والاجتماع والولايات ، وأمّا الأنصار فكثرتهم مع علي عليه‌السلام ، وقلّتهم مع عثمان ، وهذا طبيعي ؛ بسبب خوفهم من تسلّط قريش على جميع مقدّرات الدولة.

وقد سيطر منطق السّقيفة القبلي على بني أُميّة في الجدل الذي دار في

__________________

(١) وليس هنا شيء جديد بالنسبة إلى موقف الناس من علي عليه‌السلام ، فهذا هو موقفهم منه منذ السقيفة ؛ ففي تأريخ اليعقوبي ٢ / ٨٣ : «وكان المهاجرين والأنصار لا يشكّون في علي».

(٢) ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ٩ / ٢٥.

٣٥

مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة ، والذي سبق البيعة لعثمان وبدا واضحاً أنّ قريشاً اعتبرت الخلافة مؤسسة من مؤسساتها ، وشأناً من شؤونها الخاصّة ، وليس لأيّ من المسلمين أن يتقدّم في الخلافة برأي يتنافى ورغباتها.

هذا عبد الله بن أبي ربيعة بن المُغيرة المخزومي يقول للمقداد بن عمرو :

«يابن الحليف العسيف ، ومتى كان مثلك يجترئ على الدخول في أمر قريش» (١).

وقال عبد الله بن سعد بن أبي سرح الاُموي :

«أيّها الملأ ، إنّ أردتم ألاّ تختلف قريش فيما بينها فبايعوا عثمان» (٢).

أمّا عمار بن ياسر قال :

«إنّ أردتم ألاّ يختلف المسلمون فيما بينهم فبايعوا علياً» (٣).

فعلي كان مرشح الأكثرية المسلمة ، ولكن عثمان ـ مرشح الأُرستقراطية القرشية ـ فاز بالبيعة دون علي بن أبي طالب.

فقد آلت الشّورى إذاً في النتيجة إلى استيلاء الاُمويِّين ـ في شخص عثمان ـ على الحكم ، ولكنّها خلقت مواقف مختلفة من هذه النتيجة ، حيث بدأ التفكير في الخلافة يتسرّب إلى نفوس هؤلاء المرشّحين من رجال الشّورى ، وغدا كلّ واحد منهم يرجوها لنفسه بعد أن رشّحه لها عمر. وطمح إلى الخلافة رجال غير رجال الشّورى من قريش ؛ لأنّهم رأوا أنّ بعض مَنْ رشّحهم عمر لا يفضلونهم في شيء ، بل ربّما امتازوا عليهم في أشياء كثيرة.

__________________

(١) و (٢) و (٣) المصدر السابق ٩ / ٥٢ ، والطبري ٤ / ٢٣٢ ـ ٢٣٣.

٣٦

وكان لنظام الشّورى أسوأ الأثر في نفسيّات الأنصار ، هؤلاء الذين وعدوا في السّقيفة أن يكونوا وزراء وشركاء في الحكم ، وإذا بهم يُحرمون من كلّ شيء حتّى من حقّ المشورة. أضف إلى هذا : إنّ النتيجة التي آلت إليها لم تكن مُرضية لهم ؛ فقد رأوا في انتصار الاُمويِّين انتصار لأعدائهم القدماء من مشركي مكّة.

وقد عبّر علي بن أبي طالب عليه‌السلام عن عدم رضاه عن هذه النتيجة ، وتسليمه بالأمر الواقع قائلاً :

«لأُسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جوز إلاّ عليّ خاصّة» (١).

بينما أخذ الطّامحون إلى الخلافة يجمعون الأنصار حولهم في الخفاء ، ويستعينون على ذلك بأموالهم وقبائلهم ، وإنشاء علاقات المصاهرة مع القبائل الأخرى ، حتّى إذا تقدّم العمر بخلافة عثمان قليلا ظهرت هذه الأحزاب إلى العلن تعمل في سبيل هدفها الفريد. وكانت عاقبة الشّورى أنّها سبّبت نُشوء هذه الأحزاب القائمة على الولاء لأشخاص مُعيّنين ذوي أهداف شخصيّة في الوصول إلى الحكم ، مستغلّة أسباب الشّكوى والاستياء من عثمان وبطانته وولاته على الأمصار. وقد روى ابن عبد ربّه حديثاً لمعاوية بن أبي سفيان اعترف فيه بأنّه :

«لم يُشتّت بين المسلمين ولا فرّق أهواءهم إلاّ الشّورى التي جعلها عمر في ستة نفر ... لم يكن رجل منهم رجاها لنفسه ، ورجاها له قومه ، وتطلّعت إلى ذلك نفسه» (٢).

__________________

(١) نهج البلاغة (طبع دار الاندلس ـ بييروت) ١ / ١٥١.

(٢) ابن عبد ربه الأندلسي : العقد الفريد ـ بتحقيق : محمد سعيد العريان ج ٥ ص ٣١ ـ ٣٢.

٣٧

هذه هي الأحداث التي نرى أنّها تتّصل اتصالاً وثيقاً بالفتنة التي أصابت المسلمين في عهد عثمان ، فقد تفاعلت هذه الأحداث فيما بينها ، وتفاعلت مجتمعة مع أسلوب عثمان في سياسة المال ، والإدارة ، والاجتماع ، فكان من ذلك جميعاً الانحراف الصريح عن مبادئ الإسلام الذي وصل بالمأساة إلى قمّتها فدفع بالمسلمين إلى الثورة ، وانتهى بهم إلى شرّ ما كانوا يحذرون.

٣٨

ـ ٢ ـ

وسار عثمان حين ولي الخلافة على سياسة في المال لم يعهدها المسلمون ممّن تقدّمه ، ولم يألفوها ؛ فقد راح يغدق الهبات الضخمة على آله وذويه وغيرهم من أعيان قريش ، وعلى بعض أعضاء الشّورى بصورة خاصّة. ولو كانت هذه الهبات من أمواله الخاصّة لما أثارت اعتراض أحد ، ولكنّها كانت من بيت المال الذي يشترك فيه المسلمون جميعاً. وقد سار عمّال عثمان في أنحاء الخلافة سيرته في المدينة ، فانكفؤوا على بيوت الأموال المحلية ينفقونها على آلهم وأنصارهم والمقرّبين إليهم (١) ..

وقام عثمان بإجراء مالي فتح به للطّبقة الثريّة التي كان يخصّها بهباته وعطاياه أبواباً من النشاط المالي ، وأتاح لهم فرص التّمكين لنفسها وتنمية ثرواتها ، وذلك حين اقترح أن ينقل الناس فيهم من الأرض إلى حيث أقاموا ؛ فلمَنْ كان له أرض في العراق ، أو في الشام ، أو في مصر أن يبيعها ممّن له أرض بالحجاز ، أو غيره من بلاد العرب. وقد سارع الأثرياء إلى الاستفادة من هذا الإجراء ، فاشتروا بأموالهم المُكدّسة أرضين في البلاد المفتوحة ، وبادلوا بأرضهم الحجاز أرضين في البلاد المفتوحة ، وجلبوا لها الرقيق والأحرار يعملون فيها ويستثمرونها ، وبذلك نمت هذه الثروات نمواً عظيماً ، وازدادت هذه الطّبقة الطّامحة إلى الحكم والطّامحة إلى السيادة قوّة إلى قوّتها.

وقد ذكر المسعودي وغيره بعض الأمثلة على هذه الثروات الضّخمة في ذلك الوقت.

__________________

(١) المسعودي : مروج الذهب ٢ / ٣٤١ ، والبلاذري : أنساب الأشراف ٥ / ٢٥ ـ ٢٨ و ٤٨ ، ٥٢ ، وغيرهما.

٣٩

«فقد بلغت ثورة الزبير خمسين ألف دينار ، وألف فرس ، وألف عبد ، وضياعاً وخططاً في البصرة ، والكوفة ، ومضر ، والإسكندرية.

وكانت غلّة طلحة بن عبيد الله من العراق كلّ يوم ألف دينار ، وقيل أكثر ، وبناحية الشّراة أكثر ممّا ذكرنا.

وكان على مربط عبد الرحمن بن عوف مئة فرس ، وله ألف بعير ، وعشرة آلاف شاة ، وبلغ ربع ثمن ماله بعد وفاته أربعة وثمانين ألفاً.

وحين مات زيد بن ثابت خلّف من الذهب والفضة ما كان يُكسر بالفؤوس غير ما خلّف من الأموال والضياع بقيمة مئة ألف دينار.

ومات يعلى بن مُنبه وخلّف خمسمئة ألف دينار ، وديوناً ، وعقارات وغير ذلك ما قيمته ثلاثمئة ألف دينار.

أمّا عثمان نفسه فكان له يوم قُتل عند خازنه مئة وخمسون ألف دينار ، ومليون درهم ، وقيمة ضياعه بوادي القرى ، وحنين وغيرهما مئة ألف دينار ، وخلّف خيلاً كثيراً وإبلاً».

ثمّ قال المسعودي بعد ذلك :

«وهذا باب يتّسع ذكره ، ويكثر وصفه فيمَنْ تملّك الأموال في أيّامه» (١).

__________________

(١) المسعودي : مروج الذهب ٢ / ٣٤١ ـ ٣٤٣.

٤٠