ثورة الحسين ظروفها الإجتماعيّة وآثارها الإنسانيّة

الشيخ محمّد مهدي شمس الدّين

ثورة الحسين ظروفها الإجتماعيّة وآثارها الإنسانيّة

المؤلف:

الشيخ محمّد مهدي شمس الدّين


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: المؤسسة الدوليّة للدراسات والنشر
الطبعة: ٧
الصفحات: ٢٢٩

فاستجاب لهم ناس كثير بعد هلاك يزيد أضعاف مَنْ كان استجاب لهم قبل ذلك. وخرجوا يشترون السلاح ظاهرين ، ويجاهرون بجهازهم وما يصلحهم.

حتّى إذا كانت ليلة الجمعة لخمس مضين من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين خرجوا وتوجّهوا إلى قبر الحسين عليه‌السلام ، فلمّا وصلوا إليه صاحوا صحية واحدة فما رُئي يوم أكثر باكياً منه ، وقالوا :

«يا ربّ ، إنّا قد خذلنا ابن بنت نبيّنا فاغفر لنا ما مضى وتب علينا إنّك أنت التواب الرحيم ، وارحم حسيناً وأصحابه الشهداء الصدّيقين ، وإنّا نُشهدك يا ربّ إنّا على مثل ما قُتلوا عليه ، فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين».

وغادروا القبر مُستقتلين ، فقاتلوا جيوش الاُمويِّين حتّى اُبيدوا جميعاً (١).

ولقد اعتبر التوابون أنّ المسؤول الأول والأهم عن قتل الحسين عليه‌السلام هو النظام وليس الأشخاص ، وكانوا مُصيبين في هذا الاعتقاد ؛ ولذا نراهم توجّهوا إلى الشام ولم يلقوا بالاً إلى مَنْ في الكوفة من قتلة الحسين عليه‌السلام.

ونلاحظ هنا أنّ هذه الثورة قد انبعثت عن شعور بالإثم والندم وعن رغبة في التكفير ، فمَنْ يقرأ أقوالهم وكتبهم وخطبهم يلمس فيها الشعور العميق بالإثم والندم والرغبة الحارة في التكفير ، وكونها صادرة عن هذه البواعث جعلها ثورة انتحارية استشهادية ؛ فالثائرون هنا يريدون الانتقام والتكفير ولا يستهدفون شيئاً آخر وراء ذلك ، فلا يريدون نصراً ولا ملكاً ولا مغانم ، وإنّما يريدون انتقاماً فقط ، وقد خرجوا من ديارهم وهم على مثل اليقين بأنّهم لا يرجعون إليها ، كانوا يريدون أن يموتوا ، ولقد بُذل لهم الأمان فلم

__________________

(١) سجل الطبري ثورة التوابين في ٤ / ٤٢٦ ـ ٤٣٦ و ٤٤٩ ـ ٤٧٣.

٢٠١

يقبلوا (١). وإذاً ، فلم تكن لهذه الثورة أهداف اجتماعية واضحة ومُحدّدة ، لقد كان الهدف الواضح منها هو الانتقام والتكفير.

وإنّ الفقرة التي في صدر خطاب سليمان بن صرد لتصوّر لنا بدقة متناهية حالة المجتمع قبل ثورة الحسين عليه‌السلام وموقفه من الحركات الإصلاحية كما عكسه موقف هذا المجتمع من ثورة الحسين عليه‌السلام نفسها. وإنّ الكلمات في هذه الفقرة لتكاد تختلج حياء بما تحمل من معاني الونى والعجز والإدهان والتربّص والخذلان ، كما إنّ بقيّة الخطاب وسائر ما قيل في الحثّ على هذه الثورة يُصوّر كيف كانت ثورة الحسين عليه‌السلام بركاناً عصف بكلّ هذا الركام من معاني العجز والانهيار والتلوّن ، وأحلّ محلّه الرغبة العارمة في الثورة والاستشهاد. وقد رأيت فيما مرّ عليك من نصّ الطبري أنّ الاستجابة للثورة لم تقتصر على الشيعة وحدهم ، بل شاركهم فيها غيرهم ممّن يأملون تغيير الأوضاع عن طريق إزالة النير الاُموي بالثورة.

وكون هذه الثورة انتقامية انتحارية استشهادية لا هدف للقائمين بها إلاّ الانتقام والموت في سبيله يُفسّر لنا قلّة عدد المُستجيبين لها إلى النهاية ؛ فقد أحصى ديوان سليمان بن صرد ستة عشر ألف رجل لم يخرج معه منهم أربعة آلاف (٢) ، ولم يستجب للدعوة من المدائن إلاّ مئة وسبعون رجلاً ، ومن البصرة إلاّ ثلاثمئة رجل (٣) ، فالعمل الانتحاري الاستشهادي لا يستهوي إلاّ أفراداً على مستوى عالٍ من التضحية [والتشبّع] بالمبدأ ، وهؤلاء قلّة في كلّ زمان.

هذا ، ولكنّ الإنصاف للواقع يقتضينا أن نسجّل أنّ هذه الثورة وإن كانت ثورة انتحارية استشهادية ولم تكن لها أهداف اجتماعية واضحة ، إلاّ إنّها أثّرت في مجتمع الكوفة تأثيراً عميقاً ؛ فقد عبّأت خطب قادات هذه الثورة

__________________

(١) الطبري ٤ / ٤٦٩.

(٢) المصدر السابق ٤ / ٤٥٢.

(٣) المصدر السابق ٤ / ٤٦٦.

٢٠٢

وشعاراتهم الجماهير في الكوفة للثورة على الحكم الاُموي ؛ ولذلك فلم يكد يبلغهم خبر هلاك يزيد حتّى ثاروا على العامل الاُموي عمرو بن حريث فأخرجوه من قصر الإمارة ، واصطلحوا على عامر بن مسعود الذي بايع لابن الزّبير (١) ، فكان ذلك مطلع العهد الذي زال فيه سلطان الاُمويِّين عن العراق إلى حين.

__________________

(١) الطبري ٤ / ٤٠٤.

٢٠٣

ـ ٣ ـ

ب ـ ثورة المدينة

وكانت ثورة المدينة ردّ فعل آخر لمقتل الحسين عليه‌السلام.

إلاّ إنّنا هنا نشاهد لوناً آخر من الثورات ، ثورة تختلف عن ثورة التوابين في الدوافع والأهداف. لقد كانت الدوافع إلى هذه الثورة شيئاً غير الانتقام ، كانت ثورة تستهدف تقويض سلطان الاُمويِّين الظالم الجائر البعيد عن الدين.

وما نشكّ في أنّ شُعلة هذه الثورة كانت مُتأجّجة ولكنّها كانت تبحث عن مُبرّر للانفجار ، والذي أجّج شُعلة الثورة أسباب منها مقتل الحسين عليه‌السلام ولعلّه كان أهمّها ؛ فإنّ زينب بنت علي عليها‌السلام دأبت بعد وصولها إلى المدينة على العمل للثورة ، وعلى تعبئة النفوس لها ، وتأليب الناس على حكم يزيد ، حتّى لقد خاف عمرو بن سعيد الأشدق والي يزيد على المدينة انتقاض الأمر ، فكتب إلى يزيد عن نشاطها كتاباً قال فيه :

إنّ وجودها بين أهل المدينة مُهيّج للخواطر ، وإنّها فصيحة عاقلة لبيبة ، وقد عزمت هي ومَنْ معها على القيام للأخذ بثأر الحسين. فأتاه كتاب يزيد بأن يُفرّق بينها وبين الناس (١).

__________________

(١) جعفر النقدي : زينب الكبرى (ط النجف) ص ١٢٠ ـ ١٢٢ نقلاً عن النسابة العبيدلي في (أخبار الزينبات) والدكتورة بنت الشاطيء في كتابها بطلة كربلاء.

٢٠٤

وقد كان السبب المباشر لاشتعال الثورة هو وفد أهل المدينة إلى يزيد ؛ فقد أوفد عثمان بن محمد بن أبي سفيان والي المدينة إلى زيد وفداً من أهلها فيهم عبد الله بن حنظلة الأنصاري غسيل الملائكة ، وعبد الله بن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي ، والمُنذر بن الزّبير ، ورجالاً من أشراف أهل المدينة ، فقدموا على يزيد فأكرمهم وأحسن إليهم وأعظم جوائزهم ، فلمّا رجعوا قدموا المدينة كلّهم إلاّ المنذر بن الزّبير ؛ فإنّه قدم العراق. فلمّا قدم اُولئك النفر الوفد المدينةَ قاموا في أهل المدينة وأظهروا شتم يزيد وعيبه ، وقالوا : قدمنا من عند رجل ليس له دين ؛ يشرب الخمر ، ويضرب بالطنابير ، ويعزف عنده القيان ، ويلعب بالكلاب ، ويسعر عنده الحراب ـ وهم اللصوص ـ وإنّا نشهدكم أنّا قد خلعناه. وقام عبد الله بن حنظلة الغسيل ، فقال :

جئتكم من عند رجل لو لم أجد إلاّ بنيّ هؤلاء لجاهدته بهم ، وقد أعطاني وأكرمني وما قبلت عطاءه إلاّ لأتقوى به.

فخلعه الناس وبايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل على خلع يزيد وولّوه عليهم.

وأمّا المنذر بن الزّبير فقدم المدينة فكان ممّن يُحرّض الناس على يزيد ، وقال :

«إنّه قد أجازني بمئة ألف ، ولا يمنعني ما صنع بي أن أخبركم خبره وأصدقكم عنه ؛ والله إنّه ليشرب الخمر ، والله إنّه ليسكر حتّى يدع الصلاة».

وعابه بمثل ما عابه به أصحابه وأشدّ.

وثارت المدينة على الحكم الاُموي ، وطرد الثائرون عامل يزيد والاُمويِّين ،

٢٠٥

وقدرهم ألف رجل ، ولم ينفع الوعد ولا الوعيد في ردّهم عن ثورتهم ، فقُمعت الثورة بجيش من الشام بوحشيّة متناهية ، ودعا القائد الاُموي مسلم بن عقبة المُرّي لبيعة يزيد بن معاوية كما نقل الطبري وغيره : دعا الناس للبيعة على أنّهم خول ليزيد بن معاوية ، يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء (١).

* * *

وهلك يزيد ، وقد باشر جيشه بقمع ثورة ابن الزّبير في مكة بعد أن فرغ من قمع ثورة المدينة ، وكان ابن الزّبير قد أعلن الخلاف بعد ما بلغه مقتل الحسين عليه‌السلام ، ولا يمكن أن نعتبر ثورة ابن الزّبير امتداداً لثورة الحسين عليه‌السلام ؛ فقد كان ابن الزّبير يعد العدّة للثورة قبل مقتل الحسين عليه‌السلام ، وكانت أطماعه الشخصيّة في الحكم هي بواعثه على الثورة ، وكان يرى في الحسين عليه‌السلام منافساً خطيراً كما عرفت ، فلمّا بلغ خبر مقتل الحسين عليه‌السلام أهل مكة وثب إليه أصحابه وقالوا : أظهر بيعتك ؛ فإنّه لم يبقَ أحد إذ هلك الحسين ينازعك الأمر ، ولكنّه قال لهم : لا تعجلوا (٢). حتّى إذا كانت سنة خمس وستين بُويع له في الحجاز والعراق ، والشام والجزيرة (٢).

وما نشكّ في أنّ استجابة الناس للثورة التي دعا لها ابن الزّبير كان مبعثها هذه الروح الجديدة التي بثّتها ثورة الحسين عليه‌السلام الدامية في نفوس الجماهير ، وقد مرّ عليك آنفاً كيف أثّر التوابون في الكوفة على الحكم الاُموي بحيث أعدّوا الناس لتقبّل حكم ابن الزّبير وطرد عامل بني اُميّة على العراق.

__________________

(١) الطبري «ثورة المدينة» ٤ / ٣٦٦ ـ ٣٨١.

(٢) المصدر السابق ٤ / ٣٦٤.

(٣) المصدر السابق ٤ / ٤٠٨.

٢٠٦

ـ ٤ ـ

ج ـ ثورة المختار الثقفي

ودخلت سنة ست وستين للهجرة ، فثار المختار بن أبي عبيدة الثقفي بالعراق طالباً ثأر الحسين عليه‌السلام.

ولكي نعرف السرّ في استجابة جماهير العراق لابن الزّبير أوّل الأمر ثمّ انقلابها عليه واستجابتها لدعوة المُختار ، لا بدّ أن نلاحظ أنّ مجتمع العراق كان يطلب إصلاحاً اجتماعياً ، وكان يطلب الثأر من الاُمويِّين وأعوانهم ؛ وعلى أمل الإصلاح الاجتماعي والانتقام استجاب مجتمع العراق لابن الزّبير ، فهو عدو الاُمويِّين من جهة ، وهو يتظاهر بالإصلاح والزهد والرغبة عن الدنيا من جهة اُخرى ، فلعلّ سلطانه أن يُحقّق كلا الأمرين.

ولكنّ سلطان ابن الزّبير لم يكن خيراً من سلطان الاُمويِّين ؛ لقد أخرج العراق عن سلطانهم ، ولكن قاتلي الحسين عليه‌السلام كانوا مُقرّبين إلى السلطة كما كانوا في عهد الاُمويِّين. إنّ شمر بن ذي الجوشن ، وشبت بن ربعي ، وعمر بن سعد ، وعمرو بن الحجّاج ، وغيرهم كانوا سادة المجتمع في ظلّ سلطان ابن الزّبير ، كما كانوا سادته في ظلّ سلطان يزيد.

كما إنّه لم يُحقّق لهم العدل الاجتماعي الذي يطلبونه ، لقد كانوا يحنّون إلى سيرة علي بن أبي طالب عليه‌السلام فيهم ، هذه السيرة التي حقّقت لهم أقصى ما يمكن من رفاه وعدل ، هذا عبد الله بن مطيع العدوي عامل ابن الزّبير على الكوفة يقول للناس إنّه أمر أن يسير بسيرة عمر وعثمان ، فيقول له المتكلّم بلسان أهل الكوفة :

٢٠٧

«... أمّا حمل فيئنا برضانا فإنّا نشهد أنّا لا نرضى أن يُحمل عنّا فضله ، وألاّ يُقسم إلاّ فينا ، وأن لا يُسار فينا إلاّ بسيرة علي بن أبي طالب التي سار بها في بلادنا هذه ، ولا حاجة لنا في سيرة عثمان في فيئنا ولا في أنفسنا ، ولا في سيرة عمر بن الخطّاب فينا وإن كانت أهون السيرتين علينا» (١).

كان هذا أو ذاك سبباً في انخذال الناس عن ابن الزّبير وتأييدهم لثورة المختار عليه ، ولقد ربط المختار دعوته بمحمد بن الحنفيّة بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، وهذا ما جعلهم يطمئنون إلى عدل السيرة والإصلاح ، لقد جعل شعاره «يا لثارات الحسين» وهذا يُحقّق لهم الهدف الثاني.

ولقد حارب عبد الله بن مطيع عامل ابن الزّبير في الكوفة الثائرين مع المختار بالرجال الذين تولّوا قتل الحسين عليه‌السلام. لقد حاربهم بشمر بن ذي الجوشن ، وعمرو بن الحجّاج ، وشبث بن ربعي وأمثالهم ، وكان هذا كافياً في حفز الثائرين على المضي في ثورتهم والتصميم على النصر.

وقد أنصف المختار عندما تولّى الحكم طبقة في المجتمع الإسلامي كانت مُضطهدة في عهد الاُمويِّين واستمر اضطهادها في عهد ابن الزّبير ، وهي طبقة الموالي «المسلمين غير العرب» ، فقد كانت عليهم واجبات المسلمين ولم تكن لهم حقوقهم ، فلمّا استتب الأمر للمختار أنصفهم فجعل لهم من الحقوق مثل ما لغيرهم من عامّة المسلمين.

وقد أثار هذا العمل الأشراف وسادة القبائل فتكتّلوا ضدّ المختار ، وتآمروا عليه ، وأجمعوا على حربه ، وكان على رأس هؤلاء المتمردين قتلة الحسين عليه‌السلام ، ولكنّهم فشلوا في حركتهم (٢).

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ / ٢٢٠ ـ ٢٢١.

(٢) الطبري ٤ / ٥١٧.

٢٠٨

وكانت حركة التمرّد هذه سبباً في حفز المختار على التعجيل بتتبع قتلة الحسين عليه‌السلام وآله في كربلاء وقتلهم ؛ فقتل منهم في يوم واحد مئتين وثمانين رجلاً (١) ، ثمّ تتبعهم فقتل كثيراً منهم ، ولم يفلت من زعمائهم أحد ؛ فقتل شمر بن ذي الجوشن ، وعمر بن سعد ، وعمرو بن الحجّاج ، وشبث بن ربعي ، وغيرهم (٢).

__________________

(١) الممصدر السابق ٤ / ٤٢٤.

(٢) المصدر السابق «ثورة المختار» ٤ / ٤٨٧ ـ ٥٧٧.

٢٠٩

ـ ٥ ـ

د ـ ثورة مطرف بن المغيرة

وفي سنة ٧٧ للهجرة ثار مطرف بن المغيرة بن شعبة على الحجّاج بن يوسف وخلع عبد الملك بن مروان.

كان هذا الرجل والياً للحجّاج على المدائن ، وكان حيّ الضمير ، فلم يعمِ عينيه السلطان الذي حباه به الاُمويّون عن إدراك الظلم الفادح الذي ينزلونه بالأمّة المسلمة ، وقد اتصل به دعاة الخوارج فأرادوه على أن ينظمّ إليهم ويسلّم بإمرة المؤمنين لزعيمهم شبيب ، وأرادهم على أن ينظمّوا إليه ليعيدوا الأمر شورى في المسلمين ، فأبى وأبوا ، واستشار نصحاءه في الثورة فلم ينصحه بها أحد منهم ، ولكنّه ثار بمَنْ أجابه ، وكلّم رؤوس أصحابه ، فقال :

«أمّا بعد ، فإنّ الله كتب الجهاد على خلقه ، وأمر بالعدل والإحسان ، وقال : فيما أنزل علينا : (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) ، وإنّي اُشهد الله أنّي خلعت عبد الملك بن مروان والحجّاج بن يوسف ، فمَنْ أحبّ منكم صحبتي وكان على مثل رأيي فليبايعني ؛ فإنّ له الأسوة وحُسن الصحبة ، ومَنْ أبى فليذهب حيث شاء ؛ فإنّي لست أحبّ أن يتبعني مَنْ ليس له نيّة في جهاد أهل الفجور. أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه وإلى قتال

٢١٠

الظلمة ، فإذا جمع الله لنا أمرنا كان هذا الأمر شورى بين المسلمين يرتضون لأنفسهم مَنْ أحبّوا».

وكتب إلى سويد بن سرحان الثقفي وبُكير بن هارون البجلي :

«أمّا بعد ، فإنّا ندعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه ، وإلى جهاد مَنْ عَنِدَ عن الحقّ ، واستأثر بالفيء ، وترك حكم الكتاب ، فإذا ظهر الحقّ ومنع الباطل ، وكانت كلمة الله هي العليا ، جعلنا هذا الأمر شورى بين الأمّة ؛ يرتضي المسلمون لأنفسهم الرضا ، فمَنْ قبل هذا منّا كان أخانا في ديننا ، وولّينا في محيانا ومماتنا ، ومَنْ ردّ ذلك علينا جاهدناه واستنصرنا الله عليه» (١).

هذا هو منهج ثورة مطرف ، وفيه عبير من روح كربلاء.

__________________

(١) الطبري : «ثورة مطرف».

٢١١

ـ ٦ ـ

ه ـ ثورة ابن الأشعث

وفي سنة ٨١ للهجرة ثار عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على الحجّاج وخلع عبد الملك بن مروان.

وسبب هذه الثورة التي هزّت الحكم الاُموي على حدّ تعبير ولهاوزن (١) هو الفتوح الاستعمارية التي أدرك الشعب أنّها ليست في مصلحته.

فقد أرسل الحجّاج عبد الرحمن إلى سجستان على رأس جيش عراقي في الوقت الذي كان جيش الشام الذي قضى على حركة الخوارج لا يزال مرابطاً في العراق (٢) ، وقد أبدى عبد الرحمن مهارة عسكرية فائقة ؛ ففتح قسماً من البلاد (٣) ، فكتب إلى الحجّاج يُعرّفه ذلك ، وأنّ رأيه أن يتركوا التوغّل في بلاد رتبيل حتّى يعرفوا طريقها ويجبوا خراجها. فكتب إليه الحجّاج يوبّخه على ذلك ، ويتّهمه بالعجز ، ويأمره بالتوغّل ، وكتب إليه بذلك ثانياً وثالثاً.

وعرض عبد الرحمن على جنوده أمر الحجّاج بعد أن بيّن لهم رأيه الذي استقر عليه بعد أن استشار قوّاده واُمراء جنده ، ثمّ قال :

وإنّما أنا رجل منكم ؛ أمضي إذا مضيتم ، وآبى إذا

__________________

(١) الدولة العربيّة ، ١٩٠.

(٢) المصدر السابق ، ٢٠٢.

(٣) المصدر السابق ، ١٩٠.

٢١٢

أبيتم.

فثار إليه الناس وقالوا :

بل نأبى على عدوّ الله ، ولا نسمع له ولا نطيع.

وقام أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني ، وله صحبة ، فقال :

أمّا بعد ، فإنّ الحجّاج يرى بكم ما رأى القائل الأوّل : احمل عبدك على الفرس ، فإن هلك هلك ، وإن نجا فلك ، إنّ الحجّاج ما يبالي أن يُخاطر بكم فيُقحمكم بلاداً كثيرة ، ويغشي اللهوب واللصوب ؛ فإن غنمتم وظفرتم أكل البلاد وحاز المال ، وكان ذلك زيادة في سلطانه ، وإن ظفر عدوّكم بكم كنتم أنتم الأعداء البُغضاء الذين لا يُبالي عنتهم. اخلعوا عدوّ الله الحجّاج وبايعوا الأمير عبد الرحمن ، فإنّي اُشهدكم أنّي أوّل خالع. فنادى الناس من كلّ جانب : فعلنا ، فعلنا ، قد خلعنا عدوّ الله.

وقال عبد المؤمن بن شبث بن ربعي :

«عباد الله ، إنّكم إن أطعتم الحجّاج جعل هذه البلاد بلادكم ، وجمركم تجمير فرعون الجنود. ولن تعاينوا الأحبّة أو يموت أكثركم فيما أرى ، فبايعوا أميركم ، وانصرفوا إلى عدوّكم الحجّاج فانفوه عن بلادكم».

فوثب الناس إلى عبد الرحمن فبايعوه على خلع الحجّاج ونفيه من أرض العراق ، وقفلوا راجعين ، حتّى إذا بلغوا فارس خلعوا عبد الملك على كتاب الله وسنّة نبيّه ، وعلى جهاد أهل الضلالة وخلعهم ، وجهاد المُحلّين.

فلمّا بلغ البصرة بايعه جميع أهلها وقرّائها وكهولها ، مُستبصرين في قتال

٢١٣

الحجّاج ومَنْ معه من أهل الشام وخلع عبد الملك. وسبب إسراع أهل البصرة إلى مساندة الثورة هو الظلم والجوع ؛ فقد كتب عمّال الحجّاج إليه أنّ الخراج قد انكسر ، وأنّ أهل الذمّة قد أسلموا ولحقوا بالأمصار. فكتب إلى البصرة وغيرها : مَنْ كان له أصل في قرية فليخرج إليها ، فخرج الناس فعسكروا ، فجعلوا يبكون وينادون : يا محمداه! يا محمداه! وجعلوا لا يدرون أين يذهبون ، فجعل قرّاء أهل البصرة يخرجون إليهم مُتقنّعين فيبكون لما يسمعون منهم ويرون ، فقدم ابن الأشعث على مجتمع معبّأ ينتظر قائداً ، فاستجاب المجتمع هذه الاستجابة السريعة ، واستبصر قرّاء البصرة في قتال الحجّاج مع عبد الرحمن بن الأشعث.

وقد استمرت هذه الثورة من سنة ٨١ هـ إلى سنة ٨٣ هـ ، وأحرزت انتصارات عسكرية ، ثمّ قضى عليها الحجّاج بجيوش سورية (١).

هذه هي ثورة عبد الرحمن بن الأشعث ، وهي ثورة قام بها العرب ولم يقم بها الموالي. قام بها العرب العراقيون الذين ساءت حالتهم الاقتصادية إلى حدّ مروّع ، والذين استُخدموا في الفتوح الاستعمارية دون أن يحصلوا على غنائمها ، والذين كان عليهم أن يُحاربوا مقابل جرايات ضئيلة لا تكفي ، بينما يفوز بالمغانم والأعطيات الكثيرة الجنود السوريون الذين تركهم الحجّاج في العراق ؛ ليستعين بهم على قمع الثورات التي يقوم بها العراقيون (٢).

__________________

(١) الطبري «ثورة ابن الأشعث».

(٢) كتب ولهاوزن عن هذه الثورة بوعي وفهم. راجع الدولة العربيّة : ١٨٩ ـ ٢٠٣.

٢١٤

ـ ٧ ـ

و ـ ثورة زيد بن علي بن الحسين عليهم‌السلام

وفي سنة ١٢١ هـ تهيّأ زيد بن علي بن الحسين عليهم‌السلام (١) للثورة في الكوفة ، وثار في سنة ١٢٢ هـ. وخُنقت الثورة في مهدها بسبب الجيش الاُموي الذي كان مُرابطاً في العراق.

وكانت شعارات الثائرين مع زيد «يا أهل كوفة ، اخرجوا من الذل إلي العز ، وإلي الدين والدنيا» (١).

ويبدو أنّ الدعوة إلى الثورة لقيت استجابة واسعة من الجماهير المسلمة في أقطار كثيرة من بلاد الإسلام ؛ فقد بويع زيد على الثورة في الكوفة والبصرة ، وواسط والموصل ، وخراسان والرّي وجرجان. ولقد كان حريّاً بثورته أن تنجح لولا اختلال التوقيت ؛ فقد حدث ما دفع زيداً إلى إعلان الثورة قبل الموعد الذي بينه وبين أهل الأمصار (٢).

وقد تكوّن بفضل هذه الثورة جهاز ثوري دائم على استعداد للمساهمة في كلّ عمل ثوري ضدّ السلطة ، وهو طائفة الزيدية الذين يرون أنّ الإمام المُفترض الطاعة هو كلّ قائم بالسيف ذوداً عن الدين ضدّ الظالمين.

قال ولهاوزن :

«ولئن كان عُصيان زيد قد انتهى انتهاء مُفجعاً فإنّه

__________________

(١) مقاتل الطالبين ، ١٣٩.

(٢) المصدر السابق ، ١٣٥ ـ ١٣٦.

٢١٥

مُهمّ ؛ ذلك أنّ ثورات الشعب التي حدثت بعده والتي أدّت إلى انهيار دولة دمشق انهياراً نهائياً كانت ذات علاقة بها ، وسرعان ما ظهر أبو مسلم بعد وفاة يحيى آخذاً بثأره ، قاتلاً قتلته» (١).

وهذا يبرز بوضوح عظيم تأثير ثورة الحسين عليه‌السلام في تغذية الرّوح الثورية ومدّها بالعطاء ، فما ثورة زيد إلاّ قبس من ثورة جدّه في كربلاء.

__________________

(١) الدولة العربيّة ، ٢٧١.

٢١٦

ـ ٨ ـ

ز ـ ثورة أبي السرايا

هذه نماذج للرّوح الثورية التي بثّتها ثورة الحسين عليه‌السلام في الشعب المسلم ، فقضت بذلك على روح التواكل والخنوع والتسليم للحاكمين ، وجعلت من الشعب المسلم قوّة معبّأة وعلى أهبة الانفجار دائماً.

ولقد استمرت طيلة الحكم الاُموي ضدّ هذا الحكم حتّى قضت عليه بثورة العباسيّين ، هذه الثورة التي لم تكن لتنجح لو لم تعتمد على إيحاءات ثورة كربلاء ، وعلى منزلة الثائرين في كربلاء في نفوس المسلمين.

ولم تُبدّل هذه الثورة كثيراً من واقع الشعب المسلم ، بل لعلّنا لا نعدوا الحقّ إذا قلنا أنّها لم تُبدل شيئاً سوى وجوه الحاكمين. ولكن هذا لم يخمد الرّغبة في الثورة بقدر ما كان حافزاً عليها ، فاستمرت الثورات على حالتها ومضى العباسيّون وجاءت دول بعدهم ، ولم تخمد الثورات بل بقيت ناشبة أبداً ، يقوم بها الإنسان المسلم دائماً ، فيُعبّر بها عن إنسانيته التي خنقها الحاكمون وزيّفوها.

ولقد كانت هذه الثورات كما رأينا صادرة عن وعي للواقع ، وإحساس بانحطاطه وقسوته ، واحتجاج عليه ومحاولة لتطويره.

حدث هذا في ظلّ الحكم الاُموي وقد رأيت بعض نماذجه ، وحدث في ظلّ الحكم العباسي أيضاً.

ونضرب مثلاً بثورة أبي السرايا مع محمد بن إبراهيم بن طباطبا العلوي

٢١٧

الحسني على المأمون.

كان محمد بن إبراهيم هذا يمشي في بعض طريق الكوفة إذ نظر إلى عجوز تتبع أحمال الرطب فتلقط ما يسقط منها فتجمعه في كساء عليها رثّ ، فسألها عمّا تصنع بذلك ، فقالت : إنّي امرأة لا رجل لي يقوم بمُؤنتي ، ولي بنات لا يعدنَ على أنفسهنَّ بشيء ، فأنا أتتبع هذا من الطريق وأتقوّته أنا وولدي.

فبكى بكاءً شديداً ، وقال :

«أنتِ وأشباهك تُخرجوني غداً حتّى يُسفك دمي. ونفذت بصيرته في الخروج» (١).

فلمّا أعلن أمره خطب الناس ودعاهم إلى البيعة ، وإلى الرضا من آل محمد ، والدعاء إلى كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والسيرة بحكم الكتاب ، فبايعه جميع الناس حتّى تكابسوا وازدحموا عليه (٢).

ومات إبراهيم بن محمد بعد نشوب الثورة بقليل فلم تخمد ، وإنّما قام عليها من بعده علي بن عبيد الله العلوي (٣).

وشملت الثورة العراق والشام ، والجزيرة واليمن (٤).

ونقرأ عن هذه الثورة فنعجب بأخلاق الثائرين الجياع ، وبضبطهم لأنفسهم ؛ لقد أمسك هؤلاء الثائرون عن النهب والسلب بعد أن هزموا عدوّهم واستولوا على حصنه بمجرد أن أمرهم قائدهم بأن يُمسكوا (٥).

__________________

(١) مقاتل الطالبين ، ٥٢١.

(٢) مقاتل الطالبين ، ٥٢٣.

(٣) المصدر السابق ، ٥٣١ ـ ٥٣٢.

(٤) المصدر السابق ، ٥٣٣ ـ ٥٣٤.

(٥) المصدر السابق ٥٢٥.

٢١٨

وأقبل أهل بغداد ـ جنود السلطة ـ يصيحون :

«يا أهل الكوفة ، زينوا نساءكم وأخواتكم وبناتكم للفجور ، والله لنفعلنّ [بهن] كذا وكذا. ولا يُكنون. والثائرون يذكرون الله ويقرؤون القرآن ، وقائدهم يقول لهم : اذكروا الله وتوبوا إليه ، واستغفروه واستعينوه. صحّحوا نيّاتكم وأخلصوا الله ضمائركم ، واستنصروه على عدوّكم ، وابرؤوا إليه من حولكم وقوّتكم» (١).

__________________

(١) المصدر السابق ، ٢٢٦ ـ ٢٢٧.

٢١٩

ـ ٩ ـ

وقد يقول قائل إنّ الرّوح النضالية التي بعثتها ثورة الحسين عليه‌السلام في الشعب المسلم لم تطوّر واقع هذا الشعب بواسطة الثورات التي أشعلتها. لقد كانت الثورات تنشب دائماً ، ولكنّها تخفق دائماً ولا تسوق إلى الشعب إلاّ مزيداً من الضحايا ومزيداً من الفقر والإرهاب.

وتقول : نعم ، إنّها لم تطوّر واقع هذا الشعب تطويراً آنيّاً ، ولم تقدّم في الغالب أيّة نتائج ملموسة ، ولكنّها حفظت للشعب إيمانه بنفسه وبشخصيته وبحقّه في الحياة والسيادة وهذا نصر عظيم.

إنّ أخطر ما يُبتلى به شعب هو أن يُقضى على روح النضال فيه ، إنّه حينئذ يفقد شخصيته ويذوب في خضمّ الفاتحين كما قدّر لشعوب كثيرة أن تضمحلّ وتذوب وتفقد كيانها ؛ لأنّها فقدت روح النضال ، ولأنّها استسلمت وفقدت شخصيتها ومقوّمات وجودها المعنوي فأذابها الفاتحون. إنّ هذه الشعوب التي لم يحفظ لنا التأريخ إلاّ أسماءها لم تأت من ضعفها العسكري أو الاقتصادي ، وإنّما أُتيت من فلسفة الهزيمة والتواكل والخنوع التي وجدت سبيلها إلى النفوس بعد أن خبت روح النضال في هذه النفوس.

ولو أنّها بقيت مؤمنة بشخصيتها وثقافاتها ومقوّماتها ، ولو احتفظت بروح النضال حيّة في أعماقها لما استطاع الغزاة إبادتها ، ولشقّت لنفسها طريقاً جديداً في التأريخ.

وهذا ما حقّقته ثورة الحسين عليه‌السلام.

لقد أجّجت ثورة الحسين عليه‌السلام تلك الرّوح التي حاول الاُمويّون إخمادها ،

٢٢٠