ثورة الحسين ظروفها الإجتماعيّة وآثارها الإنسانيّة

الشيخ محمّد مهدي شمس الدّين

ثورة الحسين ظروفها الإجتماعيّة وآثارها الإنسانيّة

المؤلف:

الشيخ محمّد مهدي شمس الدّين


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: المؤسسة الدوليّة للدراسات والنشر
الطبعة: ٧
الصفحات: ٢٢٩

العلاقات الإنسانيّة في الواقع علاقات مُنحطّة وفاسدة ، وموقف الإنسان من الحياة موقف مُتخاذل وموسوم بالانحطاط والانهيار ؛ ولذلك انتهى الواقع إلى حدّ من السوء بحيث غدت الثورة علاجه الوحيد.

وإذاً ، فالدعوة إلى نموذج من الأخلاق أسمى ممّا يُمارسه المجتمع ضرورة لازمة ؛ لأنّه لا بدّ أن تتغيّر نظرة الإنسان إلى نفسه وإلى الآخرين وإلى الحياة ليمكن إصلاح المجتمع.

ولقد قدّم الحسين عليه‌السلام وآله وأصحابه ـ في ثورتهم على الحكم الاُموي ـ الأخلاق الإسلاميّة العالية بكلّ صفاتها ونقائها ، ولم يُقدّموا إلى المجتمع الإسلامي هذا اللون من الأخلاق بألسنتهم ، وإنّما كتبوه بدمائهم وحياتهم.

لقد اعتاد الرجل العادي إذ ذاك أن يرى الزعيم القبلي أو الزعيم الديني يبيع ضميره بالمال ، وبعرض الحياة الدنيا. لقد اعتاد أن يرى الجباه تعنوا خضوعاً وخشوعاً لطاغية حقير لمجرد أنّه يملك أن يُحرم من العطاء.

لقد خضع الزعماء الدينيون والسياسيون ليزيد على علمهم بحقارته وانحطاطه ، وخضعوا لعبيد الله بن زياد على علمهم بأصله الحقير ومنبته الوضيع ، وخضعوا لغير هذا وذاك من الطغاة ؛ لأنّ هؤلاء الطغاة يملكون الجاه والمال والنفوذ ، ولأنّ التقرّب منهم والتودّد إليهم كفيل بأن يجعلهم ذوي نفوذ في المجتمع وإن عليهم النعمة والرفاه. وكان هؤلاء الزعماء يرتكبون كلّ شيء في سبيل نيل هذه الحظوة. كانوا يخونون مجتمعهم فيتمالون مع هؤلاء الطغاة على إذلال هذا المجتمع وسحقه وحرمانه ، وكانوا يخونون ضمائرهم فيبتدعون من ألوان الكذب ما يدعم هذه العروش ، وكانوا يخونون دينهم الذي يأمرهم بتحطيم الطغاة بدل عبادتهم.

كان الرجل العادي في المجتمع الإسلامي آنذاك يعرف هذا اللون من الرجال ، ويعرف لوناً آخر منهم وهم اُولئك الزُّهّاد الدّجّالون الذين

١٨١

يتظاهرون بالزهد رياء ونفاقاً ، حتّى إذا تقربوا من الطغاة كانوا لهم أعواناً وأنصاراً ، إنّهم هذا الصنف الذي وصفه الإمام علي عليه‌السلام بقوله :

«ومنهم مَنْ يطلب الدنيا بعمل الآخرة ، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا. قد طامن من شخصه ، وقارب من خطوه ، وشمّر من ثوبه ، وزخرف من نفسه للأمانة ، واتّخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية» (١).

هؤلاء هم الزعماء الذين كان الرجل العادي يعرفهم وقد اعتادهم وأفهم ، بحيث غدا يرى عملهم هذا طبيعياً لا يثير التساؤل.

ولذلك فقد كان غريباً جدّاً على كثير من المسلمين آنذاك أن يروا إنساناً يُخيّر بين حياة رافهة فيها الغنى وفيها المتعة ، وفيها النفوذ والطاعة ، ولكن فيها إلى جانب ذلك كلّه الخضوع لطاغية والإسهام معه في طغيانه ، والمساومة على المبدأ والخيانة ، وبين الموت عطشاً مع قتل الصفوة الخلّص من أصحابه وأولاده ، وإخوته وأهل بيته جميعاً أمامه ، وحيث تنظر إليهم عينه في ساعاتهم الأخيرة وهم يلوبون ظمأ ، وهم يكافحون بضراوة وإصرار عدواً هائلاً يريد لهم الموت أو هذا اللون من الحياة ، ثم يرى مصارعهم واحداً بعد واحد ، وإنّه ليعلم أيّ مصير فاجع محزن ينتظر آله ونساءه من بعده ؛ سبي وتشريد ، ونقل من بلد إلى بلد ، وحرمان ... يعلم ذلك كله ثمّ يختار هذا اللون الرهيب من الموت على هذا اللون الرغيد من الحياة.

لقد كان غريباً جدّاً على هؤلاء أن يروا إنساناً كهذا ؛ لقد اعتادوا على زعماء يُمرّغون جباههم في التراب خوفاً من مصير أهون من هذا بكثير ، أمثال عمر بن سعد ، والأشعث بن قيس ونظائرهما. تعودوا على هؤلاء فكان غريباً عليهم أن يشاهدوا هذا النموذج العملاق من الإنسان ، هذا

__________________

(١) نهج البلاغة ١ / ٩٨.

١٨٢

النموذج الذي يتعالى ويتعالى حتّى ليكاد القائل أن يقول : ما هذا بشر ...

ولقد هزّ هذا اللون من الأخلاق ، هذا اللون من السلوك الضميرَ المسلم هزّاً مُتداركاً ، وأيقظه من سُباته المرَضي الطويل ؛ ليشاهد صفحة جديدة مُشرقة يكتبها الإنسان بدمه في سبيل الشرف والمبدأ ، والحياة العارية من الذلّ والعبودية. ولقد كشف له عن زيف الحياة التي يحياها ، وعن زيف الزعماء ـ أصنام اللحم ـ الذين يعبدهم ، وشق له طريقاً جديداً في العمل ، وقدّم له اُسلوباً جديداً في العمل ، وقدّم له اُسلوباً جديداً في مُمارسة الحياة ، فيه قسوة وفيه حرمان ، ولكنّه طريق مُضيء لا طريق غيره جدير بالإنسان.

ولقد غدا هذا اللون المُشرق من الأخلاق ، وهذا النموذج الباهر من السلوك خطراً رهيباً على كلّ حاكم يُجافي روح الإسلام في حكمه. إنّ ضمائر الزعماء قليلاً ما تتأثّر بهذه المُثل المضيئة ، ولكنّ الذي يتأثّر هي الاُمّة ، وهذا هو ما كان يريده الحسين عليه‌السلام. لقد كان يريد شقّ الطريق للاُمّة المُستعبدة لتناضل عن إنسانيتها.

* * *

وفي جميع مراحل الثورة ، منذ بدايتها في المدينة حتّى ختامها الدامي في كربلاء ، نلمح التصميم على هذا النمط العالي من السلوك.

ها هو الحسين عليه‌السلام يقول لأخيه محمد بن الحنفيّة وهما بعد في المدينة :

«يا أخي ، والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية» (١).

وها هو يتمثل بأبيات يزيد بن مفرغ الحميري (٢) حين انسلّ من المدينة في جنح الليل إلى مكة :

__________________

(١) أعيان الشيعة ٤ / قسم أول / ١٨٦.

١٨٣

لا ذُعرت السّوام في فلقِ الصب

حِ مُغيراً ولا دُعيت يزيدا

يوم أُعطي على المهانةِ ضيماً

والمنايا ترصدنني أن أحيدا (١)

وها هو يجيب الحرّ بن يزيد الرياحي حين قال له :

«أذكرك الله في نفسك ؛ فإنّي أشهد لئن قاتلت لتُقتلن ، ولئن قوتلت لتهلكن».

فقال له الإمام الحسين عليه‌السلام :

«أبالموت تخوفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟ ما أدري ما أقول لك ، ولكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه ولقيه وهو يريد نصرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقال له : أين تذهب فإنّك مقتول. فقال :

سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى

إذا ما نوى خيراً وجاهدَ مسلما

وواسى رجالاً صالحينَ بنفسه

وخالفَ مثبوراً وفارقَ مجرما

فإن عشتُ لم أندم وإن مُتُّ لم أُلمْ

كفى بك ذُلاً أن تعيشَ وتُرغما» (٢)

وها هو وقد أُحيط به ، وقيل له : انزل على حكم بني عمّك ، يقول :

«لا والله ، لا اُعطيهم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أقرّ إقرار العبيد ، ألا

__________________

(١) الطبري ٤ / ٢٥٣ ، والكامل ٣ / ٢٦٥.

(٢) المصدرين السابقين علي التوالي : ٤ / ٣٠٥ و ٣ / ٢٨٠ ـ ٢٨١.

١٨٤

وإنّ الدّعي ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين ؛ بين السّلة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، وجدود طابت ، وحجور طهرت ، واُنوف حميّة ، ونفوس أبيّة لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام» (١).

وها هو يخطب أصحابه فيقول :

«أمّا بعد ، فقد نزل من الأمر بنا ما ترون ، وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت ، وأدبر معروفها ، ولم يبقَ منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل. ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به ، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله ؛ فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة ، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً» (٢).

وكان يقول كثيراً :

«موت في عزّ خير من حياة في ذلّ» (٣).

كلّ هذا يكشف عن طبيعة السلوك الذي اختطّه الحسين عليه‌السلام لنفسه ولمَنْ معه في كربلاء ، وألهب به الروح الإسلاميّة بعد ذلك ، وبثّ فيها قوّة جديدة.

* * *

لقد عرفت كيف كان الزعماء الدينيون والسياسيون يُمارسون حياتهم. وهنا نرسم لك صورة عن نوع الحياة التي كان يُمارسها الإنسان العادي إذ

__________________

(١) أعيان الشيعة ٤ ـ قسم أول ـ ٢٥٨ ـ ٢٥٩.

(٢) المصدر السابق ، ٢٣٤.

(٣) المصدر السابق ، ١٣٥.

١٨٥

ذاك. لقد كان همّ الرجل العادي هو حياته الخاصّة يعمل لها ويكدح في سبيلها ، ولا يُفكّر إلاّ فيها ، فإذا اتّسع اُفقه كانت القبيلة محلّ اهتمامه. أمّا المجتمع وآلامه ـ المجتمع الكبير ـ فلم يكن ليستأثر من الرجل العادي بأيّ اهتمام ، كانت القضايا العامّة بعيدة عن اهتمامه. لقد كان العمل فيها وظيفة زعمائه الدينيين والسياسيين ؛ يُفكّرون ويرسمون خطّة العمل وعليه أن يسير فقط ، فلم تكن للرجل العادي مشاركة جدّية إيجابية في قضايا المجتمع العامّة.

وكان يهتم غاية الاهتمام بعطائه فيحافظ عليه ، ويطيع توجيهات زعمائه خشية أن يُمحى اسمه من العطاء ، ويسكت عن نقد ما يراه جوراً بسبب ذلك (١). وكان يهتم بمفاخر قبيلته ومثالب غيرها من القبائل ، ويروي الأشعار في هذا وذاك.

هذا مُخطط لحياة الرجل العادي إذ ذاك.

أمّا أصحاب الحسين عليه‌السلام فقد كان لهم شأن آخر.

لقد كانت العُصبة التي رافقت الحسين عليه‌السلام ، وشاركته في مصيره رجالاً عاديين ، لكلّ منهم بيت وزوجة وأطفال وصداقات ، ولكلّ منهم عطاء من بيت المال ، وكان كثير منهم لا يزال في ميعة الصبا ، في حياته مُتّسع للاستمتاع بالحُبّ وطيّبات الحياة ، ولكنّهم جميعاً خرجوا عن ذلك كلّه وواجهوا مجتمعهم بعزمهم الكبير في سبيل مبدأ آمنوا به ، وصمموا على الموت في سبيله.

ولا أستطيع أن أقدّم هنا صورة كاملة وافية لسُلوك آل الحسين وأصحابه

__________________

(٢) قال حميد بن مسلم : قلت لشمر : أتريد أن تجمع على نفسك خصلتين ؛ تُعذّب بعذاب الله ، وتقتل النساء والولدان. والله إنّ في قتلك الرجال لما تُرضي به أميرك. فقال : مَنْ أنت؟ قلت : لا اُخبرك مَنْ أنا. قال : وخشيت والله أن لو عرفني أن يصرني عند السلطان. الطبري ٤ / ٣٣٤.

١٨٦

في هذه الثورة ، وعليك لكي تخرج بهذه الصورة الوافية أن تقرأ قصّة كربلاء بتمامها ، وغاية ما أستطيعه هنا هو أن أقدّم لك لمحات من سلوكهم العالي :

ـ في زُبالة استبان للحسين عليه‌السلام مصيره حين علم بقتل رسوله إلى أهل الكوفة مسلم بن عقيل ، وأخيه من الرضاعة عبد الله بن يقطر ، فأخبر مَنْ معه بذلك ، وقال :

«أمّا بعد ، فإنّه قد أتاني خبر فظيع ؛ قتل مسلم بن عقيل ، وهانئ بن عروة ، وعبد الله بن يقطر ، وقد خذلنا شيعتنا ، فمَنْ أحبّ منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج ، ليس عليه منّا ذمام» (١).

فتفرّق عنه الناس يميناً وشمالاً حتّى بقي في أصحابه الذين يُريدون الموت معه ، واستمروا على عزمهم هذا إلى اللحظة الأخيرة لكلّ منهم. اللحظة التي أدّى فيها ضريبة الدم كاملة.

ـ في كربلاء أقبل على أصحابه فقال :

«الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم ، يُحوطونه ما درّت معايشهم ، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلّ الديّانون».

ثمّ قال :

«أمّا بعد ، فقد نزل من الأمر بنا ما ترون ، وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها ، ولم يبقَ منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل. ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به ، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله ؛ فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة ، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً».

__________________

(١) الطبري ٤ / ٣٠٠ ـ ٣٠١ ، وأعيان الشيعة ٤ / قسم أول ـ ٢٢٣.

١٨٧

فقال زهير بن القين :

«سمعنا يابن رسول الله مقالتك ، ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلّدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها».

وقال برير بن خضير :

«يابن رسول الله ، لقد منّ الله بك علينا أن نُقاتل بين يديك ، نقطع فيك أعضاؤنا ثمّ يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة».

وقال نافع بن هلال :

«سر بنا راشداً مُعافى ، مشرقاً إن شئت أو مغرباً ، فوالله ما أشفقنا من قدر الله ، ولا كرهنا لقاء ربّنا ، وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا نوالي مَنْ والاك ، ونعادي مَنْ عاداك» (١).

ومرّة اُخرى جمع الحسين عليه‌السلام أصحابه قرب المساء ـ مساء يوم العاشر ـ فخطبهم قائلاً :

«... أمّا بعد ، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي جميعاً. ألا وإنّي أظنّ أنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً ، وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلٍّ ، ليس عليكم منّي ذمام. وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً ، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، فجزاكم الله جميعاً خيراً ،

__________________

(١) المصدر السابق ، ٢٣٤ ـ ٢٣٥.

١٨٨

وتفرّقوا في سوادكم ومدائنكم ؛ فإنّ القوم إنّما يطلبوني ، ولو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري ...».

هذه فرصة أخيرة منحهم إيّاها الحسين عليه‌السلام ، فماذا كان ردّ الفعل؟

قال له إخوته وأبناؤه ، وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر :

ولِمَ نفعل؟

لنبقى بعدك؟!

لا أرنا الله ذلك أبداً.

والتفت الحسين عليه‌السلام إلى بني عقيل ، وقال :

«حسبكم من القتل بمسلم ، اذهبوا فقد أذنت لكم».

فقالوا :

فما يقول الناس ، وما نقول لهم؟! إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ، ولم نرمِ معهم بسهم ، ولم نطعن برمح ، ولم نضرب بسيف ، ولا ندري ما صنعوا.

لا والله لا نفعل ، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ، نقاتل معك حتّى نرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك.

وجاء دور أصحابه ، فقال مسلم بن عوسجة :

أنحن نُخلي عنك ولمّا نُعذر إلى الله في أداء حقّك؟ أما والله لا اُفارقك حتّى أطعن في صدورهم برمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ، ولو لم يكن

١٨٩

معي سلاح اُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتّى أموت معك.

وقال سعد بن عبد الله الحنفي :

والله ، لا نُخليك حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيك. والله لو علمت أنّي اُقتل ثمّ اُحيا ، ثمّ اُحرق حيّاً ثمّ اُذرى ، يُفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك ، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة.

وقال زهير بن القين :

والله ، لوددت أنّي قُتلت ثمّ نُشرت ، ثمّ قُتلت حتّى اُقتل كذا ألف قتلة وإنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك.

وتكلّم جماعة من أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً في وجه واحد ، فقالوا :

والله لا نفارقك ، ولكن أنفسنا لك الفداء ، نقيك بنحورنا ، وجباهنا وأيدينا ، فإذا نحن قُتلنا كنّا وفينا وقضينا ما علينا (١).

وقال الحسين عليه‌السلام لنافع بن هلال في جوف الليل :

«ألا تسلك بين هذين الجبلين في جوف الليل وتنجو بنفسك؟». فوقع نافع على قدميه يُقبّلها ويقول : ثكلتني اُمّي! إنّ سيفي بألف ، وفرسي بمثله ، فوالله الذي

__________________

(١) أعيان الشيعة ٤ / قسم أول / ٢٤٧ ـ ٢٤٩. والطبري ٤ / ٣١٧ ـ ٣١٨.

١٩٠

مَنْ عليّ بك لا فارقتك حتّى يكلاّ عن فري وجري.

وصاح شمر بن ذي الجوشن بأعلى صوته :

أين بنو اُختنا. فخرج إليه العباس وجعفر وعثمان بنو علي ، فقالوا له : ما لك ، وما تريد؟ قال :

أنتم يا بني اُختي آمنون. فقال له الفتية :

لعنك الله ولعن أمانك لئن كنت خالنا! أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له (١)؟!

هذا هو مستوى السلوك الذي ارتفع إليه الثائرون ، وهذه هي الأخلاق الجديدة التي قدّموها لمجتمعهم. هذا المجتمع الذي قدر لكثير من فئاته فيما بعد أن تأخذ نفسها بالسير على هذا المستوى العالي من الأخلاق ومُمارسة الحياة.

* * *

ولنا أن نتساءل هنا عن دور المرأة المسلمة في ثورة كربلاء ؛ لقد كان في الثائرين الزوج والأخ والولد ، فما كان موقف المرأة من مصارع هؤلاء؟ ويأتينا الجواب من التأريخ فنهتزّ لموقف المرأة في كربلاء ، لقد كانت المرأة اُمّاً واُختاً وزوجة في طليعة الثائرين المُناضلين المُضحين الباذلين لضريبة الدم. ولا أتحدّث هنا عن زينب وعن أخواتها ؛ فمستوى سلوكهن لم يبلغه بشر ، وإنّما أتحدّث عن نساء عاديات جدّاً كنّ إلى أيّام قليلة قبل يوم كربلاء يشغلهن ما يشغل كلّ امرأة من شؤون بيتها وزينتها ، وتربية أولادها والتحدّث مع جاراتها. نساء لا تربطهن بالثائرين رابطة دم ، ولكن تربطهن بهم رابطة مبدأ ورابطة عقيدة ، فضحّين بالولد والزوج

__________________

(١) الطبري ٤ / ٣١٥ وأعيان الشيعة ، ٢٤٥ ـ ٢٤٦.

١٩١

مستبشرات ، ثمّ ضحّين بأنفسهن في النهاية.

* * *

هذا عبد الله بن عمير قال لزوجته إنّه يريد المسير إلى الحسين عليه‌السلام ، فقالت له :

أصبت ، أصاب الله بك أرشد اُمورك ، افعل وأخرجني معك. فخرج بها حتّى أتى حسيناً فأقام معه.

ثمّ برز ليُقاتل ، فأخذت امرأته عموداً ثمّ أقبلت نحو زوجها تقول :

فداك أبي واُمّي! قاتل دون الطيبين ذرّية محمد. فأقبل إليها يردّها نحو النساء ، فأخذت تجاذب ثوبه ، ثمّ قالت :

إنّي لن أدعك دون أن أموت معك. فناداها الحسين عليه‌السلام ، فقال : «جُزيتم من أهل بيت خيراً ، ارجعي رحمك الله إلى النساء فاجلسي معهنّ». فانصرفت ، ثمّ قُتل زوجها ، فخرجت تمشي إليه حتّى جلست عند رأسه تمسح التراب عنه وتقول :

هنيئاً لك الجنّة. فقال شمر بن ذي الجوشن لغلام يُسمّى رستم :

اضرب رأسها بالعمود. فضرب رأسها فشدخه فماتت مكانها ، وهي أوّل امرأة قُتلت من أصحاب الحسين عليه‌السلام (١).

وهذا وهب بن حبّاب الكلبي ، قالت له اُمّه :

قم يا بُني فانصر ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فقال :

أفعل. فحمل على القوم ، ولم يزل يُقاتل حتّى قتل جماعة ، ثمّ رجع وقال : يا اُمّاه ، هل رضيتِ؟ فقالت :

ما رضيت حتّى تُقتل بين يدي الحسين عليه‌السلام. فقالت له امرأته : بالله عليك

__________________

(١) الطبري ٤ / ٣٢٦ ـ ٣٢٧ و ٣٣٣ ـ ٣٣٤.

١٩٢

لا تفجعني بنفسك. فقالت له اُمّه :

يا بُني ، اعزب عن قولها ، وارجع فقاتل بين يدي ابن بنت نبيّك تنل شفاعة جدّه يوم القيامة. فرجع ، ولم يزل يُقاتل حتّى قُطعت يداه ثمّ قُتل (١).

وبرز جنادة بن الحارث السلماني ـ وكان خرج بعياله وولده إلى الحسين عليه‌السلام ـ فقاتل حتّى قُتل ، فلمّا قُتل أمرت زوجته ولدها عمراً ـ وهو شاب ـ أن ينصر الحسين عليه‌السلام ، فقالت له :

اخرج يا بُني وقاتل بين يدي ابن بنت رسول الله. فخرج واستأذن الحسين عليه‌السلام ، فقال الحسين عليه‌السلام :

«هذا شاب قُتل أبوه ، ولعلّ اُمّه تكره خروجه». فقال الشاب :

اُمّي أمرتني بذلك. فبرز وقاتل حتّى قُتل وحُزّ رأسه ، ورُمي به إلى عسكر الحسين عليه‌السلام ، فحملت اُمّه رأسه وقالت :

أحسنت يا بُني. وأخذت عمود خيمة وهي تقول :

أنا عجوزٌ سيدي ضعيفهْ

خاويةٌ باليةٌ نحيفهْ

أضربكم بضربةٍ عنيفهْ

دونَ بني فاطمةَ الشريفهْ

وضربت رجلين فقتلتهما ، فأمر الحسين عليه‌السلام بصرفها ، ودعا لها (٢).

* * *

هذه نماذج من سلوك الثائرين في كربلاء. ولقد أهمل التأريخ ذكر كثير من بطولات هؤلاء الثائرين ؛ فإنّ المؤرّخين يحرصون غالباً على تجنّب ذكر التفاصيل الدقيقة ، ويقصرون اهتمامهم على ما يلوح لهم أنّه جليل ،

__________________

(١) أعيان اشيعة ٤ / قسم أول ـ ٢٦٧ ـ ٢٦٨.

(٢) المصدر السابق : ٢٧٩ ـ ٢٨١.

١٩٣

ولا ينال الناس العاديون شيئاً من اهتمامهم ، بينما يقصرون هذا الاهتمام على البارزين من القادة وإن كان الدور الحقيقي في المعركة هو ما يقوم به هؤلاء الناس العاديون. على أنّ أخبار ثورة كربلاء استهدفت لحملة من السلطة الحاكمة فأهمل المؤرّخون الرسميون ذكر كثير من تفاصيلها الدقيقة ذات المغزى.

* * *

ولقد عملت هذه الأخلاق الجديدة عملها في اكتساب الحياة الإسلاميّة سمة كانت قد فقدتها قبل ثورة الحسين عليه‌السلام بوقت طويل ، وذلك هو الدور الذي غدا الرجل العادي يقوم به في الحياة العامّة بعد أن تأثّر وجدانه بسلوك الثائرين في كربلاء ، وقد بدأ الحكّام المُجافون للإسلام يحسبون حساباً لهؤلاء الرجال العاديين ، وبدأ المجتمع الإسلامي يشهد من حين لآخر ثورات عارمة يقوم بها الرجال العاديون على الحاكمين الظالمين وأعوانهم ؛ لبُعدهم عن الإسلام ، وعدم استجابتهم لأوامر الله ونواهيه في سلوكهم. ثورات كانت روح كربلاء تلهب أكثر القائمين بها ، وتدفعهم إلى الاستماتة في سبيل ما يرونه حقّاً.

ولقد تحطّمت دولة اُميّة بهذه الثورات ، وقامت دولة العباسيِّين بوحي من الأفكار التي تُبشّر بها هذه الثورات ، ولمّا تبيّن للناس أنّ العباسيين كمَنْ سبقهم لم يسكنوا بل ثاروا ... واستمرت الثورات التي تقودها روح كربلاء بدون انقطاع ضدّ كلّ ظلم وطغيان وفساد.

١٩٤

ـ ٥ ـ

٤ ـ انبعاث الروح النضاليّة

كانت ثورة الحسين عليه‌السلام السبب في انبعاث الرّوح النضالية في الإنسان المسلم من جديد بعد فترة طويلة من الهمود والتسليم ، ولقد كانت الآفات النفسية والاجتماعيّة تحول بين الإنسان المسلم وبين أن يُناضل عن ذاته وعن إنسانيته ، فجاءت ثورة الحسين عليه‌السلام وحطّمت كلّ حاجز نفسي واجتماعي يقف في وجه الثورة.

كان الإطار الديني الذي أحاط به الاُمويّون حكمهم العفن الفاسد يحول بين الشعب وبين أن يثور ، فجاءت ثورة الحسين عليه‌السلام وحطّمت هذا الإطار وكشفت الحكم الاُموي على حقيقته ، فإذا هو حكم جاهلي لا ديني ، لا إنساني ، تجب الثورة عليه وتحطيمه.

وكانت المُسلّمات الأخلاقية تحول بين الإنسان المسلم وبين أن يثور ، كانت قوانينه الأخلاقية تقول له : حافظ على ذاتك ، حافظ على عطائك ، حافظ على منزلتك الاجتماعيّة ، فجاءت ثورة الحسين عليه‌السلام وقدّمت للإنسان المسلم أخلاقاً جديدة تقول له : لا تستسلم ، لا تُساوم على إنسانيتك ، ناضل قوى الشرّ ما وسعك ، ضحِ بكلّ شيء في سبيل مبدئك.

كان الرضا عن النفس يحول بينه وبين أن يثور ، ويغريه بالقعود عن النضال. فجاءت ثورة الحسين عليه‌السلام وخلّفت في أعقابها لجماهير كثيرة شعوراً بالإثم ، وتأنيباً للنفس وبرماً بها ، ورغبة عارمة في التكفير.

١٩٥

كانت كلّ هذه الأسباب تحول بين الناس وبين الثورة ، فجاءت ثورة الحسين عليه‌السلام ونسفت هذه الأسباب كلّها ، وأعدّت الناس إعداداً كاملاً للثورة.

وللرّوح النضالية شأن كبير وخطير في حياة الشعوب وحكّامها.

فحين تكون الرّوح النضالية هامدة ، وحين يكون الشعب مُستسلماً لحكّامه يشعر حكّامه بالأمان فيفعلون كلّ شيء ، ويرتكبون ما يشاؤون دون أن يحسبوا حساب أحد. هذا من جهة الحاكمين. وأمّا المحكومون فتلاحظ أنّه كلّما امتد الزمن بهمود الرّوح النضالية سهل التسلّط على الشعب ، واستشرت فيه روح التواكل والخنوع ، واستمرأ الرضا بحياته القائمة ، ولم يعُد بحيث يُرجى منه القيام بمحاولة جدّية لتطوير واقعه وإثبات وجوده أمام حاكميه ، وهذا يجعل إصلاحه وتطويره أمراً بالغ الصعوبة.

ولقد كان الإمام علي عليه‌السلام حريصاً على أن تبقى روح النضال حيّة نامية في الشعب ؛ لتبقى للشعب القدرة على الثورة حين تدعو الأحوال للثورة ، وتشهد لذلك هذه الكلمة التي قالها وهو على فراش الموت ، ومن جملة وصيته :

«لا تُقاتلوا الخوارج بعدي ؛ فليس مَنْ طلب الحقّ فأخطأه كمَنْ طلب الباطل فأدركه» (١).

معرّضاً بمعاوية بن أبي سفيان.

وعلّة هذا واضحة ، فقد حارب هو الخوارج ؛ لأنّهم تمرّدوا على حكم يتجاوب مع مصالح الشعب العليا ، انسياقاً مع أفكار خاطئة وسخيفة ، ولكن هذا لم يغيّر موقفهم من الحكم الاُموي الذي كانوا لا يزالون يرونه حكماً بغير حقّ ، فكان يريد ألاّ يتكتّل المجتمع ضدّهم بعده ؛ إذ سيُمكنهم

__________________

(١) نهج البلاغة : ١ / ١٣٣.

١٩٦

سكون المجتمع عنهم من وخز الحكم الاُموي دائماً ، وبذلك لا يخلو الجو تماماً للحكّام الاُمويِّين. ولكن وصيته لم تُمتثل ، فتكتّل المجتمع ضدّهم وحاربهم ، ومع ذلك ظلّوا شوكة في جنب الحكم الاُموي دائماً ، ولكنّهم لم يُؤثّروا فيه لأسباب تقدّم ذكرها.

* * *

ولكي نخرج بفكرة واضحة عن مدى تأثير ثورة الحسين عليه‌السلام في بعث روح الثورة في المجتمع الإسلامي ، يحسن بنا أن نلاحظ أنّ هذا المجتمع أخلد إلى السكون عشرين عاماً كاملة قبل ثورة الحسين عليه‌السلام ، لم يقم خلالها بأيّ ثورة على توفر الدواعي إلى الثورة خلال هذه الأعوام الطوال.

فمنذ قتل أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، وغدا أمر الحكم للاُمويِّين خالصاً ، إلى حين ثورة الحسين عليه‌السلام لم يقم في هذا المجتمع أيّ احتجاج جدّي جماعي على ألوان الاضطهاد والتقتيل وسرقة أموال الأمّة التي كان يقوم بها الاُمويّون وأعوانهم ، بل كان موقف السادة من هذه الأفاعيل هو إيجاد المُبرّرات الدينية والسياسية ، وكان موقف الجماهير هو موقف الخضوع والتسليم. عشرون عاماً على هذا المجتمع ـ من سنة أربعين إلى سنة ستين للهجرة ـ وهذه هي حالته. وتغيّرت هذه الحالة بعد سنة ستين ، بعد ثورة الحسين عليه‌السلام ؛ فقد بدأ الشعب يثور ، وبدأت الجماهير ترقب زعيماً يقودها ، هي مستعدة للثورة وللتمرّد على الاُمويِّين في كلّ حين ، ولكنّها تحتاج إلى قائد ، وكلّما وجد القائد وجدت الثورة على حكم الاُمويِّين.

التمرّد الوحيد الذي كان يُصادفه الاُمويّون طيلة هذه العشرين عاماً وعلى فترات متعاقبة هو تمرّد الخوارج ، ولكنّه ـ كما قدّمنا ـ لم يكن مُتجاوباً مع المجتمع الإسلامي فلم يكن ناجحاً ، وكانت السلطة تقمعه بجيوش تُؤلّفها من سكّان البلاد التي ينجم التمرّد فيها. ولكن ما حدث بعد ثورة الحسين عليه‌السلام كان شيئاً آخر ، كان تمرّداً يحظى بعطف المجتمع الإسلامي

١٩٧

كلّه ، مَنْ شارك فيه ومَنْ لم يشارك ، وكانت أسبابه بعيدة عن تلك التي تدفع الخوارج إلى الثورة. كانت أسباباً تنبع من واقع المجتمع ؛ من الظلم والاضطهاد والتجويع ، ولم يتمكّن الحكّام الاُمويّون من قمع هذه الثورات بجيوش من سكّان المناطق الثائرة ، فقد كانوا يعرفون أنّ ثمّة تجاوباً نفسياً بين الثائرين وبين القاعدين ، فاضطروا إلى قمع هذه الثورات بجيوش أجنبية عن مناطق الثائرين ، اضطروا إلى جلب جيوش سورية ، وإقرار حاميات دائمة في مراكز الحكم.

هذه صورة مجملة لوضع المجتمع الإسلامي بعد ثورة الحسين عليه‌السلام فلنأخذ بشيء من التفصيل.

١٩٨

ـ ٢ ـ

أ ـ ثورة التوّابين

كان أوّل رد فعل مباشر لقتل الحسين عليه‌السلام هو حركة التوّابين في الكوفة.

فلمّا قُتل الحسين عليه‌السلام ورجع ابن زياد مع معسكره بالنخيلة تلاقت الشيعة بالتلاؤم والتندّم ، ورأت أنّها قد أخطأت خطأً كبيراً بدعاء الحسين عليه‌السلام إلى النصرة وتركهم إجابته ، ومقتله إلى جانبهم ولم ينصروه ، ورأوا أنّه لا يغسل عارهم والإثم عنهم في مقتله إلاّ بقتل مَنْ قتله أو القتل فيه. ففزعوا بالكوفة غلى خمسة نفر من رؤوس الشيعة :

سليمان بن صرد الخزاعي.

والمسيب بن نجيّة الفزاري.

وعبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي.

وعبد الله بن وائل التميمي.

رفاعة بن شداد البجلي ، فاجتمعوا ، وبدأ المسيب بن نجيّة الكلام فقال :

«... وقد كنّا مُغرمين بتزكية أنفسنا ، وتقريظ شيعتنا حتّى بلا الله خيارنا فوجدنا كاذبين في موطنين من مواطن ابن بنت نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد بلغتنا كتبه ، وقدمت علينا رسله ، وأعذر إلينا يسألنا نصره ، عوداً وبدءاً ، وعلانية وسرّاً ، فبخلنا عنه بأنفسنا حتّى قُتل إلى جانباً ؛

١٩٩

لا نحن نصرناه بأيدينا ، ولا جادلنا عنه بألسنتنا ، ولا قوّيناه بأموالنا ، ولا طلبنا له النصرة إلى عشائرنا ، فما عذرنا عند ربّنا وعند لقاء نبيّنا؟ لا والله لا عذر دون أن تقتلوا قاتليه والموالين عليه ، أو تُقتلوا في طلب ذلك ؛ فعسى ربّنا أن يرضى عنّا عند ذلك».

وتكلّم سليمان بن صرد الخزاعي ـ وقد جعلوه زعيماً لهم ـ فقال :

«إنّا كنّا نمدّ أعناقنا إلى قدوم آل نبيّنا ونُمنّيهم النصر ونحثهم على القدوم ، فلمّا قدموا ونينا وعجزنا وأدهنّا وتربصنا وانتظرنا ما يكون ، حتّى قُتل فينا ولد نبيّنا وسلالته وبضعة من لحمه ودمه. ألا انهضوا قد سخط ربّكم ، ولا ترجعوا إلى الحلائل والأبناء حتّى يرضى الله ، وما أظنّه راضياً حتّى تُناجزوا مَنْ قتله أو تُبيروا ، ألا لا تهابوا الموت ؛ فوالله ما هابه امرؤ قطّ إلاّ ذلّ. كونوا كالأوّل من بني إسرائيل إذ قال لهم نبيّهم : (إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ)».

وكتب سليمان بن صرد إلى سعد بن حذيفة بن اليمان ومَنْ معه من الشيعة بالمدائن يأمرهم فأجابوه إلى دعوته ، وكتب إلى المثنى بن مخرمة العبدي في البصرة وللشيعة هناك فأجابوه إلى ذلك.

وكان أوّل ما ابتدؤوا به أمرهم بعد قتل الحسين عليه‌السلام سنة إحدى وستين ، فما زالوا بجمع آلة الحرب ودعاء الناس في السرّ إلى الطلب بدم الحسين عليه‌السلام ، فكان يجيبهم القوم بعد القوم ، والنفر بعد النفر من الشيعة وغيرها ، فلم يزالوا كذلك [حتّى] مات يزيد ، فخرجت طائفة دعاة يدعون الناس

٢٠٠