ثورة الحسين ظروفها الإجتماعيّة وآثارها الإنسانيّة

الشيخ محمّد مهدي شمس الدّين

ثورة الحسين ظروفها الإجتماعيّة وآثارها الإنسانيّة

المؤلف:

الشيخ محمّد مهدي شمس الدّين


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: المؤسسة الدوليّة للدراسات والنشر
الطبعة: ٧
الصفحات: ٢٢٩

ـ ٢ ـ

١ ـ تحطيم الإطار الديني

قد رأينا في فصل سابق كيف استغل الاُمويّون الدين لإيهام رعاياهم أنّهم يحكمون بتفويض إلهي ، وأنّهم خلفاء رسول الله حقّاً ، هادفين من وراء ذلك إلى أن يجعلوا من الثورة عليهم عملاً محظوراً وإن ظلموا وجوّعوا وشرّدوا المؤمنين ، وأن يجعلوا لأنفسهم باسم الدين الحقّ في قمع أيّ تمرّد تقوم به جماعة من الناس وإن كانت محقّة في طلباتها.

وقد رأينا أنّهم استعانوا على ذلك بطائفة كبيرة من الأحاديث المكذوبة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد وضعها ونسبها إلى النبي اُولئك النفر من تجّار الدين الذين تقدّم ذكر بعضهم والذين كانوا يؤلّفون جهاز الدعاية عند معاوية بن أبي سفيان ، واستعان معاوية بهؤلاء وغيرهم في عقد مجالس القصص والوعظ التي دأب القصّاصون والوعّاظ على أن يدسّوا فيها هذه الأحاديث ، ويبشّروا فيها بهذه الأفكار فيؤيّدون بها الحكم الاُموي عن طريق الدين.

وقد جعل معاوية القصص عملاً رسميّاً تابعاً للدولة ، فرتّب قصّاصاً يومية في المحافل والمساجد ، وأنفق عليهم من مال الدولة. قال الليث بن سعد :

«وأمّا قصص الخاصّة فهو الذي أوجده معاوية ، ولّى رجلاً على القصص فإذا سلّم من صلاة الصبح ، جلس وذكر الله عزّ وجلّ وحمده ومجّده ، وصلّى على النبي

١٦١

صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ودعا للخليفة ولأهل بيته وحشمه وجنوده ، ودعا على أهل حربه وعلى المشركين كافة» (١).

وعن طريق هذه المؤسسات (الأحاديث النبوية ، الشعر ، الفرق الدينية ، القصص) آمن الناس إيماناً غيبيّاً بالحكم الاُموي ، وبحرمة الثورة عليه وإن خرج عن حدود الدين الذي هو المبرّر الوحيد لوجوده. ولقد عملت هذه المؤسسات عملها السّام ، وأعطت ثمارها الخبيثة في صورة تسليم تام ، وخضوع أعمى للحكم الاُموي مهما اقترف من مظالم. وهذه بعض الشواهد على ذلك من ثورة الحسين عليه‌السلام نفسها :

فهذا ابن زياد يقول للناس في خطبته التي خذّل فيها عن مسلم بن عقيل :

«اعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمّتكم» (٢).

وهذا مسلم بن عمرو الباهلي ـ وهو من أصحاب ابن زياد ـ طلب منه مسلم بن عقيل بعد أن قبض عليه أن يسقيه من جرّة بباب القصر ، فقال له :

«أتراها ما أبردها؟ والله لا تذوق منها قطرة حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم».

فقال له مسلم : مَنْ أنت؟

فقال : أنا مَنْ عرف الحقّ إذ تركته ، ونصح الاُمّة والإمام إذ غششته ، وسمع وأطاع إذ عصيته (٣).

__________________

(١) فجر الإسلام ، ١٥٨ ـ ١٦٠.

(٢) الطبري ٤ / ٢٧٥.

(٣) الطبري ٤ / ٢٨١ ـ ٢٨٢.

١٦٢

وهذا عمرو بن الحجاج الزبيدي ـ من قادة الجيش الاُموي في كربلاء ـ صاح قائلاً حين رأى بعض أفراد جيشه ينسلّون إلى الحسين عليه‌السلام ويقاتلون دونه :

«يا أهل الكوفة ، الزموا طاعتكم وجماعتكم ، ولا ترتابوا في قتل مَنْ مرق من الدين وخالف الإمام» (١).

هذه الشواهد وغيرها كثير تكشف عن أنّ المسؤولين الاُمويِّين وأعوانهم كانوا يطالبون الناس بالقيام بفرض ديني حين طلبوا منهم أن يحاربوا الحسين عليه‌السلام. ولا بدّ أنّهم استندوا في طلبهم هذا إلى ما عهدوه من السند الديني للحكم الاُموي في نفوس المسلمين.

وقد كان حريّاً بهذه العقيدة ـ إذا عمّت جميع طبقات المجتمع ، واستحكمت في أذهان الناس دون أن تُكافح ، ودون أن يظهر في الناس مَنْ يفضح زيفها وبُعدها عن الدين ـ أن تقضي تماماً على كلّ محاولة مقبلة يُراد منها تطوير الواقع الإسلامي ، وتقويض أركان الحكم الفاسد الذي يُمارسه الاُمويّون وأعوانهم ، وكلّما تقدّم الزمن بهذه العقيدة دون أن تجد مُناوئاً تزداد استحكاماً وتأصّلاً في النفوس ، وذلك كفيل في النهاية بحمل المجتمع على مُناوئة كلّ حركة تحرّرية.

ويقتضينا الإنصاف للواقع أن نُنبه إلى أنّ دعايات الاُمويِّين الدينية التي هدفوا منها إلى دعم حكمهم الفاسد فشلت في التأثير على الخوارج ؛ فقد كان الخوارج يشكّلون القوّة الثورية الوحيدة في المجتمع الإسلامي ، وكانوا وحدهم ـ تقريباً ـ القائمين بجميع الحركات التحرريّة ضدّ الحكم الاُموي منذ استتباب الأمر لمعاوية حتّى ثورة الحسين عليه‌السلام ، إلاّ أنّ حركات الخوارج التمرّدية لم تكن هي تلك الثورة التي يُرجى منها بثّ قوى جديدة

__________________

(١) الطبري ٤ / ٣٣١ ، وراجع ولهاوزن : الدولة العربيّة وسقوطها ـ فلقد ذكر شواهد من تغلغل هذه الفكرة في المجتمع السوري.

١٦٣

ومفاهيم جديدة في المجتمع الإسلامي ، ولم تكن هي الثورة التي يُرجى منها تحطيم الإطار الديني للحكم الاُموي ، ولم تكن هذه الحركات التمرّدية لتُؤثّر سوى هزّات خفيفة جدّاً في السطح الاجتماعي ولا تصل إلى القاع أبداً. وكانت هذه الهزّات تحدث في نطاق ضيّق لا يتعدّى حدود المدينة أو القرية التي يحدث فيها التمرّد والاشتباك المسلح بينهم وبين الفرق العسكرية الاُمويّة ، ثمّ لا يلبث السطح الاجتماعي أن يعود إلى ما كان عليه دون أن يتغيّر من حياة الناس ومفاهيمهم ـ حتّى في مركز الحركة ـ أي شيء.

والسبب في ذلك هو أنّ المجتمع الإسلامي لم يكن يتجاوب معهم ، بل كان يُحاربهم ويقف ضدّهم ، ويمكن أن نقول بوثوق : إنّ المجتمع الإسلامي لم يُحارب مع حكّامه الاُمويِّين عن رغبة واندفاع إلاّ ضدّ الخوارج.

وطبيعي أنّه حين لا يتجاوب المجتمع نفسيّاً وعقائديّاً مع القائمين بالثورة ، لا يمكن أن تنجح تلك الثورة مطلقاً على الصعيد الاجتماعي والفكري ، فلا يمكن أن تُحدث تغييراً في التركيب الاجتماعي ؛ لأنّ المجتمع يخذلها ويُناوئها ، ولا يمكن أن تُحدث تغييراً في المفاهيم الثقافية العقائديّة ؛ لأنّ المجتمع يرفض تعاليمها ونزعتها العقائديّة.

يُضاف إلى هذا أنّ الخوارج كانوا قُساة جدّاً ، وعلى جانب كبير من الرعونة والرغبة في سفك الدم ؛ فلم يكونوا يعفون عن قتل أيّ إنسان يُصادفونه دون أن يلقوا بالاً إلى كونه مُحارباً أو مُسالماً ، رجلاً أو امرأة أو طفلاً. وإنّ تشكيلات الخوارج كانت تمتصّ كثيراً من المُجرمين ونهّازي الفرص والطامعين في النّهب (١).

__________________

(١) «وكان قسم منهم ليس خيراً من اللصوص العاديين إلا بالإسم ، بحيث يستحقون ان يعاملوا كاللصوص» ولهاوزن ، الدولة العربية ، ١٠٢.

وبروكلمان : تاريخ الشعوب الإسلامية (الطبعة الخامسة ـ دار العلم للملايين بيروت ـ ١٩٦٨ ، ص ٢١٦).

١٦٤

كلّ هذا جعل المجتمع الإسلامي يقف ضدّهم ؛ ولذلك فلم تكن ثوراتهم المُتكررة لتُحطّم الإطار الديني الذي أحاط به الاُمويّون سلطانهم.

لقد كان أضمن السبل لتحطيم هذا الإطار الديني هو أن يثور عليه رجل ذو مركز ديني مسلّم به عند الاُمّة المسلمة بأسرها ؛ فثورة مثل هذا الرجل كفيلة بأن تفضح الزخرف الديني الذي يتظاهر به الحكّام الاُمويّون ، وأن تكشف هذا الحكم على حقيقته وجاهليّته وبُعده الكبير عن مفاهيم الإسلام. ولم يكن هذا الرجل إلاّ الحسين عليه‌السلام ؛ فقد كان له في قلوب المسلمين جميعاً رصيد من الحبّ والإجلال عظيم ، وقد رأيت مصداق ذلك عند الحديث عن إقامته في مكة ، ثمّ عند الحديث عن خروجه منها إلى العراق.

كان هو الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يفضح الحكّام الاُمويِّين ويكشف حقائقهم. وقد وضع موقف الاُمويِّين من ثورة الحسين عليه‌السلام خطّاً فاصلاً بين الدين الإسلامي والحكم الاُموي ، وأظهر هذا الحكم بمظهره الحقيقي وكشف زيفه.

فالاُمويّون الذين لم يرضوا من الحسين عليه‌السلام إلاّ بالقتل ، قتله وقتل آله آل علي وآل عقيل وأبنائهم ، وقتل طائفة من صفوة أصحابهم تُقىً وديناً وحرصاً على مصلحة المسلمين ، ثمّ منعهم الماء عنهم حتّى قتلوهم عطشاً ، وفيهم الطفل الرضيع والمرأة المرضع ، ثمّ ما فعلوه بعد ذلك من رضّ أجسادهم بحوافر الخيل ، وسبي بنات النبوّة على الوجه المعروف ، حاسرات بلا غطاء ولا وطاء ، ونقل رؤوس القتلى مع السبايا من كربلاء إلى الكوفة إلى الشام ، كلّ ذلك جرّد الاُمويِّين من كلّ صبغة دينية وإنسانيّة ، بل جعلهم ضدّ الدين والإنسانيّة لقد كانت الرؤوس والسبايا ، وأحاديث الجنود العائدين دلائل حيّة بليغة الأداء ، تعمل على تقويض كلّ ركيزة دينية للحكم الاُموي في نفوس المسلمين.

* * *

١٦٥

ولقد زاد الحسين عليه‌السلام حراجة مركزهم حين لم يصرّ على القتال ، لقد طلب من الحرّ بن يزيد ـ وهو أوّل قائد اُموي واجه الحسين عليه‌السلام بألف مُحارب ـ أن يتركه ليرجع من حيث أتى ، فلم يُجبه الحرّ غلى ذلك ، وكانت الأوامر تقضي عليه ألاّ يُفارق الحسين عليه‌السلام حتّى يُقدمه الكوفة إلى ابن زياد. ومن نافلة القول أن نذكر أنّ الحسين عليه‌السلام رفض ذلك (١).

حتّى إذا قدم عمر بن سعد قائد الجيش الاُموي فاوضه الحسين عليه‌السلام طويلاً ، وأقنعه بأن يُمسك الطرفان عن القتال ويرجع الحسين من حيث أتى ، أو يذهب إلى حيث يريد من بلاد الله. وكتب عمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد فأبى ابن زياد ذلك ، وكتب إليه :

«أمّا بعد ، فإنّي لم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه ، ولا تطاوله ولا لتُمنيه السلامة والبقاء ، ولا لتقعد له عندي شافعاً. انظر : فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم سلماً ، وإن أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتُمثّل بهم ؛ فإنّهم لذلك مستحقّون. فإن قُتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره ؛ فإنّه عاقّ مُشاق ، قاطع ظلوم ، وليس في هذا أن يضرّ بعد الموت شيئاً ، ولكن عليّ قول لو قد قتلته فعلت هذا به» (١).

لقد أعطاهم الحسين عليه‌السلام فرصة يتّقون بها ارتكاب قتله وقتل آله وصحبه ، ولكنّهم أبوا إلاّ القتل ، وأصروا عليه ، فزادهم ذلك فضيحة في المسلمين.

وأغتنم هذه المناسبة هناك فأقول : يتحدّث بعض المؤرّخين عن أنّ الحسين عليه‌السلام قال لابن سعد : اذهب بي إلى يزيد أضع يدي في يده. والذي نقطع به هو أنّ الحسين عليه‌السلام لم يقل هذا ، ولو أراد ذلك لما صار إلى حالته

__________________

(١) الطبري ٤ / ٣٠٣ ـ ٣٠٤ ، والكامل ٣ / ٢٨٠.

(٢) الطبري ٤ / ٣١٤ ، والكامل ٣ / ٢٨٤.

١٦٦

التي صار إليها. إنّ جميع الدلائل تشير إلى أنّ هذا الخبر إنّما هو من وضع الاُمويِّين وأعوانهم ، أرادوا أن يُوهموا الناس أنّ الحسين عليه‌السلام خشع وخضع وحنى رأسه لسلطان يزيد ؛ ليشوّهوا بذلك الموقف البطولي الذي وقفه هو وأصحابه في كربلاء ، وقد حرص الاُمويّون وأعوانهم على إخفاء كثير من ملامح ثورة الحسين عليه‌السلام ومُلابساتها ، وأذاعوا كثيراً من الأخبار المكذوبة عنها ؛ ليوقفوا عملها التدميري في ملكهم وسلطانهم ، ولكنّهم لم يفلحوا.

والذي يدلّ على هذا الخبر ما رواه كثير من المؤرّخين عن عقبة بن سمعان أنّه قال :

صحبت الحسين من المدينة إلى مكة ، ومن مكة إلى العراق ، ولم أفارقه حتّى قُتل ، وسمعت جميع مُخاطباته الناس إلى يوم مقتله ، فوالله ما أعطاهم ما يتذاكر به الناس من أنّه يضع يده في يد يزيد ، ولا أن يُسيّروه إلى ثغر من ثغور المسلمين ، ولكنّه قال : «دعوني أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه ، أو دعوني أذهب في هذه الأرض العريضة حتّى ننظر إلى ما يصير إليه أمر الناس» ، فلم يفعلوا (١).

ولقد جعلهم موقفهم هذا من الحسين عليه‌السلام بمثابة الثائرين على الإسلام نفسه.

وقد استغل الحسين عليه‌السلام هذه النقطة ـ إصرارهم على قتله ، وامتناعهم عن الاستجابة لكلّ حلّ سلمي ، ومركزه في المسلمين ـ استغلالاً رائعاً ؛ فقد دأب في كلّ فرصة تُؤاتيه للكلام على تأكيد هذه الحقيقة للجيش الاُموي. وهذا نموذج من كلامه معهم في هذا الشأن :

«أيّها الناس ، اسمعوا قولي ولا تعجلوني حتّى أعظكم بما يجب لكم

__________________

(١) الطبري ٤ / ٣١٣ ، والكامل ٣ / ٢٨٣ ـ ٢٨٤ ، وأعيان الشيعة ٤ / قسم أول / ٢٤٤.

١٦٧

عليّ ، وحتّى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم ، فإن قبلتم عذري ، وصدّقتم قولي ، وأنصفتموني كنتم بذلك أسعد ، ولم يكن لكم عليّ سبيل. وإن لم تقبلوا منّي العذر (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلاَ تُنْظِرُونِ) ، (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ).

أمّا بعد ، فانسبوني فانظروا مَنْ أنا ، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم فعاتبوها ، وانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وابن وصيّه وابن عمّه ، وأوّل المؤمنين بالله ، والمصدّق لرسوله بما جاء به من عند ربّه؟ أو ليس حمزة سيد الشهداء عمّ أبي؟ أو ليس جعفر الشهيد الطيار عمّي؟ أو لم يبلغكم قولٌ مُستفيضٌ فيكم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لي ولأخي : هذان سيدا شباب أهل الجنّة (١)؟ فإن صدّقتموني بما أقول ـ وهو الحقّ ـ والله ما تعمّدت كذباً مُذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله ، ويضرّ به مَنْ اختلقه. وإن كذّبتموني فإنّ فيكم مَنْ إن سألتموه عن ذلك أخبركم ؛ سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري ، أو أبا سعيد الخدري ، أو سهل بن سعد الساعدي ، أو زيد بن أرقم ، أو أنس بن مالك يُخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لي ولأخي. أفما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟».

فقال له شمر بن ذي الجوشن :

هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما تقول.

فقال له حبيب بن مظاهر :

والله إنّي لأراك تعبد الله على سبعين حرفاً ، وأنا أشهد أنّك صادق ما

١٦٨

تدري ما يقول ، قد طبع الله على قلبك.

ثمّ قال لهم الحسين عليه‌السلام :

«فإن كنتم في شكّ من هذا القول ، أفتشكّون في أنّي ابن بنت نبيّكم؟ فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيٍّ غيري منكم ولا من غيركم ، وأنا ابن بنت نبيّكم خاصّة. أخبروني ، أتطلبوني بقتيلٍ منكم قتلته ، أو مال لكم استهلكته ، أو بقصاص من جراحة؟».

فأخذوا لا يكلّمونه ، فنادى : «يا شبث بن ربعي ، ويا حجّار بن أبجر ، ويا قيس بن الأشعث ، ويا يزيد بن الحارث ، ألم تكتبوا إليّ : أن قد أينعت الثمار ، وأخضرّ الجناب ، وطمت الجمام ، وإنّما تقدم على جُند لك مُجند ، فأقبل». قالوا له : لم نفعل. فقال : «سبحان الله! بلى والله لقد فعلتم» ، ثمّ قال : «أيّها الناس : إذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض». فقال له قيس بن الأشعث : أوَ لا تنزل على حكم بني عمّك ؛ فإنّهم لن يروك إلاّ ما تحبّ ، ولن يصل إليك منهم مكروه فقال له الحسين عليه‌السلام : «أنت أخو أخيك ، أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟ (١).

لا والله ، لا اُعطيهم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أقرّ إقرار العبيد. عباد الله ، إنّي عذت بربّي وربّكم أن ترجمون. أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب» (٢).

__________________

(١) محمد بن الأشعث ـ أخو قيس ـ هو الذي آمن مسلم بن عقيل ثم لم يفِ بأمانه ، الطبري ٤ / ٢٨٠ ـ ٢٨١.

(٢) الطبري بتحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم ٥ / ٤٢٥ ـ ٤٢٦ طبعة سنة ١٩٦٤ م ، والكامل ٣ / ٢٨٧ ـ ٢٨٨.

١٦٩

بهذا الكلام فضح الحسين عليه‌السلام الزُّخرف الديني في الحكم الاُموي ؛ فليس إنساناً عاديّاً هذا الذي ثار على هذا الحكم ، إنّه ركيزة من الركائز التي قام عليها الإسلام .. الدين الذي يُبرّر به هذا الحكم وجوده. ومن ناحية اُخرى أشعرهم أنّ الظلم يجب أن يُقابل بالثورة والاحتجاج .. بالعمل الانتحاري (الاستشهادي) حتّى ولو كان هذا الظلم صادراً من جهاز حكم يحكم باسم الدين ؛ لأنّ الحكم بمُجرّد أن يظلم يتنكّر للدين.

إنّ بعض أدعياء البحث العلمي يرون أنّ الحسين عليه‌السلام وقف هذا الموقف ليستدرّ الرحمة ، ثمّ يقولون : ما كان أغناه عن ذلك. ولكنّهم بعيدون جدّاً عن فهم هذا اللون من مواقف الأبطال العقائديين ؛ لو أراد الحسين عليه‌السلام أن يستدرّ الرحمة وينجو بحياته لاكتفى بأدنى من هذا ، لبايع يزيد ، لذهب إلى عبيد الله بن زياد ، لكتب إلى يزيد يستأمنه ويعطيه البيعة ، لكلّم في ذلك عمر بن سعد سرّاً. لو أراد الرحمة لفعل شيئاً من ذلك ، ولكنّه توجّه بخطابه إلى الجنود ... الجنود الذين يعلم أنّهم مأمورون ، وأنّهم لا يملكون أن يفعلوا ما يُريدون ، توجّه إليهم ليؤكّد في أذهانهم ومشاعرهم الحقيقة التي ستُرعبهم وستُرعب المجتمع الإسلامي كلّه بعد قليل ... الحقيقة الصارخة بأنّه ومَنْ معه منحدرون من هذه الاُصول العريقة في تاريخ الإسلام ؛ محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، علي ، فاطمة ، جعفر ، حمزة عليهم‌السلام. إنّه يُقرّر في أذهانهم أنّهم لا يطلبونه بقتيل قتله منهم ، ولا بمال احتجبه عنهم ، ولا بجراحة أصاب بها أحدهم ، وإنّما يطلبونه لأنّه ثار على الحكم الاُموي الفاسد ، هذا الحكم الذي يُصرّ على قتله باسم الدين وهو في مركزه الديني العظيم.

على هذا النحو ينبغي أن يُفهم هذا النصّ وغيره من النصوص. وانتهت فاجعة كربلاء بمصرع الحسين عليه‌السلام وآله وصحبه ، ولكنّ نضال بقية آل البيت عليهم‌السلام في سبيل إشعار المسلمين بالزيف الديني الذي يقوم عليه الحكم الاُموي ، وفي سبيل بثّ الوعي في هذه الجماهير لم ينته ، ولكنّ النضال مُنذ اليوم لن يأخذ

١٧٠

شكل الثورة المُسلحة ؛ فقد صُرع في كربلاء جميع الثائرين ، إنّه مُنذ اليوم نضال كلامي ، ولقد واصلت ثورة الحسين عليه‌السلام في هذا الاتجاه اُخته زينب عقيلة آل أبي طالب.

وقد انكشف هذا الزيف الديني ـ الذي موّه الاُمويّون به حكمهم ـ سريعاً بعد مصرع الحسين عليه‌السلام وآله ؛ فقد نشر الجنود العائدون تفاصيل الملحمة المروّعة في طول البلاد الإسلاميّة وعرضها ، فكان لذلك فعل النار بالنسبة إلى السلطان الاُموي وقد روى المؤرّخون لمّا وصل رأس الحسين عليه‌السلام إلى يزيد حسُنت حال ابن زياد عنده ، ووصله وسرّه ما فعل ، ثمّ لم يلبث إلاّ يسيراً حتّى بلغه بغض الناس له ولعنهم وسبّهم ، فندم على قتل الحسين (١).

لقد تحطّم منذ ذلك اليوم الإطار الديني الذي أحاط به الحكّام الظالمون حكمهم الفاسد ، لم تعُد لهذا الحكم حرمة دينية عند الجماهير المُسلمة. وقد عرفت فيما سبق أنّ الاُمويِّين أنشؤوا جماعة فكرية تتّخذ من نشاطها الفكري وسيلة لتغطية نشاطها السياسي ، ولإسباغ صفة مشروعة على هذا النشاط ، وهي فرقة المرجئة التي تُؤيّد حكومة بني اُميّة ، وتسبغ على تصرّفاتهم صفة دينية ، وتقدّم للناس تفسيراً دينياً خاصّاً يجعل الحاكمين بمأمن من أن ينظر المسلمون إلى أفعالهم المنافية للدين نظرة غضب واستنكار.

وقد دأب الفقهاء الرسميون على إصدار الفتاوى التي تحرّم على الجماهير الثورة على الحكم الفاسد.

قال الشربيني في كتاب مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج :

«وقد عرّف المصنّف البُغاة بقوله : هم مسلمون مُخالفوا الإمام ولو جائراً ، وهم عادلون كما قال القفّال ، وحكاه ابن القشيري عن معظم

__________________

(١) الطبري ٤ / ٣٨٨ ـ ٣٨٩ ، الكامل ٣ / ٣٠٠ ، وتأريخ الخلفاء ، ٢٠٨ ، وغيرها.

١٧١

الأصحاب ، وما في الشرح والروضة من التقييد بالإمام العادل ، وكذا هو في الأمّ والمختصر مرادهم إمام أهل العدل ، فلا ينافي ذلك. ويدلّ لذلك قول المصنّف في شرح مسلم : إنّ الخروج على الأئمّة وقتالهم حرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين».

وقال الشيخ عمر النسفي في كتابه «العقائد النسفية» :

«ولا ينعزل الإمام بالفسق ـ أي الخروج على طاعة الله تعالى ـ والجور ـ أي الظلم على عباده تعالى ـ ؛ لأنّ الفاسق من أهل الولاية عند أبي حنيفة ...». وقد علّل ذلك بأنّه قد ظهر الفسق واشتهر الجور من الأئمّة والأمراء بعد الخلفاء الراشدين ، والسلف كانوا ينقادون لهم ولا يرون الخروج عليهم ...!!!

وقال الباجوري في حاشيته على شرح الغزّي :

«فتجب طاعة الإمام ولو جائراً. وفي شرح مسلم : يحرم الخروج على الإمام الجائر إجماعاً» ...

وهذا فقيه آخر يقول في كتاب مجمع الأنهر وملتقى الأبحر :

«والإمام يصير إماماً بالمبايعة معه من الأشراف والأعيان ، وبأن ينفذ حكمه في رعيته ؛ خوفاً من قهره وجبروته ، فإن بويع ولم ينفذ حكمه فيهم لعجزه عن قهرهم لا يصير إماماً ، فإذا صار إماماً فجار لا ينعزل إن كان له قهر وغلبة ، وإلاّ ينعزل» (١).

هذه الفتاوى وأمثالها التي تُحرّم ثورة العادلين على الظالمين الفاسقين ، والتي تجعل مبرّر السيطرة على الحكم القدرة على قهر الرعية وظلمها والجور فيها ، ما أنزل الله بها من سلطان ، وإنّما هي النتاج الخبيث للنظرة الدينية إلى

__________________

(١) راجع بحثاً مفصلاً عن هذا الموضوع في كتابنا (نظام الحكم والإدارة في الإسلام) في الصفحات / ٩٧ ـ ٩٩ و ١٠٣ ـ ١٠٤ و ١٠٧ ـ ١١٢ وغيرها.

١٧٢

الحكم الاُموي وكلّ حكم ظالم ، وهي نتيجة التبرير الديني لتصرّفات الحكّام الظالمين ولكن هذه الفتاوى التخديرية التي ما أنزل الله بها من سلطان بقيت في بطون الكتب ، ولم تعد الجماهير المسلمة تستمع إليها إلاّ قليلاً ... لقد بدأت تتربّص للثورة في كلّ حين.

١٧٣

ـ ٣ ـ

٢ ـ الشعور بالإثم

وكان لثورة الحسين عليه‌السلام ونهايته في كربلاء أثر آخر ، هو ما سبّبته هذه النهاية وهذا المصير من إثارة الشعور بالإثم في ضمير كلّ مسلم استطاع نصره فلم ينصره ، وسمع واعيته فلم يُجبها. ولقد كان هذا الشعور أقوى ما يكون في ضمائر اُولئك الذين كفّوا أيديهم عن نصره بعد أن وعدوه النصر وعاهدوه على الثورة.

ولهذا الشعور بالإثم طرفان ؛ فهو من جهة يحمل صاحبه على أن يكفّر عن إثمه الذي ارتكبه وجرمه الذي قارفه ، وهو من جهة اُخرى يُثير في النفس مشاعر الحقد والكراهية لاُولئك الذي دُفعوا إلى ارتكاب الإثم.

وهذا ما نراه جليّاً في الشعب المسلم بعد ثورة الحسين عليه‌السلام ، فقد دفع الشعور بالإثم كثيراً من الجماعات الإسلاميّة إلى العمل للتفكير ، وزادهم بغضاً للاُمويِّين وحقداً عليهم. وكان التعبير الطبيعي للرغبة في التكفير وللحقد هو الثورة ، وهكذا كان ؛ فقد استُهدف الاُمويّون لثورات أجّجها مصرع الحسين عليه‌السلام ، وكان باعثها التكفير عن القعود عن نصره والرغبة في الانتقام من الاُمويِّين ، وسنرى في فصل آت نماذج من هذه الثورات.

وبسبب هذا الشعور بالإثم لم يُعد موقف المسلمين من الحكم الاُموي موقفاً عقلياً نابعاً من إدراك بُعد الاُمويِّين عن الدين وظلمهم ، وإنّما غدا موقفاً عاطفياً أيضاً ؛ حيث إنّ هذا الشعور حدا بالكثيرين إلى الثورة كعمل انتقامي يقصد به التشفّي ، وهذا يُفسّر لنا كثيراً من الثورات الفاشلة التي

١٧٤

كان من البيّن فشلها قبل اشتعالها ؛ فقد كان سببها هو الرغبة في الانتقام ، هو تلبية هذا الدّاعي العاطفي ، وعندما يقع الإنسان تحت وطأة موقف عاطفي طاغ تغيب عنه احتمالات الفشل والنجاح. وممّا لا ريب فيه أنّ هذا العامل النفسي جعل موقف المسلمين من الحكم الاُموي أكثر إيجابية وحرارة ، وأسبغ عليه صفة انتقامية ، وجعله عاملاً يحسب له حساب عند الحاكمين. إنّ الموقف العقلي فقط يُمكن السيطرة عليه والتشكيك فيه بأساليب كثيرة ، أمّا حين يكون الموقف عاطفياً فإنّ الأمر يختلف تماماً ؛ وذلك لأنّ العاطفة الصادقة تمتاز بالاشتعال والفوران والديمومة ، ورفض وجهات النظر المقابلة ، ولقد كان الشعور بالإثم عند هؤلاء المسلمين عميقاً وصادقاً.

* * *

ولقد قدّر لبقية آل البيت عليهم‌السلام أن تُلهب هذا الشعور بالإثم ، وأن تزيده حدّة وحرارة. هذه زينب بنت علي عليها‌السلام وقفت في أهل الكوفة ، وقد احتشدوا يحدقون في موكب الرؤوس والسبايا ويبكون ، فأشارت إليهم أن اسكتوا ، فسكتوا ومضت تقول :

«أمّا بعد يا أهل الكوفة ، أتبكون! فلا سكنت العبرة ، ولا هدأت الرنّة ، إنّما مثلكم مثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً ، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم ، ألا ساء ما تزرون!

أي والله ، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً ، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ، فلن ترحضوها بغسل أبداً ، وكيف ترحضون قتل سبط خاتم النبوّة ، ومعدن الرسالة ، ومدار حجّتكم ، ومنار محجتكم ، وهو سيّد شباب أهل الجنّة؟!

١٧٥

لقد أتيتم بها خرقاء شوهاء ، أتعجبون لو أمطرت دماً؟!

ألا ساء ما سوّلت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.

أتدرون أيّ كبد فريتم ، وأيّ دم سفكتم ، وأيّ كريمة أبرزتم؟! لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً ، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاًًًً».

قال مَنْ سمعها :

«فلم أرّ والله خفرة أنطق منها ، كأنّما تنزع عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. فلا والله ما أتمّت حديثها حتّى ضجّ الناس بالبكاء وذُهلوا ، وسقط ما في أيديهم من هول تلك المحنة الدهماء».

وتكلّمت فاطمة بنت الحسين عليها‌السلام ، فقالت في كلام لها :

«أمّا بعد يا أهل الكوفة ، يا أهل المكر والغدر والخيلاء ، فإنّا أهل بيت ابتلانا الله بكم وابتلاكم بنا ، فكذبتمونا وكفّرتمونا ، ورأيتم قتالنا حلالاً ، وأموالنا نهباً.

ويلكم! أترون أيّ يدٍ طاعنتنا منكم ، وأيّة نفس نزعت إلى قتالنا ، أم بأيّة رجل مشيتم إلينا تبغون مُحاربتنا؟! قست قلوبكم ، وختم على سمعكم وبصركم ، وسوّل لكم الشيطان ، وأملى لكم ، وجعل على بصركم غشاوة فأنتم لا تهتدون.

١٧٦

تبّاً لكم يا أهل الكوفة! أيّ ترات لرسول الله قبلكم ، وذحول له لديكم بما غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب وعترته الطيّبين الأخيار؟!» (١).

* * *

وتكلّم علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام ، فقال :

«أيها الناس ، ناشدتكم الله ، هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه ، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه؟ فتبّاً لكم لما قدّمتم لأنفسكم! وسوأة لرأيكم! بأيّ عين تنظرون إلى رسول الله إذ يقول لكم : قتلتم عترتي ، وانتهكتم حرمتي ، فلستم من أمتي؟!» (٢).

* * *

ولمّا نودي بقتل الحسين عليه‌السلام في المدينة ، وعلم الناس بذلك ضجّت المدينة بأهلها ، ولم تُسمع واعية قطّ مثل نساء بني هاشم في دورهنّ على الحسين عليه‌السلام. وخرجت ابنة عقيل بن أبي طالب حاسرة ومعها نساؤها ، وهي تلوي بثوبها وتقول :

ماذا تقولونَ إنْ قالَ النبيُّ لكمْ

ماذا فعلتم وأنتم آخرُ الاُممِ

بعترتي وبأهلي بعد مُفتقدي

منهم أُسارى وقتلى ضُرّجوا بدمِ

فلمّا سمع عمرو بن سعيد ـ والي المدينة ـ أصواتهنّ ، ضحك وقال :

عجّت نساءُ بني زيادٍ عجّةً

كعجيجِ نسوتِنا غداةَ الأرنبِ

__________________

(١) أعيان الشيعة ٤ ـ قسم أول ـ ٣١٨ ـ ٣٢٠.

(٢) أعيان الشيعة ٤ / قسم أول / ٣٢١ ـ ٣٢٣.

١٧٧

ثمّ قال : هذه واعية كواعية عثمان (١).

وقد عبّر هذا الشعور بالإثم عن نفسه بالشعر الذي يتفجّر سخطاً ونقمة على الاُمويِّين ، وحنيناً وولاء للحسين عليه‌السلام ، وانفعالاً بثورته.

وثمّة نماذج معاصرة للثورة تكشف لنا بصدق وحرارة عن هذا الأثر الذي خلّفته الثورة في المجتمع الإسلامي.

ولعلّ من أصدق النماذج التي حفظها لنا تأريخ تلك الفترة قول عبد الله بن الحرّ الذي فرّ من الكوفة حين اتّهمه عبيد الله بن زياد بعدم الولاء للسلطة ، وقدم إلى كربلاء فنظر إلى مصارع الشهداء وقال :

يقولُ أميرٌ غادرٌ حقّ غادرِ

ألا كنتَ قاتلتَ الشهيدَ ابنَ فاطمهْ

فيا ندمي ألاّ أكونُ نصرتَهُ

ألا كلّ نفسٍ لا تُسدّدُ نادمهْ

وإنّي لآسي لم أكن من حماتِهِ

لذو حسرةٍ ما إنْ تُفارق لازمهْ

سقى اللهُ أرواحَ الذين تآزروا

على نصرهِ سقياً من الغيثِ دائمهْ

وقفتُ على أجداثِهم ومحالِهمْ

فكادَ الحشى ينفضُّ والعينُ ساجمهْ

لَعمري لقد كانوا مصاليتَ في الوغى

سراعاً إلى الهيجا حماةً خضارمهْ

تآسوا على نصرِ ابنِ بنتِ نبيّهمْ

بأسيافِهم آسادُ غيلٍ ضراغمه

فإنْ يُقتلوا فكلُّ نفسٍ تقيّةٍ

على الأرضِ قد أضحت لذلكَ واجمهْ

وما إنْ رأى الراؤونَ أفضلَ منهمُ

لدى الموتِ ساداتٍ وزهراً قماقمهْ

أتقلتُهم ظلماً وترجو ودادنا

فدع خطّةً ليست لنا بملائمهْ

لَعمري لقد راغمتمونا بقتلِهمْ

فكم ناقمٌ منّا عليكم وناقمهْ

__________________

(١) الطبري ٤ / ٣٤٦ ـ ٣٥٧ ، الكامل ٣ / ٣٠٠ ، والشماتة في أبغض مظاهرها بيّنة في موقف عمرو بن سعيد الاُموي.

١٧٨

أهمُّ مراراً أن أسيرَ بجحفلٍ

إلى فئةٍ زاغتْ عن الحقّ ظالمهْ

فكفّوا وإلاّ زرتُكم بكتائبٍ

أشدّ عليكم من زحوفِ الديالمهْ (١)

ومن هؤلاء الذين استيقظت ضمائرهم على جريمتهم الرهيبة رضي بن منقذ العبدي ، فقال :

لو شاءَ ربّي ما شهدتُ قتالُهمْ

ولا جعلَ النعماءَ عند ابن جابرِ (٢)

لقد كانَ ذاكَ اليوم عاراً وسُبّةً

تُعيّرهُ الأبناءُ بعدَ المعاشرِ

فياليتَ أنّي كنتُ من قبل قتلِهِ

ويومَ حسينٍ كنتُ في رمسِ قابرِ (٣)

وقد قدّر لهذا الشعور بالإثم أن يبقى مشتعل الأوار ، حافزاً دائماً إلى الثورة والانتقام ، وقدّر له أن يدفع الناس إلى الثورات على الاُمويِّين كلّما سنحت الفرصة ، ثمّ لا يرتوي ولا يهدأ ولا يستكين وإنّما يطلب من صاحبه ضريبة الدم باستمرار ، وكان سبيل ذلك هو الثورة على الظالمين.

__________________

(١) الطبري ٥ / ٤٦٩ ـ ٤٧٠.

(٢) كعب بن جابر : أحد جنود الجيش الاُموي ، قالت له زوجته أو اُخته لمّا رجع من المعركة : «أعنت على ابن فاطمة وقتلت سيد القرّاء؟! لقد أتيت عظيماً من الأمر ، والله لا اُكلمك من رأسي كلمة أبداً». فأجابها بشعر يفتخر فيه بفعله تضمّن بيتاً يذكر فيه أنّه أنقذ رضي بن منقذ من القتل حين أعانه على خصمه في المعركة :

قتلتُ بُريراً ثمّ حمّلتُ نعمةً

أبا منقذٍ لمّا دعا مَنْ يماصعُ

ونلفت النظر إلى عقيدة الجبر الظاهر عند رضي بن منقذ العبدي في البيت الأوّل في قوله : (لو شاء ربّي ما شهدت قتالهمْ). انظر : تأريخ الطبري ٥ / ٤٣٢ ـ ٤٣٣.

(٣) الطبري ٥ / ٤٣٣.

١٧٩

ـ ٤ ـ

٣ ـ الأخلاق الجديدة

الثورة الصحيحة هي الاحتجاج النهائي الحاسم على الواقع المعاش ، فبعد أن تخفق جميع الوسائل الاُخرى في تطوير الواقع تصبح الثورة قدراً حتميّاً لا بدّ منه.

والقائمون بالثورة هم دائماً أصح أجزاء الاُمّة ؛ هم الطليعة ، هم النُّخبة التي لم يأسرها الواقع المعاش ، وإنّما بقيت في مستوى أعلى منه وإن كانت تدركه وتعيه ، وترصده وتنفعل به وتتعذّب بسببه.

تُصبح الثورة قدر هذه النُّخبة ومصيرها المحتوم حين تخفق جميع وسائل الصلاح الاُخرى ، وإلاّ فإنّ النُّخبة إذا لم تثر تفقد مُبررات وجودها ، ولا يمكن أن يُقال عنها إنّها نُخبة ، إنّها تكون نُخبة حين يكون لها دور تأريخي وحين تقوم بهذا الدور.

ولا بدّ أن تُبشر الثورة بأخلاق جديدة إذا حدثت في مجتمع ليس له تُراث ديني وإنساني يضمن لأفراده ـ إذا اتّبع ـ حياة إنسانيّة متكاملة ، أو تُحيي المبادئ والقيم التي هجرها المجتمع أو حرّفها إذا كان للمجتمع مثل هذا التُراث كما هو الحال في المجتمع الإسلامي الذي كانت سياسة الاُمويِّين المجافية للإسلام تحمله على هجر القيم الإسلاميّة ، واستلهام الأخلاق الجاهليّة في الحياة.

وتُوفر هذا الهدف في الثورة الصحيحة من جملة مقوّمات وجودها ؛ لأنّ

١٨٠