ثورة الحسين ظروفها الإجتماعيّة وآثارها الإنسانيّة

الشيخ محمّد مهدي شمس الدّين

ثورة الحسين ظروفها الإجتماعيّة وآثارها الإنسانيّة

المؤلف:

الشيخ محمّد مهدي شمس الدّين


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: المؤسسة الدوليّة للدراسات والنشر
الطبعة: ٧
الصفحات: ٢٢٩

حلاله ، وأنا أحقّ مَنْ غيّر. وقد أتتني كتبكم ، وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم ، وإنّكم لا تُسلموني ولا تخذلوني ، فإن تممتم عليّ بيعتكم تصيبوا رُشدكم ؛ فإنّي الحسين بن علي ، وابن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، نفسي مع أنفسكم ، وأهلي مع أهليكم ، فلكم فيّ اُسوة. وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم ، وخلعتم بيعتي من أعناقكم ، فلعمري ما هي لكم بنُكر ؛ لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم بن عقيل ، والمغرور مَنْ اغترّ بكم ، فحظّكم أخطأتم ، ونصيبكم ضيّعتم ، ومَنْ نكث فإنّما ينكث على نفسه» (١).

فهو هنا يبيّن لهم أسباب ثورته : إنّها الظلم ، والاضطهاد والتجويع ، وتحريف الدين ، واختلاس أموال الاُمّة. ثمّ انظر كيف لمّح لهم إلى ما يخشون ، لقد علم أنّهم يخشون الثورة لخشيتهم الحرمان والتشريد ، فهم يؤثرون حياتهم على ما فيها من انحطاط وهوان على محاولة التغيير خشية أن يفشلوا فيعانوا القسوة والضّنك.

لقد علم منهم هذا ، فقال لهم :

«وأنا الحسين بن علي ، وابن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فبيّن لهم مركزه أوّلاً ، ثمّ قال لهم :

«نفسي مع أنفسكم ، وأهلي مع أهليكم ، فلكم فيّ اُسوة»

فيما قد يحدث من اضطهاد وحرمان. ويقف المتأمّل وقفة اُخرى عند قوله :

__________________

(١) الطبري ٤ / ٣٠٤ ـ ٣٠٥ ، والكامل ٣ / ٢٨٠ ، وأعيان الشيعة ٤ / قسم أول / ٢٢٨ ـ ٢٢٩.

١٤١

«وأنا أحقّ من غيّر». فيها تعبير عن شعوره بدوره التأريخي الذي يتحتّم عليه أن يقوم بأدائه.

ومرّة ثالثة حدّث الحسين عليه‌السلام أهل العراق عن ثورته ومبرراتها ، وكانت خطبته هذه في الساعات الأخيرة التي سبقت اشتباك القتال بينه وبين الجيش الأموي. قالوا : إنّه عليه‌السلام ركب فرسه فاستنصتهم فلم ينصتوا ، حتّى قال لهم :

«ويلكم! ما عليكم أن تنصتوا لي فتسمعوا قولي؟! وإنّما أدعوكم إلى سبيل الرشاد ، فمَنْ أطاعني كان من المرشدين ، ومَنْ عصاني كان من المهلكين ، وكلّكم عاصٍ لأمري ، غير مستمع لقولي ، فقد مُلئت [بطونكم] من الحرام ، وطُبع على قلوبكم. ويلكم! ألا تنصتون؟ ألا تسمعون؟».

فتلاوم أصحاب عمر بن سعد بينهم ، وقالوا :

«أنصتوا له. فحمد الله وأثنى عليه وذكره بما هو أهله ، وصلّى على محمد وعلى الملائكة والأنبياء والرسل ، وأبلغ في المقال».

ثمّ قال :

«تبّاً لكم أيّها الجماعة وترحاً! أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين ، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم ، وحششتم علينا ناراً أوقدناها على عدوّنا وعدوّكم ، فأصبحتم إلباً على أوليائكم ، ويداً عليهم لأعدائكم ، بغير عدل أفشوه فيكم ، ولا أمل أصبح لكم فيهم ، إلاّ الحرام من الدنيا أنالوكم ، وخسيس عيش طمعتم فيه ، من غير حدث

١٤٢

كان منّا ، ولا رأي تفيّل لنا ـ فهلاّ ـ لكم الويلات ـ إذ كرهتمونا وتركتمونا ، [تجهزتموها] والسيف مشيم ، والجأش طامن ، والرأي لمّا يستحصف ، ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدُّبا ، وتداعيتم إليها كتداعي الفراش. فسحقاً لكم يا عبيد الاُمّة ، وشذّاذ الأحزاب ، ونبذة الكتاب ، ونفثة الشيطان ، وعصبة الآثام ، ومُحرّفي الكتاب ، ومُطفئي السنن ، وقتلة أولاد الأنبياء ، ومُبيدي عترة الأوصياء ، ومُلحقي العهار بالنسب ، ومُؤذي المؤمنين ، وصُراخ أئمّة المُستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين ، ولبئس ما قدّمت لهم أنفسهم وفي العذاب هم خالدون.

وأنتم ابن حرب وأشياعه تعضدون ، وعنّا تخاذلون! أجل والله ، الخذل فيكم معروف ؛ وشجت عليه اُصولكم ، وتأزّرت عليه فروعكم ، وثبتت عليه قلوبكم ، وغشيت صدوركم ، فكنتم أخبث ثمرة شجيّ للناظر ، وأكلة للغاصب ، ألا لعنة الله على الناكثين الذين ينقضون الأيمان بعد توكيدها ، وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً ، فأنتم والله هم.

ألا وإنّ الدّعيّ ابن الدّعيّ قد ركز بين اثنتين ؛ بين السلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، وجدود طابت وحجور طهرت ، واُنوف حمية ونفوس أبيّة ، لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ...ألا وإنّي قد أعذرت وأنذرت ، ألا وإنّي زاحف بهذه الاُسرة مع قلّة العدد ، وكثرة العدوّ ، وخذلان الناصر.

ثمّ قال :

فإن نهزِم فهزّامونَ قدماً

وإن نُغلب فغير مُغلّبينا

وما أن طبّنا جبنٌ ولكن

منايانا ودولة آخرينا

١٤٣

إذا ما الموتُ رفّعَ عن اُناسٍ

كلاكلَه أناخَ بآخرينا

فأفنى ذلكمْ سرواتُ قومي

كما أفنى القرونَ الغابرينا

فلو خلدَ الملوكُ إذاً خلدنا

ولو بقي الكرامُ إذاً بقينا

فقل للشامتينَ بنا أفيقوا

سيلقى الشامتونَ كما لقينا» (١)

في هذه الخطبة حدّثهم الحسين عليه‌السلام عن أنفسهم ، وعن واقعهم ، وعن زيف حياتهم. حدّثهم كيف أنّهم استصرخوه على جلاّديهم ثمّ انكفؤوا مع هؤلاء الجلاّدين عليه. هؤلاء الجلاّدون الذين لم يسيروا فيهم بالعدل وإنّما حملوهم على ارتكاب الحرام في مقابل عيش خسيس. خسيس في نفسه ، قليل دون الكفاية ، خسيس لأنّه يعمل على مدّ الأجل بحياة حقيرة ذليلة ، خسيس باعتباره أجراً لعمل خسيس. وحدّثهم عن مواقفهم المتكرّرة من الحركات الإصلاحية ، إنّهم دائماً يُظهرون العزم على الثورة والرغبة فيها ، يُظهرون العزم على تطوير واقعهم السيِّئ حتّى إذا جدّ الجدّ انقلبوا جلاّدين للثورة بدل أن يكونوا وقوداً لها. حدّثهم عن أعدائه باعتبارهم أعدائهم أيضاً ، ولكنّهم يُزيّفون حياتهم بأيديهم ، يُحاربون محرّريهم ، مَنْ يعلمون أنّهم المحرّرون. مع مَنْ؟ مع أعدائهم مُذلّيهم وظالميهم.

هذه الخطبة ، بهذا الاُسلوب الثائر ، وبما فيها من تقريع ، وبما فيها من فضح لهم ، كانت ملائمة تمام الملاءمة للجو النفسي السائد آنذاك على الجيش الاُموي. إنّ محاربي ذلك الجيش كانوا على علم بمَنْ يُحاربون ، فأراد أن يُشعرهم بفداحة الإثم الذي يُقارفونه ، وعظم الأمر الذي يُحاولونه ، وأراد أن يُسمع المجتمع الإسلامي ـ هذا المجتمع الخاضع ـ صوته المدوّي. وبهذا اللون من البيان جعل الحسين عليه‌السلام من كلّ مسلم بركاناً مدمّراً على أهبة الانفجار.

__________________

(١) أعيان الشيعة ٤ / قسم أول / ١٥٥ ـ ١٦٠.

١٤٤

ـ ٧ ـ

بواعث الثورة لدى الرأي العام

ولم يكن المغزى الاجتماعي للثورة مُدركاً من قبل الحسين عليه‌السلام وحده ، فقد كان المسلمون يحسّون بضرورة العمل على تطوير واقعهم السيِّئ إلى واقع أحسن. أدرك هذا اُولئك الذين كتبوا إلى الحسين عليه‌السلام يطلبون منه القدوم إلى العراق ، وأدرك هذا اُولئك الذين صبّروا أنفسهم على الموت معه.

والذين كتبوا إليه من العراق لم يكونوا أفراداً معدودين ، وإنّما كانوا كثيرين جدّاً ؛ ففي المؤرّخين مَنْ يقول : أنّ كُتب أهل العراق إلى الحسين عليه‌السلام زادت على مئة وخمسين كتاباً (١) وقال مؤرّخون آخرون : إنّه قد اجتمع عند الحسين عليه‌السلام في نُوب مُتفرّقة اثنا عشر ألف كتاب من أهل العراق. ونستطيع أن نكوّن فكرة صحيحة عن ضخامة عدد الكتب التي دعت الحسين عليه‌السلام إلى القيام بالثورة إذا قرأنا هذا الخبر الذي رواه أغلب المؤرّخين ، وهو : أنّ الحسين عليه‌السلام لمّا لقي الحرّ بن يزيد كان من جملة ما قاله للحرّ ومَنْ معه :

«أمّا بعد ، أيّها الناس ، فإنّكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله ، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان. وإن أنتم كرهتمونا وجهلتم حقّنا ، وكان رأيكم غير ما أتتني به كتبكم.

__________________

(١) الكامل ٣ ـ ٢٦٦ ـ ٢٦٧.

١٤٥

وقدمت به عليّ رسلكم ، انصرفت عنكم».

فقال له الحرّ بن يزيد :

إنّا والله ما ندري ما هذه الكتب التي تذكر ، فقال الحسين عليه‌السلام : «يا عقبة بن سمعان ، أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إليّ». فأخرج خرجين مملوءين صحفاً فنشرها بين أيديهم (١).

من هنا نستطيع أن نكوّن فكرة عن ضخامة عدد الكتب التي اُرسلت إلى الحسين عليه‌السلام تدعوه إلى الثورة وتعده بالنصر. ونلاحظ من ناحية اُخرى أنّ هذه الكتب ليست من أفراد ؛ فقد كانت كتباً من الرجل والاثنين والأربعة والعشرة (٢) ، فلسنا أمام حركة فردية ، وإنّما نحن أمام حركة جماعية قام بها المجتمع العراقي ، أو الكثرة الساحقة من هذا المجتمع ، وهذا نموذج للكتب التي وردت إليه :

«سلام عليكم. أمّا بعد ، فالحمد لله الذي قصم عدوّك وعدوّ أبيك من قبل ، الجبّار العنيد ، الغشوم الظلوم ، الذي انتزى على هذه الأمّة فابتزّها أمرها واغتصبها فيئها ، وتأمّر عليها بغير رضاً منها ، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها ، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وعتاتها ، فبعداً له كما بعدت ثمود. وإنّه ليس

__________________

(١) الطبري ٤ / ٣٠٣ والكامل ٣ / ٢٨٠ ، وأعلام الوري ٢٢٩ ، وأعيان الشيعة نفس الجزء والصفحة ، والأخبار الطوال نشرة دار الكتب : ٢٤٩.

(٢) انظر : تأريخ الطبري ٤ / ٢٦٢ ، وجاء في أعيان الشيعة : «وأنفذوا قيس بن مسهر الصيداوي ، وعبد الرحمن بن عبد الله بن شداد الأرحبي ، وعمارة بن عبد الله السلولي إلى الحسين عليه‌السلام ومعهم نحو مئة وخمسين صحيفة من الرجل والاثنين والأربعة والعشرة ، وهو مع ذلك يتأبّى ولا يجيبهم ، فورد عليه في يوم واحد ستمئة كتاب ، وتواترت الكتب حتّى اجتمع عنده في نوّب متفرّقة اثنا عشر ألف كتاب».

١٤٦

علينا إمام غيرك فأقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ. والنعمان بن بشير في قصر الإمارة ، ولسنا نجتمع معه في جمعة ، ولا نخرج معه إلى عيد ، ولو قد بلغنا أنّك أقبلت أخرجناه حتّى يلحق بالشام إن شاء الله تعالى ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته يابن رسول الله» (١).

هذا نموذج للكتب التي أرسلت إلى الحسين عليه‌السلام تدعوه إلى الثورة ، ويبرز العامل الاجتماعي فيه بوضوح عظيم ، فسياسة الإرهاب والتجويع هي التي حملت هؤلاء الناس على الثورة ، وكان الحسين عليه‌السلام هو الشخصيّة الوحيدة التي يمكن أن تتزعّم ثورة كهذه ؛ إذ لم يكن في الزعماء المسلمين زعيم غيره يتجاوب مع آلام الشعب وآماله ومطامحه.

__________________

(١) الطبري ٤ / ٢٦١ ـ ٢٦٢ ، والكامل ـ ٣ ـ ٢٦٦.

١٤٧

ـ ٨ ـ

بواعث الثورة لدى الثائرين

فإذا نحن تجاوزنا هؤلاء الداعين إلى الثورة ثمّ المتخاذلين عنها إلى اُولئك الذين ثبتوا ثائرين مع الحسين عليه‌السلام إلى اللحظة الأخيرة. اللحظة التي توّجوا فيها عملهم الثوري بسقوطهم صرعى رأيناهم يحملون نفس الفكرة ، ويبرّرون ثورتهم ويدعون الجيش الاُموي إلى تأييدهم بنفس تلك المبرّرات ؛ الظلم الاجتماعي ، وسياسة الإرهاب ، والإذلال التي يمارسها الحاكمون.

هذا زهير بن القين خرج على فرس له في السلاح ، فخطب الجيش الاُموي قائلاً :

«يا أهل الكوفة ، نذارِ لكم من عذاب الله نذارِ ، إنّ حقّاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم ، ونحن حتّى الآن إخوة على دين واحد ، وملّة واحدة ما لم يقع بيننا وبينكم السيف ، وأنتم للنصيحة منّا أهل ، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة ، وكنّا نحن اُمّة وأنتم اُمّة.

إنّ الله قد ابتلانا وإيّاكم بذريّة نبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لينظر ما نحن وأنتم عاملون ، إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية ابن الطاغية عبيد الله بن زياد ؛ فإنّكم لا تدركون منهما إلاّ بسوء عمر سلطانهما كلّه ؛ لَيُسملان أعينكم ، ويقطعان أيديكم وأرجلكم ، ويُمثّلان بكم ، ويرفعانكم على جذوع النخل ، ويقتلان أماثلكم وقرّاءكم ، أمثال

١٤٨

حجر بن عدي وأصحابه ، وهاني بن عروة وأشباهه».

فسبّوه وأثنوا على ابن زياد ، وقالوا : والله لا نبرح حتّى نقتل صاحبك ومَنْ معه ، أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله سلماً ...

١٤٩
١٥٠

الفصل الثالث :

آثار الثورة في الحياة الإسلاميّة

«... إنّ فاجعة كربلاء قد دخلت في الضمير الإسلامي آنذاك ، وانفعل بها المجتمع الإسلامي بصفة عامّة انفعالاً عميقاً. ولقد كان هذا كفيلاً بأن يبثّ في النفس ما يدفعها إلى الدفاع عن كرامتها ، وأن يبعث في الروح النضالية الهامدة جذوة جديدة ، وأن يرسل في الضمير الشلو هزّة تحييه ...».

١٥١
١٥٢

ـ ١ ـ

تمهيد

لقد درسنا فيما تقدّم بعض جوانب ثورة الحسين عليه‌السلام على الحكم الاُموي ، فدرسنا ظروفها الاجتماعيّة والنفسية ، ودرسنا أسبابها وغاياتها ، وفي خلال حديثنا هذا صحبنا الحسين عليه‌السلام وآله وصحبه في كثير من مراحل عملهم الثوري ، ولم نتحدّث عن عنصر المأساة حديثاً واسعاً ؛ لأنّ ذلك ليس من همّنا كما ذكرنا بين يدي هذه الفصول ، واكتفينا من ذلك بالإشارة التي يقتضيها سياق البحث والاستنتاج.

ونريد الآن أن نتحدّث عن نتائج هذه الثورة وعن عطائها الإنساني ، هل غيّرت هذه الثورة شيئاً من مواقع المجتمع الذي انفجرت فيه؟ وهل حققت نصراً لصانعيها؟ وهل حطّمت أعداءها.

هذه أسئلة تثور على شفتي كلّ مَنْ يقرأ أو يسمع عن ثورة من الثورات ، ويتوقّف الحكم على الثورة بالنجاح أو الفشل على ما تقدّمه الوثائق من أجوبة على هذا الأسئلة ، فهل كانت ثورة الحسين عليه‌السلام ناجحة ، أو أنّها كانت ثورة فاشلة ككثير من الثورات التي تشتعل ثمّ تنطفئ ، ولا تخلف وراءها إلاّ ذكريات حزينة تراود بين الحين والحين أحبّاء صرعاها.

قد يُقال : إنّها ثورة فاشلة تماماً ؛ فهي لم تحقق نصراً سياسياً آنيّاً يُطوّر الواقع الإسلامي إلى حال أحسن من الحال التي كان عليها قبل هذه الثورة ، لقد بقي المسلمون بعد الثورة كما كانوا قبلها قطيعاً يُساق بالقوّة إلى حيث يُراد له لا إلى حيث يُريد ، ويُساس بالتجويع والإرهاب. ولقد ازداد أعداء

١٥٣

هذه الثورة قوّة على قوّتهم فلم تنل منهم شيئاً ، وأمّا صانعوها فقد أكلتهم نارها ، وشملت أعقابهم مئات من السنين ؛ فحملت إليهم الموت والذلّ ، والتشريد والحرمان ، فهي فاشلة على الصعيد الاجتماعي ، وهي فاشلة على الصعيد الفردي.

ولكنّ الحقّ غير ذلك في عين الباحث البصير.

فإنّ علينا لكي نفهم ثورة الحسين عليه‌السلام أن نبحث عن أهدافها ونتائجها في غير النصر الآني الحاسم ، وفي غير الاستيلاء على مقاليد الحكم والسلطان ، فإنّ ما بين أيدينا من النصوص دالّ على أنّ الحسين عليه‌السلام كان عالماً بالمصير الذي ينتظره وينتظر مَنْ معه.

قال لابن الزبير حين طلب منه إعلان الثورة في مكة :

«وأيم الله ، لو كنت في جُحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتّى يقضوا بي حاجتهم. والله ليعتدنّ عليّ كما اعتدت اليهود في السبت» (١).

وكان يقول :

«والله ، لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فإذا فعلوا سلّط الله عليهم مَنْ يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من فرام المرأة» (٢).

وأجمع نصحاؤه ـ حين شاع نبأ عزمه على المسير إلى العراق ـ على أنّه فاشل حتماً في الوصول إلى نتيجة سريعة من ثورته ، فقد كانت قوى المال والسلاح مُتّحدة ضدّه ، فكيف ينتصر؟ وفزعوا إليه ينصحونه بالمكوث في مكة ، أو الخروج عنها إلى غير العراق من بلاد الله ؛ من هؤلاء عمر بن عبد

__________________

(١) و (٢) انظر : تأريخ الطبري ٤ / ٢٨٩ و ٢٩٦ ، والكامل ٣ / ٢٧٥ ـ ٢٧٦ ، والأخبار الطوال ، ٢٢٣.

١٥٤

الرحمن المخزومي ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، ومحمد بن الحنفيّة ، وعبد الله بن جعفر.

ولكنّه أبى عليهم ما أشاروا به ، فقال لعبد الرحمن بن الحرث :

«جزاك الله خيراً يابن عمّ ، فقد والله علمت أنّك مشيت بنصح ، وتكلّمت بعقل ، ومهما يقضِ الله من أمر يكن ، أخذتُ برأيك أو تركته ، فأنت عندي أحمد مُشير ، وأنصح ناصح» (١).

وقال لعبد الله بن عباس :

«يابن عمّ ، إنّي والله لأعلم أنّك ناصح مُشفق ، ولكنّي قد أزمعت وأجمعت على المسير» (٢).

وقال في موقف آخر :

«لأن اُقتل بمكان كذا أو كذا أحبّ إليّ من أن تُستحلّ حرمتها بي ـ يعني الحرم ـ» (٣).

وقال لعبد الله بن عمر وقد نصحه بالصلح والمهادنة مع يزيد :

«يا أبا عبد الرحمن ، أما علمت أنّ من هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريّا اُهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل؟ اتّق الله يا أبا عبد الرحمن ولا تدعَن نصرتي» (٤).

__________________

(١) و (٢) الطبري ٤ / ٢٨٧ ـ ٢٨٨ والكامل ٣ / ٢٧٥ ـ ٢٧٦.

(٢) محمد بن عبدالله الأزرقي : أخبار مكة (طبعة دار الثقافة في مكة المكرمة) ج ٢ ص ١٣٢ ـ ١ ، ١ أعيان الشيعة ، ٤ قسم أول / ٢١٢.

(٣) أعيان الشيعة / قسم أول / ٢١٢.

١٥٥

وأجاب الفرزدق حين قال له : قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني اُميّة :

«صدقت ، لله الأمر ، والله يفعل ما يشاء ، وكلّ يوم ربّنا في شأن. إن نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه ، وهو المستعان على أداء الشكر ، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يعتد مَنْ كان الحقّ نيّته ، والتقوى سريرته» (١).

وورد إليه كتاب عمر بن سعيد بن العاص عامل المدينة يُمنّيه في الأمان والصلة ، والبرّ وحسن الجوار ، وأرسله إليه مع أخيه يحيى بن سعيد وعبد الله بن جعفر ، فجهدا أن يرجع فلم يفعل ، ومضى وهو يقول :

«قد غسلت يدي من الحياة ، وعزمت على تنفيذ أمر الله».

وهكذا ما نزل منزلاً إلاّ ولقي مَنْ ينصحه بعدم الخروج إلى العراق ، ويذكر له من أنباء أهله ما يكشف عن خذلانهم له وانكفائهم عليه ، حتّى أتاه خبر قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وهو بالثعلبية ، فأهاب به بعض أصحابه بالرجوع فأبى ، فلمّا كان بزُبالة (٢) أتاه خبر قتل أخيه من الرضاعة عبد الله بن يقطر (٣) ، فخرج حينذاك إلى مَنْ صحبه من الناس وقال :

«أمّا بعد ، فإنّه قد أتاني خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل ، وهانئ بن عروة ، وعبد الله بن يقطر ، وقد خذلنا شيعتنا ، فمَنْ أحبّ منكم الانصراف فلينصرف في غير

__________________

(١) الطبري ٤ / ٢٩٠ والكامل ٣ / ٢٧٦.

(٢) زبالة : موضع بطريق مكة.

(٣) عبدالله بن يقطر : رضيع الحسين ، كان أحد رسله إلي الكوفة. قبض عليه عبيدالله بن زياد ، ورمي به من فوق القصر فتكسر ، وقام إليه عمرو الأزدي فذبحه ، ويقال : بل فعل ذلك عبدالملك بن عمير اللخمي.

١٥٦

حرج ، ليس عليه منّا ذمام. فتفرّق عنه الناس تفرّقاً ، فأخذوا يميناً وشمالاً حتّى بقي في أصحابه الذي جاؤوا معه من المدينة ، وإنّما فعل ذلك لأنّه ظنّ إنّما اتّبعه الأعراب لأنّهم ظنّوا أنّه يأتي بلداً قد استقامت طاعة أهله ، فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون علامَ يقدمون. وقد علم أنّهم إذا بيّن لهم لم يصحبه إلاّ مَنْ يريد مواساته والموت معه» (١). وأجاب مَنْ نصحه بالرجوع إلى مأمنه من منزله ذاك بعد أن تبيّن له الأمر ، فقال له : «يا عبد الله ، إنّه ليس يخفى عليّ أنّ الرأي ما رأيت ، ولكنّ الله لا يُغلب على أمره» (٢).

* * *

هذه النُذر كلّها تشير إلى أنّه كان عالماً بالمصير الذي ينتظره. وإذاً فليس لنا أن نبحث عن أهداف ثورة الحسين عليه‌السلام ونتائجها في الاستيلاء على مقاليد الحكم والسلطان ؛ لأنّه لم يستهدف من ثورته نصراً آنيّاً ، ولأنّه كان مُدركاً لاستحالة الحصول على نصر آني. وقد يبدو لنا هذا غريباً جدّاً ، فكيف يسير إنسان إلى الموت مع طائفة من أخلص أصحابه طائعاً مختاراً ، وكيف يُحارب في سبيل قضية يعلم أنّها خاسرة ، وكيف يمكّن لعدوّه من نفسه هذا التمكين؟ هذه علامات استفهام كثيرة نبحث عن أجوبتها.

والذي اعتقده هو أنّ وضع المجتمع الإسلامي إذ ذاك كان يتطلّب القيام بعمل انتحاري فاجع يلهب الروح النضالية في هذا المجتمع ، ويتضمّن أسمى مراتب التضحية ونكران الذات في سبيل المبدأ ؛ لكي يكون مناراً لجميع الثائرين حين تلوح لهم وعورة الطريق ، وتضمحلّ عندهم احتمالات الفوز ، وتُرجّح عندهم إمارات الفشل والخذلان.

__________________

(١) و (٢) الطبري : / ٣٠٠ ـ ٣٠١ ، والكامل ٣ / ٢٧٨.

١٥٧

لقد كان قادة المجتمع وعامّة أفراده إذ ذاك يقعدون عن أي عمل إيجابي لتطوير واقعهم السيِّئ بمجرد أن يلوح لهم ما قد يُعانون في سبيل ذلك من عذاب ، وما قد يضطّرون إلى بذله من تضحيات. وكانوا يقعدون عن القيام بأي عمل إيجابي بمجرد أن تُحقّق لهم السلطة الحاكمة بعض المنافع القريبة ولم يكن هذا خُلق السادة وحدهم ، بل كان خُلق عامّة الناس أيضاً ؛ لذا رأينا تخاذل مجتمع بأسره عن نصر قضيته حين أوقع ابن زياد بمسلم بن عقيل ، وكيف أخذت المرأة تخذّل ابنها وزوجها وأخاها ، وكيف أخذ الرجل يخذّل ابنه وأخاه وأباه. لقد كان اُولئك الذين قالوا للحسين عليه‌السلام : «قلوبهم معك وسيوفهم عليك» صادقين في تصوير ذلك المجتمع ؛ فإنّ قلوب الناس كانت معه لأنّهم يحبّون أن يصيروا إلى حال أحسن من حالهم ، ولكنّهم حين علموا أنّ ذلك موقوف على بذل تضحيات قد تصل إلى بذل الحياة ، انكمشوا وسلّموا سيوفهم في خدمة الذين يدفعون لهم أجر قتالهم لهذا الذي جاء بدعوة منهم ليحرّرهم. فحين استيقن ابن زياد أنّ الحسين عليه‌السلام ماضٍ فيما اعتزمه جمع الناس في مسجد الكوفة وخطبهم ، ومدح يزيد وأباه وذكر حسن سيرتهما وجميل أثرهما ، ووعد الناس بتوفير العطاء لهم وزادهم في اُعطياتهم مئة مئة ، وأمرهم بالاستعداد والخروج لحرب الحسين عليه‌السلام (١).

هذا هو موقف الشعب من الحركات العامّة التي يتوقّف نجاحها على التضحيات ، وأمّا موقف الزعماء فقد عرفته ، وهذه صورة اُخرى منها قدّمها لنا عمر بن سعد أمير الجيش الاُموي ؛ فلقد دار أمره بين أن يُحارب الحسين عليه‌السلام وبين أن يفقد إمرة الرّي ، فاختار الأولى على الثانية (٢).

ولقد حاوره الحسين عليه‌السلام في كربلاء ، فقال له :

__________________

(١) أعيان الشيعة ٤ / قسم أول / ٢٣٦.

(٢) الطبري ٤ / ٣٠٩ ـ ٣١٠.

١٥٨

«ويلك يابن سعد! أما تتّقي الله الذي إليه معادك؟ أتقاتلني وأنا ابن عمّك؟ ذر هؤلاء القوم وكن معي ؛ فإنّه أقرب لك إلى الله ، فقال ابن سعد : أخاف أن تُهدم داري ، فقال الحسين عليه‌السلام : أنا أبنيها لك ، فقال : أخاف أن تؤخذ ضيعتي ، فقال الحسين عليه‌السلام : أنا أخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز ، فقال : لي عيال وأخاف عليهم ، وهنا اتّضح للحسين عليه‌السلام أنّه رجل ميّت القلب ، ميّت الضمير ؛ فإنسان يقيس مصير مجتمعه بهذا اللون من القياس ليس إنساناً سوي التكوين النفسي ، فقال له الحسين عليه‌السلام : «ما لك! ذبحك الله على فراشك عاجلاً ، ولا غفر لك يوم حشرك ، فوالله إنّي لأرجو ألاّ تأكل من بُرّ العراق إلاّ يسيراً».

فقال مستهزئاً :

في الشعير كفاية (١).

هذا هو المجتمع الإسلامي في أيام الحسين عليه‌السلام. مجتمع مريض يُشترى ويُباع بقليل من المال وكثير من العذاب والإرهاب ، وما كان من الممكن أن تُردّ إلى هذا المجتمع إنسانيته وكرامته ، وما كان من الممكن أن يُنبّه إلى زيف وحقارة وجوده ، وما كان من الممكن أن تُوقظ فيه روحه النضالية الهامدة إلاّ بعمل انتحاري فاجع يتضمّن أسمى آيات التضحية والكرامة والدفاع عن المبدأ والموت في سبيله ، وهكذا كان.

إنّ الحسين عليه‌السلام لم يكن ذا مال ليُنافس الاُمويِّين وبيدهم خزائن الأموال ، ولم يكن ليتجافى عن روح الإسلام وتعاليمه فيجلب الناس إليه بالعنف والإرهاب ، ولذا فليس من المعقول أن يطلب نصراً سياسياً آنيّاً في مجتمع لا يُحارب إلاّ في سبيل المال وبالمال ، أو بالقسر والإرهاب ، ولكن كان في

__________________

(١) أعيان الشيعة ٤ / قسم أول / ١٤٣ ، والطبري ٤ / ٢١٣٢ ، والكامل ٣ / ٢٨٣.

١٥٩

وسعه أن يقوم بعمله الذي قام به ليهزّ أعماق هذا المجتمع ، وليُقدّم له مثلاً أعلى طُبع في ضمائر أفراده بدم ونار. وإذا نحن تقصّينا أسماء مَنْ قُتل مع الحسين عليه‌السلام في كربلاء وجدنا أصحابه ينتمون إلى معظم القبائل العربيّة ، فقلّ أن توجد قبيلة عربية لم يُقتل مع الحسين عليه‌السلام منها واحد أو اثنان.

ومن هنا يمكن القول بأنّ فاجعة كربلاء دخلت في الضمير الإسلامي آنذاك ، وانفعل بها المجتمع الإسلامي بصفة عامّة انفعالاً عميقاً. ولقد كان هذا كفيلاً بأن يبعث في الروح النضالية الهامدة جذوة جديدة ، وأن يبعث في الضمير الشّلو هزّة تُحييه ، وأن يبعث في النفس ما يبعثها إلى الدّفاع عن كرامتها.

وهذه الملاحظات تجعل من المعيّن علينا ألاّ نبحث عن نتائج ثورة الحسين عليه‌السلام فيما تعوّدناه في سائر الثورات ، وإنّما نلتمس نتائجها في الميادين التالية :

١ ـ تحطيم الإطار الديني المُزيّف الذي كان الاُمويّون وأعوانهم يُحيطون به سلطانهم ، وفضح الرّوح اللادنية الجاهليّة التي كانت تُوجّه الحكم الاُموي.

٢ ـ بثّ الشعور بالإثم في نفس كلّ فرد ، وهذا الشعور الذي يتحوّل إلى نقد ذاتي من الشخص لنفسه يقوم على ضوئه موقفه من الحياة والمجتمع.

٣ ـ خلق مناقبية جديدة للإنسان العربي المسلم ، وفتح عيني هذا الإنسان على عوالم مضيئة باهرة.

٤ ـ بعث الرّوح النضالية في الإنسان المسلم من أجل إرسال المجتمع على قواعد جديدة ، ومن أجل ردّ اعتباره الإنساني إليه.

١٦٠