ثورة الحسين ظروفها الإجتماعيّة وآثارها الإنسانيّة

الشيخ محمّد مهدي شمس الدّين

ثورة الحسين ظروفها الإجتماعيّة وآثارها الإنسانيّة

المؤلف:

الشيخ محمّد مهدي شمس الدّين


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: المؤسسة الدوليّة للدراسات والنشر
الطبعة: ٧
الصفحات: ٢٢٩

عن طريق إظهار المظالم التي حفل بها عهد معاوية ؛ انتظاراً لليوم الموعود.

وقد رأينا أنّ هذه الدعوة ضدّ الحكم الاُموي قد بدأت بعد الصلح ، وقد كانت في عهد الإمام الحسن عليه‌السلام تسير في رفق وهدوء ، نظراً لأنّ المجتمع كان لا يزال مأخوذاً ببريق الحكم الاُموي ، ولم يتمثّل بعد طبيعة هذا الحكومة الظالمة الباغية تمثّلاً صحيحاً. أمّا في عهد الإمام الحسين عليه‌السلام فقد ازدادت الدعوة عنفاً وشدّة واحتداماً ، وأخذت تكسب أنصاراً كثيرين في كلّ مكان بعد أن أسفر الحكم الاُموي عن وجهه تماماً ، وبعد أن بدا على واقعه الذي سترته الوعود الجذّابة والألفاظ المعسولة.

ولقد كان كلّ حدث من أحداث معاوية يجد صدى مدوّياً في المدينة حيث الإمام الحسين عليه‌السلام ، ويكون مداراً لاجتماعات يعقدها الإمام الحسين عليه‌السلام مع أقطاب الشيعة في العراق ، والحجاز وغيرهما من بلاد الإسلام ، يدلّنا على ذلك أنّه حين قتل معاوية حجر بن عدي الكندي وأصحابه خرج نفر من أشراف الكوفة إلى الحسين عليه‌السلام فأخبروه الخبر.

ولا بدّ أنّ حركة قويّة دفعت مروان بن الحكم عامل معاوية على المدينة إلى أن يكتب إلى معاوية :

«أمّا بعد ، فإنّ عمرو بن عثمان ذكر أنّ رجالاً من أهل العراق ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي ، وإنّه لا يُؤمن وثُوبه ، وقد بحثت عن هذا فبلغني أنّه يُريد الخلاف يومه هذا ، فاكتب إليّ برأيك» (١).

__________________

(١) أعيان الشيعة ٤ / قسم أول / ١٤٢ ـ ١٤٣ ، والأخبار الطوال ٢٢٤.

١٢١

ـ ٢ ـ

ب ـ شخصيّة معاوية

وأكبر الظنّ أنّ الحسين عليه‌السلام لو ثار في عهد معاوية لما استطاع أن يسبغ على ثورته هذا الوهج الساطع الذي خلّدها في ضمائر الناس وقلوبهم ، والذي ظلّ يدفعهم عبر القرون الطويلة إلى تمثّل أبطالها ، واستيحائهم في أعمال البطولة والفداء.

وسرّ ذلك يكمن في شخصيّة معاوية ، واُسلوبه الخاصّ في معالجة الأمور ؛ فإنّ معاوية لم يكن من الجهل بالسياسة بالمثابة التي يُتيح فيها للحسين عليه‌السلام أن يقوم بالثورة مدوّية ، بل الراجح أنّه كان من الحصافة بحيث يُدرك أنّ جهر الحسين عليه‌السلام بالثورة عليه ، وتحريضه الناس على ذلك كفيل بزجّه في حروب تُعكّر عليه بهاء النصر الذي حازه بعد صلح الحسن عليه‌السلام ، إن لم يكن كافياً لتفويت ثمرة هذا النصر عليه ؛ لأنّه عارف ـ ولا ريب ـ بما للحسين عليه‌السلام من منزلة في قلوب المسلمين.

وأقرب الظنون في الاُسلوب الذي يتبعه معاوية في القضاء. على ثورة الحسين عليه‌السلام ـ لو ثار في عهده ـ هو أنّه كان يتخلّص منه بالسمّ قبل أن يتمكّن الحسين عليه‌السلام من الثورة ، وقبل أن يكون لها ذلك الدوي الذي يُموّج الحياة الإسلاميّة التي يرغب معاوية في بقائها هادئة ساكنة.

والذي يجعل هذا الظنّ قريباً ما نعرفه من اُسلوب معاوية في القضاء على مَنْ يخشى منافستهم له في السلطان ، أو تعكير صفو السلطان عليه ؛ فإنّ الطريقة المثالية عنده في التخلّص منهم هي القضاء عليهم بأقلّ ما يمكن من

١٢٢

الضجيج. ولقد مارس معاوية هذا الاُسلوب في القضاء على الحسن بن علي عليهما‌السلام ، وسعد بن أبي وقاص (١) ، ومارسه في القضاء على الأشتر لمّا توجّه إلى مصر ، ومارسه في القضاء على عبد الرحمن بن خالد بن الوليد لمّا رأى افتتان أهل الشام به (٢).

وقد أوجز هو اُسلوبه هذا في كلمته المأثورة :

«إنّ لله جنوداً من العسل» (٣).

والذي يرتفع بهذا الظنّ إلى مرتبة الاطمئنان ما نعلمه من أنّ معاوية كان قد وضع الأرصاد والعيون على الحسين عليه‌السلام وعلى غيره ممّن يخشاهم على سلطانه ، وأنّهم كانوا يكتبون إليه بما يفعل هؤلاء ، ولا يغفلون عن إعلامه بأيسر الأمور وأبعدها عن إثارة الشكّ والريبة (٤).

فلو تحفّز الحسين عليه‌السلام للثورة في عهد معاوية ثمّ قُضي عليه بهذه الميتة التي يُفضلها معاوية لأعدائه ، فماذا كانت تكون جدوى فعله هذا الذي لم يخرج عن حدود الفكرة إلى أن يكون واقعاً بحياة الناس بدمائهم وأعصابهم؟ وما كان يعود على المجتمع الإسلامي من موته وقد قضى كما يقضي سائر الناس بهدوء وبلا ضجيج؟ إنّه لن يكون حينذاك سوى علوي مات حتف أنفه ، يُثير موته الأسى في قلوب أهله ومحبيه وشيعة أبيه إلى حين ، ثمّ يطوي النسيان ذكراه كما يطوي جميع الذكريات.

__________________

(١) قال أبو الفرج الاصفهاني : مقاتل الطالبيين ، ٢٩ : «وأراد معاويه البيعة لابنه يزيد ، فلم يكن شيء اثقل عليه من أمر الحسن وسعد بن أبي وقاص فدس إليهما سماً ، فماتا منه». وراجع : سيد أمير علي ، مختصر تاريخ العرب ، ٦٢.

(٢) زيدان : التمدن الاسلامي ٤ / ٧١.

(٣) عيون الأخبار ١ / ٢٠١.

(٤) أعيان الشيعة : ٤ القسم الأول : «وكان لمعاوية عين بالمدينة يكتب إليه بما يكون من أُمور الناس ، فكتب إليه : ان الحسين بن علي أعتق جاريته وتزوجها ...» ..

١٢٣

وأين هذا ممّا صار إليه أمره وأمر مبدئه حين ثار في عهد يزيد؟

* * *

هذا بالإضافة إلى أنّ معاوية كان يُدرك أنّه ليس ينبغي له ـ وهو يحكم الناس بسلطان الدين ـ أن يرتكب من الأعمال ما يراه العامّة تحدّياً للدين يحكم بسلطانه ، بل عليه أن يسبغ على أعماله غشاء دينياً لتنسجم هذه الأعمال مع المنصب الذي وصل إليه ، أمّا ما لا يمكن تمويهه من التصرّفات فليرتكبه في السرّ (١).

وقد أظهره سلوكه المحافظ على تعاليم الدين بمظهر لا غبار عليه من الناحية الدينية عند العامّة ، على الرغم من بعض الروايات التأريخيّة التي تؤكّد أنّه كان مُلحداً لا يؤمن بشيء ؛ ممّا جعل المغيرة بن شعبة وهو في تحلّله يغتمّ لما سمعه منه في بعض مجالسه معه ، ويقول عنه أنّه أخبث الناس (٢). وقد استغل ظروفه لإسباغ صفة الشرعية على منصبه ؛ وذلك بدعواه أنّه يطلب بدم عثمان ، وبما موّه على الرأي العام في مؤتمر التحكيم بعد صفّين من صلوحه للخلافة ، وبصلحه مع الإمام الحسن عليه‌السلام وبيعة الناس له بالخلافة.

فلو أفلت من معاوية الزمام ، وغفلت عيونه وأرصاده فخرجت الفكرة إلى حيّز الواقع ، وتحوّلت إلى دويٍّ عظيم ، فهل كانت ثورة الحسين عليه‌السلام تنجح في عهد معاوية.

والذي نتساءل عنه هنا ليس النجاح العسكري ؛ فإنّ ثورته ما كانت لتحوز نصراً عسكرياً آنيّاً يمكّن الحسين عليه‌السلام من الإمساك بالسلطة ؛ لأنّه كان

__________________

(١) حسن ابراهيم : تاريخ الإسلام السياسي ١ / ٥٣٣.

(٢) ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ٢ / ٣٥٧.

١٢٤

ضعيفاً من الناحية الماديّة ، ومعاوية أقوى ما يكون ، وقد رأينا أنّها أخفقت عسكرياً في عهد يزيد مع أنّ سلطان الاُمويِّين في عهده كان بالغ الضعف ؛ بسبب استنكار عامّة المسلمين لسلطانه ، وبسبب التناحر القبلي الذي كان قد بلغ غايته في الشام (١).

وإنّما نتساءل عن نجاح ثورته بمعنى تمكّنه من التعبير بها عن أهدافه الاجتماعيّة والإنسانيّة ، وإشعار الناس بواقعهم السيِّئ ، وكشف الحكم الاُموي على حقيقته لأعينهم ، وبعث روح جديدة فيهم ، وبث أخلاق جديدة بينهم ، على النحو الذي سنرى أنّه تمكّن منه في عهد يزيد.

والجواب الذي لا بدّ منه هنا هو النفي ، بل كان مصيره إلى الإخفاق على الصعيد العسكري ، وعلى هذا الصعيد الآخر الذي بوّأ ثورته في عهد يزيد منزلة فريدة في تأريخ الثورات.

وإذا بحثنا عن السبب في إخفاق ثورة الحسين عليه‌السلام لو ثار في عهد معاوية لوجدناه في مسحة الدين التي كان معاوية يحرص على إسباغها على سلوكه وسائر تصرّفاته أمام العامّة ، وفي صفة الشرعية التي أفلح في أن يسبغها على منصبه لدى جانب كبير من الرأي العام الإسلامي.

فإنّ هذا الواقع كان يُجرّد ثورة الحسين عليه‌السلام ـ لو ثار ـ من مبرّرها الوحيد ؛ لأنّ الجواب الذي كان سيقدّمه معاوية وأعوانه للناس حيث يتساءلون عمّا حمل الحسين عليه‌السلام على الثورة ، أو يجيب به الناس أنفسهم ، هو أنّ الحسين عليه‌السلام طالب ملك ، ولو قُتل الحسين عليه‌السلام في سبيل ما توهّمه الناس هدفاً من ثورته لما أثار قتله استنكاراً ، ولما عاد قتله بشيء على مبادئه ودوافعه الحقيقية للثورة ، بل ربّما

__________________

(١) كان التناحر بين قيس وكلب ، أو بين مضر واليمن قد بلغ غايته في عهد يزيد ، ثم انفجر [بعد] موته بسبب الاختلاف فيمَنْ يخلف معاوية الثاني الذي تنازل عن الحكم ، ونشبت الحروب بين القبائل بسبب ذلك. راجع : ولهاوزن ـ الدولة العربيّة / ١٦٥ ـ ١٧٣ ، وبروكلمان ـ تأريخ الشعوب الإسلاميّة ١ / ١٥٦ ـ ١٥٧.

١٢٥

عدّه فريق من الناس مستحقّاً للقتل ، ولن يجدي الحسين عليه‌السلام وأنصاره أن يعلنوا للناس أنّ ثورتهم لحماية الدين من تحريف وتزييف معاوية ، وإنقاذ الأمّة من ظلمه ، فلن يصدّقهم الناس ؛ لأنّهم لا يرون على الدين من بأس ، ولم يُحدث معاوية في الدين حدثاً ، ولم يُجاهر بمنكر ، بل سيرى الناس أنّ مقالتهم هذه ستار يخفي مقاصدهم الحقيقية.

١٢٦

ـ ٣ ـ

ج ـ العهد والميثاق

ولقد كان معاوية خليقاً بأن يستغل في سبيل تشويه ثورة الحسين عليه‌السلام ـ لو ثار في عهده ـ هذا الميثاق الذي كان نتيجة صلح الحسن عليه‌السلام مع معاوية ، فلقد عرف عامّة الناس أنّ الحسن والحسين عليهما‌السلام قد عاهدا معاوية على السكوت عنه ، والتسليم له ما دام حيّاً (١) ، ولو ثار الحسين عليه‌السلام على معاوية لأمكن لمعاوية أن يصوّره بصورة المنتهز الناقض لعهده وميثاقه الذي أعطاه.

ونحن نعلم أنّ الحسين عليه‌السلام ما كان يرى في عهد معاوية عهداً حقيقياً بالرعاية والوفاء ؛ فقد كان عهداً تمّ بغير رضاً واختيار ، وقد كان عهداً تمّ في ظروف لا بدّ للمرء في تغييرها ، ولقد نقض معاوية هذا العهد ، ولم يعرف له حرمة ، ولم يحمل نفسه مؤونة الوفاء به ، فلو كان عهداً صحيحاً لكان الحسين عليه‌السلام في حلّ منه ؛ لأنّ معاوية قد تحلل منه ، ولم يأل في نقضه جهداً.

ولكنّ مجتمع الحسين عليه‌السلام ، هذا المجتمع الذي رأينا أنّه لم يكن أهلاً للقيام بالثورة ، والذي كان يؤثر السلامة والعافية كان يرى أنّه قد عاهد ، وإنّ عليه أن يفي (٢) وأكبر الظنّ أنّ ثورته ـ لو قام بها في عهد معاوية ـ كانت ستفشل

__________________

(١) ابن أبي الحديد : شرح النهج ٤ / ٨.

(٢) يميل المرحوم الشيخ راضي آل ياسين في كتابه النفيس «صُلح الحسن» / ٢٥٢ ـ ٢٧٠ ـ الطبعة الأولى ـ إلى التأكيد على أنّ الحسن والحسين عليهما‌السلام لم يبايعا معاوية بالخلافة ؛ استناداً إلى نصوص وردت في بعض التي رُوي بها الميثاق بين الإمام الحسن عليه‌السلام ومعاوية ، والتي يراها

١٢٧

على الصعيد السياسي وعلى الصعيد الاجتماعي حين ينظر إليها المجتمع الإسلامي من الزاوية التي كان معاوية سيسلّط عليها الأضواء ، وهي هذا العهد والميثاق الذي نقضه الحسين عليه‌السلام وأنصاره من الثائرين ، فيظهرها للرأي العام وكأنّها تمرّد غير مشروع.

ولعلّ هذا هو ما يفسّر جواب الحسين عليه‌السلام لسليمان بن صرد الخزاعي حين فاوضه في الثورة على معاوية ، والحسن عليه‌السلام حي ، فقد قال له :

«فليكن كلّ رجل منكم حلساً من إحلاس بيته ما دام هذا الإنسان حيّاً ؛ فإنّها بيعة كنتُ والله لها كارهاً ، فإن هلك معاوية نظرنا ونظرتم ، ورأينا ورأيتم» (١).

وجوابه لعدي بن حاتم الطائي وقد فاوضه في الثورة أيضاً بقوله :

«إنّا قد بايعنا وعاهدنا ، ولا سبيل لنقض بيعتنا» (٢).

وقد ثبت على موقفه هذا بعد وفاة الإمام الحسن عليه‌السلام ، فقد روى الكلبي ، والمدائني ، وغيرهما من أصحاب السير ، قالوا :

«لمّا مات الحسن بن علي عليهما‌السلام تحرّكت الشيعة

__________________

= في بعض الصيغ التي روي بها الميثاق بين الإمام الحسن ومعاوية. والتي يراها دالة عل إعفا الحسن عليه‌السلام من كلّ التزام يشعر بأنّه سلّم إلى معاوية ـ بالإضافة إلى السلطان السياسي ـ الإمامة الدينية أيضاً. وهذا رأي لا نملك رفضه ، فشيء آخر غير ما ذكر من النصوص ، وهو شخصيتا الحسن عليه‌السلام ومعاوية يعزّز هذا الرأي. ولكن هذا الواقع لا يُغيّر من جوهر المسألة شيئاً ؛ فقد أظهر معاوية للرأي العام أنّ الحسن عليه‌السلام قد بايع بما لهذه الكلمة من دلالات زمنية ودينية ، وقد كان المسلمون ينظرون إلى البيعة على أنّها عهد لا يمكن نقضه ولا الفكاك منه. لاحظ كتابنا «نظام الحكم والإدارة في الإسلام» / ٤٨ ، ففيه شواهد تأريخيّة ، ولاحظ أيضاً «الدولة العربيّة وسقوطها» ولهاوزن / ١١٥ ، وسمو المعنى في سمو الذات ـ للشيخ عبد الله العلايلي / ١٠١ ـ ١٠٥.

(١) الإمامة والسياسة ١ / ١٧٣.

(٢) الأخبار الطوال ٢٠٣.

١٢٨

بالعراق ، وكتبوا إلى الحسين في خلع معاوية والبيعة له فامتنع عليهم ، وذكر أنّ بينه وبين معاوية عهداً وعقداً ولا يجوز له نقضه حتّى تمضي المدّة ، فإذا مات معاوية نظر في ذلك» (١).

وقد كان معاوية يستغل هذه الحُرمة التي للعهد في نفوس الناس ؛ فيلوّح بها في مكاتباته إلى الإمام الحسين عليه‌السلام حول نشاطه في تعبئة المجتمع الإسلامي للثورة على الحكم الاُموي ؛ فقد كتب إليه.

«أمّا بعد ، فقد انتهت إليّ اُمور عنك ، إن كانت حقّاً فإنّي أرغب بك عنها. ولعمر الله ، إنّ مَنْ أعطى عهد الله وميثاقه لجدير بالوفاء ، وإنّ أحق الناس بالوفاء مَنْ كان مثلك في خطرك وشرفك ، ومنزلتك التي أنزلك الله بها. ونفسك فاذكر ، وبعهد الله أوفِ ؛ فإنّك متى تنكرني أنكرك ، ومتى تكدني أكدك ، فاتقِ شقّ عصا هذه الاُمّة» (٢).

فها هو ذا معاوية يُلوّح هنا بالعهد والميثاق ، ويُطالب بالوفاء بهما.

ولربما فهم الناس من ثورته لو ثار في عهد معاوية أنّه كان على غير رأي أخيه الحسن عليه‌السلام في الصلح مع معاوية ، وقد كان الحسين عليه‌السلام دائماً حريصاً على أن يُظهر اتّفاقه مع أخيه في القرار الذي اتّخذه ومن جملة ما يدلّ على ذلك جوابه لعلي بن محمد بن بشير الهمداني حين ذكر له امتناع الحسين عليه‌السلام

__________________

(١) السيد محسن الأمين : أعيان الشيعة ٤ / قسم أول / ١٨١ ـ ١٨٢ : والشيخ المفيد : الإرشاد ٢٠٦ ، واعلام الوري ٢٢٠ ، والسيوطي : تاريخ الخلفاء ٢٠٦. وقد ذكر فيليب حتّي «تأريخ العرب» ٢ / ٢٥٢ أنّ أهل الكوفة كانوا قد بايعوا الحسين بعد موت أخيه ، وهذا غير صحيح ، وما صح هو هذه المحاولة التي لم يستجب لها الإمام الحسين عليه‌السلام ...

(٢) أعيان الشيعة ٤ / قسم أول / ١٤٢ ، والأخبار الطوال ٢٢٤ ـ ٢٢٥ ، والإمامة والسياسة ١ / ١٨٨.

١٢٩

من إجابة مَنْ دعاه إلى الثورة بعد الصلح ، مبيّناً لهم عدم استعداد المجتمع الإسلامي لذلك :

«صدق أبو محمد ، فليكن كلّ رجل منكم حلساً من إحلاس بيته ما دام هذا الإنسان حيّاً» (١).

* * *

وإذاً ، فلم يثُر الحسين عليه‌السلام في عهد معاوية ؛ لأنّ المجتمع لم يكن مُهيئاً للثورة (٢) ، وكان هذا هو السبب الذي دفع بالحسن عليه‌السلام إلى أن يُصالح معاوية بعدما تبيّن له عقم محاولة المضي في الصراع ، ولولا ذلك لما صالح الحسن عليه‌السلام معاوية ، ولما قعد الحسين عليه‌السلام عن الثورة على معاوية. وقد أضاف هذا الصلح سبباً آخر منع الحسين عليه‌السلام من الثورة على معاوية الذي كانت شخصيته عاملاً في جعل الثورة عليه عملاً غير مضمون بالنجاح ؛ ولذا فقد كان لا بدّ للحسن والحسين عليهما‌السلام ـ وهذه هي ظروفهما في عهد معاوية ـ أن يُهيّئا هذا المجتمع للثورة ، وأن يعدّاه لها.

وقد مضت الدعوة إلى الثورة على الحكم الاُموي تنتشر بنجاح طيلة عهد معاوية ، تجد غذاءها في ظلم معاوية وجوره ، وبُعده عن تمثيل الحكم الإسلامي الصحيح ، وانتهى الأمر بهذه الدعوة إلى هذا النجاح الكبير الذي أوجزه الدكتور طه حسين في هذه الكلمات :

«ومات معاوية حين مات ، وكثير من الناس وعامّة أهل العراق بنوع خاص يرون بغض بني اُميّة وحبّ أهل البيت لأنفسهم ديناً» (٣).

١٣٠

ـ ٤ ـ

أ ـ شخصيّة يزيد

أمّا يزيد فقد كان على الضدّ مع أبيه في كلّ ما كان يحول بين الحسين عليه‌السلام وبين الثورة على أبيه.

أ ـ شخصيّة يزيد

لقد كان يزيد من أبعد الناس عن الحذر والحيطة والتروّي.

كان إنساناً صغير العقل ، متهوراً ، سطحي التفكير ، «لا يهم بشيء إلاّ ركبه» (١).

واُسلوبه في معالجة المشاكل التي واجهته خلال حكمه يعزّز وجهة النظر هذه. اُسلوبه في معالجة ثورة الحسين عليه‌السلام ، واُسلوبه في معالجة ثورة أهل المدينة ، واُسلوبه في معالجة ثورة ابن الزبير.

وتدلّ بعض الملاحظات التي ذكرها المؤرّخون عن حياته العاطفية أنّ هذا النزق والتهوّر ، والاستجابة السريعة العنيفة للانفعال ليس أموراً عارضة ، بل هي سمات أصيلة في شخصيته (٢).

ومن ثمّ فهو أبعد الناس عن أن يواجه ثورة الحسين عليه‌السلام باُسلوب أبيه ، بل

__________________

(١) البلاذري : أنساب الأشراف ٤ / القسم الثاني / ١.

(٢) نفس المصدر والصفحة. والبيت الثالث يكشف عن خلق يزيد المنحل. وفي ص ٤ لاحظ البيت الرابع من أبياته في زوجته أم خالد ، وفي ص ١٠ ـ ١١ الأبيات الأربعة ، ففيها دلالة علي شذوذه الجنسي.

١٣١

القريب أن يواجهها بالاُسلوب الذي يتّفق مع شخصيته ، وهو ما حدث في النهاية بالنسبة إليها وإلى غيرها من المشاكل التي واجهته.

ونشأة يزيد المسيحية ، أو القريبة من المسيحية (١) ، جعلته أضعف ما يكون صلة بالعقيدة التي يُريد أن يحكم الناس باسمها ، أعني الإسلام. وحياة التحلّل التي عاشها قبل أن يلي الحكم ، والانسياق مع العاطفة ، وتلبية كلّ رغباته ، كلّ ذلك جعله عاجزاً عن التظاهر بالورع والتقوى والتلبّس بلباس الدين بعد أن حكم المسلمين ، هذا بالإضافة إلى أنّ طبيعته النزقة جعلته يُعالن الناس بارتكاب المحرّمات ، ويُقارف من الآثام ما عرف الناس بمدى بُعده عن الصلاحية لتولّي منصب الخلافة.

ومن ثمّ فلن يكون في وسع أنصار الحكم الاُموي أن يُلوثوا ثورة الحسين عليه‌السلام أمام الرأي العام بأنّها ثورة في سبيل الملك ؛ لأنّ العامّة ترى أنّ مبرّرات هذه الثورة موجودة في سلوك يزيد نفسه ، هذا السلوك الذي لا يلتقي مع الدين على صعيد ، وسيقبل الناس بلا تردّد تبرير الحسين عليه‌السلام وأنصاره لثورتهم بحماية الدين ، وإنقاذ المسلمين من جور الاُمويِّين.

__________________

(١) فيليب حتي ، تاريخ العرب ٢ / ٢٥٨ ، وعبدالله العلايلي : سمو المعني في سمو الذات ٥٩ ـ ٦١ ، وعن حياة اللهو لاحظ ولهاوزن : الدولة العربية وسقوطها ١٣٧ ـ ١٣٨ وبروكلمان : تاريخ الشعوب الإسلامية ١ / ١٥٦.

١٣٢

ب ـ موقف الحسين عليه‌السلام من يزيد في حياة معاوية

وقد حاول معاوية أن يُقيّد الإمام الحسين عليه‌السلام ببيعة يزيد ، أو يضمن ـ على الأقل ـ سكوت الإمام الحسين عليه‌السلام عن يزيد ، فلم يفز بطائل.

ويروي المؤرّخون عدّة مواقف للحسين عليه‌السلام مع معاوية حين أخذ يعدّ الأمر لابنه يزيد من بعده ، وكان من جملة كتبه إليه في هذا الشأن قوله في أحدها :

«... وفهمت ما ذكرت عن يزيد من اكتماله وسياسته لأمّة محمد ؛ تريد أن توهم الناس في يزيد كأنّك تصف محجوباً ، أو تنعت غائباً ، أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاص. وقد دلّ يزيد من نفسه على موضع رأيه ؛ فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب الهراش عند التهارش ، والحمام السبق لأترابهنّ ، والقيان ذوات المعازف ، وضرب الملاهي تجده باصراً ، ودع عنك ما تحاول ؛ فما أغناك أن تلقى الله من وزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه. فوالله ما برحت تقدح باطلاً في جور ، وحنقاً في ظلم حتّى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة ...» (١).

وقد أراد معاوية أن يحمل الحسين عليه‌السلام على البيعة ليزيد بحرمان بني هاشم جميعاً من أعطياتهم حتّى يبايع الحسين عليه‌السلام (٢) ، فلم يتحقق له ما أراد ، ومات معاوية والحسين عليه‌السلام باقٍ على موقفه من الإنكار لبيعة يزيد.

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ١٩٥ ـ ١٩٦.

(٢) المصدر السابق ١ / ٢٠٠ والكامل في التاريخ ٣ / ٢٥٢.

١٣٣

ـ ٥ ـ

موقف الحسين عليه‌السلام من البيعة ليزيد

«ومات معاوية حين مات وكثير من الناس وعامة أهل العراق ـ بنوع خاص ـ يرون بغض بني اُميّة وحبّ أهل البيت لأنفسهم ديناً» (١).

فقد اكتشف المجتمع الإسلامي ما فيه الكفاية من عورات الحكم الاُموي ، وذاق طعم عذابه ، وخبر ألواناً من عسفه وظلمه في الأرزاق والكرامات ، وانزاحت عن بصيرته الغشاوة التي رانت عليها في أوّل عهد معاوية.

ولم يكن يزيد في مثل تروّي أبيه وحزمه واحتياطه للأمور ، ولم يلتزم اُسلوب أبيه في الاحتفاظ بالغشاء الديني مُسدلاً على أفعاله وتصرّفاته.

ولم يكن بين الحسن والحسين عليهما‌السلام من جهة وبين يزيد من جهة اُخرى أي عهد أو ميثاق.

وهكذا فقد انزاحت بموت معاوية ووعي المجتمع الإسلامي جميع الأسباب التي كانت تحول بين الحسين عليه‌السلام وبين الثورة في عهد معاوية ، وبدا الطريق إلى الثورة على الحكم الاُموي مُمهّداً أمام الحسين عليه‌السلام.

* * *

__________________

(١) الفتنة الكبري ـ علي وبنوه ـ ٢٩٥.

١٣٤

وقد عجّل تلهف يزيد على أخذ البيعة له من كبار زعماء المعارضة له ـ وعلى رأسهم الحسين عليه‌السلام ـ في تتابع الأحداث.

فقد كان أكبر همّه حين آل الأمر بعد موت أبيه هو بيعة النفر الذين أبوا على معاوية بيعة يزيد ، فكتب إلى الوليد بن عتبة والي المدينة كتاباً يُخبره فيه بموت معاوية ، وكتاباً آخر جاء فيه :

«أمّا بعد ، فخذ حسيناً ، وعبد الله بن عمر ، وابن الزبير بالبيعة أخذاً ليس فيه رخصة حتّى يبايعوا ، والسّلام» (١).

ولقد آثر الحسين عليه‌السلام أن يتخلّص من الوليد بالحُسنى حين دعاه إلى البيعة ، فقال له :

«مثلي لا يبايع سرّاً ، ولا يجتزئ بها منّي سرّاً ، فإذا خرجت للناس ودعوتهم للبيعة ودعوتنا معهم كان الأمر واحداً».

ولكن مروان قال للوليد :

«لئن فارقك الساعة ولم يُبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتّى تكثر القتلى بينكم وبينه ، ولكن احبسه فإن بايع وإلاّ ضربت عنقه».

فوثب الحسين عليه‌السلام عند ذلك ، وقال :

«ويلي عليك يابن الزرقاء! أنت تأمر بضرب عُنقي؟ كذبت ولؤمت» (٢).

__________________

(١) ابن الأثير : الكامل ٣ / ٢٦٣ ، والبلاذري ٤ / قسم ثان / ١٢.

(٢) البلاذري كالسابق : ١٥.

١٣٥

ثمّ أقبل على الوليد فقال :

«أيها الأمير ، إنّا أهل بيت النبوّة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، بنا فتح الله ، وبنا يختم ، ويزيد فاسق فاجر ، شارب الخمر ، قاتل النفس المحترمة ، معلن بالفسق والفجور ، ومثلي لا يبايع مثله» (١).

بهذه الكلمات أعلن الحسين عليه‌السلام ثورته على الحكم الاُموي الفاسد على عظمته وجبروته وقسوته في مؤاخذة الخارجين عليه ، فقد مات معاوية وانقضى العهد والميثاق ، وأصبح وجهاً لوجه أمام دوره التأريخي الذي يتحتّم عليه أن يصنعه ، وإنّه لعلى يقين من أنّ حكم يزيد لن يأخذ صفة شرعية ما دام هو مُمسكاً عن بيعته ، أمّا إذا بايعه فإنّه يكون قد اكتسب الغلّ الجديد الذي طُوقت به الأمّة المسلمة صفة قانونية شرعية ، وهذا شيء لا يفعله عليه‌السلام.

إنّ ثمّة فرقاً عظيماً بين أن تكون الاُمّة راضخة لحكم ظالم ولكنّها تعلم أنّه حكم بغير حقّ ، وأنّه حكم يجب أن يزول ، وبين أن تخضع الاُمّة لحكم ظالم وترى أنّه حكم شرعي لا بدّ منه ، ولا يجوز تغييره.

إنّ الاُمّة في الحالة الثانية ترى أنّ حياتها التعسة ، وأنّ التشريد والجوع والحرمان والذلّ هو قدرها الذي لا مفرّ لها منه ، هو مصيرها المحتوم الذي لا بدّ أن تصير إليه ، وحينئذ يُقضى على كلّ أمل في تغيير الأوضاع ، وحينئذ يضمحلّ كلّ أمل في الثورة ، وحينئذ تدعم الاُمّة جلاّديها بدل أن تثور عليهم ، وحينئذ يُصار إلى الرضا بما هو كائن بحسبانه ما ينبغي أن يكون.

أمّا حين تخضع الاُمّة وهي تعلم أنّ الحاكم لا حقّ له فحينئذ يبقى الأمل

__________________

(١) أعيان الشيعة ٤ / قسم أول / ١٨٣ ـ ١٨٤.

١٣٦

في التغيير حيّاً نابضاً ، وتبقى الثورة مشتعلة في النفوس ، وحينئذ يكون للثائرين مجال للعمل ؛ لأنّ التربة مُعدّة للثورة.

وكان على الحسين عليه‌السلام وحده أن ينهض بهذا الدور. لقد كانت الثورة قدره المحتوم ، أمّا الآخرون الذين أبوا البيعة ليزيد فلم يكن لهم عند المسلمين ما للحسين عليه‌السلام من المنزلة وعلوّ الشأن ؛ أمّا ابن عمر فسرعان ما سلّم قائلاً : «إذا بايع الناس بايعت» (١) ؛ وأمّا ابن الزبير فقد كان الناس يكرهونه ويتّهمونه في إبائه البيعة بأنّه يريد الأمر لنفسه ؛ فلم تكن دوافعه دينية خالصة ، وإنّما كان يدفعه الطمع الخلافة ، وما كان الناس يرونه لذلك أهلاً.

ذكر ابن كثير في البداية والنهاية أنّ الحسين عليه‌السلام لمّا خرج وابن الزبير من المدينة إلى مكة ، وأقاما بها ، «عكف الناس على الحسين يفدون إليه ، ويقدمون عليه ، ويجلسون حواليه ، ويستمعون كلامه ، وينتفعون بما يسمع منه ، ويضبطون ما يروون عنه» (٢). ومغزى هذا الخبر بيّن فقد اتّجهت أنظار الناس إلى الحسين عليه‌السلام وحده فانقطعوا إليه ، وهذا يدلّك على مركزه في نفوس المسلمين إذ ذاك. قال أبو الفرج الأصفهاني :

«إنّ عبد الله بن الزبير لم يكن شيء أثقل عليه من مكان الحسين بالحجاز ، ولا أحبّ إليه من خروجه إلى العراق ؛ طمعاً في الوثوب بالحجاز ، وعلماً منه بأنّ ذلك لا يتمّ له إلاّ بعد خروج الحسين» (٣).

وكان الحسين عليه‌السلام يعي هذا أيضاً ، فقد قال يوماً لجلسائه :

«إنّ هذا ـ يعني ابن الزبير ـ ليس شيء يؤتاه من

__________________

(١) الطبري : / ٢٥٤ ، والكامل ٣ / ٢٦٥ ، والبلاذري : أنساب الأشراف ٤ / قسم ثان / ١٤.

(٢) البداية والنهاية.

(٣) مقاتل الطالبيين والبلاذري ٤ / قسم ثان / ١٣ ـ ١٤ والشيخ المفيد : الارشاد / (طبع النجف ١٩٦٢) ص ٢٠٢.

١٣٧

الدنيا أحبّ إليه من أن أخرج من الحجاز إلى العراق ، وقد علم أنّه ليس له من الأمر شيء معي ، وأنّ الناس لم يعدلوه بي ، فودّ أنّي خرجت منها لتخلو له» (١).

وقال عبد الله بن عباس له وهو يحاوره في الخروج إلى العراق :

«لقد أقررت عين ابن الزبير بتخليتك إيّاه والحجاز ، والخروج منها ، وهو اليوم لا ينظر إليه أحد معك» (٢).

كلّ هذا يكشف عن مدى تعلّق جماهير المسلمين بالحسين عليه‌السلام باعتباره رجل الساعة. ويقيناً لو أنّه بايع يزيد لما كان لابن الزبير وأضرابه وزن في المعارضة ؛ لأنّهم حينئذ ما كانوا ليجدوا أنصاراً على ما يريدون.

وإذاً ، فقد وجد الحسين عليه‌السلام نفسه وجهاً لوجه أمام دوره التاريخي ؛ الحكم الاُموي بكلّ ما فيه من فساد وانحطاط ورجعية وظلم ، والاُمّة المسلمة بذلّها وجوعها وحرمانها ومركزه العظيم في المسلمين ، كلّ ذلك وضعه وجهاً لوجه أمام دوره التأريخي ، وخطّط له المصير الذي يتحتّم عليه أن يضعه لنفسه ، وعند ذلك أعلن ثورته بهذه الكلمات التي مرّت عليك ، وقد أجمل فيها أسباب هذه الثورة ؛ التهتك ، والتطاول على الدين ، والاستهتار بحقوق الشعب ، هذه هي أسباب ثورة الحسين عليه‌السلام :

ويبدو أنّ يزيد بن معاوية أراد أن يخنق ثورة الحسين عليه‌السلام قبل اشتعالها ، وذلك باغتياله في المدينة. وقد وردت إشارتان إلى ذلك في كتاب أورده اليعقوبي في تأريخه (٣) من ابن عباس إلى يزيد بن معاوية صريحتان في الدلالة على أنّ يزيد دسّ رجالاً ليغتالوا الحسين عليه‌السلام في المدينة قبل مغادرته إيّاها إلى العراق.

ولعلّ هذا ما يكشف لنا عن سبب خروج الحسين عليه‌السلام من المدينة بصورة سرّية.

__________________

(١) و (٢) الطبري ٤ / ٢٨٨ ، والكامل ٣ / ٢٧٦ ، وأنساب الأشراف ٤ / ١٤.

(٢) أحمد بن أبي يعقوب : تأريخ اليعقوبي ، طبع النجف ١٣٨٤ ـ ١٩٦٤ ، ج ٢ / ٢٣٤ ـ ٢٣٦.

١٣٨

ـ ٦ ـ

بواعث الثورة عند الحسين عليه‌السلام

إنّ العنصر الاجتماعي شديد البروز في ثورة الحسين عليه‌السلام ، ويستطيع الباحث أن يُلاحظه فيها من بدايتها حتّى نهايتها ، ويرى أنّ الحسين عليه‌السلام ثار من أجل الشعب المسلم : لقد ثار على يزيد باعتباره مُمثّلاً للحكم الاُموي. هذا الحكم الذي جوّع الشعب المسلم ، وصرف أموال هذا الشعب في اللذات والرشا ، وشراء الضمائر وقمع الحركات التحرّرية. هذا الحكم الذي اضطهد المسلمين غير العرب وهدّدهم بالإفناء ، ومزّق وحدة المسلمين العرب ، وبعث بينهم العداوة والبغضاء. هذا الحكم الذي شرّد ذوي العقيدة السياسيّة التي لا تنسجم مع سياسة البيت الأموي ، وقتلهم تحت كلّ حجر ومدر ، وقطع عنهم الأرزاق ، وصادر أموالهم. هذا الحكم الذي شجّع القبيلة على حساب الكيان الاجتماعي للاُمّة المسلمة. هذا الحكم الذي عمل عن طريق مباشر تارة ، وعن طريق غير مباشر تارة اُخرى على تقويض الحس الإنساني في الشعب ، وقتل كلّ نزعة إلى التحرّر بواسطة التخدير الديني الكاذب. كلّ هذا الانحطاط ثار عليه الحسين عليه‌السلام ، وها هو يقول لأخيه محمد بن الحنفيّة في وصيته له :

«إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ، ولا مفسداً ولا ظالماً ، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي ، اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، فمَنْ قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ ، ومَنْ ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يقضي

١٣٩

الله بيني وبين القوم بالحقّ ، وهو خير الحاكمين».

فالإصلاح في اُمّة جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله هو هدفه من الثورة.

وهنا شيء اُريد أن أنبه عليه في قوله :

«... فمَنْ قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ».

إنّه لم يقل : فمَنْ قبلني لشرفي ومنزلتي في المسلمين ، وقرابتي من رسول الله ، وما إلى ذلك ... لم يقل شيئاً من هذا ، إنّ قبوله يكون بقبول الحقّ فهذا داع من دعاته ، وحين يقبل الناس داعي الحقّ فإنّما يقبلونه لما يحمله إليهم من الحقّ والخير لا لنفسه ، وفي هذا تعالٍٍ وتسامٍ عن التفاخر القبلي الذي كان رأس مال كلّ زعيم سياسي أو ديني في عصره عليه‌السلام.

* * *

وظهر العصر الاجتماعي في ثورة الحسين عليه‌السلام أيضاً حين التقى مع الحرّ بن يزيد الرياحي ، وقد كان ذلك بعد أن علم الحسين عليه‌السلام بتخاذل أهل العراق عنه بعد بيعتهم له ، وبعد أن انتهى إليه نبأ قتل رسوله وسفيره إليهم مسلم بن عقيل ، وبعد أن تبيّن له ولمَنْ معه المصير الرهيب الذي ينتظرهم جميعاً ، فقد خطب الجيش الذي مع الحرّ قائلاً :

«أيّها الناس ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : مَنْ رأى سلطاناً جائراً ، مستحلاً لحرام الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يُغيّر ما عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله. ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله ، وحرّموا

١٤٠