الحسين عليه السلام في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام

السيّد سامي البدري

الحسين عليه السلام في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام

المؤلف:

السيّد سامي البدري


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: ياسين
الطبعة: ١
ISBN: 964-499-093-5
الصفحات: ٥٢٧

الحسين عليه‌السلام المظلوم الفاتح

مفردات الواقع السياسي والاجتماعي الذي تحرّك فيه الحسين عليه‌السلام :

أولاً : دولة معاوية القوية بجيشها وقوى أمنها الداخلي : عُني معاوية خلال السنوات العشر الأولى من حكمه ببناء الجيش من خلال عودته إلى سياسة الفتوح ، ثمّ بنى قوى الأمن الداخلي من خلال متابعة الخوارج ، واستطاع بعد ذلك أن يستفيد منها في تثبيت منهجه التربوي والثقافي الجديد ، والسيطرة على الإعلام ومؤسسات التربية الدينية والثقافية ، كالمساجد والكتاتيب ، والمؤسسات الاقتصادية والعسكرية. تبنت هذه الدولة في إعلامها اليومي ومنهجها الفكري والثقافي لمدّة عشر سنوات من سنة (٥٠) هـ إلى سنة (٦٠) هـ تربية الأمّة على إسلام يبتني على ثلاثة اُمور أساسية :

أ ـ البغض لعلي عليه‌السلام ولعنه على منابر المسلمين ، وترويج الأحاديث الكاذبة في ذمّه ، والمنع من ذكر أيّ رواية عن النبي في فضله ، ومعاقبة المخالف بالقتل والتهجير والسجن ، وقطع الأيدي والنفي والحرمان من العطاء.

قال أبو عثمان الجاحظ (١) : إنّ معاوية كان يقول في آخر خطبة الجمعة : اللّهمّ العن أبا تراب ، ألحد في دينك ، وصدّ عن سبيلك ، فالعنه لعناً وبيلاً ، وعذّبه عذاباً أليماً. وكتب بذلك

__________________

(١) هو عمرو بن بحر الليثي البصري ، اللغوي النحوي ، كان مائلاً إلى النصب.

٤٨١

إلى الآفاق ، فكانت هذه الكلمات يشار بها على المنابر.

قال أبو جعفر الإسكافي (ت ٢٢٠) (١) : إنّ معاوية وضع قوماً من الصحابة ، وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي عليه‌السلام تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جُعَلاً يُرغب في مثله ، فاختلقوا ما أرضاه. منهم أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة. ومن التابعين عروة بن الزبير ، ومرّة الهمداني ، والأسود بن يزيد ، ومسروق الأجدع ، وأبو وائل شقيق بن سلمة ، وأبو عبد الرحمن السُّلمي القارئ ، وقيس بن حازم ، وسعيد بن المسيب ، والزهري ، ومكحول ، وحريز بن عثمان وغيرهم (٢).

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مسنداً متصلاً بعمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : إنّ آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء ، إنّما ولييّ الله وصالح المؤمنين (٣).

__________________

(١) قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ٥ / ٤١٦ : محمد بن عبد الله ، أبو جعفر الإسكافي أحد المتكلّمين من معتزلة البغداديين ، له تصانيف معروفة ، وكان الحسين بن يزيد الكرابيسي صاحب الشافعي يتكلّم معه ويناظره.

(٢) شرح النهج ٤ / ٥٦ ـ ١١٠.

(٣) رواه البخاري ٥ / ٢٢٣٣ (الموسوعة الذهبية) ، مسلم ١ / ١٩٧ ، مسند أحمد ٤ / ٢٠٣ ، وفيها (آل أبي فلان). قال في فتح الباري ١٠ / ٤٢٣ قال : أبو بكر بن العربي في سراج المريدين : كان في أصل حديث عمرو بن العاص أنّ آل أبي طالب ، فغير آل أبي فلان ، كذا جزم به. وتعقّبه بعض الناس وبالغ في التشنيع عليه ، ونسبه إلى التحامل على آل أبي طالب ، ولم يصب هذا المنكر ؛ فإنّ هذه الرواية التي أشار إليها ابن العربي موجودة في مستخرج أبي نعيم من طريق الفضل بن الموفق ، عن عنبسة بن عبد الواحد بسند البخاري عن بيان بن بشر ، عن قيس بن أبي حازم ، عن عمرو بن العاص رفعه : أنّ لبني أبي طالب رحماً أبلهاً ببلالها. وقد أخرجه الإسماعيلي من هذا الوجه أيضاً لكن أبهم لفظ طالب ، وكأنّ الحامل لمَنْ أبهم هذا الموضع ظنّهم أنّ ذلك يقتضي نقصاً في آل أبي طالب ، وليس كما توهّموه كما سأوضحه إن شاء الله تعالى. قوله : ليسوا بأوليائي كذا للأكثر ، وفي نسخة من رواية أبي ذر : بأولياء ، فنقل ابن التين عن الداودي أنّ المراد بهذا النفي مَنْ لم يسلم منهم ، أي فهو من إطلاق الكل وإرادة البعض ، والمنفي على هذا المجموع لا الجميع. وقال الخطابي : الولاية المنفية ولاية القرب والاختصاص لا ولاية الدين ، ورجح ابن التين الأول وهو الراجح ؛ فإنّ من جملة آل أبي طالب علياً وجعفر ، أو هما من أخصّ الناس بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لِما لهما من السابقة والقدم في الإسلام ونصر الدين. وقد استشكل بعض الناس صحة هذا

٤٨٢

روى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدايني في كتاب الأحداث ، قال : كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله : أن برئت الذمّة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته. فقامت الخطباء في كلّ كورة ، وعلى كلّ منبر يلعنون علياً ويبرؤون منه ، ويقعون فيه وفي أهل بيته. قال الباقر عليه‌السلام : «وكان عُظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن عليه‌السلام ، فقُتلت شيعتنا بكلّ بلدة ، وقُطعت الأيدي والأرجل على الظنّة ، وكان مَنْ يذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سجن ، أو نُهب ماله ، أو هُدمت داره ، ثمّ لم يزل البلاء يشتدّ ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين» (١).

ب ـ الولاء لمعاوية ومَنْ يجيء بعده من الحكّام ، وتوصيفه بخليفة الله ، واعتبار طاعته أعظم طاعات الله ، ومعصيته أعظم معاصي الله ، وترويج الأحاديث الكاذبة التي تحطّ من شخصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بما يوافق الحكّام ، ومدح معاوية وإكرام فاعل ذلك بالعطاء ، والتشفيع والتولية ، والتوظيف في مرافق الدولة.

روى الترمذي بسنده عن سعيد بن عبد العزيز (راوي شامي) ، عن ربيعة بن يزيد

__________________

الحديث لِما نسب إلى بعض رواته من النصب ، وهو الانحراف عن علي وآل بيته. قلت : أمّا قيس بن أبي حازم ، فقال يعقوب بن شيبة : تكلّم أصحابنا في قيس ؛ فمنهم مَنْ رفع قدره وعظّمه ، وجعل الحديث عنه من أصح الأسانيد ، حتّى قال ابن معين : هو أوثق من الزهري ، ومنهم مَنْ حمل عليه ، وقال : له أحاديث مناكير. وأجاب مَنْ أطراه : بأنّها غرائب وأفراده لا يقدح فيه. ومنهم مَنْ حمل عليه في مذهبه ، وقال : كان يحمل على علي ؛ ولذلك تجنّب الرواية عنه كثير من قدماء الكوفيين. وأجاب مَنْ أطراه : بأنّه كان يقدّم عثمان على علي فقط. قلت : والمعتمد عليه أنّه ثقة ثبت ، مقبول الرواية ، وهو من كبار التابعين ، سمع من أبي بكر الصديق فمَنْ دونه ، وقد روى عنه حديث الباب إسماعيل بن أبي خالد ، وبيان بن بشر وهما كوفيان ، ولم ينسبا إلى النصب ، لكن الراوي عن بيان وهو عنبسة بن عبد الواحد أموي قد نسب إلى شيء من النصب. وأمّا عمرو بن العاص ، وإن كان بينه وبين علي ما كان فحاشاه أن يُتَهم ، وللحديث محمل صحيح لا يستلزم نقصاً في مؤمني آل أبي طالب ، وهو أنّ المراد بالنفي المجموع كما تقدّم ، ويحتمل أن يكون المراد بآل أبي طالب أبو طالب نفسه ، وهو إطلاق سائغ.

(١) شرح نهج البلاغة ١١ / ٤٤.

٤٨٣

(راوي شامي) ، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة (صحابي سكن الشام) (١) ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال لمعاوية : اللّهمّ اجعله هادياً مهديّاً ، واهدِ به (٢).

ورووا أنّه قال : ائتمن الله على وحيه ثلاثة : جبرئيل في السماء ، ومحمداً في الأرض ، ومعاوية بن أبي سفيان (٣).

ج ـ السكوت على الظلم مهما بلغت شدّته وقسوته ، من خلال ترويج أحاديث كاذبة تدعو إلى ذلك.

فرووا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : تسمع وتطع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك (٤).

وأنّه قال : فإن رأيت يومئذ لله عزّ وجلّ في الأرض خليفة فألزمه وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك (٥).

__________________

(١) عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني ، قال أبو حاتم وابن السكن : له صحبة ، ذكره البخاري وابن سعد ، وابن البرقي وابن حبان ، وعبد الصمد بن سعيد في الصحابة ، وذكره أبو الحسن بن سميع في الطبقة الأولى من الصحابة الذين نزلوا حمص ، وكان اختارها سكن الشام وحديثه عند أهلها. وأخرج الترمذي والطبراني وغيرهما من طريق سعيد بن عبد العزيز (الشامي) عن ربيعة بن يزيد (الشامي) ، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني (وكان من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله) أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لمعاوية : اللّهمّ علّمه الكتاب والحساب ، وقه العذاب. لفظ الطبراني ولفظ الترمذي : اللّهمّ اجعله هادياً مهدياً ، واهدِ به. وأخرج بن قانع من طريق الوليد بن مسلم ، عن سعيد بن عبد العزيز أنّه سمعه يحدّث عن يونس بن ميسرة (الشامي) ، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة أنّه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نحو اللفظ الثاني. وأخرجه البخاري في التاريخ قال : قال لي أبو مسهر (فذكره بالعنعنة ليس فيه) وكان من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذكره من طريق مروان عن سعيد فقال فيه : سمع عبد الرحمن ، سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (الإصابة ـ لابن حجر).

(٢) جامع الترمذي ٥ / ٦٨٧ ، مسند أحمد ٤ / ٢١٦ ، مسند الشاميين ١ / ١٨١ ، الآحاد والمثاني ٢ / ٣٥٨ ، المعجم الأوسط ـ للطبراني ١ / ٣٨٠ ، وقد رواه عن سعيد بن عبد العزيز ، عن يونس بن ميسرة بن حلبس ، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة.

(٣) سير أعلام النبلاء ـ للذهبي ، وتاريخ دمشق ـ لابن عساكر ـ ترجمة معاوية.

(٤) صحيح مسلم ٣ / ١٤٧٦.

(٥) مسند أحمد ٥ / ٤٠٣.

٤٨٤

د ـ الطاعة المطلقة للخليفة ، واعتبارها رأس الطاعات.

ورووا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : مَنْ خرج من الطاعة ، وفارق الجماعة ، مات ميتة جاهلية (١).

وأنّه قال : ثلاثة لا تسأل عنهم : رجل فارق الجماعة وعصى إمامه فمات عاصياً فلا تسأل عنه ، وأمة (أو عبد) أبق من سيده ، وامرأة غاب زوجها وكفاها مؤنة الدنيا فتبرّجت وتمرّجت بعده (٢). أقول : المراد بالإمام في الرواية الحاكم الأعلى للمسلمين.

ثانياً : على أساس تلك السياسة صار الجيل الجديد في الأمّة يبغض علياً ويلعنه.

نشأ على أساس تلك التربية والمنهج جيل جديد في الأمّة ما بين سنّ الخامسة عشر وسنّ الخامسة والعشرين ، وقد كان هذا الجيل المادة الأساسية للجيش وقوى الشرطة ، وبقية المواقع الاجتماعية والإدارية. أمّا معلّموه فهم جماعة من الصحابة الذين حاربوا علياً في الجمل وصفين ، أو الذين أغراهم معاوية بالمال ، وجماعة من التابعين الذين ساروا على منهجهم.

من هؤلاء الصحابة مسلم بن عقبة المرّي (٣) قائد جيش أهل الشام في واقعة الحرّة

__________________

(١) صحيح مسلم ٣ / ١٤٧٦.

(٢) الأدب المفرد / ٢٠٧ ، وفيه قال : حدّثنا عثمان بن صالح قال : أخبرنا عبد الله بن وهب قال : حدّثنا أبو هانئ الخولاني ، عن أبي علي الجنبي ، عن فضالة بن عبيد ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : … ، مسند أحمد ٦ / ١٩ ، صحيح ابن حبّان ١٠ / ٤٢٢ ، المستدرك على الصحيحين ١ / ٢٠٦ ، المعجم الكبير ـ للطبراني ١٨ / ٣٠٦.

(٣) قال ابن حجر في الإصابة : مسلم بن عقبة المرّي أبو عقبة الأمير من قبل يزيد بن معاوية على الجيش الذين غزوا المدينة يوم الحرّة ، ذكره ابن عساكر وقال : أدرك النبي وشهد صفين مع معاوية ، وكان على الرجّالة ، وعمدته في إدراكه أنّه استند إلى ما أخرجه محمد بن سعد في الطبقات ، عن الواقدي بأسانيده قال : لمّا بلغ يزيد بن معاوية أنّ أهل المدينة أخرجوا عامله من المدينة وخلعوه ، وجّه إليهم عسكراً ، أمر عليهم مسلم بن عقبة المرّي (وهو يومئذ شيخ ابن بضع وتسعين سنة ، فهذا يدلّ على أنّه كان في العهد

٤٨٥

في المدينة. قال في وصيته عند موته : اللّهمّ إنّك تعلم أنّي لم أعصِ خليفة قطّ ، اللّهمّ إنّي لم أعمل عملاً أرجو به النجاة قطّ إلاّ ما فعلت بأهل المدينة (١). وفي رواية اليعقوبي : اللّهمّ إنّ عذّبتني بعد طاعتي لخليفتك يزيد بن معاوية ، وقتل أهل الحرّة فإنّي إذن لشقي (٢).

ومن التابعين شمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين ، قال أبو إسحاق : كان يصلّي معنا ، ثمّ يقول : اللّهمّ إنّك تعلم أنّي شريف فاغفر لي. قلت : كيف يغفر الله لك وقد أعنت على قتل ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! قال : ويحك! فكيف نصنع؟! إنّ أمراءنا هؤلاء أمرونا بأمر فلم نخالفهم ، ولو خالفناهم كنّا شرّاً من هذه الحمر الشقاء (٣).

ثالثاً : شيعة علي عليه‌السلام يتعرّضون للتصفية

وهم طبقة من المحدِّثين فيهم مئات من الصحابة وآلاف التابعين ، لهم معتقد بعلي قام على أساس أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرته مع علي عليه‌السلام ، وكذلك قام هذا المعتقد على أساس أحاديث علي عليه‌السلام وسيرته في المجتمع خلال السنوات الخمس التي حكم فيها ، وهي سيرة أحيت المعطّل من كتاب الله ، والمكتوم من سنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتذوّق خلالها الناس كرامة الحياة التي يدعو الأنبياء إليها.

__________________

النبوي كهلاً. وقد أفحش مسلم القول والفعل بأهل المدينة ، وأسرف في قتل الكبير والصغير حتّى سمّوه مسرفاً ، وأباح المدينة ثلاثة أيام لذلك والعسكر ينهبون ويقتلون ويفجرون ، ثمّ رفع القتل وبايع مَنْ بقي على أنّهم عبيد ليزيد بن معاوية ، وتوجّه بالعسكر إلى مكّة ليحارب ابن الزبير لتخلّفه عن البيعة ليزيد ، فعوجل بالموت ، فمات بالطريق ، وذاك سنة ثلاث وستين ، واستمر الجيش إلى مكّة فحاصروا ابن الزبير ، ونصبوا المنجنيق على أبي قبيس فجاءهم الخبر بموت يزيد بن معاوية وانصرفوا ، والقصّة معروفة في التواريخ.

(١) فتوح [ابن] أعثم ٥ / ٣٠١.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢٥١.

(٣) لسان الميزان ـ ترجمة شمر بن ذي الجوشن ، وفيه : شمر بن ذي الجوشن أبو السابغة الضبابي ، عن أبيه ، وعنه أبو إسحاق السبيعي ليس بأهل للرواية ؛ فإنّه أحد قتلة الحسين (رضي الله تعالى عنه) ، وقد قتله أعوان المختار. أقول : إنّما صار ليس بأهل للرواية بعد قتله الحسين عليه‌السلام.

٤٨٦

* تركز شيعة علي عليه‌السلام في الكوفة بصفتها البلد الذي شهد حركة علي الفكرية والتربوية والسياسية.

* حمل شيعة علي كل ذكرياتهم عن علي عليه‌السلام وما تعلموه منه ، وهو كلّ الإسلام الذي جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ووعاه علي وعياً تاماً دون غيره من الصحابة ، ونشروه في البقاع التي لم تعرف عن علي عليه‌السلام وسيرته ، وبخاصّة الشام أيام سنوات الصلح بين الحسن ومعاوية.

* صار الشيعة وبخاصّة في العراق غرضاً لخطّة معاوية في التصفية والإبادة والتطويق ؛ بصفتهم العقبة الكؤود أمام منهجه التربوي الجديد.

ومن هنا سجّلت في الكوفة مظالم لم تسجّل في غيرها من بلاد المسلمين :

* تهجير خمسين ألف بعيالاتهم من الكوفة والبصرة إلى خراسان سنة ٥٠ هجرية ، كان فيهم الصحابي بريدة بن الحصيب ، والصحابي أبو برزة الأسلمي وغيرهما ممّن عُرف بولائه لعلي (١).

* قتل حجر بن عدي الكندي وعمرو بن الحمق الخزاعي وأصحابهما بتلفيق تهمة الخروج على الدولة.

* نفي صعصعة بن صوحان العبدي (٢) وآمنة بنت الشريد زوجة عمرو بن الحمق (٣) ، كان معاوية قد سجنها رهينة حتّى يسلّم زوجها نفسه ، ولمّا قُتل نفاها إلى حمص وماتت بها ، وغيرهما.

* قتل رشيد الهجري وميثم التمّار وجويرية بن مسهر ونظرائهم.

__________________

(١) فتوح البلدان ٣ / ٥٠٧.

(٢) الإصابة ـ ترجمة صعصعة. وفيه : أن الذي نفاه هو المغيرة ، ولكنّا نرجّح أنّ الذي نفاه بأمر معاوية هو ابن زياد ؛ لِما ذكرناه من أنّ مرحلة القتل والنفي والتشريد بُدئ بها في عهد زياد لا المغيرة.

(٣) أنساب الأشراف ـ القسم الرابع ١ / ٢٧٣.

٤٨٧

* قطع أيدي ثمانين حصبوه بالحجارة على لعنه علياً (١).

قال سليم : اشتدّ البلاء بالأمصار كلّها على شيعة علي وأهل بيته ، وكان أشدّ الناس بلية أهل الكوفة ؛ لكثرة مَنْ بها من الشيعة ، واستعمل عليها زياداً ، وجمع له العراقيين ، كان يتتبّع الشيعة … فقتلهم على التهم والظنّ والشبه تحت كلّ كوكب وتحت كلّ حجر ومدر ، وأحلأهم وأخافهم ، وقطع الأيدي والأرجل منهم ، وصلبهم على جذوع النخل ، وسمل أعينهم ، وطردهم وشرّدهم (٢).

وكان آخر ما عزم على فعله زياد في الكوفة سنة ثلاث وخمسين هو أن جمع الناس فملأ منهم المسجد والرحبة والقصر ؛ ليعرضهم على البراءة

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٤٦٢ ، الطبري ٥ / ٢٣٥.

(٢) شرح النهج ١٥ / ٤٣.

٤٨٨

من علي عليه‌السلام (١) ، فمَنْ أبى ذلك عرضه على السيف (٢). ولكنّ الله تعالى قد سلّط عليه الطاعون أشغله عنهم ، ومات بعدها بأيّام (٣).

__________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ٩ / ٨٨ (ترجمة زياد).

(٢) مروج الذهب ـ للمسعودي ٣ / ٢٦. قال عبد الرحمن بن السائب : فإنّي لمع نفر من الأنصار والناس في أمر عظيم ، قال : فهوّمت تهويمة (التهويم : أن يأخذ الرجل النعاس حتّى يهتز الرأس) ، فرأيت شيئاً مثل عنق العير أهدب أهدل (الأهدل : الساقط الشفة ، وبعير هدِل إذا كان طويل المشفر مسترخيه) ، فقلت : ما أنت؟ قال : أنا النقاد ذو الرقبة ، بُعثت إلى صاحب هذا القصر. فاستيقظت فزعاً ، فقلت لأصحابي : هل رأيتم ما رأيت؟ قالوا : لا ، فأخبرتهم ، قال : ويخرج علينا خارج من القصر فقال : إنّ الأمير يقول لكم انصرفوا عنّي فإنّي عنكم مشغول ، وإذا الطاعون قد ضربه.

فأنشأ عبد الرحمن بن السائب يقول :

ما كان منتهياً عمّا أراد بنا

حتّى تناوله النقّاد ذو الرقبهْ

فأثبت الشقّ منه ضربةً ثبتت

كما تناول ظلماً صاحب الرحَبَهْ

قال المسعودي : يعني بصاحب الرحبة علي بن أبي طالب عليه‌السلام (مروج الذهب ٣ / ٢٦٠).

(٣) قال البلاذري في أنساب الأشراف ق ٤ ج ١ / ٢٧٨ : كان زياد عند معاوية وقد وقع الطاعون بالعراق ، فقال له : إنّي أخاف عليك يا أبا المغيرة الطاعون ، فلمّا صار إلى العراق طعن فمكث شهراً فمات.

٤٨٩

حركة الواقع السياسي والاجتماعي

استطاع معاوية أن يحكم قبضته على حركة المجتمع لتحقيق أربعة أهداف هي :

١ ـ القضاء على شيعة علي المنتشرين في البلاد الإسلاميّة ، وتحويل الكوفة بصفتها مركز التشيع لعلي إلى سابق عهدها قبل هجرة علي إليها مدينة موالية للخليفة سامعة مطيعة له.

٢ ـ تكوين أجيال جديدة توالي الاُمويِّين بصفتهم أئمّة الدين وحماته ، وتبغض أهل البيت عليهم‌السلام وعلياً عليه‌السلام بصفتهم أعداء الله ورسوله ، وتحفظ روايات كاذبة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذمّ علي وأهل بيته عليهم‌السلام ، وروايات كاذبة في الحطّ من سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بما يوافق هوى الحكّام ، ومدح معاوية وأهل بيته.

٣ ـ حصر الملك في ذريته وأسرته.

٤ ـ تحريف السنّة النبوية ، وتفسير القرآن بما ينسجم مع الأهداف الآنفة الذكر.

٤٩٠

التغيير المطلوب

ممّا لا شك فيه أن المطلوب إسلامياً في وضع سياسي واجتماعي كهذا هو تحقيق ثلاثة أمور وهي :

أ ـ كسر الطوق السياسي والاجتماعي المفروض على الحديث النبوي الصحيح في أهل البيت وعلي عليه‌السلام خاصّة ؛ ليطرح أهل البيت عليهم‌السلام وعلي عليه‌السلام في الأمّة من جديد امتداداً رسالياً للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومحوراً للولاء ومصدراً مطهراً للتثقيف بعد الرسول.

ب ـ إنقاذ شيعة الكوفة بصفتهم حملة علم علي عليه‌السلام وسيرته من حالة التصفية والاختناق ، والحصار الاجتماعي والسياسي التي يعيشونها.

ج ـ تفهيم الأمّة أنّ السكوت على ظلم بني اُميّة ليس من الدين في شيء ، بل الدين يدعو إلى قتالهم والإطاحة بهم ؛ بصفتهم قد بلغوا القمّة في الظلم والانحراف ، وإقامة حكومة إسلاميّة تستهدي تجربة علي عليه‌السلام وتجربة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٤٩١

الحسين عليه‌السلام هو الوحيد المعني بالتغيير المطلوب القادر عليه

وممّا لا شك فيه أنّ الشخص الوحيد المعني بالتغيير المطلوب القادر عليه هو الحسين بن علي عليه‌السلام ؛ وذلك لأنّه سيد بني هاشم الذين يعيشون المحنة بعميدهم علي عليه‌السلام ، وهو مرجع شيعة أبيه وأخيه الممتحنين في العراق ، ولأنه يتبوأ في المجتمع الإسلامي أرفع مقام اجتماعي وديني ؛ لكونه حفيد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وفي قبال الحسين عليه‌السلام هناك الخوارج وعبد الله بن الزبير ، وكلاهما معني بتغيير السلطة والمنهج التربوي الذي يخصّ الولاء لبني اُميّة ، أمّا فيما يرتبط بعلي وشيعته فهم والأمويون مدرسة واحدة وموقف واحد (١).

__________________

(١) أمّا عبد الله بن الزبير فموقفه من علي معروف بدءاً من حرب الجمل وانتهاء بفترة حكمه ، حيث أظهر بغض علي وتناوله في خطبه ، وتصدى له في بعضها محمد بن الحنفيّة وابن عباس. وتذكر المصادر التاريخية أنّه جمع الحطب ليحرقهم إن لم يبايعوه ، ثمّ نفاهم إلى الطائف. أمّا موقفه من شيعة علي فيكفي فيه ما صنعه بأصحاب المختار بعد قتل المختار ، حيث قتل منهم سبعة آلاف صبراً ، منهم زوجة المختار إذ رفضت أن تتبرأ من المختار ، وسجنها مصعب ثمّ استشار أخاه عبد الله في شأنها فأمره بقتلها. أمّا الخوارج فموقفهم من علي وشيعته لا يحتاج إلى بيان.

٤٩٢

الحسين عليه‌السلام عُدَّة إلهية لتحقيق التغير المطلوب

كان الانقلاب الفكري الذي قام به معاوية ، والوضع الاجتماعي والفكري الذي انتجه خطيراً جدّاً ، فهو يشبه إلى حدّ كبير الوضع الذي صنعه فرعون مع بني إسرائيل والمجتمع المصري ودين الله الذي جاء به يوسف من قبل. الوضع الذي اقتضت الحكمة الإلهية معه أن يبعث موسى لينقذ بني إسرائيل ، ويجدّد دين يوسف ، ويقيم الحجّة على المجتمع المصري ليحيى مَنْ حي عن بينة ويهلك مَنْ هلك عن بينة. وكذلك الحال مع الوضع الذي صنعه معاوية مع أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمجتمع الإسلامي عامّة وشيعة علي خاصة. ولمّا كانت النبوّة قد ختمت بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله اقتضت الحكمة الإلهية أن يقوم أوصياؤه (وهم ليسوا بأنبياء) بما كان يقوم به أوصياء الأنبياء الذين كانوا في الغالب أنبياء أيضاً.

اقتضت الحكمة الإلهية أن يعرِّف النبي بأوصيائه من بعده ، ويعرِّف أيضاً بأبرز ما يقومون به ، ويحدّد الموقف منه ؛ لتعرف الأمّة كيف تنظر إلى فعل هذا الوصي ، وكيف تتعامل معه ، ومن ذلك أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام أنّ يقاتل الناكثين والقاسطين والمفسدين من بعده ، وقوله للزبير : «ستقاتل علياً وأنت له ظالم» (١) ، وقوله لعائشة : تنبحها كلاب الحوأب (١) ،

__________________

(١) فتح الباري ١٣ / ٥١ عن كتاب عمر بن شبة في أخبار البصرة قال : أخرج ابن إسحاق من طريق إسماعيل بن أبي خالد ، عن عبد السّلام (ت ١٤٥) رجل من حيّه قال : خلا علي بالزبير يوم الجمل فقال :

٤٩٣

وقوله في الحسن عليه‌السلام : «إنّ ابني هذا سيّد ، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» (٢). وكذلك وممّا لا شك فيه أنّ هذه الأقوال من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تفتح القلوب لفعل الوصي الذي يجيء في ظرف فتنة ، واختلاف وتشوش في الرؤية عند غالبية المسلمين. ومن ذلك قوله في الحسين عليه‌السلام : إنّه يُقتل مظلوماً ، وقد استقبل ولادته بذرف الدموع الساخنة عليه. وليس من شك يأتي قول النبي هذا وبكاؤه تأييداً لموقف الحسين عليه‌السلام ، وتصويباً لموقفه الذي يتألف من ركنين هما ؛ رفضه لبيعة يزيد ، وخروجه بأهله إلى العراق ، ثمّ يُحاصر هناك ويُعرض عليه البيعة ، أو الموت فيختار الموت على البيعة ، في قبال مَنْ يحاول أن يضع اللوم على الحسين عليه‌السلام في عدم تقديره للظرف ، وتعريضه لنفسه ولأهل بيته لنكبة قلّ نظيرها في التاريخ (٣).

__________________

«أنشدك الله ، هل سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول وأنت لاوي يدي : لتقاتلنه وأنت ظالم له ، ثمّ لينصرن عليك»؟ قال : قد سمعت ، لا جرم لا اُقاتلك.

(١) روى أبو يعلى في مسنده ٨ / ٢٨٢ : حدّثنا عبد الرحمن بن صالح ، حدّثنا محمد بن فضيل ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم قال : مرّت عائشة بماء لبني عامر يُقال له : الحوأب ، فنبحت عليها الكلاب ، فقالت : ما هذا؟ قالوا : ماء لبني عامر. فقالت : ردّوني! ردّوني! سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «كيف بإحداكنّ إذا نبحت عليها كلاب الحوأب؟!».

(٢) المعجم الكبير ـ للطبراني ٣ / ٣٤.

(٣) يراجع أمثال ابن العربي ، وصاحب كتاب أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ ، وأيضاً الذهبي في المنتقى / ٧٤.

٤٩٤

خطّة الحسين عليه‌السلام لتحقيق التغيير

ارتكزت خطّة الحسين عليه‌السلام لتحقيق التغيير على أمرين أساسيين هما :

أوّلاً : السكوت في عهد معاوية ، والعمل سرّاً لنشر أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في أهل البيت ريثما يموت معاوية : نعم ، تذكر المصادر التاريخية أنّ معاوية بعث برسالة تهديد إلى الحسين عليه‌السلام بعد قتل حجر وتردّد العراقيين على بيته ، فبعث الحسين عليه‌السلام برسالة يردّ فيها على معاوية ، وكان آخر نشاط سرّي نوعي في هذه المرحلة هو المؤتمر السرّي الذي عقده بحضور بني هاشم وعدد من الصحابة والتابعين قبل موت معاوية بسنة.

كتب معاوية إلى الحسين عليه‌السلام : … فمتى تنكرني أنكرك ، ومتى تكدني أكدك ، فاتق الله في شق عصا هذه الأمّة وأن تردهم إلى فتنة.

فكتب إليه الحسين عليه‌السلام : «... أمّا ما ذكرت أنّه رقي إليك عنّي ، فإنّه إنّما رقاه إليك الملاّقون المشاؤون بالنميمة ... ما أردت لك حرباً ولا عليك خلافاً ، وإنّي لأخشى الله في ترك ذلك منك ، ومن الإعذار فيه إليك وإلى أوليائك الفاسقين الملحدين حزب الظلمة.

ألست القاتل حجر بن عدي أخا كنده وأصحابه المصلّين العابدين ، الذين كانوا ينكرون الظلم ، ويستفضعون البدع ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ولا يخافون في الله لومة لائم؟!

ثمّ قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلّظة ، والمواثيق المؤكّدة ... ؛ جرأة على الله ، واستخفافاً بعهده.

٤٩٥

ولعمري ، ما وفيت بشرط ، ولقد نقضت عهدك بقتلك هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان والعهود والمواثيق ، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوك ونقضوا عهدك ، ولم تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقّنا.

فابشر يا معاوية بالقصاص ، وأيقن بالحساب ...

وليس الله بناس لأخذك بالظنّة ، وقتلك أولياءه على التهم ، ونفيك إيّاهم من دورهم إلى دار الغربة» (١).

قال سليم بن قيس : لمّا كان قبل موت معاوية بسنة حجّ الحسين بن علي عليهما‌السلام ، وعبد اللّه بن عباس ، وعبد اللّه بن جعفر ، فجمع الحسين بني هاشم ، ثمّ رجالهم ونساءهم ومواليهم ، ومَنْ حجّ من الأنصار ممّن يعرفه الحسين عليه‌السلام وأهل بيته ، ثمّ أرسل رسلاً : «لا تدعون أحداً حجّ العام من أصحاب رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله المعروفين بالصلاح والنسك إلاّ اجمعوهم لي». فاجتمع إليه بمنى أكثر من سبعمئة رجل وهم في سرادقه ، عامتهم من التابعين ، ونحو من مئتي رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقام فيهم خطيباً وقال : «أمّا بعد ، فإنّ هذا الطاغية قد فعل ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم ، اسمعوا مقالتي واكتبوا قولي ، ثمّ ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم ؛ فمَنْ أمنتم من الناس ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون من حقّنا ؛ فإنّي أتخوّف أن يُدْرَسَ (٢) هذا الأمر ، ويذهب الحقّ ويُغلب ، واللّه متمّ نوره ولو كره الكافرون».

وما ترك شيئاً ممّا أنزله الله فيهم من القرآن إلاّ تلاه وفسّره ، ولا شيئاً ممّا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أبيه وأخيه وأمّه وفي نفسه وأهل بيته إلاّ رواه ... ، وكلّ ذلك يقول أصحابه ، اللّهمّ نعم ، وقد سمعنا وشهدنا ، ويقول التابعي : اللّهمّ قد حدّثني به مَنْ أثق به ، وأئتمنه من الصحابة.

__________________

(١) رجال الكشي ترجمة عمرو بن الحمق ، طبقات ابن سعد ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام ، أنساب الأشراف ترجمة معاوية ، مختصر تاريخ دمشق ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام.

(٢) دروس الشيء : انمحاؤه.

٤٩٦

فقال : «أنشدكم الله إلاّ حدّثتم به مَنْ تثقون به وبدينه» (١).

ثانياً : التحرك العلني للحسين عليه‌السلام بعد موت معاوية

وكانت خطواته الأساسية ثلاث هي :

أوّلاً : الإعلان عن عدم إعطاء بيعة ليزيد وإن كلّفه ذلك حياته ؛ وذلك لأنّ بيعته تعني إقرار المنهج التحريفي للإسلام الذي نهض به بنو اُميّة ، وتعني إقرارهم على منع نشر الحديث الصحيح في أهل البيت وعلي عليه‌السلام.

قال عليه‌السلام : «لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد» (٢). وهو في ذلك نظير جدّه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حين قال لعمّه أبي طالب : «ياعمّ ، والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتّى يظهره الله أو أهلك دونه» (٣). والقضية واحدة عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعند الحسين عليه‌السلام ، قريش تريد من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يترك دعوة التوحيد ويقرّ عبادة الأصنام ، وبنو أميّة تريد من الحسين عليه‌السلام أن يترك أحاديث جدّه في أهل بيته الذين عيّنهم بأمر الله تعالى حججاً على الناس تموت ، وتحلّ بدلها أحاديث كاذبة قيلت على لسانه في بني اُميّة والخلفاء منهم على أنّهم حجج الله وأئمّة الهدى.

ثانياً : الانطلاق من مكّة في الحركة :

وذلك بصفتها المكان الوحيد الذي يقصده المسلون من كلّ الأقطار للعمرة والحجّ ، والحسين عليه‌السلام بأمس الحاجة إلى مكان كهذا من أجل كسر الطوق المفروض على الحديث الصحيح ، هذا مضافاً إلى تحرّكه على أخيار الأمّة القادمين من الآفاق لطلب نصرتهم ، وقد بقي في مكّة أربعة أشهر : شعبان ورمضان وشوال وذو القعدة ، وأيام من ذي الحجّة ، التفّ حوله المعتمرون والقادمون للحجّ يسمعون منه حديثه عن جدّه في فضل أبيه ، أو في فضله ، أو في جهاد الظالمين ، أو فيما سوف يُرتكب منه ، وقتله مظلوماً بشط الفرات.

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس (تحقيق محمد باقر الأنصاري / ٣٢١).

(٢) فتوح ابن أعثم ٥ / ٣١ ، مقتل الخوارزمي.

(٣) تاريخ الطبري ٣ / ٦٧.

٤٩٧

قال الطبري : فأقبل الحسين حتّى نزل مكّة ، فأقبل أهلها يختلفون إليه ويأتونه ومَنْ كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق. وقال ابن كثير : فعكف الناس على الحسين يفدون إليه ، ويقدمون عليه ويجلسون حواليه ، ويستمعون كلامه حين سمعوا بموت معاوية وخلافة يزيد.

وأما ابن الزبير فإنّه لزم مصلاّه عند الكعبة ، وجعل يتردّد في غبون (١) ذلك إلى الحسين عليه‌السلام في جملة الناس ، ولا يمكنه أن يتحرّك بشيء ممّا في نفسه مع وجود الحسين ؛ لِما يعلم من تعظيم الناس له وتقديمهم إيّاه (٢).

أقول : بقي الحسين عليه‌السلام في مكّة شهر شعبان ورمضان ، وشوال وذي القعدة وثمانية أيام من ذي الحجّة ، وممّا لا شك فيه أنّ الحسين عليه‌السلام في هذه الفترة ، وفي حلقاته مع المعتمرين وأهل الآفاق كان قد كسر الطوق الذي فرضه معاوية على الحديث النبوي الصحيح في علي وأهل بيته ، أو في ذم بني اُميّة ، أو في بيان أحكام متعة الحج وغير ذلك. وبدأ يذكِّر الناس ويُسْمِع مَنْ لم يَسمَع منهم أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في تفسير القرآن ، وفي فضل أبيه علي عليه‌السلام وفي فضله وفضل أخيه الحسن عليه‌السلام ، وفي ذمّ بني اُميّة ونزوهم على منبر الرسول ، وفي الموقف الصحيح عند ظهور الظلم والبدع وغير ذلك.

من قبيل : حديث الغدير ، وحديث الدار ، وحديث المنزلة ، وحديث الثقلين ، وحديث الكساء ، وحديث رؤيا النبي والشجرة الملعونة في القرآن ، وغيرها.

ومن قبيل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَنْ رأى سلطاناً جائراً ، مستحلاً لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله» (٣).

ثمّ يذكِّرهم بجرائم بني اُميّة ومخالفاتهم لأحكام الله وسنّة رسوله ، وتعطيلهم الحدود ، وقتلهم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، كحجر بن عدي ، وعمرو بن الحمق

__________________

(١) غبن الرجل يغبنه غبناً : مر به وهو مائل فلم يره ولم يفطن له (لسان العرب مادة غبن).

(٢) البداية والنهاية ٨ / ١٥١.

(٣) تاريخ الطبري ٥ / ٤٠٣.

٤٩٨

وغيرهم ، ونفي الأخيار والنساء ، كصعصعة بن صوحان العبدي ، وآمنة بنت الشريد زوجة عمرو بن الحمق بعد أن كانت رهينة الحبس لحين يسلّم زوجها نفسه.

ويقول لهم : «ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلوا حرام الله ، وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ مَنْ غَيَّر» (١).

ويقول لهم : «ألا ترون أنّ الحقّ لا يُعملُ به ، وإلى الباطل لا يُتَناهى عنه ، لَيَرْغبَ المؤمن في لقاء الله ، فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة ، ولا الحياة مع الظالمين إلاّ برماً» (٢).

ويقول لهم : «إنّي أدعوكم إلى إحياء معالم الحق وإماتة البدع» (٣).

ثمّ يذكرهم بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه : «حسين منّي وأنا من حسين (٤) ، أحبّ الله مَنْ أحبّ حسيناً» (٥). وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه وفي أخيه : «الحسن والحسين سبطان من الأسباط (٦) ، الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة» (٧).

ولا بدّ أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد ذكّرهم وأخبرهم بما أعلنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله منذ ولادة الحسين عليه‌السلام بأنّه تقتله الفئة الباغية (٨) ظلماً وعدواناً.

ثمّ يقول لهم : «وأيم الله ، لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتّى يقضوا فيَّ حاجتهم ، وواللهِ لَيَعْتَدُنَّ عليَّ كما اعتدت اليهود في السبت» (٩). ويقول لهم : «كأني

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٤٠٣.

(٢) تاريخ بن عساكر ١٤ / ٢١٧ عن الزبير بن بكار ، تاريخ الطبري ٥ / ٤٠٤.

(٣) الأخبار الطوال ـ للدينوري / ٢٣١.

(٤) مسند أحمد ٤ / ١٧٣.

(٥) مسند أحمد ٤ / ١٧٣.

(٦) التاريخ الكبير ـ للبخاري ٨ / ٤١٥.

(٧) مسند أحمد ٣ / ٣.

(٨) ذخائر العقبى ٩ / ١٩٠ ، وفي مجمع الزوائد ومعجم الطبراني قال النبي : «واهاً لفراخ آل محمد من خليفة مستخلف مترف ، يقتل خلفي وخلف الخلف!». وأحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في قتل الحسين عليه‌السلام في المصادر السنية والشيعية بل والكتابية كثيرة جدّاً.

(٩) الطبري ٤ / ٢٨٩ ، ابن الأثير ٤ / ٣٨ ، الناقص من طبقات ابن سعد ١ / ٤٣٣ عن معاوية بن قرّة ، تاريخ

٤٩٩

بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء ، فيملأن منّي أكراشاً جوفاً ، وأجربة سغباً ، لا محيص عن يوم خطّ بالقلم ، رضا الله رضانا أهل البيت ، ويوفينا اُجور الصابرين ، لن تشذ عن رسول الله لحمته» (١).

لقد كان الحسين عليه‌السلام يحدّث بهذا وأمثاله سرّاً وعلانية في جو من الاستضعاف والخوف والإرهاب ، يبصِّر المسلمين ، ويستنهض هممهم ، ويطلب نصرتهم ، ويذكِّرهم بتكليفهم الشرعي ، نظير ما كان يصنعه جدّه رسول الله في مكّة يوم استضعفته قريش وعذبت اصحابه ، فقتل مَنْ قُتل ، وسُجن مَنْ سُجن ، وتُشرد مَنْ تُشرد.

وليس من شك أن هذه الحركة التبليغيّة العلنية من الحسين عليه‌السلام تقوم على أساس ما أمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من تبليغ حديثه إلى الناس ، وما أمر به الله ورسوله من إظهار العلم عند ظهور البدع ، وقد تخيّر لها الحسين عليه‌السلام بتوفيق إلهي خاص ظرفها المناسب ، وهي تعني في الوقت نفسه أنّ السلطة الاُمويّة في الشام سوف لن تسكت على مثل هذه الحركة بل سيكون موقفها منها هو العمل على القضاء عليها بكل وسيلة ممكنة ، وبأقسى ما يتصوّر من العقوبة ؛ لتكون للآخرين نكالاً وعبرة.

ثالثاً : الهجرة إلى الكوفة :

بصفتها البلد الممتحن ، وفيها بقية تلاميذ علي عليه‌السلام ، وحملة خطبه وأحاديثه وأقضيته ، وأخبار سيرته ، والخطّة هي أن يهاجر إليها وينطلق بأهلها في مواجهة الاُمويِّين ، وتطويق انحرافهم والإطاحة بهم.

__________________

ابن عساكر ١٤ / ٢١٦ عن معاوية بن قرّة ، وابن كثير ج ٨. أقول : وذلك لمّا قتلوا يحيى عليه‌السلام. وفي فتوح أعثم ٥ / ٤٢ أنّ الحسين قال لعبد الله بن عمر : «أما علمت أنّ من هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريا اُهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل … فلم يعجّل عليهم بل أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر؟». ثمّ قال له : «اتقِ الله يا أبا عبد الرحمن ، ولا تدعنّ نصرتي».

(١) اللهوف ـ لابن طاووس / ٣٨.

٥٠٠