الحسين عليه السلام في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام

السيّد سامي البدري

الحسين عليه السلام في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام

المؤلف:

السيّد سامي البدري


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: ياسين
الطبعة: ١
ISBN: 964-499-093-5
الصفحات: ٥٢٧

وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ... وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا) الأنفال / ٦٠ ـ ٦١ ، ويكون بذلك قد أمدَّهم بمبرر قويّ لحربه.

وهو إن أقرَّ اُطروحة معاوية في الصلح يكون قد كرَّس جهلَ أهل الشام بالأحاديث النبويّة في حقّ علي عليه‌السلام ، وجهلهم بسيرته التي هي سيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. مضافاً إلى ذلك ، فإنّ اُطروحة معاوية في الصلح تستبطن إجراءً سوف يتّخذه معاوية مستقبلاً يقضي بمنع أهل الشام من الذهاب إلى مكة حتّى لا يختلطوا بالعراقيين ويتعلّموا منهم أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّ علي عليه‌السلام ، ولا يتعرّفوا على سيرته المشرقة. وهذه الخطوة سوف تجرّ إلى تبنّي القبلة الأولى (بيت القدس) في قبال مكة ، وحذف آيات نسخها من القرآن ، وبذلك تعدّد القبلة ويتعدّد الكتاب ، وكذلك تجرّ إلى أمور أخرى (١).

ومن هنا قدّم الحسن عليه‌السلام اُطروحة جديدة للصلح تستند إلى اُطروحة جدّه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في صلحه مع قريش ، مع تطوير يناسب المقام ويحقّق الأهداف كاملة. وتمثّلت هذه الاُطروحة الحسنية بأن يسلّم الأمر كلّه لمعاوية لقاء شروط يصوغها الحسن عليه‌السلام ، وفوجئ معاوية بهذه الاُطروحة وطار لها فرحاً ، لم يكن يصدِّق ذلك.

أرسل معاوية للحسن عليه‌السلام صحيفة بيضاء موقعة من طرفه يكتب شروطه عليها ، وكان من هذه الشروط : أن يكون الأمر للحسن عليه‌السلام بعد معاوية.

ومنها : أن يترك لعن علي عليه‌السلام.

ومنها : أن يسير معاوية بالكتاب والسنّة.

ومنها : أمان كلّ شيعة علي ، وغير ذلك.

وحاول معاوية أن يستثني عشرة من شيعة علي من الأمان ، ولكن الحسن عليه‌السلام رفض

__________________

(١) من قبيل الاقتتال فيما بينهم ، ثمّ طمع الروم فيهم وزوال الدولة الإسلاميّة مبكّراً.

٤١

ذلك ، واستجاب معاوية أخيراً للشروط ، واتّضح لأهل الشام جليّاً أنّ معاوية كان يُقاتل على الملك وليس من أجل دم عثمان ؛ بدليل أنّه لمّا عرض عليه الملك بشرط أمان الناس كلّهم بما فيهم مَنْ هو متّهم من قبل الإعلام الاُموي في دم عثمان ، رضيَ به ، بل طار له فرحاً (١).

عاشت الاُمّة عشر سنوات من الصلح سنوات أمان تامّ ، وتحرَّك أصحاب علي عليه‌السلام من العراقيين ينشرون سُنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واختلطوا بأهل الشام في موسم الحجّ والعمرة ، ومن خلال الوفود إلى الشام نفسها.

وانتشرت أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في علي عليه‌السلام ، وعرف الشاميُّون موقعه في الإسلام ، وعرفوا سيرته المشرقة المتطابقة مع سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأحبّ الناس جميعاً الحسن عليه‌السلام ؛ لِما حقّق لهم من الأمان ، ولِما رأوا من أخلاقه وعبادته وعلمه من خلال موسم الحجّ الذي أحياه بالحجّ ماشياً عشر سنوات بعد الصلح (٢) ، ومن خلال سفراته إلى الشام ، وأدرك الناس بعمق كلمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّ الحسن عليه‌السلام حين قال : «إنّ ابني هذا سيّد ، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» (٣).

ضلالة بني اُميّة :

لم يرُق لمعاوية أن يموت ويترك الاُمور ممهَّدة للحسن بن علي عليهما‌السلام ، الذي برَّزته الأحداث أعظم مصلح في الأمّة ، ثمّ يستمر الأمر من بعده للحسين بن علي عليهما‌السلام والأئمّة من ذرّيته عليهم‌السلام شهداء على الناس ، وأئمّة هدى يقودون الناس إلى الله تعالى. وخطّط

__________________

(١) روى ... أنّ معاوية حجّ سنة ٤٤ ، ولمّا دخل المدينة وزار بيت عثمان استقبلته عائشة بنت عثمان صائحة وا عثماناه ...!

(٢) يذكر المترجمون للحسن عليه‌السلام أنّه حجّ خمساً وعشرين حجّةً ماشياً على قدميه ، فتكون هذه في السنوات الماضية من حياته عليه‌السلام.

(٣) أوردتها كتب الصحاح والمسانيد.

٤٢

معاوية ليستولي على الاُمور ، وليكون هو ونسله أولى بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبدين إبراهيم ، وأن يعرضوا أنفسهم على الناس أنّهم أئمّة الهدى ، وخلفاء الله وشفعاؤه في خلقه ، وأن يعرض علياً عليه‌السلام وأهل بيته عليهم‌السلام ملحدين في الدين ، استوجبوا اللعنة والبراءة على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبذلك يثأر لأسلافه الذين قُتِلوا في معركة بدر على الشرك ، ويحقّق ما لم يخطر على بال أمّه هند من صور الانتقام.

كانت العقبة الكؤود أمام هذا المخطّط الرهيب هو وجود الحسن عليه‌السلام ، ومحبّة الناس له ، والكوفة قلعة الولاء لعلي عليه‌السلام ، والأحاديث النبويّة الصحيحة في حقّ علي وأهل بيته عليهم‌السلام ، وتاريخ بني اُميّة في حرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومخالفات الخلفاء السابقين لسنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله التي انتشرت أخبارها بين المسلمين جميعاً.

كانت ركائز خطّة معاوية هي :

اغتيال الحسن عليه‌السلام بالسم.

المنع من رواية فضائل علي وأهل بيته عليهم‌السلام.

وضع أحاديث تطعن بعلي عليه‌السلام وتشوّه سيرته ، وتسوّغ لعنه والبراءة منه.

وضع أحاديث في فضائل معاوية والخلفاء السابقين توجب الولاء لهم والتقرب بهم إلى الله تعالى ، والطاعة المطلقة لهم.

قتل وجوه أصحاب علي باعتبارهم سيقفون معارضين لتلك السياسة ، وتفريغ الكوفة من شيعة علي بإشغالهم بالفتوح ، وتحويل الكوفة إلى بلد مطيع لبني اُميّة. وجدَّ معاوية وصرف كلّ قدراته في تنفيذ تلك الخطوات.

شهد الحسين عليه‌السلام نقض معاوية لشروط الحسن عليه‌السلام بعد وفاته ، وحركته التحريفية التي استهدفت تفريغ الإسلام من محتواه المحمدي الأصيل الذي يقوم على الولاء لله ولرسوله ولعلي والأئمّة عليهم‌السلام من ولده ؛ بصفتهم أولى بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبدين إبراهيم ، واستبداله بمحتوى اُمويّ يقوم على البراءة من علي عليه‌السلام ، ولعنه بصفته ملحداً في الدين ،

٤٣

ثمّ الولاء لبني اُميّة بصفتهم أولى بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبدين إبراهيم عليه‌السلام ، وأنّهم أئمّة هدى ، وأنّهم خلفاء الله وشفعاؤه في خلقه.

جدَّد وجوه الكوفيِّين العهد مع الحسين عليه‌السلام بعد وفاة الحسن عليه‌السلام ، وعرضوا عليه النهوض في وجه معاوية لنقضه الشروط. أجابهم الحسين عليه‌السلام أنّ رأيه أن يكونوا أحلاس بيوتهم ريثما يموت معاوية (١) ، وطلب منهم العمل سرّاً على مواصلة نشر الحديث النبوي الصحيح ، وتكررت لقاءاتهم مع الحسين عليه‌السلام لأخذ التوجيه منه ، وكان آخر لقاء له معهم هو قبل موت معاوية بسنة حيث جمعهم في مؤتمر سرّي تدارس فيه معهم الخطّة بعد موت معاوية.

عيَّن معاوية ولده يزيد خليفة من بعده ، وأخذ البيعة له من الناس ، وحاول أخذ البيعة له من وجوه كان يخشى أن لا تبايعه بعده ، منها الحسين عليه‌السلام وعبد الله بن الزبير وغيرهما ، ولم ينجح معهم.

المعركة حول الهداية :

يتّضح من ذلك أنَّ المعركة الأساسية بين الحسين عليه‌السلام وبين يزيد لم تكن معركة حول السلطة بل كانت حول الهداية ، نظير المعركة بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقريش لمّا بعث في مكة حيث

__________________

(١) روى اليعقوبي في تاريخه قال : ولمّا توفّي الحسن عليه‌السلام وبلغ الشيعة ذلك اجتمعوا بالكوفة في دار سليمان بن صرد ، وفيهم بنو جعدة بن هبيرة ، فكتبوا إلى الحسين بن علي يعزّونه على مصابه بالحسن : بسم الله الرحمن الرحيم للحسين بن علي من شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين عليه‌السلام ، سلام عليك ، فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو. أمّا بعد ، فقد بلغنا وفاة الحسن بن علي ... ما أعظم ما أصيب به هذه الأمّة عامّة ، وأنت وهذه الشيعة خاصّة بهلاك ابن الوصي وابن بنت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ علم الهدى ، ونور البلاد ، المرجو لإقامة الدين وإعادة سير الصالحين ، فاصبر رحمك الله ... فإنّ فيك خلفاً ممّن كان قبلك ، وإنّ الله يؤتي رشده مَنْ يُهدى بهديك ، ونحن شيعتك المصابة بمصيبتك ، المحزونة بحزنك ، المسرورة بسرورك ، السائرة بسيرتك ، المنتظرة لأمرك ، شرح الله صدرك ، ورفع ذكرك ، وأعظم أجرك ، وغفر ذنبك ، وردّ عليك حقّك.

٤٤

كانت قريش بعد وفاة عبد المطلب بعد أن ميَّزه الله تعالى بقصّة الفيل ، وأبرزه أولى بإبراهيم ودينه قد عرضت نفسها على أنّها أولى الناس بمقام إبراهيم وبدينه ، ومن ثمّ يتعين على الناس أخذ أحكام الحجّ من قريش ، وخضعت الناس لقريش في ذلك حتّى بعث الله تعالى محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله وميّز بني هاشم على غيرهم مرّة أخرى.

وهي أيضاً نظير المعركة بين موسى وفرعون في مصر ، معركة حول التوحيد وليست حول السلطة ، فقد عرض فرعون نفسه على أنّه خليفة الله وشفيعه والهادي إلى دينه ورضاه في قبال آل يعقوب ، واستضعف ذرّية يعقوب لأجل عدم خضوعهم له في ذلك ، وبعث الله تعالى موسى ليميّز آل يعقوب من جديد ولينقذهم من العذاب المهين ويفتح الطريق لإمامتهم الهادية.

وكذلك المعركة الأساسية بين علي عليه‌السلام والخلفاء القرشيين الثلاثة ، فقد كانت حول الهداية وليس حول السلطة ، علي يرفض بيعة أبي بكر ، ولو وجد أربعين ذوي عزم لجاهد ، وكذلك ليس لأجل الملك بل لأجل حفظ رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أن تعبث بها قريش المسلمة ، قريش التي جعلت من سيرة أبي بكر وعمر في عداد كتاب الله وسيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقد رفض علي أن يبايع ويصبح حاكماً على أساس ذلك ، ولمّا وجد الأنصار نهض وقاتل كما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وانتشرت سنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من جديد في الجيل الذي حُرم منها ، ولولا علي عليه‌السلام لم تنتشر.

وكذلك المعركة بين معاوية والحسن عليه‌السلام لم تكن حول السلطة ، بمعنى إنّ الحسن عليه‌السلام لم يصالح معاوية من أجل أن يرجع إليه الملك ، وإن كان هذا الملك من حقّه ، ولكنّه صالح حتّى يعالج انشقاق معاوية الذي كان يستبطن تحريف الدين ، إذ لولا الصلح لتعدّدت القبلة وتعدّد الكتاب.

وكذلك الأمر بين الحسين عليه‌السلام ومعاوية ويزيد لم يكن رفض البيعة من الحسين عليه‌السلام ثمّ أخذ البيعة من أهل الكوفة لأجل الملك ، كما فعل ابن الزبير حين رفض بيعة يزيد

٤٥

وأخذ البيعة من أهل مكة لأجل الملك بل رفض الحسين عليه‌السلام البيعة ليزيد ، وقال : «لو لم يكن لي ملجأ لما بايعت يزيد» ؛ لأنّ البيعة ليزيد تعني السكوت عن أخطر عملية تحريف للسنّة النبويّة ، حيث تجعل من عليٍّ عليه‌السلام رمزاً للإلحاد في الإسلام والانحراف عنه ، ويكون لعنه من أفضل القربات عند الله ، ويجعل من الخليفة الاُموي رمزاً للهداية ، وتكون طاعته من أفضل الطاعات. وبقي الحسين عليه‌السلام على موقفه حتّى حين حوصر وفُصِل بينه وبين أنصاره ، وهذا النوع من الانحراف لم يكن حتّى زمن الخلفاء الثلاثة.

وفيما يلي تفصيل جهود معاوية في تحريف سنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجهود الحسين عليه‌السلام لإنقاذها ، والتأييد الإلهي الذي حظيت به حركة الحسين عليه‌السلام.

٤٦

الباب الثاني

الانقلاب الأموي

الفصل الأوّل : معاوية ينقض عهده مع الحسن عليه‌السلام

الفصل الثاني : خطة معاوية لتصفية التشيّع في الكوفة

الفصل الثالث : مقتل حجر بن عدي وأصحابه (رضوان الله عليهم)

الفصل الرابع : أطروحة معاوية للحكم

٤٧
٤٨

الفصل الأول معاوية ينقض عهده مع الحسن عليه‌السلام

بنو اُميّة في حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

قال تعالى : (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاّ طُغْيَاناً كَبِيراً) الإسراء / ٦٠.

قال السيوطي : أخرج ابن جرير عن سهل بن سعد قال : رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بني فلان ينزون على منبره نزو (١) القردة ، فساءه ذلك ، فما استجمع ضاحكاً حتّى مات ، وأنزل الله : (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ).

وأخرج ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرّة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «رأيت بني اُميّة على منابر الأرض ، وسيتملكونكم فتجدونهم أرباب سوء». واهتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لذلك ، فأنزل الله : (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ).

وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، وابن عساكر عن سعيد بن المسيب قال : رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بني اُميّة على المنابر فساءه ذلك ، فأوحى الله : إنّما هي دنيا

__________________

(١) ‏ النزو : الوثوب ، ينزون على منبره : أي يصعدون عليه.

٤٩

أعطوها. فقرَّت عينه ، وهي قوله : (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ) ، يعني بلاء للناس.

وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي‌الله‌عنها أنّها قالت لمروان بن الحكم : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول لأبيك وجدّك : «إنّكم الشجرة الملعونة في القرآن».

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «رأيت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنّهم القردة ، وأنزل الله في ذلك (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ)» ، يعنى الحكم وولده(١).

وقال السيوطي أيضاً :

أخرج الخطيب في تاريخه عن ابن عباس قال : رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بني اُميّة على منبره فساءه ذلك ، فأوحى الله إليه إنّما هو ملك يصيبونه ، ونزلت (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) القدر / ١ ـ ٣ ، وأخرج مثله عن ابن المسيب.

وأخرج الترمذي وضعَّفه ، وابن جرير والطبراني ، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن يوسف بن مازن الرؤاسي قال : قام رجل إلى الحسن بن علي عليه‌السلام بعدما بايع معاوية ، فقال : سوّدت وجوه المؤمنين ، فقال : «لا تؤنّبني رحمك الله ، فإنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى بني اُميّة يخطبون على منبره فساءه ذلك ، فنزلت (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) يا محمّد ، ونزلت (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) القدر / ١ ـ ٣ ، يملكها بعدك بنو اُميّة يا محمّد» (٢).

__________________

(١) الدر المنثور ٤ / ١٩١.

(٢) جامع الترمذي ٥ / ٤٤٤ ، المعجم الكبير ٣ / ٨٩.

٥٠

قال الحاكم : هذا إسناد صحيح ، وهذا القائل للحسن بن علي هذا القول هو سفيان بن الليل صاحب أبيه (١).

أقول :

من الجدير ذكره أنّنا إذا حسبنا ملك بني اُميّة من سنة الصلح الذي تمّ بين الحسن عليه‌السلام ومعاوية يكون مجموع الأشهر ألفاً واثنين وتسعين شهراً. وإذا حسبناها من بعد وفاة الحسن عليه‌السلام وقد توفي آخر سنة ٤٩ يكون مجموع الأشهر تسعمئة وست وتسعين شهراً ، وهي أقرب إلى الألف من الأولى.

في ضوء ذلك تكون الألف شهر التي تملكها بنو اُميّة هي الفترة من وفاة الحسن عليه‌السلام بداية سنة ٥٠ هجرية ، وليس من بداية الصلح وحتّى سنة ١٣٢ هجرية.

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٨٦. أقول : وفي ضعفاء العقيلي ٢ / ١٧٥ : سفيان بن الليل : كوفي ، كان ممّن يغلو في الرفض ولا يصح حديثه. حدّثني يحيى بن عثمان بن صالح قال : حدّثنا نعيم بن حماد قال : حدّثنا محمّد بن فضيل ، عن السري بن إسماعيل ، عن الشعبي قال : حدّثني سفيان بن الليل قال : لمّا قدم الحسن بن على من الكوفة إلى المدينة أتيته ، فقلت : يا مذلّ المؤمنين. قال : «لا تقل ذاك يا سفيان ، فإنّي سمعت أبي يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : لا تذهب الأيام والليالي حتّى يملك رجل ، وهو معاوية ، والله ما أحب أنّ لي الدنيا وما فيها وأنّه يهراق فيَّ محجمة من دم. وسمعت أبي يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : مَنْ أحبّنا بقلبه وأعاننا بيده ولسانه كنت أنا وهو في عليِّين ، ومَنْ أحبّنا بقلبه وأعاننا بلسانه وكفَّ يده فهو في الدرجة التي تليها ، ومَنْ أحبّنا بقلبه وكف عنّا لسانه ويده فهو في الدرجة التي تليها». قال البدري : الشعبي متّهم بالوضع على الشيعة. وقال في لسان الميزان في ترجمة سفيان : إنّ حديثه انفرد به السري بن إسماعيل أحد الهلكى عن الشعبي. وقال أبو الفتح الأزدي : سفيان بن الليل له حديث لا تمضي الأمّة حتّى يليها رجل واسع البلعوم ، قال : وفي لفظ آخر واسع السرم (بالسين) ، يأكل ولا يشبع ، قال : وسفيان مجهول ، والخبر منكر ، انتهى. وبقيّة كلام الأزدي : وسفيان مجهول لا يحفظ له غير هذا. قال النباتي : حديثه لا يرويه إلاّ السري وهو لا شيء. وفي الطبقات ٦ / ٣٦٩ : السري بن إسماعيل الهمداني ، من الصائديين من أنفسهم ، وكان كاتباً للشعبي ، وروى عنه الفرائض وغير ذلك ، وولي السري قضاء الكوفة ، وكان قليل الحديث. قال ابن حبّان في المجروحين ١ / ٣٥٥ ، قال : كان يقلب الأسانيد ، ويرفع المراسيل.

٥١

معاوية ينقض عهوده مع الحسن عليه‌السلام :

قال تعالى :

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ *

وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمْ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ *

وَلَو شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ *

وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *

وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُو خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) النحل / ٩٠ ـ ٩٦.

لقد كان معاوية مصداقاً لنقض الأيمان المؤكدة التي أشارت إليها الآيات الكريمة ، إذ يعلم الجميع أنّ معاوية كان قد أعطى للحسن عليه‌السلام عهداً غليظاً أنّه يلتزم الشروط التي يطلبها ، ولم يشترط الحسن عليه‌السلام على معاوية إلاّ ما كان فيه لله ولرسوله رضاً وللمؤمنين صلاح. وقد أظهر معاوية التزامه بهذه الشروط على كُرهٍ منه مدّة عشر سنوات تقريباً ، وعاش المجتمع الإسلامي في ظل هذه الشروط حياة حرّة كريمة آمنة ، وقد فصلنا في معالمها وأحداثها في كتابنا عن صلح الحسن عليه‌السلام ، ولكن معاوية أبت أصولُه التي تربى في

٥٢

ظلها إلاّ الغدر (١) ؛ فأقدم على نقض كلّ شرط أعطاه للحسن عليه‌السلام ، ووضع خطّة تحقّق له ذلك ، وكان مفتاح الأمر هو أن يغتال الحسن عليه‌السلام ؛ إذ لم يكن باستطاعته نقض الشروط والحسن عليه‌السلام حي ، فاحتال ودسَّ السُّم بواسطة بنت الأشعث إحدى زوجات الإمام الحسن (٢). ثمّ تحرك معاوية وفق سياسة عامّة ، وكانت أهم بنودها ما يلي :

١ ـ لعن علي عليه‌السلام وشتمه على منابر المسلمين ليربو عليه الصغير ويهرم عليه الكبير ،

__________________

(١) حيث نقض أبوه أبو سفيان عهد الحديبيّة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٢) قال في الاستيعاب في ترجمة الحسن عليه‌السلام : قال قتادة وأبو بكر بن حفص : سُمّ الحسن بن علي ، سمّته جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي ، وقالت طائفة : كان ذلك منها بتدسيس معاوية إليها وما بذله لها في ذلك ، وكان لها ضرائر. وروى الذهبي عن الواقدي قال : وقد سمعت مَنْ يقول : كان معاوية قد تلطّف لبعض خدم الحسن أن يسقيه سمّاً. وروى أيضاً عن أبي عوانة ، عن مغيرة ، عن أمّ موسى : أنّ جعدة بنت الأشعث بن قيس سقت الحسن السمّ. سير أعلام النبلاء ٣ / ٢٧٤. قال البدري : وقد عُرف معاوية أنّه كان يستعمل السمّ للتخلّص من خصومه ، فقد روى الطبري ٥ / ٩٦ في حوادث سنة ٣٨ : أنّ معاوية طلب من الحايستار رجل من أهل الخراج أن يحتل لقتل مالك الأشتر لمّا بعثه علي عليه‌السلام والياً إلى مصر فدسّ له السمّ. وروى الطبري أيضاً ٥ / ٢٢٧ ، حوادث سنة ٤٦ قال : حدّثني عمر قال : حدّثني علي ، عن مسلمة بن محارب : أنّ عبد الرحمن بن خالد بن الوليد كان قد عظم شأنه بالشام ، ومال إليه أهلها لِما كان عندهم من آثار أبيه خالد بن الوليد ، ولغنائه عن المسلمين في أرض الروم وبأسه حتّى خافه معاوية وخشي على نفسه منه لميل الناس إليه ، فأمر ابن أثال أن يحتال في قتله ، وضمن له إن هو فعل ذلك أن يضع عنه خراجه ما عاش ، وأن يولّيه جباية خراج حمص. فلمّا قدم عبد الرحمن بن خالد حمص منصرفاً من بلاد الروم دسّ إليه ابن أثال شربة مسمومة مع بعض مماليكه ، فشربها فمات بحمص ، فوفّى له معاوية بما ضمن له ، وولاّه خراج حمص ووضع عنه خراجه. قال : وقدم خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المدينة ، فجلس يوماً إلى عروة بن الزبير فسلّم عليه ، فقال له عروة : مَنْ أنت؟ قال : أنا خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد. فقال له عروة : ما فعل ابن أثال؟ فقام خالد من عنده وشخص متوجّهاً إلى حمص ، ثمّ رصد بها ابن أثال فرآه يوماً راكباً ، فاعترض له خالد بن عبد الرحمن فضربه بالسيف فقتله ، فرفع إلى معاوية فحبسه أياماً ، وأغرمه ديته ولم يقده منه ، ورجع خالد إلى المدينة ، فلمّا رجع إليها أتى عروة فسلّم عليه ، فقال له عروة : ما فعل ابن أثال؟ فقال : قد كفيتك ابن أثال ، ولكن ما فعل ابن جرموز؟ فسكت عروة.

٥٣

ويستهدف هذا البند تهديم موقع علي كإمام هدى وحجّة على الناس معيّن من الله ورسوله بشكل مباشر.

٢ ـ المنع من رواية فضائل علي وأهل بيته عليهم‌السلام ، ويستهدف هذا البند تغييب الآيات القرآنية والأحاديث النبويّة التي أشادت بعلي عليه‌السلام وبيّنت إمامته الهادية بإذن الله ورسوله.

٣ ـ اختلاق أخبار قبيحة في علي وأهل بيته عليهم‌السلام ، ويستهدف هذا البند بناء قاعدة فكرية تبرر لعن علي عليه‌السلام.

٤ ـ اختلاق الفضائل للخلفاء وبني اُميّة ، ويستهدف هذا الأساس بناء القاعدة الفكرية التي تطرح الخلفاء وبني اُميّة على أنّهم أئمّة هدى والحجّة على الناس بعد الرسول.

٥ ـ ترويع شيعة علي عليه‌السلام قتلاً وسجناً ونفياً وتهجيراً ، ويستهدف هذا البند تصفية نخبة الأمّة التي حملت أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبار سيرة علي عليه‌السلام ونشرها بين الناس ، وكذلك تصفية الوجود البشري الواسع الذي انفتح على علي عليه‌السلام بصدق وإخلاص ، وتعلّم منه وجعله الحجّة بينه وبين الله تعالى بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثمّ خصَّ العراق بسياسة معينة.

وكان قبل ذلك قد اعتمد على رجال ركنوا إلى الدنيا ، أمثال عمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومروان بن الحكم ، والضحاك بن قيس الفهري ، وزياد بن عبيد الثقفي الذي ألحقه بنسبه فقيل زياد بن أبي سفيان ، وسمرة بن جندب ، وعمرو بن حريث ، وغيرهم حيث ولاّهم أهم البلدان والمناصب ؛ لكي يضبط تطبيق هذه السياسة.

٥٤

ونحن حين نمعن النظر في بنود تلك السياسة نجدها جميعاً ممّا خالف فيه معاوية الكتاب وسنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛

فَلَعْنُ علي عليه‌السلام ، وتربيةُ الناس على بغضه مخالفةٌ صريحة لما أَمَرَ به الله ورسوله في إيجاب مودّته وولايته.

والنهيُّ عن رواية أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في فضل عليٍّ عليه‌السلام ومنزلته مخالفة صريحة لأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بتبليغ سنّته إلى مَنْ لم يسمعها.

ووضعُ الحديث في ذمّ علي عليه‌السلام ، ومدح أناس لم يمدحهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كذبٌ متعمَّدٌ على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يستحق فاعله النار ؛ لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَنْ كذب عليَّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار» (١).

وترويعُ المؤمنين وإخافتهم ، وسجنهم وقتُّهم لأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر مخالفة لكتاب الله ورسوله ، استحق فاعلها النار بنصّ من القرآن (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) آل عمران / ٢١.

هذا مضافاً إلى مخالفات صريحة اُخرى لكتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، من قبيل : استلحاقِه زياد بن عبيد ، وهو ردٌ صريحٌ لقضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومن قبيل أمره بترك التلبية نهارَ عرفة قبل الزوال (٢) ، وهو ردٌ صريحٌ لسنّة النبي في التلبية في الحج.

__________________

(١) ‏ صحيح البخاري ٢ / ٨١ ، و ٧ / ١١٨ طبعة دار الفكر ، صحيح مسلم ١ / ٨ طبعة دار الفكر.

(٢) روى النسائي في السنن الكبرى ، والحاكم في المستدرك ١ / ٦٣٦ : عن ميسرة بن حبيب ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير قال : كنّا مع ابن عباس بعرفات فقال : ما لي لا أسمع الناس يلبّون؟ فقلت : يخافون من معاوية ، فخرج ابن عباس من فسطاطه فقال : لبيك اللّهمّ لبيك ؛ فإنّهم قد تركوا السنّة من بعد علي. قال في تقريب التهذيب : ميسرة بن حبيب النهدي بفتح النون أبو حازم الكوفي صدوق من السابعة بخ د ت س.

٥٥

ومن قبيل أمره بتحريم متعة الحج ، وهو مخالفةٌ صريحةٌ لكتاب الله وسنّة النبي.

ومن قبيل تعطيله حدّ السرقة في سارق لتشفّع أمّ السارق فيه (١).

ومن قبيل حرمان قربى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من خمس الغنائم وهو مخالفة صريحة للقرآن وسنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومن قبيل أمره لقادة الفتوح بأن يستصفوا له ذهب الغنائم وفضّتها قبل القسمة ، وغير ذلك.

وفيما يلي الحديث عن بنود تلك السياسة ، وجملة من تلك المخالفات.

استلحاق زياد :

قال محمود أحمد شاكر في كتابه العهد الاُموي / ٢٤ ـ ٢٧ : واتُّهم معاوية بادّعاء زياد بن أبيه ونسبته إلى أبي سفيان ، فكيف قَبِلَ زياد هذا الكلام أمامه؟ وكيف قبِل معاوية؟ وكيف رضي المسلمون بهذه المخالفة الصريحة من الإمام؟ فهل ضاع الإحساس وضاع الدين ولا يزال الصحابة أحياء؟! (٢)

وهذا الكاتب كما نلاحظ يحاول أن ينكر مسألة استلحاق معاوية لزياد ، وجعلها تهمة عليه وليست حقيقة.

وقد ردَّ عليه أحد الباحثين المعاصرين (٣) من أبناء مذهبه قائلاً : إنّ استلحاق زياد ثابت عند أهل العلم والمحدّثين. ثمّ أورد كلام ابن حجر وكلام الشوكاني.

قال ابن حجر وهو يشرح ما ورد في البخاري (قوله : أنّ زياد بن أبي سفيان) : كذا وقع في الموطأ ، وكأنّ شيخ مالك حدّث به كذلك في زمن بني اُميّة ، وأمّا بعدهم فما كان

__________________

(١) روى البلاذري ق ٤ ج ١ / ١٢٣ قال : أتي معاوية بشاب قد سرق ، فأمر بقطع يده ، فقال شعراً يستعطفه ، ثمّ جاءت أمّه وهي تبكي وتطلب منه أن يعفو عنه فخلى سبيله.

(٢) إنقاذ التاريخ الإسلامي / ٣٠.

(٣) ‏ هو الأستاذ حسن فرحان المالكي في كتابه نحو إنقاذ التاريخ الإسلامي.

٥٦

يُقال له إلاّ زياد بن أبيه (١) ، وقبل استلحاق معاوية له كان يُقال له : زياد بن عبيد ، وكانت أمّه سمية مولاة الحارث بن كلدة الثقفي تحت عبيد المذكور ، فولدت زياداً على فراشه فكان ينسب إليه ، فلمّا كان في خلافة معاوية شهد جماعة على إقرار أبي سفيان بأنّ زياداً ولده ، فاستلحقه معاوية لذلك وزوّج ابنه ابنته ، وأمّر زياداً على العراقين البصرة والكوفة جمعهما له ، ومات في خلافة معاوية سنة ثلاث وخمسين (٢).

قال الشوكاني بعد أن أورد نظير كلام ابن حجر : وقد أنكر هذه الواقعة على معاوية مَنْ أنكرها … وقد أجمع أهل العلم على تحريم نسبته إلى أبي سفيان ، وما وقع في زمان بني اُميّة فإنّما هو تقية (٣).

أقول : قال العلاّمة عبد الرحمن بن أبي بكر (ت ٩١١ هجرية) في شرحه لصحيح مسلم : (لمّا ادُّعي زياد) بضم الدال مبني للمجهول ، أي ادّعاه معاوية وألحقه بأبيه أبي سفيان بعد أن كان يُعرف بزياد بن أبيه ؛ لأنّ أمّه ولدته على فراش عبيد ، وهذه أوّل قضية غُيِّرَ فيها الحكم الشرعي في الإسلام (٤).

وقوله (أوّل قضية غُيِّرَ فيها الحكم الشرعي) : إشارة إلى ما عُرِف من قضاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في مثل هذه القضية حيث هدم حكم الجاهليّة.

قال الخطابي وتبعه عياض والقرطبي وغيرهما : كان أهل الجاهليّة يقتنون الولائد

__________________

(١) بقي بعضهم يسمّيه زياد بن أبي سفيان من قبيل يحيى بن معين في تاريخه ٣ / ٣٤٥ في ترجمة أبي الحواري. قال يحيى : مولى لولد زياد بن أبي سفيان. والمزي في تهذيب الكمال في ترجمة قزعة بن يحيى ، ويُقال : ابن الأسود أبو الغادية البصري مولى زياد بن أبي سفيان.

(٢) فتح الباري ٣ / ٥٤٧.

(٣) نيل الأوطار ـ للشوكاني.

(٤) الديباج على صحيح مسلم ١ / ٨٤ طبعة السعودية ٤١٦. أقول : يصدق كلامه إذا قيدناه بفترة ما بعد علي والحسن وإلاّ فإنّ قبلهما قد غيّرت أحكام كثيرة علناً من قبل السلطة ، من قبيل تغيير حكم متعة الحجّ وغيره.

٥٧

ويقرّرون عليهنّ الضرائب ، فيكتسبن بالفجور ، وكانوا يلحقون النسب بالزناة إذا ادّعوا الولد. وكان لزمعة أمّة وكان يلمّ بها ، فظهر بها حمل زعم عتبة بن أبي وقاص أنّه منه ، وعهد إلى أخيه سعد أن يستلحقه ، فخاصم فيه عبد بن زمعة ، فقال له سعد : هو ابن أخي على ما كان عليه الأمر في الجاهليّة. وقال عبد : هو أخي على ما استقر عليه الأمر في الإسلام ، فأبطل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حكم الجاهليّة وألحقه بزمعة ، وقال : «الولد للفراش وللعاهر الحجر» (١).

__________________

(١) روى البخاري قال : حدّثنا يحيى بن قزعة ، حدّثنا مالك ، عن بن شهاب ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة (رضي الله تعالى عنها) قالت : كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أنّ ابن وليدة زمعة منّي فاقبضه. قالت : فلمّا كان عامّ الفتح أخذه سعد بن أبي وقاص وقال : ابن أخي قد عهد إليّ فيه. فقام عبد بن زمعة فقال : أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه. فتساوقا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال سعد : يا رسول الله ، ابن أخي كان قد عهد إليّ فيه. فقال عبد بن زمعة : أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «هو لك يا عبد بن زمعة». ثمّ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الولد للفراش وللعاهر الحجر». ثم قال لسودة بنت زمعة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «احتجبي منه» ؛ لِما رأى من شبهه بعتبة ، فما رآها حتّى لقي الله (مختصر صحيح البخاري ٢ / ٧٢٤). وروى أبو داود حدّثنا موسى بن إسماعيل ، ثنا مهدي بن ميمون أبو يحيى ، ثنا محمّد بن عبد الله بن أبي يعقوب ، عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي بن أبي طالب (رضي الله تعالى عنه) ، عن رباح قال : زوّجني أهلي أمة لهم رومية ، فوقعت عليها فولدت غلاماً أسود مثلي فسمّيته عبد الله ، ثمّ وقعت عليها فولدت غلاماً أسود مثلي فسمّيته عبيد الله. ثمّ طبن لها غلام لأهلي رومي يُقال له : يوحنه ، فراطنها بلسانه فولدت غلاماً كأنّه وزغة من الوزغات ، فقلت لها : ما هذا؟ فقالت : هذا ليوحنه. فرفعنا إلى عثمان ـ أحسبه قال : مهدي ـ قال : فسألهما فاعترفا ، فقال لهما : أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قضى أنّ الولد للفراش ، وأحسبه قال : فجلدها وجلده وكان مملوكين. (سنن أبي داود ٢ / ٢٨٣). وروى أحمد قال : حدّثنا عبد الله ، حدّثني أبي ، ثنا محمّد بن جعفر ، ثنا سعيد ويزيد بن هارون ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن عمرو بن خارجة قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمنى وهو على راحلته ... فقال : «... الولد للفراش وللعاهر الحجر ، ألا ومَنْ ادّعى إلى غير أبيه أو تولّى غير مواليه رغبة عنهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً» (مسند أحمد ٤ / ٢٣٨).

٥٨

قال ابن الأثير :

كان استلحاق معاوية لزياد أوّل ما رُدّت أحكام الشريعة علانية ... ، ثمّ ذكر اعتذار البعض عن معاوية ، ثمّ علق عليه قائلاً : وهذا مردود لاتّفاق المسلمين على إنكاره (١).

روى ابن عساكر عن سعيد بن المسيب أنّه قال : أوّل مَنْ ردّ قضاء رسول الله دعوة معاوية في زياد (٢).

معاوية يستصفي الذهب والفضة من الغنائم :

روى الطبراني (٣) قال : استعمل الغفاري على خراسان ، فبلغ ذلك عمران بن الحصين ، فطلب الحكم حتّى لقيه ، فقال : ما زلت أطلبك منذ اليوم ؛ إنّك بعثت على أمر عظيم ، أتذكر يوم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا طاعة لمخلوق في معصية الله»؟ قال : نعم. قال عمران : الله أكبر! حسبت نسيت.

وفي رواية أحمد ، عن الحسن : أنّ زياداً استعمل الحكم بن عمرو الغفاري على جيش ، فلقيه عمران بن حصين في دار الإمارة بين الناس ، فقال : هل تدري فيما جئتك؟ أما تذكر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا بلغه الذي قال له أميره : فقم فقع في النار ، فقام الرجل ليقع فاُدرك فأمسك ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لو وقع فيها لدخلا النار ؛ لا طاعة لمخلوق في معصية الله تبارك وتعالى» (٤).

ويتضح الهدف من تذكير عمران للحكم من الرواية التالية :

روى الحاكم قال : حدّثني أبو بكر بن بالويه ، ثنا محمّد بن أحمد بن النضر ، ثنا معاوية بن عمرو ، عن أبي إسحاق الفزاري ، عن هشام ، عن الحسن قال : بعث زياد الحكم بن

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٣ / ٤٤٥.

(٢) مختصر تاريخ دمشق ٩ / ٧٨.

(٣) في المعجم الكبير ١٨ / ١٨٤.

(٤) المسند أحمد بن حنبل ٥ / ٦٦ ، ٣ / ٥٠١.

٥٩

عمرو الغفاري على خراسان ، فأصابوا غنائم كثيرة فكتب إليه : أمّا بعد ، فإنّ أمير المؤمنين كتب أن يصطفي له البيضاء والصفراء ، ولا تقسم بين المسلمين ذهباً ولا فضة. فكتب إليه الحكم : أمّا بعد ، فإنّك كتبت تذكر كتاب أمير المؤمنين ، وإنّي وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين ، وإنّي أقسم بالله لو كانت السماوات والأرض رتقاً على عبد فاتقى الله ، لجعل له من بينهم مخرجاً ، والسلام.

ثمّ أمر الحكم منادياً فنادى : أن اغدوا على فيئكم فقسمه بينهم. وأنّ معاوية لمّا فعل الحكم في قسمة الفيء ما فعل وجّه إليه مَنْ قيده وحبسه ، فمات في قيوده ودفن فيها ، وقال : إنّي مُخاصِم (١).

قال ابن حجر في الإصابة : الحكم بن عمرو أبو عمرو الغفاري أخو رافع ، ويُقال له : الحكم بن الأقرع. روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحديثه في البخاري والأربعة. روى عنه أبو الشعثاء ، وأبو حاجب ، وعبد الله بن الصامت ، والحسن ، وابن سيرين وغيرهم. قال ابن سعد : صحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى مات ، ثمّ نزل البصرة وولاّه زياد خراسان فمات بها. وروي عن أوس بن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه : أنّ معاوية عتب عليه في شيء ، فأرسل عاملاً غيره فقيّده ، فمات في القيد سنة خمس وأربعين. وقال المدائني : مات سنة خمسين. وقال العسكري : سنة إحدى وخمسين.

قال ابن حبان في مشاهير علماء الأمصار ١ / ٦٠ : الحكم بن عمرو بن مجدع الغفاري له صحبة ، خرج إلى خراسان غازياً ، وله قصّة طويلة ليس غرض الكتاب يحتملها ، حتّى أمر معاوية بقيده فقيّد بمرو ، فبقي في قيده حتّى مات سنة خمسين في ولاية معاوية ، وأوصى أن يدفن بقيده ليخاصِم أبا عبد الرحمن (أي معاوية) في القيامة ، فدفن بقيده بمرو ، وقبره بجنب بريدة الأسلمي.

__________________

(١) المستدرك ١ / ٥٠١.

٦٠