الحسين عليه السلام في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام

السيّد سامي البدري

الحسين عليه السلام في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام

المؤلف:

السيّد سامي البدري


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: ياسين
الطبعة: ١
ISBN: 964-499-093-5
الصفحات: ٥٢٧

قال ابن عنبة (١) : وكان الحسن بن الحسن يتولّى صدقات أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، ونازعه فيها زين العابدين علي بن الحسين عليه‌السلام ، ثمّ سلّمها له.

قال الأبطحي : الظاهر أنّ ما ذكره في عمدة الطالب غير صحيح ، فإنّ الولي لها شرعاً حسب وقف أربابها هو علي بن الحسين عليه‌السلام ، كما إنّ الحكومة الخارجية أثبتتها وأرجعتها إليه كما صرحوا بذلك ، ولعله كان بأمره وإذنه عليه‌السلام تفضّلاً منه.

وروى الكليني (٢) في باب النصّ على أبي جعفر عليه‌السلام بطرق فيها الحسن كالصحيح وغيره عن أبي عبد الله عليه‌السلام يقول : «إنّ عمر بن عبد العزيز كتب إلى ابن حزم (واليه على القضاء بالمدينة) أن يرسل إليه بصدقة علي عليه‌السلام وعمر وعثمان ، وابن حزم بعث إلى زيد بن الحسن ، وكان أكبرهم ، فسأله عن الصدقة ، فقال زيد : إنّ الوالي كان بعد علي عليه‌السلام الحسن ، وبعد الحسن الحسين ، وبعد الحسين علي بن الحسين ، وبعد علي بن الحسين محمد بن علي ، فابعث إليه».

ولمّا ولّى عبد الملك الحجّاج بن يوسف على مكّة والمدينة واليمن ، واتصل به عمر بن علي عليه‌السلام ، فسأله أن يدخله في صدقات أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال الحسن : لا اُغيّر شرط علي عليه‌السلام ، ولا اُدخل فيها مَنْ لم يدخل. فقال له الحجّاج : إذاً أدخله أنا معك. فتوجّه الحسن إلى عبد الملك بالشام ودخل عليه فأخبره بقول الحجّاج ، فقال : ليس له ذلك. وكتب إلى الحجّاج كتاباً في ذلك.

وروى ابن عساكر بسنده عن الزبير بن بكار قال : وكان الحسن بن الحسن وصي أبيه وولي صدقة علي بن أبي طالب في عصره ، وكان الحجّاج بن يوسف قال له يوماً وهو يسايره في موكبه بالمدينة (وحجّاج يومئذ أمير المدينة) : أدخل عمّك عمر بن علي معك في صدقة علي ؛ فإنّه عمّك وبقية أهلك. قال : لا اُغيّر شرط علي ، ولا اُدخل فيها مَنْ

__________________

(١) عمدة الطالب / ٩٩.

(٢) أصول الكافي ١ / ٣٠٥.

٤٦١

لم يدخل. قال : إذاً أدخله معك. فنكص عنه الحسن حين غفل الحجّاج ، ثم كان وجهه إلى عبد الملك حتّى قدم عليه ، فوقف ببابه يطلب الإذن ، فمرّ به يحيى بن الحكم ، فلمّا رآه يحيى عدل إليه فسلّم عليه ، وسأله عن مقدمه وخبره ، وتحفّى به ، ثمّ قال : إنّي سأنفعك عند أمير المؤمنين (يعني عبد الملك). فدخل الحسن على عبد الملك فرحّب به ، وأحسن مساءلته (وكان الحسن بن الحسن قد أسرع إليه الشيب) ، فقال له عبد الملك : لقد أسرع إليك الشيب. (ويحيى بن الحكم في المجلس). فقال له يحيى : وما يمنعه يا أمير المؤمنين! شيبه أماني أهل العراق ؛ كلّ عام يقدم عليه ركب يمنّونه الخلافة. فأقبل عليه الحسن بن الحسن فقال : بئس والله الرفد رفدت! وليس كما قلت ، ولكنّا أهل بيت يسرع إلينا الشيب. وعبد الملك يسمع ، فأقبل عليه عبد الملك فقال : هلمّ ما قدمت له. فأخبره بقول الحجّاج ، فقال : ليس ذلك له ، اكتبوا له كتاباً لا يجاوزه. فوصله وكتب له ، فلمّا خرج من عنده لقيه يحيى بن الحكم فعاتبه الحسن على سوء محضره ، وقال : ما هذا الذي وعدتني. فقال له يحيى : إيهاً عنك! والله لا يزال يهابك ، ولولا هيبته إياك ما قضى لك حاجة ، وما ألوتك رفداً (١).

قال الأبطحي : يظهر من ذلك عدم صحة ما نسب إليه في دعوى الإمامة ؛ ولذلك سعى عليه كذباً إلى عبد الملك بن مروان ووليد بن عبد الملك.

قال ابن عنبة عند ذكر الحسن بن الحسن عليه‌السلام (٢) : وكان عبد الرحمان بن الأشعث قد دعا إليه وبايعه ، فلمّا قُتل عبد الرحمان توارى الحسن.

وقيل لعبد الملك : إنّ أهل العراق يدعونه إلى الخروج معهم عليك ، فعاتب الحسن بن الحسن عليه‌السلام ، فجعل يعتذر إليه ويحلف له ، فكلّمه خالد بن يزيد بن معاوية في قبول عذره (٣).

__________________

(١) تاريخ دمشق ابن عساكر ترجمة الحسن بن الحسن.

(٢) عمدة الطالب / ١٠٠.

(٣) الأغاني ـ لأبي الفرج ١٣ / ١٥.

٤٦٢

ولمّا أمره هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة والي عبد الملك على المدينة أن يشتم آل علي علياً عليه‌السلام ، وآل الزبير عبد الله بن الزبير ، وأبوا جميعاً وكتبوا وصاياهم ، فأمر الوالي بإرشاد أخته أن يشتم آل علي آل الزبير وآل الزبير آل علي ، فكان الحسن بن الحسن عليه‌السلام أوّل مَنْ أقيم إلى جانب المنبر ، وكان رجلاً رقيق البشرة عليه يومئذ قميص كتّان رقيق فأمره هشام بسب آل الزبير فامتنع ، وقال : إنّ لآل الزبير رحماً ، يا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار؟! فأمر هشام حرسياً عنده أن اضربه ، فضربه سوطاً واحداً من فوق قميصه ، فخلص إلى جلده فسرّحه حتّى سال دمه تحت قدمه في المرمر (١).

وقيل للوليد بن عبد الملك : إنّ الحسن بن الحسن عليه‌السلام يكاتب أهل العراق ، فكتب إلى عامله بالمدينة عثمان بن حيّان المري : انظر الحسن بن الحسن فاجلده مئة ضربة ، وقفه للناس يوماً ، ولا أراني إلاّ قاتله. فجيء بالحسن والخصوم بين يديه ، فقام إليه علي بن الحسين عليه‌السلام فقال : «أخي ، تكلّم بكلمات الفرج يفرّج الله عنك : لا إله إلاّ الله الحكيم الكريم ، سبحان الله ربّ السماوات السبع وربّ العرش العظيم ، الحمد لله ربّ العالمين». فلمّا قالها انفرجت فرجة من الخصوم ، فرآه عثمان فقال : أرى وجه رجل قد افتُريت عليه كذبة ، خلّوا سبيله وأنا كاتب إلى أمير المؤمنين بعذره ، فإنّ الشاهد يرى ما لا يراه الغائب. وقيل : إنّ والي المدينة كان يومئذ هشام بن إسماعيل (٢).

قال المفيد (٣) : وقبض الحسن بن الحسن عليه‌السلام وله خمس وثلاثون سنة رحمه‌الله ، وأخوه زيد بن الحسن حي ، ووصى إلى أخيه من أمّه إبراهيم بن محمد بن طلحة.

وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق ١١ / ١١٠ بإسناده عن مصعب قال : وتوفي الحسن بن الحسن فأوصى إلى إبراهيم بن محمد بن طلحة ، وهو أخوه لاُمّه.

__________________

(١) ذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق ١١ / ١٠٨.

(٢) ذكره ابن عساكر في ترجمته ١١ / ١٠٧ ، ورواه نحوه بطريق آخر لكن فيها : إنّ الوالي كان هشام بن إسماعيل. ورواه النسائي في كلمات الفرج كما في تهذيب التهذيب.

(٣) الإرشاد / ١٩٧.

٤٦٣

وقال في عمدة الطالب (١) : دس إليه الوليد بن عبد الملك مَنْ سقاه سمّاً فمات وعمره إذ ذاك خمس وثلاثون سنة ، وكان يشبه برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قال الأبطحي : إنّه رحمه‌الله أدرك أباه عليه‌السلام وروى عنه ، ولا تصح روايته عنه إلاّ إذا كان له من العمر ما يصح في مثله الرواية ، وقد مضى أبوه الإمام السبط أبو محمد الحسن عليه‌السلام شهيداً في صفر سنة خمسين كما صرّح بذلك المفيد في الإرشاد ، وابن عنبة في عمدة الطالب. وقد حضر مع عمّه كربلاء سنة (٦١). وعانده الحجّاج أيّام إمارته على الحجاز سنة (٧٣) أو بعدها في توليه الصدقات ، وفي تشييع جنازة جابر الأنصاري الصحابي ودخوله قبره سنة (٧٨) قبل دخول عبد الملك المدينة ، وعزله الحجّاج عن الحجاز. وروى عن الحسن المثنى الحسن المثلث ابنه المولود سنة (٧٧) على ما يأتي ، ولا تصح روايته إلاّ بعد سنين من ولادته. وفي سنة (٨٥) أو ما يقاربها اُقيم بأمر هشام بن إسماعيل والى المدينة إلى جانب منبر مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمره بسبب الزبي فامتنع فضرب بسوط حتّى سال الدم تحت قدمه في المرمر كما تقدّم. ولعل ذلك كان حين ما أمر عبد الملك واليه بأخذ البيعة من الناس عند عقده العهد من بعده لولده ، وعند ذلك ضرب سعيد بن المسيب ستين سوطاً وصمم. ذكره اليافعي في سنة (٨٥) ، وبويع للوليد بن عبد الملك سنة (٨٦) ، وكتب إلى عثمان بن حيّان عامله بالمدينة أن أجلد الحسن بن الحسن عليه‌السلام مئة ضربة ، وقفه للناس يوماً ، ولا أراني إلاّ قاتله (الحديث كما تقدّم). ولعله لذلك ذكر في العمدة كما تقدّم : أنّ الوليد دسّ مَنْ سقاه سمّاً. وقال في تهذيب التهذيب ٣ / ٢٦٣ في ترجمته : قرأت بخطّ الذهبي مات سنة (٩٧). قال : فإن صح ذلك فهذا في أيام سليمان بن عبد الملك فقد مات الوليد سنة (٩٦). وقد ظهر من ذلك كلّه أنّ ما في الإرشاد وعمدة الطالب في مدّة عمر الحسن بن الحسن عليه‌السلام غير مستقيم ، ولعله كان فيهما تصحيفاً من النّساخ.

__________________

(١) قال الأبطحي : وفيه أقوال اُخر : سنة ٤٤ ، أو ٤٩ ، أو ٥١ ، أو ٥٦ ، أو ٥٨ ، أو ٥٩.

٤٦٤

قال الشيخ المفيد : ومضى الحسن بن الحسن ولم يدّعِ الإمامة ، ولا ادّعاها له مدّعٍ كما وصفناه في حال أخيه زيد رحمه‌الله (١).

أقول : وأعقب الحسن المثنى من خمسة رجال ؛ عبد الله المحض ، وإبراهيم الغمر ، والحسن المثلث ، واُمّهم فاطمة بنت الحسين بن علي ، ومن داود ، وجعفر ، واُمّهما اُمّ ولد رومية تدعى جيبة (٢) ، فعقبه خمسة أسباط (٣).

زيد بن الحسن بن علي عليه‌السلام :

قال ابن عنبة : وكان زيد يُكنّى أبا الحسين. وقال الموضح النسابة : أبا الحسن ، وكان يتولّى صدقات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتخلّف عن عمّه الحسين فلم يخرج معه إلى العراق ، وبايع بعد قتل عمّه الحسين عبد الله بن الزبير ؛ لأنّ أخته لأمّه وأبيه كانت تحت عبد الله بن الزبير. قاله أبو النصر البخاري. فلمّا قُتل عبد الله أخذ زيد بيد أخته ورجع إلى المدينة ، وله في ذلك مع الحجّاج قصّة ، وكان زيد بن الحسن جواداً ممدوحاً ، عاش مئة سنة ، وقيل : خمساً وتسعين ، وقيل : تسعين. ومات بين مكّة والمدينة بموضع يُقال له : حاجر ، واُمّ زيد فاطمة بنت أبي مسعود.

قال الشيخ المفيد : زيد بن الحسن رحمه‌الله فكان على صدقات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأسن ، وكان جليل القدر ، كريم الطبع ، كثير البرّ. ومدحه الشعراء ، وقصده الناس من الآفاق لطلب فضله ؛

فذكر أصحاب السيرة أنّ زيد بن الحسن كان يلي صدقات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا ولي سليمان بن عبد الملك كتب إلى عامله بالمدينة : أمّا بعد ، فإذا جاءك كتابي هذا فاعزل

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٢٦.

(٢) وهي التي علّمها الإمام الصادق عليه‌السلام الدعاء المعروف بدعاء اُمّ داود ، وكان به خلاص ابنها داود من الحبس.

(٣) عمدة الطالب ـ ابن عنبة / ١٠١.

٤٦٥

زيداً عن صدقات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وادفعها إلى فلان بن فلان ـ رجل من قومه ـ وأعنه على ما استعانك عليه ، والسّلام.

فلمّا استخلف عمر بن عبد العزيز إذا كتاب قد جاء منه : أمّا بعد ، فإنّ زيد بن الحسن شريف بني هاشم ، وذو سنّهم ، فإذا جاءك كتابي هذا فاردد إليه صدقات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأعنه على ما استعانك عليه ، والسّلام.

وفي زيد بن الحسن يقول محمد بن بشير الخارجي :

إذا نزلَ ابنُ المصطفى بطنَ تلعةٍ (١)

نفى جدبها واخضرَّ بالنبتِ عودُها

وزيدٌ ربيعُ الناسِ في كلِّ شتوةٍ

إذا أخلفت أنواؤها (٢) ورعودُها

وروى ابن عساكر عن ابن وهب ، حدّثني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري قال : بلغني أنّ الوليد بن عبد الملك كتب إلى زيد بن حسن بن علي يسأله أن يبايع لعبد العزيز بن الوليد ويخلع سليمان بن عبد الملك ، ففرق زيد بن الحسن من الوليد فأجابه ، فلمّا استخلف سليمان وجد كتاب زيد بن حسن إلى الوليد بذلك ، فكتب إلى أبي بكر بن حزم (وهو أمير المدينة) ادع زيد بن حسن وأقرأه هذا الكتاب ، فإن عرفه فاكتب إليّ بذلك ، وإن هو نَكَل فقدِّمه فاصبر يمينه على منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما كتب بهذا الكتاب ولا أمر به.

قال : فأرسل إليه أبو بكر بن حزم فأقرأه الكتاب.

فقال : أنظرني ما بيني وبين العشاء أستخير الله عزّ وجلّ.

قال : فأرسل زيد بن حسن إلى القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله يستشيرهما في ذلك ، قال فأقاما ربيعة معهما ، فذكر لهما ذلك وقال لهما : إنّي لم أكن آمن الوليد على دمي لو لم أجبه ، فقد كتبت هذا الكتاب فترون أن أحلف؟ فقالوا : لا تحلف ولا تبارز الله عند

__________________

(١) التلعة : مسيل ماء من أعلى الأرض إلى بطن الوادي.

(٢) الأنواء : جمع نوء ، وهو سقوط نجم وطلوع نجم ، وكانت العرب تنسب المطر إلى الأنواء ، فتقول : مطرنا بنوء كذا.

٤٦٦

منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّا نرجو أن ينجيك الله بالصدق. فأقرَّ بالكتاب ولم يحلف ، فكتب بذلك أبو بكر ، فكتب سليمان إلى أبي بكر أن يضربه مئة سوط ، ويدر عنه عباءة ، ويمشيه حافياً.

قال : فحبس عمر بن عبد العزيز الرسول في غسل سليمان وقال : لا تخرج حتّى اُكلّم أمير المؤمنين فيما كتب في زيد بن حسن ؛ لعلّي أستطيب نفسه فيترك هذا الكتاب.

قال : فجلس الرسول ، ومرض سليمان ، فقال للرسول : لا تخرج فإنّ أمير المؤمنين مريض. قال : إلى أن رمي في جنازة سليمان ، وأفضى الأمر إلى عمر بن عبد العزيز فدعا بالكتاب فحرقه (١).

قال ابن عنبة : وكان لزيد ابنة اسمها نفيسة خرجت إلى الوليد بن عبد الملك بن مروان فولدت منه ، ماتت بمصر ولها هناك قبر يزار ، وهي التي تسمّيها أهل مصر (الست نفيسة) ويعظّمون شأنها ، ويقسمون بها. وقد قيل : إنّ صاحبة القبر بمصر نفيسة بنت الحسن بن زيد ، وإنّها كانت تحت إسحاق بن جعفر الصادق.

توفي زيد بالبطحاء على ستة أميال من المدينة سنة (١٢٠) وله تسعون سنة ، وحمل إلى البقيع ، فرثاه جماعة من الشعراء وذكروا مآثره ، ويحكوا فضله. فممّن رثاه قدامة بن موسى الجمحي فقال :

فإن يكُ زيدٌ غالت الأرضُ شخصَه

فقد بانَ معروفٌ هناك وجودُ

وإن يكُ أمسى رهنَ رمسٍ فقد ثوى

بهِ وهو محمودُ الفعالِ فقيدُ

سميعٌ إلى المعترّ يعلمُ أنّه

سيطلبهُ المعروفُ ثمّ يعودُ

وليس بقوّالٍ وقد حطّ رحله

لملتمسِ المعروفِ أينَ تريدُ

إذا قصرَ الوغدُ الدني نما به

إلى المجدِ آباءٌ لهُ وجدودُ

مباذيلُ للمولى محاشيدُ للقرى

وفي الروعِ عندَ النائباتِ اُسودُ

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ١٩ / ٣٧٩.

٤٦٧

إذا انتحلَ العزّ الطريف فإنّهم

لهم إرثُ مجدٍ ما يرامُ تليدُ

إذا مات منهم سيدٌ قامَ سيدٌ

كريمٌ يبّني بعدهُ ويشيدُ

والعقب منه في ابنه الحسن بن زيد ، ويُكنّى أبا محمد ، كان أمير المدينة من قبل المنصور الدوانيقي ، وعمل له على غير المدينة أيضاً ، وكان مظاهراً لبني العباس على بني عمّه الحسن المثنى ، وهو أوّل مَنْ لبس السواد من العلويين ، وبلغ من السن ثمانين سنة ، وتوفّي ـ على ما قال ابن الخداع ـ بالحجاز سنة ثمان وستين ومئة ، وأدرك زمن الرشيد ، ولا عقب لزيد إلاّ منه.

أعقب الحسن بن زيد بن الحسن من سبعة رجال وهم ؛ القاسم وعلي ، وإسماعيل وإبراهيم ، وزيد وعبد الله وإسحاق (١).

قال الشيخ المفيد رحمه‌الله : وخرج زيد بن الحسن رحمه‌الله من الدنيا ولم يدّعِ الإمامة ، ولا ادّعاها له مدّعٍ من الشيعة ولا غيرهم ، وذلك إنّ الشيعة رجلان ؛ إمامي وزيدي.

فالإمامي يعتمد في الإمامة النصوص ، وهي معدومة في ولد الحسن عليه‌السلام باتفاق ، ولم يدّعِ ذلك أحد منهم لنفسه فيقع فيه ارتياب.

والزيدي يراعي في الإمامة بعد علي والحسن والحسين عليهم‌السلام الدعوة والجهاد ، وزيد بن الحسن (رحمة الله عليه) كان مسالماً لبني اُميّة ، ومتقلّداً من قبلهم الأعمال ، وكان رأيه التقية لأعدائه ، والتألّف لهم والمداراة ، وهذا يُضاد عند الزيدية علامات الإمامة كما حكيناه (٢).

__________________

(١) انظر المجدي في أنساب الطالبيِّين ـ للسيد علي بن محمد العلوي العمري النسابة أعلام القرن الخامس / ٢٠٢ ، وأيضاً عمدة الطالب.

(٢) الإرشاد ـ الشيخ المفيد ٢ / ٢٠.

٤٦٨

ذرّية الحسين عليه‌السلام

علي بن الحسين عليه‌السلام :

علي بن الحسين ، المعروف بزين العابدين ، وأيضاً بالسجّاد عليه‌السلام. وذريّة الحسين منه ، وقد سجّلت له كتب التراجم السنيّة سيرة عبقة متميّزة في الورع والعبادة والعلم. كما سجّلت لولده الباقر عليه‌السلام وحفيده الصادق عليه‌السلام السيرة نفسها.

قال جمال الدين في عمدة الطالب ، عن كتاب مناقب بني هاشم للجاحظ أنّه قال في حق زين العابدين علي بن الحسين عليه‌السلام ما نصّه : وأمّا علي بن الحسين بن علي فلم أَرَ الخارجي في أمره إلاّ كالشيعي ، ولم أَرَ الشيعي إلاّ كالمعتزلي ، ولم أَرَ المعتزلي إلاّ كالعامي ، ولم أَرَ العامي إلاّ كالخاصي ، ولم أجد أحداً يتمارى في تفضيله ويشك في تقديمه (١).

قال ابن حجر : علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي زين العابدين ، ثقة ، ثبت ، عابد ، فقيه ، فاضل مشهور (٢).

وقال أبو بكر بن البرقي : ونسل الحسين بن علي كلّه من قِبل علي الأصغر ، واُمّه اُمّ ولد ، وكان أفضل أهل زمانه (٣).

__________________

(١) مناهل الضرب ـ للأعرجي / ٣٨٨.

(٢) تقريب التهذيب.

(٣) تهذيب الكمال.

٤٦٩

وقال ابن حبان : علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو الحسن ، من فقهاء أهل البيت (١).

روى ابن عساكر عن الزهري قال : كان علي بن الحسين من أفضل أهل بيته وأفقههم ، وأحسنهم طاعة ، وأحبّهم إلى مروان بن عبد الحكم وعبد الملك بن مروان (٢).

وروى عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري قال : لم أدرك من أهل البيت أفضل من علي بن الحسين.

وروى عن زيد بن أسلم قال : ما جالست في أهل القبلة مثله (يعني علي بن الحسين) (٣).

وروى عن أبي حازم أنّه كان يقول : ما رأيت هاشمياً أفضل من علي بن الحسين (٤).

وروى عن مالك أنّه قال : لم يكن في أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مثل علي بن الحسين (٥).

وقال ابن سعد : كان علي بن حسين ثقة مأموناً ، كثير الحديث ، عالياً رفيعاً ورعاً.

وهو عند يحيى بن سعيد الأنصاري أفضل هاشمي رآه بالمدينة (٦).

وهو عند سعيد بن المسيب أورع مَنْ رآه.

وقال مصعب بن عبد الله الزبيري عن مالك : ولقد أحرم علي بن الحسين ، فلمّا أراد أن يقول : لبيك ، قالها فأغمي عليه حتّى سقط من ناقته فهشم ، ولقد بلغني أنّه كان يصلّي في كلّ يوم وليلة ألف ركعة إلى أن مات ، وكان يسمّى بالمدينة زين العابدين لعبادته.

__________________

(١) مشاهير علماء الأمصار ١ / ٦٣.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ١٤ / ٣٧١.

(٣) تاريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ١٤ / ٣٧٣.

(٤) تاريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ١٤ / ٣٧٣.

(٥) تاريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ١٤ / ٣٧٣.

(٦) تهذيب الكمال ـ ترجمة علي بن الحسين بن أبي طالب.

٤٧٠

وقال سفيان بن عيينة عن أبي حمزة الثمالي : إنّ علي بن الحسين كان يحمل الخبز بالليل على ظهره يتتبع المساكين في ظلمة الليل ، ويقول : «إنّ الصدقة في سواد الليل تطفئ غضب الربّ» (١).

وقال جرير بن عبد الحميد عن عمرو بن ثابت : لمّا مات علي بن الحسين وجدوا بظهره أثراً ، فسألوا عنه ، فقالوا : هذا ممّا كان ينقل الجرب بالليل على ظهره إلى منازل الأرامل.

وقال محمد بن زكريا الغلابي ، حدّثنا عبيد الله بن محمد بن عائشة قال : حدّثني أبي وغيره أنّ هشام بن عبد الملك حجّ في خلافة عبد الملك أو الوليد ، فطاف بالبيت وأراد أن يستلم الحجر فلم يقدر عليه من الزحام ، فنصب له منبر ، فجلس عليه وأطاف به أهل الشام ، فبينا هو كذلك إذ أقبل علي بن الحسين عليه إزار ورداء ، أحسن الناس وجهاً ، وأطيبهم رائحة ، بين عينيه سجادة كأنّها ركبة عنز ، فجعل يطوف بالبيت ، فإذا بلغ إلى موضع الحجر تنحّى له الناس عنه حتّى يستلمه ؛ هيبة له وإجلالاً ، فغاظ ذلك هشاماً ، فقال رجل من أهل الشام لهشام : مَن هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة فأفرجوا له عن الحجر؟ فقال هشام : لا أعرفه ؛ (لئلاّ يرغب فيه أهل الشام) ، فقال الفرزدق ـ وكان حاضراً ـ : ولكنّي أعرفه. فقال الشامي : مَنْ هو يا أبا فراس؟ فقال الفرزدق قصيدته المشهورة (٢).

__________________

(١) تاريخ الإسلام ـ للذهبي ٧ / ٤٣٣ ، حلية الأولياء ٣ / ١٣٥ ، صفوة الصفوة ٢ / ٩٦.

(٢) تاريخ دمشق ٤١ / ٤٠١.

ومنها قوله :

هذا الذي تعرفُ البطحاءُ وطأته

والبيتُ يعرفهُ والحلُّ والحرمُ

هذا ابنُ خيرِ عبادِ اللهِ كلِّهمُ

هذا التقي النقي الطاهرُ العلمُ

إذا رأته قريشٌ قال قائلُها

إلى مكارمِ هذا ينتهي الكرمُ

مشتقّةٌ من رسولِ اللهِ نبعتُهُ

طابت عناصرُهُ والخيمُ والشيمُ

٤٧١

محمد الباقر عليه‌السلام :

أمّا عن ولده محمد الباقر عليه‌السلام :

فقد قال الذهبي فيه : أبو جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين ، الإمام الثبت الهاشمي ، العلوي المدني ، أحد الأعلام ، وكان سيّد بني هاشم في زمانه ، اشتهر بالباقر من قولهم : بقر العلم ، يعني شقّه فعلم أصله وخفيه (١).

وقال ابن سعد : كان ثقة كثير الحديث.

وقال ابن البرقي : كان فقيهاً فاضلاً.

وقال محمد بن المنكدر (٢) ما رأيت أحداً يُفَضَّل على علي بن الحسين حتّى رأيت ابنه محمداً (٣).

جعفر الصادق عليه‌السلام :

أمّا عن حفيده جعفر الصادق عليه‌السلام ، فقد قال ابن حجر فيه : جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي ، أبو عبد الله المعروف بالصادق ، صدوق فقيه إمام.

__________________

ينجاب نورُ الهدى عن نورِ غرّته

كالشمسِ ينجابُ عن إشراقها العتمُ

حمّالُ أثقال أقوامٍ إذا فدحوا

حلو الشمائلِ تحلو عنده نعمُ

هذا ابنُ فاطمةٍ إن كنتَ جاهله

بجدِّهِ أنبياءُ اللهِ قد خُتموا

وغضب هشام وأمر بحبس الفرزدق ، فحُبس بعسفان بين مكّة والمدينة ، فبلغ ذلك علي بن الحسين ، فبعث إلى الفرزدق باثني عشر ألف درهم ، وقال : «اعذر أبا فراس ، فلو كان عندنا أكثر منها لوصلناك بها». فردّها وقال : يابن رسول الله ، ما قلت الذي قلت إلاّ غضباً لله ولرسوله ، وما كنت لأرزأ عليه شيئاً. فردّها إليه وقال : «بحقّي عليك لما قبلتها ، فقد رأى الله مكانك وعلم نيّتك». فقبلها.

(١) تذكرة الحفاظ ١ / ١٢٤.

(٢) قال ابن حبّان مشاهير علماء الأمصار / ١٠٧ : محمد بن المنكدر بن عبد الله القرشي ، أبو عبد الله ، وهم إخوة ثلاثة ؛ أبو بكر ومحمد وعمر ، وكان محمد من سادات قريش ، وعبّاد أهل المدينة ، وقرّاء التابعين. مات سنة ثلاثين ومئة وقد نيف على السبعين ، وكان يصفر لحيته ورأسه بالحناء.

(٣) سير أعلام النبلاء ترجمة محمد بن علي.

٤٧٢

قال إبراهيم بن محمد الرماني (أبو نجيح) : سمعت حسن بن زياد يقول : سمعت أبا حنيفة وسُئل : مَنْ أفقه مَنْ رأيت؟ فقال : ما رأيت أحداً أفقه من جعفر بن محمد (١) ؛ لمّا أقدمه المنصور الحيرة بعث إليّ فقال : يا أبا حنيفة ، إنّ الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد ، فهيّئ له من مسائلك تلك الصعاب. فقال : فهيّأت له أربعين مسألة ، ثمّ بعث إليّ أبو جعفر فأتيته بالحيرة ، فدخلت عليه وجعفر جالس عن يمينه ، فلمّا بصرت بهما دخلني لجعفر من الهيبة ما لم يدخلني لأبي جعفر ، فسلّمت وأذن لي أبو جعفر فجلست ، ثمّ التفت إلى جعفر فقال : يا أبا عبد الله ، تعرف هذا؟ قال : «نعم ، هذا أبو حنيفة». ثمّ أتبعها : «قد أتانا». ثمّ قال : يا أبا حنيفة ، هات من مسائلك ، سل أبا عبد الله. فابتدأتُ أسأله ، قال : فكان يقول في المسألة أنتم تقولون فيها كذا وكذا ، وأهل المدينة يقولون كذا ، ونحن نقول كذا ، فربّما تابعنا ، وربّما تابع أهل المدينة ، وربّما خالفنا جميعاً ، حتّى أتيت على أربعين مسألة ما أخرج منها مسألة ، ثمّ قال أبو حنيفة : أليس قد روينا أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس؟(٢)

تحرّك هؤلاء الأئمّة الثلاثة من ذرّية الحسين عليه‌السلام في الأجواء التي صنعتها شهادة الحسين وظلامته ، لا باتّجاه تعريف الناس بتكليفهم إزاء السلطة الاُمويّة الذي تبلور وتعمّق بما فيه الكفاية ، بل باتّجاه أمرين آخرين كانا بحاجة إلى بلورة وتأسيس وهما :

البكاء على الحسين عليه‌السلام والحزن عليه :

١ ـ البكاء على الحسين عليه‌السلام والحزن عليه كحالة لا تبرد بمرور الزمن ، وسلوك يُثاب عليه فاعله لبكاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبكاء الأنبياء السابقين عليه ، في قبال البكاء أو الحزن الذي يبرد بمرور الزمن لأنّه سلوك مبني على الانفعال العاطفي ليس إلاّ. وقد جسّد الأئمّة ذلك بقولهم وسلوكهم.

__________________

(١) الكاشف ـ للذهبي ١ / ٢٩٥ ، تذكرة الحفاظ ١ / ١٦٦.

(٢) الكامل في الضعفاء ـ لابن عدي ٢ / ١٣١ ، تهذيب الكمال ٥ / ٧٤.

٤٧٣

روى المزي ، قال أبو حمزة محمد بن يعقوب بن سوار عن جعفر بن محمد : سُئل علي بن الحسين عن كثرة بكائه ، فقال : «لا تلوموني ؛ فإنّ يعقوب فقد سبطاً من ولده فبكى حتّى ابيضّت عيناه ولم يعلم أنّه مات ، ونظرت أنا إلى أربعة عشر رجلاً من أهل بيتي ذُبحوا في غداة واحدة ، فترون حزنهم يذهب من قلبي؟! أبداً» (١).

وقال الباقر عليه‌السلام : «كان أبي يقول : أيّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين عليه‌السلام دمعة حتّى تسيل على خده بوّأه الله بها في الجنّة غرفاً يسكنها أحقاباً» (٢).

وقال أبو عمارة المنشد : ما ذكر الحسين عليه‌السلام عند أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه‌السلام في يوم قطّ فرُئي أبو عبد الله ذلك اليوم مبتسماً قطّ إلى الليل.

وروي عنه عليه‌السلام أنّه كان يقول : «إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جزع ، ما خلا البكاء والجزع على الحسين عليه‌السلام فإنّه فيه مأجور» (٣).

وروي عن الرضا عليه‌السلام قال : «كان أبي إذا دخل المحرّم لا يُرى ضاحكاً ، حتّى إذا كان يوم العاشر كان ذلك يوم مصيبته وحزنه وبكائه» (٤).

نشر أحاديث علي عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

٢ ـ نشر أحاديث الجامعة وغيرها ممّا كتبه علي عليه‌السلام بيده وأملاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من فِلْق فيه ، وكان الحسين عليه‌السلام قد أودع هذه الكتب عند اُمّ سلمة قبل خروجه إلى مكّة ، ولمّا رجع علي بن الحسين سلّمتها له ، ثمّ صارت إلى الباقر عليه‌السلام دون إخوته بوصية خاصّة من أبيه زين العابدين عليه‌السلام ، ثمّ صارت إلى الإمام الصادق عليه‌السلام. وكان الصادق أكثر مَنْ توفرت له الفرصة ، والظرف المناسب لنشر أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما كتبها علي عليه‌السلام ، وذلك بعد سقوط

__________________

(١) تهذيب الكمال ـ ترجمة علي بن الحسين عليهما‌السلام.

(٢) كامل الزيارات / ١٠٠.

(٣) كامل الزيارات.

(٤) أمالي الشيخ الصدوق / ١١١.

٤٧٤

حكم بني اُميّة وبداية حكم بني العباس ، حيث كانوا منشغلين بتثبيت ملكهم وسلطانهم ، وكتب أصحاب الصادق عنه أربعمئة مصنّف عُرفت عند الشيعة بالأصول الأربعمئة التي اعتمدها المحمّدون الثلاثة في تأليف موسوعاتهم الحديثية الأربعة المعروفة ، وهي : الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني (ت ٣٢٩) ، ومَنْ لا يحضره الفقيه لمحمد بن علي بن بابويه الصدوق (ت ٣٨١) ، والتهذيب والاستبصار لمحمد بن الحسن الطوسي (ت ٤٦٠).

حصة الكوفة من نشاط الأئمّة عليهم‌السلام :

أولى هؤلاء الأئمّة الكوفة عناية خاصّة بصفتها مركز الثقل لشيعتهم ، واستطاعوا أن يعيدوا البناء الشيعي فيها كما كان على عهد علي والحسن عليهم‌السلام. هذا البناء الذي عمل معاوية على محوه والقضاء عليه ، واستهدفه في جملة ما استهدفه من أهداف ؛ وبسبب ذلك لم يتّخذ العباسيون الكوفة عاصمة لهم ؛ لوضوح ولائها للحسنيّين والحسينيّين.

روى حنان بن سدير ، عن أبيه قال : دخلت أنا وأبي وجدّي وعمّي حماماً بالمدينة ، فإذا رجل في بيت المسلخ ، فقال لنا : مَنْ القوم؟ فقلنا : من أهل العراق. فقال : وأيّ العراق؟ قلنا : كوفيّون. فقال : مرحباً بكم يا أهل الكوفة ، أنتم الشعار دون الدثار. فسألنا عنه فإذا هو علي بن الحسين عليه‌السلام (١).

عن محمد الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّ الله عرض ولايتنا على أهل الأمصار فلم يقبلها إلاّ أهل الكوفة» (٢).

وروي عن الصادق عليه‌السلام في فضل الكوفة قال : «تربة تحبّنا ونحبّها».

وعن عبد الله بن الوليد قال : دخلنا على أبي عبد الله عليه‌السلام فسلّمنا عليه ، وجلسنا بين يديه ، فسألنا : «مَنْ أنتم؟». فقلنا : من أهل الكوفة. فقال : «أما إنّه ليس بلد من البلدان أكثر محبّاً لنا من أهل الكوفة … إنّ الله هداكم لأمر جهله الناس ، أحببتمونا وأبغضنا الناس ،

__________________

(١) الوسائل ١ / ٣٦٨ عن الكافي ، ورواه الصدوق (مَنْ لا يحضره الفقيه ١ / ١١٨) أيضاً.

(٢) كامل الزيارات / ٣١٣ ، بصائر الدرجات / ٩٦.

٤٧٥

وصدقتمونا وكذّبنا الناس ، واتّبعتمونا وخالفنا الناس ، فجعل الله محياكم محيانا ، ومماتكم مماتنا» (١).

وروى الطبري قال : لمّا ظهر محمد وإبراهيم ابنا عبد الله بن الحسن أرسل أبو جعفر إلى عبد الله بن علي بن عباس وهو محبوس عنده : أنّ هذا الرجل قد خرج ، فإن كان عندك رأي فأشر به علينا (وكان ذا رأي عندهم). فقال : إنّ المحبوس محبوس الرأي ، فأخرجني حتّى يخرج رأيي. فأرسل إليه أبو جعفر : لو جاءني حتّى يضرب بابي ما أخرجتك ، وأنا خير لك منه وهو مُلك أهل بيتك. فأرسل إليه عبد الله : ارتحل الساعة حتّى تأتي الكوفة ، فاجثم على أكبادهم ؛ فإنّهم شيعة أهل هذا البيت وأنصارهم (٢).

وروى المزي عن إبراهيم بن محمد الرماني (أبو نجيح) قال : سمعت حسن بن زياد يقول : سمعت أبا حنيفة وسُئل مَنْ أفقه مَنْ رأيت ، فقال : ما رأيت أحداً أفقه من جعفر بن محمد. لمّا أقدمه المنصور الحيرة بعث إليّ فقال : يا أبا حنيفة ، إنّ الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد فهيئ له من مسائلك تلك الصعاب (٣).

خلاصة :

وخلاصة الكلام أنّ الهدف الأوّل من قيام الحسين عليه‌السلام وهو إحياء مدرسة أبيه علي عليه‌السلام بإحياء أحاديث جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في أهل البيت عليهم‌السلام ؛ لينفتح الطريق للأئمّة من ذرية الحسين عليه‌السلام ، والبقية الباقية من شيعة علي ليبلغوا أحاديث علي عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإحياء مدرسته ، وقد تحقّقت كما أراده الحسين عليه‌السلام ، وعمل به ، وجعل الله تعالى شهادته الطريق الأوسع لنشر ذلك ، ومعلم هذا التحقق ظاهرتان :

__________________

(١) الكافي ٨ / ٢٣٦.

(٢) تاريخ الطبري ٧ / ٥٦٥.

(٣) الكامل في الضعفاء ـ لابن عدي ٢ / ١٣١. تهذيب الكمال ٥ / ٧٤.

٤٧٦

الظاهرة الأولى :

وجود أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في تعظيم أهل بيته عليهم‌السلام ، وأحاديثه في ذمّ بني اُميّة في كلّ الكتب السنيّة المعتبرة كالصحاح الستة ونظرائها ، كمسند أحمد بن حنبل ، ومسند ابن أبي شيبة ، والمعجم الكبير والأوسط والصغير للطبراني ، والمستدرك على الصحيحين وغيرها ، وقد دوّنت هذه الموسوعات الحديثية في القرنين الأوليين بعد انهيار النظام الأموي.

الظاهرة الثانية :

انتشار أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله برواية علي عليه‌السلام في كتابه الصحيفة الجامعة وغيرها في الكتب الأربعة ، وهي المصادر المعتبرة لدى الشيعة. هذه الأحاديث التي تكوّن المضمون الديني الأساسي بعد القرآن عند الشيعة. هذه الأحاديث التي نشرها علي عليه‌السلام حين أقبلت الأمّة عليه ونصرته وبايعته ، وعمل معاوية على محاربتها بتصفية حملتها من الشيعة ، ثمّ أراد الحسين عليه‌السلام إعادة نشرها وتهيئة الأجواء الآمنة لحملتها ورواتها ، ثمّ قُتل ولم يتيسّر له ذلك ، وإنّما تيسّر للبقية الباقية من شيعة أبيه فنشروا أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في أهل بيته عليهم‌السلام ، كما تيسّر للأئمّة من ذرية الحسين عليهم‌السلام من بعده وبخاصّة الباقر والصادق عليهما‌السلام ؛ ليكوِّنوا أجيالاً شيعيّة جديدة تأخذ معالم دينها من أهل بيت النبي عليهم‌السلام ؛ عملاً بوصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمر الله تعالى فيهم. وبرز فيهم علماء أمثال زرارة ، ومحمد بن مسلم ، ويونس بن عبد الرحمن ، ومحمد بن أبي عمير ونظرائهم ، يحملون حديث علي عليه‌السلام وفتاواه ، ثمّ فتاوى ذرّيته الطاهرين عليهم‌السلام ، كما كان حجر بن عدي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وميثم الثمار ، ورشيد الهجري ، وحبيب بن مظاهر ، وبرير الهمداني ، ونافع بن هلال ، ومسلم بن عوسجة ، وسليمان بن صرد ، والمختار بن عبيد الثقفي ، وكميل بن زياد ونظراؤهم من وجوه وعلماء شيعة علي عليه‌السلام الذين عمل على تصفيتهم النظام الأموي والنظام الزبيري ، بسبب نشاطهم في نشر الحديث النبوي الصحيح. وقد استمر خطّ التشيع لآل البيت عليهم‌السلام إلى اليوم على الرغم من محاولات أثيمة جرت لاستئصاله ، ويأبى الله إلاّ أن يتمّ نوره.

٤٧٧

وممّا لا شك فيه أنّ كلتا الظاهرتين ما كانتا لتوجدا على الساحة الإسلاميّة العامّة في ظلّ استمرار السياسة الاُمويّة ، وغياب حركة الحسين عليه‌السلام ، بل هما الأثر المباشر لحركته في مكّة ، ثمّ اتّسع الأثر وتعمّق بعد مقتله (صلوات الله عليه) في سبيل ذلك.

٤٧٨

الباب الخامس :

خلاصة وخاتمة

الحسين عليه‌السلام المظلوم الفاتح

حركة الواقع السياسي والاجتماعي

التغيير المطلوب

الحسين عليه‌السلام هو التوحيد

المعني بالتغيير المطلوب القادر عليه

الحسين عليه‌السلام عُدّة إلهية لتحقيق التغير المطلوب

خطّة الحسين عليه‌السلام لتحقيق التغيير

معالم التغيير بعد شهادة الحسين

٤٧٩
٤٨٠