الحسين عليه السلام في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام

السيّد سامي البدري

الحسين عليه السلام في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام

المؤلف:

السيّد سامي البدري


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: ياسين
الطبعة: ١
ISBN: 964-499-093-5
الصفحات: ٥٢٧

أهل المِدْرَة الخبيثة ، (والله ما يقعقع لي بالشِّنان ولا تقرن بي الصعبة) لقد هممت أن أخرب بلدكم ، وأن أحربكم بأموالكم ، والله ما أطلت منبري إلاّ لأسمعكم عليه ما تكرهون ، فإنّكم أهل بغي وخلاف ، ولقد سألت أمير المؤمنين أن يأذن لي فيكم ، ولو فعل لقتلت مقاتلتكم ، وسبيت نساءكم. إنّ يحيى بن زيد (١) ليتنقل في حجال نسائكم كما كان أبوه يفعل ، وما فيكم مطيع إلاّ حكيم بن شريك المحاربي. والله لو ظفرت بيحياكم لعرقت خصييه كما عرقت خصيتي أبيه (٢).

قصيدة الفضل بن عبد الرحمن المطلبي :

قال الفضل بن عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب : لمّا قُتل زيد بن علي عليه‌السلام في سنة اثنتين وعشرين ومئة في خلافة هشام بن عبد الملك.

وذلك أنّ هشاماً كتب إلى عامله بالبصرة ـ وهو القاسم بن محمد الثقفي ـ أن يشخص كلّ مَنْ بالعراق من بني هاشم إلى المدينة خوفاً من خروجهم. وكتب إلى عامل المدينة أن يحبس قوماً منهم ، وأن يعرضهم في كلّ أسبوع مرّة ، ويقيم لهم الكفلاء على ألا يخرجوا منها ، فقال الفضل بن عبد الرحمن من قصيدة له طويلة :

كلّما حُدِّثوا بأرض نقيقا

ضمَّنونا السجون أو سيَّرونا

أشخصونا إلى المدينة أسرى

لا كفاهمُ ربّي الذي يحذرونا

خلّفوا أحمد المطهَّر فينا

بالذي لا يحبّ واستضعفونا

قتلونا بغير ذنب إليهمْ

قاتلَ اللهُ أمةً قتّلونا

__________________

(١) ترجم البلاذري ليحيى بن زيد وحركته ومقتله في الجوزجان في أنساب الأشراف ٣ / ٤٥٣ ـ ٤٥٨.

(٢) أنساب الأشراف ٣ / ٤٤٨ ـ ٤٥٠.

٣٤١

ما رعَوْا حقّنا ولا حفظوا

في نا وصاة الإله بالأقربينا

جعلونا أدنى عدوّ إليهم

فهمُ في دمائنا يسبحونا

أنكروا حقّنا وجاروا علينا

وعلى غير إحنة أبغضونا

غير أنّ النبي منّا وأنّا

لم نزل في صِلاتهم راغبينا

إن دعونا إلى الهدى لم يجيبو نا

وكانوا عن الهدى ناكبينا

أو أمرنا بالعرف لم يسمعوا منا

وردّوا نصيحة الناصحينا

ولقِدْماً ما ردّ نصح ذوي الرأي

فلم يتبعهمُ الجاهلونا

فعسى الله أن يُديل أناساً

من اُناسٍ فيصبحوا ظاهرينا

فتقرّ العيونُ من قوم سوء

قد أخافوا وقتّلوا المؤمنينا

ليت شعري هل توجِفَنْ بيَ

الخيلُ عليها الكماة مستلئِمينا (١)

من بني هاشم ومن كلّ حيٍّ

ينصرون الإسلام مستنصرينا

في اُناس آباؤهم نصروا الدين

وكانوا لربّهم ناصرينا

تحكم المرهفات في الهامِ

منهم بأكفّ المعاشر الثائرينا (٢)

أين قتلى منّا بغيتم عليهم

ثمّ قتّلتموهم ظالمينا

ارجعوا هاشماً وردّوا أبا اليق‍

ظان وابن البديل في آخرينا

وارجعوا ذا الشهادتين وقتلى

أنتمُ في قتالهم فاجرونا

ثمّ ردّوا حجراً وأصحاب حجرٍ

يوم أنتم في قتلهم معتدونا

ثمّ ردّوا أبا عمير وردّوا لي

رُشيداً وميثماً والذينا

قُتلوا بالطفّ يوم حسينٍ

من بني هاشمٍ وردّوا حسينا

أين عمرو وأين بشرٌ وقتلى

معهم بالعراء ما يدفنونا

__________________

(١) الكماة : الشجعان. والمستلئم : لابس اللامة ، وهي الدرع في الحرب.

(٢) المرهفات : السيوف. والهام : الرؤوس.

٣٤٢

ارجعوا عامراً وردّوا زهير

ثمّ عثمان فارجعوا عازمينا

وارجعوا الحرّ وابن قينٍ وقوماً

قتلوا حين جاوزوا صفّينا

وارجعوا هانئاً وردّوا إلينا

مسلماً والرواع في آخرينا

ثمّ ردّوا زيداً إلينا وردّوا

كلّ مَنْ قد قتلتمُ أجمعينا

لن تردّوهم إلينا ولسنا

منكمُ غير ذلكم قابلينا

٣٤٣

ثورة العباسيِّين وسقوط دولة بني اُميّة مشاهد من انهيار دولة بني اُميّة على يد العباسيِّين

هزيمة مروان الحمار ومقتله :

سار عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس للقاء مروان بن محمد بن مروان ، (وهو آخر خلفاء الاُمويِّين) ، فالتقيا بالزاب (١) من أرض الموصل فهزم مروان ، واستولى عبد الله بن علي على عسكره ، وقتل من أصحابه خلقاً عظيماً ، فأتى مروان حرّان (٢) ، وكانت داره ومقامه ، ثمّ هرب منها ونزلها عبد الله بن علي ، فهدم قصر مروان بها ، وكان قد أنفق على بنائه عشرة آلاف ألف درهم ، واحتوى على خزائن مروان وأمواله. وعبر مروان الفرات حتّى أتى الشام وعبد الله يتبعه ، فسار مروان بأهله وعترته من بني اُميّة وخواصه ، حتّى نزل بنهر أبي فطرس (٣) من بلاد فلسطين ، ثمّ عبر إلى مصر. وسار عبد الله بن علي حتّى نزل دمشق ونواحيها ، وقتل من بني اُميّة قريباً من ثمانين رجلاً ، قتلهم مُثلة (٤).

__________________

(١) هو الزاب الأعلى بين الموصل وأربل.

(٢) مدينة قديمة قصبة ديار مضر ، بينها وبين الرها يوم (مراصد الاطلاع).

(٣) فطرس : ضبطه صاحب مراصد الاطلاع بضم الفاء وسكون الطاء وضم الراء وسين مهملة ، وقال : موضع قرب الرملة من أرض فلسطين.

(٤) يُقال : مثل فلان بالقتيل مثلة ومثلاً ، أي جدعه وظهرت آثار فعله عليه.

٣٤٤

وعبر مروان الفرات حتّى أتى الشام وعبد الله يتبعه ، فسار مروان بأهله وعترته من بني اُميّة وخواصه حتّى نزل بنهر أبي فطرس من بلاد فلسطين.

وقتل عبد الله بن علي بدمشق خلقاً كثيراً من أصحاب مروان وموالي بني اُميّة وأتباعهم ، ونزل عبد الله على نهر أبي فطرس ، فقتل من بني اُميّة هناك بضعاً وثمانين رجلاً ، قتلهم مُثلة ، وذلك في ذي القعدة من سنة ثنتين وثلاثين ومئة (١).

واحتذى أخوه داود بن علي بالحجاز فعله ، فقتل منهم قريباً من هذه العدّة بأنواع المثل.

وصل مروان إلى مصر ، فاتبعه عبد الله بجنوده ، فقتله (ببوصير (٢) الأشمونين) من صعيد مصر ، وقتل خواصّه وبطانته ، وشاهد مَنْ بقي منهم أنواع الشدائد وضروب المكاره ، ووقع عبيد الله بن مروان في عدّة ممّن نجا معه في أرض البجة (٣) ، وقطعوا البحر إلى ساحل جدّة ، وتنقّل فيمن نجا معه من أهله ومواليه في البلاد مستترين راضين أن يعيشوا سَوَقة بعد أن كانوا ملوكاً ، فظُفِر بعبيد الله أيام السفاح ، فحبس فلم يزل في السجن بقية أيام السفاح وأيام المنصور وأيام المهدي وأيام الهادي وبعض أيام الرشيد. وأخرجه الرشيد وهو شيخ ضرير ، فسأله عن خبره ، فقال : يا أمير المؤمنين ، حبست غلاماً بصيراً ، واُخرجت شيخاً ضريراً! فقيل : إنّه هلك في أيام الرشيد ، وقيل : عاش إلى أن أدرك خلافة الأمين.

ممّا قيل من الشعر في التحريض على قتل بني اُميّة :

وروى أبو الفرج أيضاً ، عن محمد بن خلف وكيع ، قال : دخل سديف مولى آل أبي لهب على أبي العباس بالحيرة ، وأبو العباس جالس على سريره ، وبنو هاشم دونه على

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٧ / ١٢٠.

(٢) اسم لأربع قرى بمصر (مراصد الاطلاع).

(٣) البجة : مدينة بين فارس وإصبهان (مراصد الاطلاع) ، التنبيه والإشراف ـ للمسعودي / ٢٨٥.

٣٤٥

الكراسي ، وبنو أمية حوله على وسائد قد ثنيت لهم ، وكانوا في أيام دولتهم يجلسونهم والخليفة منهم على الأسرّة ، ويجلس بنو هاشم على الكراسي ، فدخل الحاجب ، فقال : يا أمير المؤمنين ، بالباب رجل حجازي أسود راكب على نجيب متلثّم ، يستأذن ولا يخبر باسمه ، ويحلف لا يحسر اللثام عن وجهه حتّى يرى أمير المؤمنين. فقال : هذا سديف مولانا ، أدخله. فدخل فلمّا نظر إلى أبي العباس وبنو أمية حوله حسر اللثام عن وجهه ، ثم أنشد :

أصبحَ الملكُ ثابتَ الآساس

بالبهاليل من بني العباسِ (١)

بالصدورِ المقدّمين قديماً

والبحورِ القماقمِ الرؤّاسِ

يا إمامَ المطهّرين من الذمِّ

ويا رأسَ منتهى كلّ راسِ

أنتَ مهدي هاشم وفتاها

كم اُناسٍ رجوكَ بعدَ اُناسِ

لا تقيلنَّ عبد شمس عثاراً

واقطعن كلّ رقلةٍ وغراسِ

أنزلوها بحيث أنزلها اللهُ

بدارِ الهوانِ والإنعاسِ

خوفُها أظهرَ التودّدَ منها

وبها منكمُ كحزِّ المواسي

أقصهم أيّها الخليفة واحسم عنك

بالسيفِ شأفةَ الأرجاسِ

واذكرن مصرعَ الحسينِ وزيدٍ

وقتيلاً بجانبِ المهراسِ

والقتيل الذي بحرّان أمسى

ثاوياً بين غربةٍ وتناسِ (٢)

فلقد ساءني وساءَ سوائي

قربُهم من نمارقٍ وكراسي (٣)

نعمَ كلبُ الهراشِ مولاك شبلٌ

لو نجا من حبائلِ الإفلاسِ

__________________

(١) قال في الكامل : الآساس : جمع أس ، وتقديرها (فعل) (بضم العين وسكون اللام) ، و(إفعال) ، وقد يُقال : للواحد أساس ، وجمعه اُسس. والبهلول : الضحّاك. وقال المرصفي : الأجود تفسيره بالعزيز الجامع لكلّ خير.

(٢) القتيل الذي بحرّان : هو إبراهيم بن محمد بن علي ، وهو الذي يُقال له الإمام.

(٣) سوائي : أي سواي. والنمارق : واحدتها نمرقة ، وهي الوسائد.

٣٤٦

قال : فتغيّر لون أبي العباس ، وأخذه زمع (١) ورعدة ، فالتفت بعض ولد سليمان بن عبد الملك إلى آخر فيهم كان إلى جانبه ، فقال : قتلنا والله العبد!

فأقبل أبو العباس عليهم ، فقال : يا بني الزواني ، لا أرى قتلاكم من أهلي قد سلفوا وأنتم أحياء تتلذذون في الدنيا ، خذوهم. فأخذتهم الخراسانية (بالكافر كوبات) فأهمدوا إلاّ ما كان من عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ، فإنّه استجار بداود بن علي وقال : إنّ أبي لم يكن كآبائهم ، وقد علمت صنيعته إليكم. فأجاره واستوهبه من السفاح ، وقال له : قد علمت صنيع أبيه إلينا. فوهبه له وقال : لا يريني وجهه ، وليكن بحيث نأمنه. وكتب إلى عمّاله في الآفاق بقتل بني اُميّة (٢).

فأمّا أبو العباس المبرّد ، فإنّه روى في الكامل (٣) هذا الشعر على غير هذا الوجه ، ولم ينسبه إلى سديف ، بل إلى شبل مولى بني هاشم.

قال أبو العباس : دخل شبل بن عبد الله مولى بني هاشم على عبد الله بن علي ، وقد أجلس ثمانين من بني اُميّة على سمط الطعام ، فأنشده :

أصبحَ الملكُ ثابتَ الآساس

بالبهاليلِ من بني العباسِ

طلبوا وترَ هاشم وشفوها

بعد ميلٍ من الزمانِ وياسِ

لا تقيلنّ عبدَ شمسٍ عثاراً

واقطعن كلّ رقلةٍ وأواسي

ذلُّها أظهرَ التودّدَ منها

وبها منكمُ كحزِّ المواسي (٤)

ولقد غاظني وغاظَ سوائي

قربُها من نمارقٍ وكراسي

أنزلوها بحيث أنزلها اللهُ

بدارِ الهوانِ والإتعاسِ

__________________

(١) الزمع : شدّة الرعدة.

(٢) الأغاني ٤ / ٢٤٤ ـ ٢٤٦.

(٣) الكامل ٨ / ١٣٤ ـ ١٣٥ بشرح المرصفي.

(٤) مروج الذهب ٣ / ٢٦١ وما بعدها.

٣٤٧

واذكروا مصرعَ الحسينِ وزيدٍ

وقتيلاً بجانبِ المهراسِ

والقتيل الذي بحرّان أضحى

ثاوياً بين غربةٍ وتناسي

نعمَ شبلُ الهراش مولاك شبلٌ

لو نجا من حبائلِ الإفلاسِ (١)

فأمر بهم عبد الله فشدخوا بالعمد ، وبسطت البسط عليهم وجلس عليها ، ودعا بالطعام وأنّه ليسمع أنين بعضهم حتّى ماتوا جميعاً ، وقال لشبل : لولا أنّك خلطت شعرك بالمسألة لأغنمتك أموالهم ، ولعقدت لك على جميع موالى بني هاشم.

قال أبو العباس : فأمّا سديف ، فإنّه لم يقم هذا المقام ، وإنّما قام مقاماً آخر ، دخل على أبي العباس السفاح ، وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك ، وقد أعطاه يده فقبلها وأدناه ، فأقبل على السفاح ، وقال له :

لا يغرنّك ما ترى من رجالٍ

إنّ تحتَ الضلوعِ داءً دويّا

فضع السيفَ وارفعِ السوطَ حتى

لا ترى فوقَ ظهرها اُمويّا

فقال سليمان : ما لي ولك أيّها الشيخ؟! قتلتني قتلك الله!

فقام أبو العباس فدخل ، وإذا المنديل قد ألقى في عنق سليمان ثمّ جرّ فقُتل.

فأمّا سليمان بن يزيد بن عبد الملك بن مروان فقُتل بالبلقاء ، وحُمل رأسه إلى عبد الله بن علي.

أخبار متفرّقة في انتقال الملك من بني اُميّة إلى بني العباس :

وذكر صاحب مروج الذهب أنّه أرسل عبد الله أخاه صالح بن علي ومعه عامر بن إسماعيل ، أحد الشيعة الخراسانية إلى مصر ، فلحقوا مروان ببوصير ، فقتلوه وقتلوا كلّ مَنْ

__________________

(١) قال أبو العباس : الرقلة : النخلة الطويلة. والأواسي : جمع آسية ، وهي أصل البناء كالأساس. وقتيل المهراس : حمزة عليه‌السلام ، والمهراس : ماء باُحد. وقتيل حرّان : إبراهيم الإمام.

٣٤٨

كان معه من أهله وبطانته ، وهجموا على الكنيسة التي فيها بناته ونساؤه ، فوجدوا خادماً بيده سيف مشهور يسابقهم على الدخول ، فأخذوه وسألوه عن أمره ، فقال : إنّ أمير المؤمنين أمرني إن هو قُتل أن أقتل بناته ونساءه كلّهنّ قبل أن تصلوا إليهن. فأرادوا قتله ، فقال : لا تقتلوني ، فإنّكم إن قتلتموني فقدتم ميراث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقالوا : وما هو؟ فأخرجهم من القرية إلى كثبان من الرمل ، فقال : اكشفوا ها هنا. فإذا البردة والقضيب وقعب (١) (ومخصر) (٢) مخضب قد دفنها مروان ؛ ضنّاً بها أن تصير إلى بني هاشم. فوجّه به عامر بن إسماعيل إلى صالح بن علي ، فوجّه به صالح إلى أخيه عبد الله ، فوجّه به عبد الله إلى أبي العباس ، وتداوله خلفاء بني العباس من بعد.

واُدخل بنات مروان وحرمه ونساؤه على صالح بن علي ، فتكلّمت ابنة مروان الكبرى فقالت : يا عمّ أمير المؤمنين ، حفظ الله لك من أمرك ما تحبّ حفظه ، وأسعدك في أحوالك كلّها ، وعمّك بخواص نعمه ، وشملك بالعافية في الدنيا والآخرة ، نحن بناتك وبنات أخيك وابن عمّك ، فليسعنا من عدلكم ما وسعنا من جوركم. قال : إذاً لا نستبقي منكم أحداً ؛ لأنّكم قد قتلتم إبراهيم الإمام ، وزيد بن علي ، ويحيى بن زيد ، ومسلم بن عقيل ، وقتلتم خير أهل الأرض حسيناً وإخوته وبنيه وأهل بيته ، وسقتم نساءه سبايا ـ كما يُساق ذراري الروم ـ على الأقتاب إلى الشام.

فقالت : يا عمّ أمير المؤمنين ، فليسعنا عفوكم إذاً.

قال : أمّا هذا فنعم ، وإن أحببت زوّجتك من ابني الفضل بن صالح.

قالت : يا عمّ أمير المؤمنين ، وأي ساعة عرس ترى؟! بل تلحقنا بحرّان. فحملهنّ إلى حرّان (٣) ، فعلت أصواتهن عند دخولهن بالبكاء على مروان ، وشققن جيوبهن ، وأعولن

__________________

(١) القعب : القدح الغليظ. (كتاب العين)

(٢) المخصرَةُ : عصاً أو نحوها بيد صاحبها. (كتاب العين)

(٣) مروج الذهب ٣ / ٢٦١ ـ ٢٦٣.

٣٤٩

بالصياح والنحيب حتّى ارتج العسكر بالبكاء منهنّ على مروان.

كان عبد الرحمن بن حبيب بن مسلمة الفهري عامل إفريقية لمروان ، فلمّا حدثت الحادثة هرب عبد الله والعاص ابنا الوليد بن يزيد بن عبد الملك إليه ، فاعتصما به ، فخاف على نفسه منهما ، ورأى ميل الناس إليهما فقتلهما.

وكان عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك يريد أن يقصده ويلتجئ إليه ، فلمّا علم ما جرى لابني الوليد بن يزيد خاف منه ، فقطع المجاز بين إفريقية والأندلس ، وركب البحر حتّى حصل بالأندلس ، فالأمراء الذين ولوها كانوا من ولده. ثمّ زال أمرهم ودولتهم على أيدي بني هاشم أيضاً ، وهم بنو حمود الحسنيّون ، من ولد إدريس بن الحسن عليه‌السلام.

ولمّا أتى أبو العباس برأس مروان ، سجد فأطال ، ثمّ رفع رأسه ، وقال : الحمد لله الذي لم يبقِ ثأرنا قبلك وقبل رهطك ، الحمد لله الذي أظفرنا بك ، وأظهرنا عليك. ما أبالي متى طرقني الموت ، وقد قتلت بالحسين عليه‌السلام ألفاً من بني اُميّة ، وأحرقت شلو هشام بابن عمّي زيد بن علي كما أحرقوا شلوه ، وتمثل (١) :

لو يشربونَ دمي لم يرو شاربهمْ ولا دماؤهم جمعاً ترويني.

ثمّ حوّل وجهه إلى القبلة فسجد ثانية ، ثمّ جلس فتمثل :

أبى قومُنا أن ينصفونا فأنصفت

قواطعُ في أيماننا تقطرُ الدما

إذا خالطت هامَ الرجالِ تركتها

كبيضِ نعامٍ في الثرى قد تحطّما

ثمّ قال : أمّا مروان ، فقتلناه بأخي إبراهيم ، وقتلنا سائر بني اُميّة بحسين ، ومَنْ قُتل معه وبعده من بني عمّنا أبي طالب (٢).

وروى المسعودي في كتاب مروج الذهب عن الهيثم بن عدي قال : حدّثني عمرو بن هانئ الطائي قال : خرجت مع عبد الله بن علي لنبش قبور بني اُميّة في أيّام أبي العباس

__________________

(١) مروج الذهب ٣ / ٢٧١ ـ ٢٧٢.

٣٥٠

السفاح ، فانتهينا إلى قبر هشام بن عبد الملك فاستخرجناه صحيحاً ، ما فقدنا منه إلاّ عرنين أنفه ، فضربه عبد الله بن علي ثمانين سوطاً ثمّ أحرقه ، واستخرجنا سليمان بن عبد الملك من أرض دابق فلم نجد منه شيئاً إلاّ صلبه ورأسه وأضلاعه فأحرقناه ، وفعلنا مثل ذلك بغيرهما من بني اُميّة ، وكانت قبورهم بقنسرين. ثمّ انتهينا إلى دمشق ، فاستخرجنا الوليد بن عبد الملك ، فما وجدنا في قبره قليلاً ولا كثيراً ، واحتفرنا عن عبد الملك فما وجدنا إلاّ شئون (١) رأسه ، ثمّ احتفرنا عن يزيد بن معاوية فلم نجد منه إلاّ عظماً واحداً ، ووجدنا من موضع نحره إلى قدمه خطّاً واحداً أسود كأنّما خطّ بالرماد في طول لحده ، وتتبعنا قبورهم في جميع البلدان ، فأحرقنا ما وجدنا فيها منهم.

قال ابن أبي الحديد : قرأت هذا الخبر على النقيب أبي جعفر يحيى بن أبي زيد العلوي بن عبد الله في سنة خمس وستمئة ، وقلت له : أمّا إحراق هشام بإحراق زيد فمفهوم ، فما معنى جلده ثمانين سوطاً؟ فقال رحمه الله تعالى : أظنّ عبد الله بن علي ذهب في ذلك إلى حدّ القذف ؛ لأنّه يُقال : إنّه قال لزيد : يابن الزانية لمّا سبّ أخاه محمداً الباقر عليه‌السلام ، فسبّه زيد وقال له : سمّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الباقر وتسميه أنت البقرة! لشدّ ما اختلفتما! ولتخالفنّه في الآخرة كما خالفته في الدنيا ، فيرد الجنة وترد النار. وهذا استنباط لطيف.

قال مروان لكاتبه عبد الحميد بن يحيي حين أيقن بزوال ملكه : قد احتجت إلى أن تصير مع عدوّي وتظهر الغدر بي ؛ فإنّ إعجابهم ببلاغتك ، وحاجتهم إلى كتابتك تدعوهم إلى اصطناعك وتقريبك ، فإن استطعت أن تسعى لتنفعني في حياتي ، وإلاّ فلن تعجز عن حفظ حرمي بعد وفاتي.

لمّا أشرف عبد الله بن على يوم الزاب في المسودة ، وفي أوائلهم البنود السود تحملها الرجال على الجمال البخت ، وقد جعل لها بدلاً من القنا خشب الصفصاف (٢) والغرب ،

__________________

(١) الشئون : موصل قبائل الرأس ، واحد شأن.

(٢) الصفصاف : نوع من الشجر.

٣٥١

قال مروان لمَنْ قرب منه : أما ترون رماحهم كأنّها النخل غلظاً؟! أما ترون أعلامهم فوق هذه الإبل كأنّها قطع الغمام السود؟! فبينما هو ينظرها ويعجب ، إذ طارت قطعة عظيمة من الغربان السود ، فنزلت على أوّل عسكر عبد الله بن علي ، واتصل سوادها بسواد تلك الرايات والبنود ومروان ينظر ، فازداد تعجّبه وقال : أما ترون إلى السواد قد اتصل بالسواد ، حتّى صار الكل كالسحب السود المتكاثفة! ثمّ أقبل على رجل إلى جنبه فقال : ألا تعرّفني مَنْ صاحب جيشهم؟ فقال : عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب. قال : ويحك! أمن ولد العباس هو؟ قال : نعم. قال : والله لوددت أن علي بن أبي طالب عليه‌السلام مكانه في هذا الصف.

قال : يا أمير المؤمنين ، أتقول هذا لعلي مع شجاعته التي ملأ الدنيا ذكرها؟!

قال : ويحك! إنّ علياً مع شجاعته صاحب دين ، وإنّ الدين غير الملك ، وإنّا نروي عن قديمنا أنّه لا شيء لعلي ولا لولده في هذا. ثمّ قال : مَنْ هو من ولد العباس؟ قال : لمّا كان ساير عبد الله بن علي في آخر أيام بني اُميّة عبد الله بن حسن بن حسن ، ومعهما داود بن علي ، فقال داود لعبد الله بن الحسن : لِمَ لا تأمر ابنيك بالظهور؟ فقال عبد الله بن حسن : لم يأن لهما بعد. فالتفت إليه عبد الله بن علي ، فقال : أظنّك ترى أنّ ابنيك قاتلا مروان؟! فقال عبد الله بن حسن : إنّه ذلك.

قال : هيهات! ثمّ تمثل :

سيكفيكَ الجعالة مستميتٌ

خفيفُ الحاذِ من فتيانِ جرمِ

أنا والله أقتل مروان وأسلبه ملكه ، لا أنت ولا ولداك.

وروى أبو الفرج أيضاً : أنّ أبا العباس دعا بالغداء حين قتلوا ، وأمر ببساط فبسط عليهم ، وجلس فوقه يأكل وهم يضطربون تحته ، فلمّا فرغ قال : ما أعلم أنّي أكلت أكلة

٣٥٢

قطّ كانت أطيب ، ولا أهنأ في نفسي من هذه. فلمّا فرغ من الأكل قال : جرّوا بأرجلهم وألقوهم في الطريق ليلعنهم الناس أمواتاً ، كما لعنوهم أحياء.

قال : فلقد رأينا الكلاب تجرّهم بأرجلهم ، وعليهم سراويلات الوشى حتّى أنتنوا ، ثمّ حفرت لهم بئر فألقوا فيها.

وروى أبو الفرج في الكتاب المذكور أنّ سديفاً أنشد أبا العباس وعنده رجال من بني اُميّة ، فقال :

يابنَ عمِّ النبي أنتَ ضياءٌ

استبنّا بكَ اليقينَ الجليّا

جرّدِ السيفَ وارفعِ العفو حتى

لا ترى فوقَ ظهرها اُمويّا

قطن البغض في القديمِ وأضحى

ثابتاً في قلوبهم مطويّا

وهي طويلة ، فقال أبو العباس : يا سديف ، خُلق الإنسان من عجل! ثمّ أنشد أبو العباس متمثّلاً :

أحيا الضغائنَ آباءٌ لنا سلفوا

فلن تبيدَ وللآباءِ أبناءُ

ثمّ أمر بمَنْ عنده فقتلوا.

وروى أبو الفرج أيضاً ، عن على بن محمد بن سليمان النوفلي ، عن أبيه ، عن عمومته ، أنّهم حضروا سليمان بن علي بالبصرة ، وقد حضر جماعة من بني اُميّة عنده ، عليهم الثياب الموشاة (١) المرتفعة ـ قال أحد الرواة المذكورين : فكأنّي أنظر إلى أحدهم وقد أسودّ شيب في عارضيه من الغالية ـ فأمر بهم فقتلوا وجرّوا بأرجلهم ، فألقوا على الطريق ، وأنّ عليهم لسراويلات الوشى ، والكلاب تجرّهم بأرجلهم.

وروى أبو الفرج الأصفهاني ، قال : أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري ، عن عمر بن شبة ، قال : قال سديف لأبي العباس يحضّه على بني اُميّة ، ويذكر مَنْ قتل مروان وبنو أميّة من أهله :

__________________

(١) الموشاة : الوشي هو نقش الثوب ، ويكون كلّ من لون.

٣٥٣

كيف بالعفو عنهم وقديماً

قتلوكم وهتّكوا الحرماتِ

أين زيدٌ وأين يحيى بن زيدٍ

يا لها من مصيبةٍ وتراتِ

والإمام الذي أُصيب بحرّان

إمامُ الهدى ورأسُ الثقاتِ

قتلوا آلَ أحمد لا عفى الذنب

لمروان غافرُ السيئاتِ

قال أبو الفرج : وأخبرني علي بن سليمان الأخفش ، قال : أنشدني محمد بن يزيد المبرّد لرجل من شيعة بني العباس يحضّهم على بني اُميّة :

إياكم أن تلينوا لاعتذارهمُ

فليسَ ذلك إلاّ الخوفُ والطمعُ

لو أنّهم أمنوا أبدوا عداوتهمْ

لكنّهم قمعوا (١) بالذلِّ فانقمعوا

أليسَ في ألفِ شهرٍ قد مضت

لهم سُقيتمُ جرعاً من بعدها جرعُ

حتّى إذا ما انقضت أيامُ مدّتهمْ

متّوا إليكم بالارحامِ التي قطعوا

هيهات لا بدّ أن يسقوا بكأسهمُ ريّاً

وأن يحصدوا الزرع الذي زرعوا

إنّا وإخواننا الأنصار شيعتُكمْ

إذا تفرّقت الأهواءُ والشيعُ (٢)

قال أبو الفرج : وروى ابن المعتز في قصّة سديف مثل ما ذكرناه من قبل ، إلاّ أنّه قال فيها : فلمّا أنشده ذلك التفت إليه أبو الغمر سليمان بن هشام ، فقال : يا ماص بظر اُمّه! أتجبهنا بمثل هذا ونحن سروات الناس؟!

فغضب أبو العباس ، وكان سليمان بن هشام صديقه قديماً وحديثاً ، يقضي حوائجه في أيامهم ويبرّه ، فلم يلتفت إلى ذلك ، وصاح بالخراسانية : خذوهم (٣). فقتلوهم جميعاً إلاّ سليمان بن هشام فأقبل عليه أبو العباس ، فقال : يا أبا الغمر ، ما أرى لك في الحياة بعد هؤلاء خيراً.

__________________

(١) قمعت فلاناً فانقمع : أي ذللته فذلّ.

(٢) بعده في الأغاني ٤ / ٣٥١ : إيّاكمُ أن يقول الناسُ إنّهمُ قد مُلّكوا ثمّ ما ضروا ولا نفعوا.

(٣) من الأغاني ٤ / ٣٥١ ، وانظر طبقات الشعراء لابن المعتز / ٣٩ ـ ٤٠.

٣٥٤

قال : لا والله. قال : فاقتلوه. (وكان إلى جنبه) فقُتل ، وصُلبوا في بستانه حتّى تأذّى جلساؤه بريحهم ، فكلّموه في ذلك فقال : والله ، إنّ ريحهم عندي لألذّ وأطيب من ريح المسك والعنبر ؛ (غيظاً عليهم وحنقاً).

لمّا ضرب عبد الله بن علي أعناق بني اُميّة ، قال له قائل من أصحابه : هذا والله جهد البلاء. فقال عبد الله : كلاّ ، ما هذا وشرطة حجّام إلاّ سواء ، إنّما جهد البلاء فقر مدقع ، بعد غنى موسع.

خطب سليمان بن علي لمّا قتل بني اُميّة بالبصرة. فقال : (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء / ١٠٥) قضاء فصل ، وقول مبرم ، فالحمد لله الذي صدق عبده ، وأنجز وعده ، وبعداً للقوم الظالمين الذين اتّخذوا الكعبة غرضاً ، والدين هزواً ، والفيء إرثاً ، والقرآن عضين ، لقد حاق بهم ما كانوا به يستهزئون ، ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ.

أمهلهم حتّى اضطهدوا العترة ، ونبذوا السنّة.

ثمّ أخذهم ، فـ (هلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً). ضرب الوليد بن عبد الملك علي بن عبد الله بن العباس بالسياط ، وشهره بين الناس يدار به على بعير ، ووجهه ممّا يلي ذنب البعير ، وصائح يصيح أمامه : هذا علي بن عبد الله الكذّاب. فقال له قائل (وهو على تلك الحال) : ما الذي نسبوك إليه من الكذب يا أبا محمد؟ قال : بلغهم قولي : أنّ هذا الأمر سيكون في ولدي ، والله ليكونن فيهم حتّى يملكه عبيدهم الصغار العيون ، العراض الوجوه ، الذين كأنّ وجوههم المجان المطرقة (١).

وروي أنّ علي بن عبد الله دخل على هشام ومعه ابنا ابنه الخليفتان : أبو العباس

__________________

(١) المجان المطرقة : ما يكون بين جلدين أحدهما فوق الآخر ، والذي جاء في الحديث : «كأنّ وجوههم المجان المطرقة» ، أيّ التراس التي ألبست العقبة شيئاً فوق الشيء ، أراد أنّهم عراض الوجوه غلاظها. لسان العرب ١٠ / ٢٢٠.

٣٥٥

وأبو جعفر ، فكلّمه فيما أراد ثمّ ولّى ، فقال هشام : إنّ هذا الشيخ قد خرف وأهترّ ؛ يقول : إنّ هذا الأمر سينتقل إلى ولده! فسمع علي بن عبد الله كلامه ، فالتفت إليه وقال : إي والله ليكونن ذلك ، وليملكن هذان.

وقد روى أبو العباس المبرّد في كتاب (الكامل) هذا الحديث ، فقال : دخل علي بن عبد الله بن العباس على سليمان بن عبد الملك فيما رواه محمد بن شجاع البلخي ، ومعه ابنا ابنه الخليفتان بعد : أبو العباس وأبو جعفر ، فأوسع له على سريره وبرّه ، وسأله عن حاجته ، فقال : ثلاثون ألف درهم عليّ دين ، فأمر بقضائها. قال : واستوص بابني هذين خيراً ، ففعل ، فشكره علي بن عبد الله ، وقال : وصلتك رحم ، فلمّا ولّى قال سليمان لأصحابه : إنّ هذا الشيخ قد اختلّ وأسن وخلط ، وصار يقول : إنّ هذا الأمر سينتقل إلى ولده! فسمع ذلك علي بن عبد الله ، فالتفت إليه وقال : إي والله ليكونن ذلك ، وليملكن هذان. قال أبو العباس المبرّد : وفي هذه الرواية غلط ؛ لأنّ الخليفة في ذلك الوقت لم يكن سليمان ، وإنّما ينبغي أن يكون دخل على هشام ؛ لأنّ محمد بن علي بن عبد الله بن العباس كان يحاول التزويج في بني الحارث بن كعب ، ولم يكن سليمان بن عبد الملك يأذن له ، فلمّا قام عمر بن عبد العزيز جاء فقال : إنّي أردت أن أتزوّج ابنة خالي من بني الحارث بن كعب ، فتأذن لي؟ فقال عمر بن عبد العزيز : تزوّج يرحمك الله مَنْ أحببت. فتزوّجها فأولدها أبا العباس السفاح وعمر بن عبد العزيز بعد سليمان.

وأبو العباس ينبغي ألا يكون تهيّأ لمثله أن يدخل على خليفة حتّى يترعرع ، ولا يتمّ مثل هذا إلاّ في أيام هشام بن عبد الملك.

قال أبو العباس المبرّد : وقد جاءت الرواية أنّ أمير المؤمنين علياً عليه‌السلام لمّا ولد لعبد الله بن العباس مولود فقده وقت صلاة الظهر.

فقال : «ما بال ابن العباس لم يحضر؟».

قالوا : ولد له ولد ذكر يا أمير المؤمنين.

٣٥٦

قال : «فامضوا بنا إليه». فأتاه فقال له : «شكرت الواهب ، وبورك لك في الموهوب. ما سمّيته؟».

فقال : يا أمير المؤمنين ، أو يجوز لي أن اُسمّيه حتّى تسمّيه؟

فقال : «أخرجه إلي». فأخرجه ، فأخذه فحنّكه ودعا له ثمّ ردّه إليه ، وقال : «خذ إليك أبا الأملاك ، قد سمّيته علياً ، وكنّيته أبا الحسن».

قال : فلمّا قدم معاوية خليفة قال لعبد الله بن العباس : لا أجمع لك بين الاسم والكنية ، قد كنيته أبا محمد ، فجرت عليه.

قلت : سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن محمد بن أبي زيد (رحمه الله تعالى) ، فقلت له : من أي طريق عرف بنو اُميّة أنّ الأمر سينتقل عنهم ، وأنّه سيليه بنو هاشم ، وأوّل مَنْ يلي منهم يكون اسمه عبد الله؟ ولِمَ منعوهم عن مناكحة بني الحارث بن كعب ؛ لعلمهم أنّ أوّل مَنْ يلي الأمر من بني هاشم تكون اُمّه حارثية؟ وبأيّ طريق عرف بنو هاشم أنّ الأمر سيصير إليهم ، ويملكه عبيد أولادهم حتّى عرفوا صاحب الأمر بعينه كما قد جاء في الخبر؟

فقال : أصل هذا كلّه محمد بن الحنفيّة ، ثمّ ابنه عبد الله المكنّى أبا هاشم. قلت له : أفكان محمد بن الحنفيّة مخصوصاً من أمير المؤمنين عليه‌السلام بعلم يستأثر به على أخويه حسن وحسين عليهما‌السلام؟ قال : لا ، ولكنّهما كتما وأذاع.

ثمّ قال : قد صحت الرواية عندنا عن أسلافنا ، وعن غيرهم من أرباب الحديث أنّ علياً عليه‌السلام لمّا قبض أتى محمد ابنه أخويه حسناً وحسيناً عليهما‌السلام ، فقال لهما : أعطياني ميراثي من أبي. فقالا له : «قد علمت أنّ أباك لم يترك صفراء ولا بيضاء». فقال : قد علمت ذلك ، وليس ميراث المال أطلب ، إنّما أطلب ميراث العلم.

قال أبو جعفر (رحمه الله تعالى) : فروى أبان بن عثمان عمّن يروي له ذلك ، عن جعفر بن محمد عليه‌السلام ، قال : فدفعا إليه صحيفة ، لو أطلعاه على أكثر منها لهلك ، فيها ذكر دولة بني العباس.

٣٥٧

قال أبو جعفر : وقد روى أبو الحسن على بن محمد النوفلي ، قال : حدّثني عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس ، قال : لمّا أردنا الهرب من مروان بن محمد ، لمّا قبض على إبراهيم الإمام جعلنا نسخة الصحيفة ـ التي دفعها أبو هاشم بن محمد بن الحنفيّة إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ، وهي التي كان آباؤنا يسمونها صحيفة الدولة ـ في صندوق من نحاس صغير ، ثمّ دفناه تحت زيتونات بالشراة (١) لم يكن بالشراة من الزيتون غيرهن ، فلمّا أفضى السلطان إلينا وملكنا الأمر ، أرسلنا إلى ذلك الموضع ، فبحث وحفر فلم يوجد فيه شيء ، فأمرنا بحفر جريب من الأرض في ذلك الموضع حتّى بلغ الحفر الماء ولم نجد شيئاً.

قال أبو جعفر : وقد كان محمد بن الحنفيّة صرّح بالأمر لعبد الله بن العباس وعرفه تفصيله ، ولم يكن أمير المؤمنين عليه‌السلام قد فصل لعبد الله بن العباس الأمر ، وإنّما أخبره به مجملاً ، كقوله في هذا الخبر : «خذ إليك أبا الأملاك». ونحو ذلك ممّا كان يعرض له به ، ولكن الذي كشف القناع وأبرز المستور عليه هو محمد بن الحنفيّة. وكذلك أيضاً ما وصل إلى بني اُميّة من علم هذا الأمر ؛ فإنّه وصل من جهة محمد بن الحنفيّة ، وأطلعهم على السرّ الذي علمه ، ولكن لم يكشف لهم كشفه لبني العباس ؛ فإنّ كشفه الأمر لبني العباس كان أكمل.

قال أبو جعفر : فأمّا أبو هاشم ؛ فإنّه قد كان أفضى بالأمر إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس وأطلعه عليه ، وأوضحه له ، فلمّا حضرته الوفاة عقيب انصرافه من عند الوليد بن عبد الملك مرّ بالشراة ، وهو مريض ومحمد بن علي بها ، فدفع إليه كتبه وجعله وصيه ، وأمر الشيعة بالاختلاف إليه.

قال أبو جعفر : وحضر وفاة أبي هاشم ثلاثة نفر من بني هاشم ؛ محمد بن علي هذا ،

__________________

(١) الشراة : صقع بالشام بين المدينة ودمشق ، ومن بعض نواحيه القرية المعروفة بالحميمة. ياقوت / ١٥٠ مجملاً.

٣٥٨

ومعاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، وعبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، فلمّا مات خرج محمد بن معاوية بن عبد الله بن جعفر من عنده وكل واحد منهما يدّعي وصايته ؛ فأمّا عبد الله بن الحارث فلم يقل شيئاً.

قال أبو جعفر (رحمه الله تعالى) : وصدق محمد بن علي ، أنّه إليه أوصى أبو هاشم ، وإليه دفع كتاب الدولة ، وكذب معاوية بن عبد الله بن جعفر ، لكنّه قرأ الكتاب ، فوجد لهم فيه ذكراً يسيراً ، فادعى الوصية بذلك ، فمات وخرج ابنه عبد الله بن معاوية يدّعي وصاية أبيه ، ويدّعي لأبيه وصاية أبي هاشم ، ويظهر الإنكار على بني اُميّة ، وكان له في ذلك شيعة يقولون بإمامته سرّاً حتّى قُتل.

دخلت إحدى نساء بني اُميّة على سليمان بن علي وهو يقتل بني اُميّة بالبصرة ، فقالت : أيّها الأمير ، إنّ العدل ليملّ من الإكثار منه والإسراف فيه ، فكيف لا تملّ أنت من الجور وقطيعة الرحم؟!

فأطرق ثمّ قال لها :

سننتم علينا القتلَ لا تنكرونهُ

فذوقوا كما ذقنا على سالفِ الدهرِ

ثمّ قال :

يا أمة الله ، وأوّل راض سنّة مَنْ يسيرها

ألم تحاربوا علياً وتدفعوا حقّه؟

ألم تسمّوا حسناً وتنقضوا شرطه؟

ألم تقتلوا حسيناً وتسيّروا رأسه؟

ألم تقتلوا زيداً وتصلبوا جسده؟

ألم تقتلوا يحيى وتمثّلوا به؟

ألم تلعنوا علياً على منابركم؟

ألم تضربوا أبانا علي بن عبد الله بسياطكم؟

٣٥٩

ألم تخنقوا الإمام بجراب النورة في حبسكم؟

ثمّ قال : ألك حاجة؟ قالت : قبض عمّالك أموالي. فأمر بردّ أموالها عليها.

كان مروان سديد الرأي ، ميمون النقيبة ، حازماً ، فلمّا ظهرت المسودة ولقيهم ، كان ما يدبر أمراً إلاّ كان فيه خلل ، ولقد وقف يوم الزاب وأمر بالأموال فأُخرجت ، وقال للناس : اصبروا وقاتلوا ، وهذه الأموال لكم ، فجعل ناس يصيبون من ذلك المال ويشتغلون به عن الحرب ، فقال لابنه عبد الله : سر في أصحابك فامنع مَنْ يتعرّض لأخذ المال ، فمال عبد الله برايته ومعه أصحابه ، فتنادى الناس : الهزيمة! الهزيمة! فانهزموا ، وركب أصحاب عبد الله بن علي أكتافهم.

لمّا قتل مروان ببوصير ، قال الحسن بن قحطبة : أخرجوا إليّ إحدى بنات مروان. فأخرجوها إليه وهي ترعد ، قال : لا بأس عليك.

قالت : وأي بأس أعظم من إخراجك إياي حاسرة ولم أرَ رجلاً قبلك قطّ!

فأجلسها ، ووضع رأس مروان في حجرها ، فصرخت واضطربت.

فقيل له : ما أردت بهذا؟ قال : فعلت بهم فعلهم بزيد بن علي ، لمّا قتلوه جعلوا رأسه في حجر زينب بنت علي بن الحسين عليه‌السلام.

بويع أبو العباس السفاح بالخلافة يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلون من شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وثلاثين ومئة ، فصعد المنبر بالكوفة فخطب ، فقال : الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه ، وكرّمه وشرّفه وعظّمه ، واختاره لنا ، وأيّده بنا ، وجعلنا أهله وكهفه ، وحصنه والقوام به ، والذّابين عنه ، والناصرين له ، وخصّنا برحم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنبتنا من شجرته ، واشتقّنا من نبعته ، وأنزل بذلك كتاباً يُتلى ، فقال سبحانه : (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (الشورى / ٢٣).

فلمّا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قام بالأمر أصحابه (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى / ٣٨) فعدلوا ، وخرجوا خماصاً (١) ، ثمّ

__________________

(١) خماصاً : جياعاً.

٣٦٠