الحسين عليه السلام في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام

السيّد سامي البدري

الحسين عليه السلام في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام

المؤلف:

السيّد سامي البدري


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: ياسين
الطبعة: ١
ISBN: 964-499-093-5
الصفحات: ٥٢٧

هجرية) ، وكان بضمنهم عبيد الله بن أبي بكرة نفسه ، وكان معظم القتلى من أهل الكوفة.

وبعث الحجّاج بعد أن أخذ موافقة عبد الملك جيشاً آخر قوامه أربعين ألفاً ؛ عشرين ألف من الكوفة ، ومثلهم من البصرة بقيادة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي ، وقدم ابن الأشعث سجستان (أواخر عام ٧٩ هجرية) ، ونجح في فتح المدن التابعة لزونبيل ، وآثر ابن الأشعث الاكتفاء بذلك لسنته تلك ، وكتب إلى الحجّاج بذلك ، غير أنّ الحجاج لم يوافقه ، وبعث إليه بكتاب يسفِّه رأيه ويأمره بالتوغّل في أرض زونبيل ، وقرر ابن الأشعث عدم تنفيذ أمر الحجّاج ، واتهمه بالعمل على التغرير به كما غرّر بجيش عبيد الله بن أبي بكرة ، وانبرى عدد من الخطباء يذمّون الحجّاج ويتّهمونه بالعمل على هلاكهم.

قال أبو مخنف (١) : فحدّثني مطرِّف بن عامر بن واثلة الكناني أنّ أباه كان أوّل متكلّم يومئذ ، وكان شاعراً خطيباً ، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه : أمّا بعد ، فإنّ الحجّاج والله ما يرى بكم إلاّ ما رأى القائل الأوّل ، إذ قال لأخيه : احمل عبدك على الفرس ؛ فإنّ هلك هلك ، وإن نجى فلك.

إنّ الحجاج والله ما يبالي أن يخاطر بكم فيقحمكم بلاداً كثيرة اللهوب واللصوب (٢) ، فإن ظفرتم فغنمتم كلّ البلاد وحاز المال ، وكان ذلك زيادة في سلطانه ، وإن ظفر عدوّكم كنتم أنتم الأعداء البغضاء الذي لا يبالي عنتهم ، ولا يبقي عليهم. اخلعوا عدوّ الله الحجّاج وبايعوا عبد الرحمن ، فإنّي أُشهدكم أنّي أوّل خالع.

فنادى الناس من كلّ جانب : فعلنا فعلنا ، قد خلعنا عدوّ الله. فوثب الناس إلى عبد الرحمن فبايعوه ، فقال : تبايعوني على خلع الحجّاج عدوّ الله ، وعلى النصرة لي وجهاده معي حتّى ينفيه الله من أرض العراق. فبايعه الناس.

ولمّا دخل الناس فارس اجتمع الناس بعضهم إلى بعض وقالوا : إنّا إذا خلعنا

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ١٤٦.

(٢) اللهوب : الجبال الوعرة. واللصوب : المسالك الضيقة بين الجبال.

٣٢١

الحجّاج عامل عبد الملك فقد خلعنا عبد الملك. فاجتمعوا إلى عبد الرحمن فبايعوه ، وكانت بيعته : تبايعون على كتاب الله وسنّة نبيّه ، وخلع أئمّة الضلالة ، وجهاد المحلّين ، فإذا قالوا : نعم ، بايع ، فلمّا بلغ الحجّاج خلعه كتب إلى عبد الملك يخبره خبر عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ، ويسأله أن يعجّل بعثه الجنود إليه.

قال أبو مخنف : حدّثني فضيل بن خديج أنّ مكتبه كان بكرمان ، وكان بها أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة وأهل البصرة ، فلمّا مرّ بهم ابن محمد بن الأشعث انجفلوا معه.

هزيمة الحجّاج :

وعزم الحجّاج رأيه على استقبال ابن الأشعث ، فسار بأهل الشام حتّى نزل تستر ، وقدم بين يديه مطهر بن حرّ العكّي أو الجذامي ، وعبد الله بن رميثة الطائي ، ومطهر على الفريقين ، فجاؤوا حتّى انتهوا إلى دجيل وقد قطع عبد الرحمن بن محمد خيلاً له عليها عبد الله بن أبان الحارثي في ثلاثمئة فارس ، وكانت مسلحة له وللجند ، فلمّا انتهى إليه مطهر بن حرّ أمر عبد الله بن رميثة الطائي فأقدم عليهم.

قال أبو مخنف : فحدّثني أبو الزبير الهمداني قال : كنت في أصحاب ابن محمد إذ دعا الناس وجمعهم إليه ، ثمّ قال : اعبروا إليه من هذا المكان. فأقحم الناس خيولهم دجيل من ذلك المكان الذى أمرهم به ، فوالله ما كان بأسرع من أن عبر معظم خيولنا ، فما تكاملت حتّى حملنا على مطهر بن حرّ والطائي فهزمناهما يوم الأضحى في سنة ٨١ ، وقتلناهم قتلاً ذريعاً ، وأصبنا عسكرهم.

وأتت الحجّاج الهزيمة وهو يخطب ، فصعد إليه أبو كعب بن عبيد بن سرجس فأخبره بهزيمة الناس ، فقال : أيّها الناس ، ارتحلوا إلى البصرة ، إلى معسكر ومقاتل وطعام ومادة ؛ فإنّ هذا المكان الذي نحن به لا يحمل الجند. ثمّ انصرف راجعاً ، وتبعته خيول أهل العراق ، فكلّما أدركوا منهم شاذاً قتلوه ، وأصابوا ثقلاً حووه. ومضى الحجّاج لا يلوى على شيء

٣٢٢

حتى نزل الزاوية ، وبعث إلى طعام التجّار الكلاء فأخذه ، فحمله إليه وخلى البصرة لأهل العراق ، وكان عامله عليهم الحكم بن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي ، وجاء أهل العراق حتّى دخلوا البصرة ، وقد كان الحجّاج حين صدم تلك الصدمة ، وأقبل راجعاً ، دعا بكتاب المهلّب فقرأه ، ثمّ قال : لله أبوه! (أي صاحب حرب هو) ، أشار علينا بالرأي ولكنّا لم نقبل.

وقال غير أبي مخنف : كان عامل البصرة يومئذ الحكم بن أيوب على الصلاة والصدقة ، وعبد الله بن عامر بن مسمع على الشرط ، فسار الحجّاج في جيشه حتّى نزل رستقباذ (١) ، وهي من دسبتي من كور الأهواز ، فعسكر بها ، وأقبل ابن الأشعث فنزل تستر وبينهما نهر ، فوجّه الحجّاج مطهر بن حرّ العكي في ألفي رجل فأوقعوا بمسلحة لابن الأشعث ، وسار ابن الأشعث مبادراً فواقعهم ، وهي عشية عرفة من سنة ٨١ ، فيقال : إنّهم قتلوا من أهل الشام ألفاً وخمسمئة ، وجاءه الباقون منهزمين ، ومعه يومئذ مئة وخمسون ألف ، ففرّقها في قوّاده وضمّنهم إياها ، وأقبل منهزماً إلى البصرة.

وخطب ابن الأشعث أصحابه فقال : أمّا الحجّاج فليس بشيء ولكنّا نريد غزو عبد الملك. وبلغ أهل البصرة هزيمة الحجّاج ، فأراد عبد الله بن عامر بن مسمع أن يقطع الجسر دونه ، فرشاه الحكم بن أيوب مئة ألف فكفّ عنه ، ودخل الحجّاج البصرة فأرسل إلى ابن عامر فانتزع المئة ألف منه ، فلمّا دخل عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث البصرة بايعه على حرب الحجّاج ، وخلع عبد الملك جميع أهلها من قرّائها وكهولها ، وخندق الحجّاج عليه ، وخندق عبد الرحمن على البصرة ، وكان دخول عبد الرحمن البصرة في آخر ذي الحجة من سنة ٨١.

قال أبو مخنف : حدّثني أبو الزبير الهمداني : وخرج أهل الكوفة يستقبلون ابن الأشعث حين أقبل ، فاستقبلوه بعد ما جاز قنطرة زُبارة (٢) ، فلمّا دخل الكوفة مال إليه أهل الكوفة

__________________

(١) موضع من أرض دستوا (مراصد الاطلاع).

(٢) ناحية بالكوفة.

٣٢٣

كلّهم وبايعوه ، وسقط إليه أهل البصرة ، وتقوّضت إليه المسالح والثغور ، وجاءه فيمَنْ جاءه من أهل البصرة عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، وعرف بذلك ، وكان قد قاتل الحجّاج بالبصرة بعد خروج ابن الأشعث ثلاثاً ، وأقبل الحجّاج من البصرة فسار في البرّ حتّى مرَّ بين القادسية والعذيب ، ومنعوه من نزول القادسية ، وبعث إليه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث عبد الرحمن بن العباس في خيل عظيمة من خيل المصرين فمنعوه من نزول القادسية ، ثمّ سايروه حتّى ارتفعوه على وادي السباع ، ثمّ تسايروا حتّى نزل الحجّاج دير قُرَّة ونزل عبد الرحمن بن العباس دَير الجماجم ، ثمّ جاء ابن الأشعث فنزل بدير الجماجم والحجّاج بدير قُرَّة.

وجاءت الحجّاج أيضاً إمدادات من قبل عبد الملك من قبل أن ينزل دير قرّة ، جاءه عبد الله بن عبد الملك بن مروان في عشرين ألف من أهل الشام ، ومحمد بن مروان في عشرين ألف من أهل الجزيرة (١).

وقعة دير الجماجم وفشل ثورة ابن الأشعث :

وبعث ابن الأشعث عبد الله بن إسحاق بن الأشعث لحشر الناس من الكوفة ، وأمر كميل بن زياد أن يحرّض الناس ، فأُخرج وهو شيخ كبير ، فحُمل حتّى أُقعد على المنبر ، فخطب خطبة طويلة منها قوله : إنّه والله لا ينفي عنكم الظلم والعدوان إلاّ التناصح والتآسي ، واجتماع الكلمة ، وصلاح ذات البين ، والصبر على الطعان بالرماح والضرب بالسيوف (٢).

واجتمع أهل الكوفة وأهل البصرة ، وأهل الثغور والمسالح بدَيْر الجماجم ، والقرّاء من أهل المصرين (الكوفة والبصرة) ، فاجتمعوا جميعاً على حرب الحجّاج ، وجمعهم عليه

__________________

(١) أنساب الأشراف ٧ / ٣٣٦.

(٢) أنساب الأشراف ٧ / ٣٣٩.

٣٢٤

بغضهم والكراهية له ، وهم إذ ذاك مئة ألف مقاتل ممّن يأخذ العطاء ، ومعهم مثلهم من مواليهم.

فكانوا يخرجون في كلّ يوم فيقتتلون ، واشتدّ القتال بينهم.

فلمّا بلغ ذلك رؤوس قريش وأهل الشام قِبَل عبد الملك ومواليه قالوا : إن كان إنّما يرضي أهل العراق أن تنزع عنهم الحجّاج [فانزعه] ؛ فإنّ نزع الحجّاج أيسر من حرب أهل العراق ، فانزعه عنهم تخلص لك طاعتهم ، وتحقن به دماءنا ودماءهم. فبعث ابنه عبد الله بن عبد الملك ، وبعث إلى أخيه محمد بن مروان بأرض الموصل يأمره بالقدوم عليه ، فاجتمعا جميعاً عنده كلاهما في جنديهما ، فأمرهما أن يعرضا على أهل العراق نزع الحجّاج عنهم ، وأن يجري عليهم اُعطياتهم كما تجري على أهل الشام ، وأن ينزل ابن محمد أيّ بلد من العراق شاء يكون عليه والياً ما دام حياً ، (وكان عبد الملك والياً) ، فإن هم قبلوا ذلك عزل عنهم الحجّاج ، (وكان محمد بن مروان أمير العراق) ، وإن أبوا أن يقبلوا فالحجّاج أمير جماعة أهل الشام وولي القتال ، ومحمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك في طاعته. فلم يأت الحجّاج أمر قط كان أشدّ عليه ولا أغيظ له ولا أوجع لقلبه منه ؛ مخافة أن يقبلوا فيُعزل عنهم.

فكتب إلى عبد الملك : يا أمير المؤمنين ، والله لئن أعطيت أهل العراق نزعي لا يلبثون إلاّ قليلاً حتّى يخالفوك ويسيروا إليك ، ولا يزيدهم ذلك إلاّ جرأة عليك. ألم ترَ وتسمع بوثوب أهل العراق مع الأشتر على ابن عفّان ، فلمّا سألهم ما يريدون ، قالوا : انزع سعيد بن العاص ، فلمّا نزعه لم تتم لهم السنة حتّى ساروا إليه فقتلوه؟ إنّ الحديد بالحديد يفلح ، خار الله لك فيما ارتأيت ، والسلام عليك.

فأبى عبد الملك إلاّ عرض هذه الخصال على أهل العراق ؛ إرادة العافية من الحرب ، فلمّا اجتمعا مع الحجّاج خرج عبد الله بن عبد الملك فقال : يا أهل العراق ، أنا عبد الله ابن أمير المؤمنين ، وهو يعطيكم كذا وكذا ، فذكر هذه الخصال التي ذكرنا. وقال محمد بن مروان :

٣٢٥

أنا رسول أمير المؤمنين إليكم ، وهو يعرض عليكم كذا وكذا ، فذكر هذه الخصال.

قالوا : نرجع العشية. فرجعوا ، فاجتمعوا عند ابن الأشعث ، فلم يبق قائد ولا رأس قوم ولا فارس إلاّ أتاه ، فحمد الله ابن الأشعث وأثنى عليه ، ثمّ قال : أمّا بعد ، فقد أعطيتم أمراً انتهازكم اليوم إياه فرصة ، ولا آمن أن يكون على ذي الرأي غداً حسرة ، وإنّكم اليوم على النصف ، وإن كانوا اعتدوا بالزاوية فأنتم تعتدون عليهم بيوم تستر ، فاقبلوا ما عرضوا عليكم وأنتم أعزّاء أقوياء ، والقوم لكم هائبون.

فوثب الناس من كلّ جانب فقالوا : إنّ الله قد أهلكهم ، فأصبحوا في الضنك والمجاعة والقلّة والذلّة ، ونحن ذووا العدد الكثير والمادة القريبة ، لا والله لا نقبل ، فأعادوا خلعه ثانية ـ وكان اجتماعهم على خلعه بالجماجم أجمع من خلعهم إيّاه بفارس ـ

فرجع محمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك إلى الحجّاج فقالا : شأنك بعسكرك وجندك ، فاعمل برأيك فإنّا قد اُمرنا أن نسمع لك ونطيع.

وبرزوا للقتال ، فجعل الحجّاج على ميمنته عبد الرحمن بن سليم الكلبي ، وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللخمي ، وعلى خيله سفيان بن الأبرد الكلبي ، وعلى رجاله عبد الرحمن بن حبيب الحكمي.

وجعل ابن الأشعث على ميمنته الحجّاج بن جارية الخثعمي ، وعلى ميسرته الأبرد بن قرّة التميمي ، وعلى خيله عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث الهاشمي ، وعلى رجاله محمد بن سعد بن أبي وقاص ، وعلى مجففته عبد الله رزام الحارثي ، وجعل على القرّاء جبلة بن زحر بن قيس الجعفي.

وكان معه خمسة عشر رجلاً من قريش.

وكان فيهم عامر الشعبي ، وسعيد بن جبير ، وأبو البختري الطائي ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى.

ثمّ إنّهم أخذوا يتزاحفون في كلّ يوم ويقتتلون ، وأهل العراق تأتيهم موادهم من

٣٢٦

الكوفة ومن سوادها فيما شاؤوا من خصبهم وإخوانهم من أهل البصرة ، وأهل الشام في ضيق شديد ، قد غلت عليهم الأسعار ، وقلّ عندهم الطعام ، وفقدوا اللحم ، وكانوا كأنّهم في حصار ، وهم على ذلك يغادون أهل العراق ويراوحونهم ، فيقتتلون أشدّ القتال ، وكان الحجّاج يدني خندقه مرّة وهؤلاء أخرى حتّى كان اليوم الذي أُصيب فيه جبلة بن زحر.

ثمّ إنّ ابن الأشعث بعث إلى كميل بن زياد النخعي ، وكان رجلاً ركيناً وقوراً ، عند الحرب له بأس وصوت في الناس ، وكانت كتيبته تُدعى كتيبة القرّاء ، يحمل عليهم فلا يكادون يبرحون ، ويحملون فلا يكذبون ، فكانوا قد عرفوا بذلك.

قال الطبري : ثمّ دخلت سنة ثلاث وثمانين : ذكر الأحداث التي كانت فيها ، فما كان فيها من ذلك هزيمة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بدير الجماجم.

ذكر هشام بن محمد ، عن أبى مخنف قال : حدّثني أبو الزبير الهمداني قال : كنت في خيل جبلة بن زحل ، فلمّا حمل عليه أهل الشام مرّة بعد مرّة نادانا عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه فقال :

يا معشر القرّاء ، إنّ الفرار ليس بأحد من الناس بأقبح منه بكم ؛ إنّي سمعت (علياً رفع الله درجته في الصالحين ، وأثابه أحسن ثواب الشهداء والصدّيقين) يقول : يوم لقينا أهل الشام أيّها المؤمنون إنّه مَنْ رأى عدواناً يُعمل به ومنكراً يُدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ ، ومَنْ أنكر بلسانه فقد أجر وهو أفضل من صاحبه ، ومَنْ أنكر بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى

٣٢٧

ونوّر في قلبه باليقين ، فقاتلوا هؤلاء المحلِّين المحدِثين المبتدِعين الذين قد جهلوا الحقّ فلا يعرفونه وعملوا بالعدوان فليس ينكرونه.

وقال أبو البختري : أيّها الناس ، قاتلوهم على دينكم ودنياكم ، فوالله لئن ظهروا عليكم ليفسدنّ عليكم دينكم ، وليغلبنّ على دنياكم.

وقال سعيد بن جبير : قاتلوهم ولا تأثموا من قتالهم بنيّة ويقين ، وعلى آثامهم قاتلوهم ؛ على جورهم في الحكم ، وتجبّرهم في الدين ، واستذلالهم الضعفاء ، وإماتتهم الصلاة.

أقول : وقُدِّر لأهل العراق في هذه المعركة ـ التي استمرت أكثر من ثلاثة شهور ، ابتداء من مطلع ربيع الأوّل إلى الرابع عشر من جمادى الآخرة ـ الهزيمة ، ومضى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث مع ابن جعدة بن هبيرة ومعه اُناس من أهل بيته ، ثمّ جاء حتّى انتهى إلى بيته وعليه السلاح وهو على فرسه لم ينزل عنه ، ثمّ ودّع أهله وخرج من الكوفة.

(قال هشام) : حدّثني أبو مخنف ، عن أبى يزيد السكسكي قال : خرج محمد بن سعد بن أبي وقاص بعد وقعة الجماجم حتّى نزل المدائن ، واجتمع إليه ناس كثير ، وخرج الحجّاج فبدأ بالمدائن فأقام عليها خمساً حتّى هيّأ الرجال في المعابر ، فلمّا بلغ محمد بن سعد عبورهم إليهم خرجوا حتّى لحقوا بابن الأشعث جميعاً ، وأقبل نحوهم الحجّاج ، فخرج الناس معه إلى مَسْكَن على دُجيل ، وأتاه أهل الكوفة والفلول من الأطراف وتلاوم الناس على الفرار ، وبايع أكثرهم بسطام بن مصقلة على الموت ، وانهزم أهل العراق أيضاً (١) ، وقُتل أبو البختري الطائي ، وعبد الرحمن بن أبى ليلى ، ومضى ابن الأشعث والفَلُّ (٢) من المنهزمين معه ، وتجمّعت بعض فلول ابن الأشعث ، وحاربوا المهلّب في خراسان

__________________

(١) قال خليفة : قال أبو الحسن : قال عوانة : قتل الحجّاج بمسكن خمسة آلاف أسير ، أو أربعة آلاف.

(٢) الفل : المنهزم ، والجمع الفلول. (كتاب العين)

٣٢٨

وانهزموا أيضاً (١).

وأُخذ عدد من الأسرى فيهم محمد بن سعد بن أبي وقاص ، وعمرو بن موسى بن عبيد الله بن معمر ، وعياش بن الأسود بن عوف الزهري ، والهلقام بن نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة ، وفيروز حصين ، وأبو العلج مولى عبيد الله بن معمر ، ورجل من آل أبي عقيل ، وسوار بن مروان ، وعبد الرحمن بن طلحة بن عبد الله بن خلف ، وعبد الله بن فضالة الزهراني ، ولحق الهاشمي بالسند ، وأتى ابن سمرة مرو ، ثمّ انصرف يزيد إلى مرو وبعث بالأسرى إلى الحجّاج مع سبرة بن نخف بن أبى صفرة ، وخلى عن ابن طلحة وعبد الله بن فضالة ، وقال محمد بن سعد بن أبي وقاص ليزيد أن يخلي سبيله ، فلم يستجب له.

وقيل : إنّ الحجّاج لمّا أتى بهؤلاء الأسرى من عند يزيد بن المهلب قال لحاجبه : إذا دعوتك بسيدهم فأتني بفيروز ، فأبرز سريره ، (وهو حينئذ بواسط القصب قبل أن تُبنى مدينة واسط) ، ثمّ قال لحاجبه : جئني بسيدهم. فقال لفيروز : قم. فقال له الحجّاج : أبا عثمان ، ما أخرجك مع هؤلاء ، فوالله ما لحمك من لحومهم ، ولا دمك من دمائهم؟ قال : فتنة عمّت الناس فكنّا فيها. قال : اكتب لي أموالك. قال : ثمّ ماذا؟ قال : اكتبها أوّل. قال : ثمّ أنا آمن على دمي؟ قال : اكتبها ثمّ أنظر. قال : اكتب يا غلام ألف ألف ألفي ألف (فذكر مالاً كثيراً) ، فقال الحجّاج : أين هذه الأموال؟ قال : عندي. قال : فأدّها. قال : وأنا آمن على دمي؟ قال : والله لتؤدّينها ثمّ لأقتلنك. قال : والله لا تجمع مالي ودمي. فقال الحجّاج للحاجب : نحّه. فنحاه.

ثمّ قال : ائتني بمحمد بن سعد بن أبي وقاص ، فدعاه ، فقال له الحجّاج : (إيهاً باطل

__________________

(١) اختلفت المصادر في ذكر الطريقة التي لقي فيها ابن الأشعث مصرعه بعد أن أجمعت أنّه لجأ إلى رتبيل في سجستان ، وأنّ الأخير استجاب لضغوط الحجّاج وإغراءاته بتسليم ابن الأشعث. تذكر بعض المصادر أنّه بعث به مقيّداً ، وأنّ ابن الأشعث رمى بنفسه من فوق جبل فمات ، ثمّ احتز رأسه وبعث به إلى الحجّاج ، وبعضها تذكر أنّ رتبيل قتله وبعث برأسه سنة ٨٤ هجرية.

٣٢٩

الشيطان!) أعظم الناس تيهاً وكبراً ، تأبى بيعة يزيد بن معاوية تشبهاً بحسين ، ثمّ تتابع حوالك كندة؟ وجعل يضرب بعود في يده رأسه حتّى أدماه ، فقال له محمد : أيّها الرجل ، ملكت فأسجح. فضرب عنقه.

ثمّ أمر بفيروز فعُذّب ، فكان فيما عذّب به أن كان يشدّ عليه القصب الفارسي المشقوق ثمّ يجر عليه حتّى يخرق جسده ، ثمّ ينضح عليه الخلّ والملح ، فلمّا أحسّ بالموت قال لصاحب العذاب : إنّ الناس لا يشكّون أنّي قد قُتلت ، ولي ودائع أموال عند الناس لا تؤدّى إليكم أبداً ، فأظهروني للناس ليعلموا أنّي حي فيؤدّوا المال. فأعلم الحجّاج ، فقال : أظهروه. فاُخرج إلى باب المدينة ، فصاح في الناس : مَنْ عرفني فقد عرفني ، ومَنْ أنكرني فأنا فيروز حصين ، إنّ لي عند أقوام مالاً ، فمَنْ كان لي عنده شيء فهو له ، وهو منه في حلّ ، فلا يؤدّينّ منه أحد درهماً ، ليبلغ الشاهد الغائب. فأمر به الحجّاج فقُتل (١).

قال البلاذري : وكان ممّن خرج مع ابن الأشعث هو عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، فلحق بعمّان وهو شيخ كبير ، فمات بها.

انتقام الحجّاج من أهل الكوفة :

وجاء الحجّاج حتّى دخل الكوفة ، وخطب فيها قائلاً :

يا أهل العراق ، إنّ الشيطان قد استبطنكم فخالط اللحم منكم والعصب ، والأعضاء والأطراف. ألستم أصحابي بالأهواز حين رمتم النكر ، وسعيتم بالغدر ، ويوم الزاوية بما كان من فشلكم وتخاذلكم ، ويوم دير الجماجم؟ فما الذي أذكر منكم يا أهل العراق ، وما الذي أتوقع ، وما الذي أستبقيكم له؟ إن بُعثتم إلى

__________________

(١) تاريخ الطبري. أقول : وقد روى عن النضر بن شميل ، تاريخ الطبري ٥ / ١٨٢ عن هشام بن حسان أنّه قال : بلغ ما قتل الحجّاج صبراً مئة وعشرين ، أو مئة وثلاثين ألفاً.

٣٣٠

الثغور جبنتم ، وإن أمنتم رجعتم ، وإن خفتم نافقتم. هل استنبحكم نابح ، واستغواكم غاوٍ ، واستخفكم ناكث ، واستفزّكم عاص إلاّ بايعتموه وتابعتموه؟ وهل شغب شاغب ، ونعب ناعب ، وظهر كاذب إلاّ كنتم أشياعه وأنصاره؟ ثمّ يا أهل الشام ، أنا لكم كالظليم المحافظ على فراخه ، ينفي عنهنّ القذر ، ويباعد المدر ، ويحرسهنّ من الذباب. أنتم العُدَّة والجُنَّة إنّ حارب محارب ، وجانب مجانب (١).

وكتب : عبد الملك إلى الحجّاج : أن ادعُ الناس إلى البيعة ، فمَنْ أقرّ بالكفر فخلّ سبيله ، إلاّ رجلاً نصب راية أو شتم أمير المؤمنين (٢).

وأجلس مصقلة بن كرب بن رقبة العبدي إلى جنبه ، وكان خطيباً فقال : اشتم كلّ امرئ بما فيه ممّن كنّا أحسنّا إليه ، فاشتمه بقلّة شكره ، ولؤم عهده ، ومَنْ علمت منه عيباً فعبه بما فيه ، وصغِّر إليه نفسه ، وكان لا يبايعه أحد إلاّ قال له : أتشهد أنّك قد كفرت؟ فإذا قال : نعم ، بايعه وإلاّ قتله.

فجاء إليه رجل من خثعم (قد كان معتزلاً للناس جميعاً من وراء الفرات) ، فسأله عن حاله ، فقال : ما زلت معتزلاً وراء هذه النطفة ، منتظراً أمر الناس حتّى ظهرت فأتيتك لأبايعك مع الناس.

قال : أمتربّص؟ أتشهد أنّك كافر؟

قال : بئس الرجل أنا إن كنت عبدت الله ثمانين سنة ، ثمّ أشهد على نفسي بالكفر!

__________________

(١) أنساب الأشراف ٧ / ٣٤٥ ، شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١ / ٣٤٤ ، والخطبة في البيان والتبيين ٢ / ١٣٨ ، العقد ٤ / ١١٥ ، نهاية الإرب ٧ / ٢٤٥.

(٢) تاريخ خليفة بن خياط العصفري / ٢١٧.

٣٣١

قال : إذاً أقتلك. قال : وإن قتلتني فوالله ما بقي من عمري إلاّ ظمأ حمار (١) ، وإنّي لأنتظر الموت صباح مساء.

قال : اضربوا عنقه.

فضربت عنقه.

مقتل كميل بن زياد :

قال ابن أبي الحديد (٢) : هو كميل بن زياد بن سهيل بن هيثم بن سعد بن مالك بن الحارث بن صهبان بن سعد بن مالك بن النخع ، كان من أصحاب علي عليه‌السلام وشيعته وخاصته ، وقتله الحجّاج على المذهب فيمَنْ قُتل من الشيعة.

وقال ابن حجر (٣) : كميل بن زياد النخعي التابعي الشهير ، له إدراك ، قال ابن أبي خيثمة وخليفة بن خياط : مات سنة اثنتين وثمانين من الهجرة ، زاد بن أبي خيثمة : وهو ابن سبعين سنة بتقديم السين فيكون قد أدرك من الحياة النبويّة ثماني عشرة سنة. وروى عن عمر وعلي وابن مسعود وغيرهم. قال ابن سعد : شهد صفين مع علي ، وكان شريفاً مطاعاً ، ثقة قليل الحديث ، ووثقه ابن معين وجماعة. وقال ابن عمار : كان من رؤساء الشيعة. وأخرج ابن أبي الدنيا من طريق الأعمش قال : دخل الهيثم بن الأسود على الحجّاج ، فقال له : ما فعل كميل بن زياد؟ قال : شيخ كبير في البيت. قال : فأين هو؟ قال : ذلك شيخ كبير خرِف. فدعاه ، فقال له : أنت صاحب عثمان؟ قال : ما صنعت بعثمان لطمني فطلبت القصاص فأقادني فعفوت. قال : فأمر الحجّاج بقتله.

وقال جرير عن مغيرة : طلب الحجّاج كميل بن زياد فهرب منه ، فحرم قومه عطاءهم ، فلمّا رأى كميل ذلك قال : أنا شيخ كبير قد نفد عمري ، لا ينبغي أن أحرم قومي

__________________

(١) ظمأ حمار : أي شيء يسير ، وإنّما خصّ الحمار ؛ لأنّه أقل الدواب صبراً عن الماء.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١٧ / ١٤٩.

(٣) الإصابة ـ ابن حجر ٥ / ٤٨٥.

٣٣٢

عطاءهم. فخرج إلى الحجّاج ، فلما رآه قال له كميل : إنّه ما بقي من عمري إلاّ القليل ، فاقض ما أنت قاض ، فإنّ الموعد الله ، وقد أخبرني أمير المؤمنين علي أنّك قاتلي. قال : بلى ، قد كنت فيمَنْ قتل عثمان ، اضربوا عنقه. فضُربت عنقه (١).

وهرب عبد الرحمن بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب إلى السدّ (٢) فمات بها (٣).

قال خليفة بن خياط : كانت بينهم بالجماجم إحدى وثمانين وقيعة ، كلّها على الحجّاج إلاّ آخر وقعة كانت على ابن الأشعث ، فانهزم. وقُتل من القرّاء بدير الجماجم ؛ أبو البختري سعد مولى حذيفة ، وأبو البختري الطائي. وانكشف ابن الأشعث من دير الجماجم ، فأتى البصرة وتبعه الحجّاج ، فخرج منها إلى مسكن من أرض دجيل الأهواز ، وأتبعه الحجّاج فالتقوا بمسكن ، فانهزم ابن الأشعث ، وقُتل من أصحابه ناس كثير وغرق ناس كثير. افتقد ليلة دجيل بمسكن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وعبد الله بن شداد بن الهاد ، وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود. وأسر الحجّاج ناساً كثيراً منهم : عمران بن عصام العنزي ، وعبد الرحمن بن ثروان ، وأعشى همدان ، وفيروز حصين. قال أبو اليقظان : حدّثني سلم بن الجارود بن أبي سبرة الهذلي ، قال : أتي الحجّاج بعمران بن عصام العنزي ، فقال : عمران؟ قال : نعم. قال : ألم أقدم العراق فأوفدتك إلى أمير المؤمنين ، ولا يوفد مثلك؟ قال : بلى. قال : وزوّجتك سيدة قومها ماوية بنت مسمع ولم تكن لها بأهل؟ قال : بلى. قال : فما حملك على الخروج مع عدو الله ابن الأشعث؟ قال : أخرجني باذان. قال : فأين كنت عن حجلة أهلك؟ قال : أخرجني باذان. قال : فأين كنت على خرب البصرة؟ فأمر به فضُربت عنقه. ثمّ سار ابن الأشعث يريد خراسان ، وتبعه الفل فتركهم ، وسار إلى رتبيل

__________________

(١) الإصابة ٥ / ٦٥٣. أقول : تهمة كميل بن زياد بعثمان أصلها من رواية سيف بن عمر. انظر تاريخ الطبري ٣ / ٤٣٠.

(٢) وهو اسم لماء سماء في حزم بني عوال ، جبيل لغطفان.

(٣) أنساب الأشراف ٧ / ٣٥١.

٣٣٣

بسجستان ، فقام بأمر الناس عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، فلقيه المفضّل بن المهلّب بهراة ، وهو وال لأخيه يزيد فهزمه ، وأسر ناساً من أصحابه منهم محمد بن سعد بن مالك والهلقام بن نعيم. أوّل وقعة كانت بينهم يوم تستر ، يوم النحر آخر سنة إحدى وثمانين ، والوقعة الثانية بالزاوية في المحرّم أوّل سنة اثنتين وثمانين ، والوقعة الثالثة بظهر المربد في صفر يوم الأحد سنة اثنتين وثمانين ، والوقعة الرابعة بدير الجماجم ، كانت الهزيمة في جمادى لأربع عشرة ليلة خلت منه سنة اثنتين وثمانين ، والوقعة الخامسة في شعبان سنة اثنتين وثمانين ليلة دجيل.

قال خليفة : تسمية القرّاء الذين خرجوا مع ابن الأشعث ؛ مسلم بن يسار مزني ، وعقبة بن عبد الغافر العوذي قُتل في المعركة ، وعقبة بن وساج البرساني قُتل في المعركة ، وعبد الله بن غالب الجهضمي قُتل في المعركة ، والنضر بن أنس بن مالك ، وأبو الجوزاء قُتل في المعركة ، وعمران بن عصام الضبعي قُتل صبراً ، وسيار بن سلامة أبو المنهال الرياحي ، ومالك بن دينار ، ومرّة بن دباب الهرادي ، وأبو نجيد الجهضمي ، وأبو شيخ الهنائي ، والحسن بن أبي الحسن اُخرج كرهاً لم يُقتل. ومن أهل الكوفة سعيد بن جبير ، وعامر الشعبي ، وعبد الله بن شداد بن الهادي فُقد ليلة دجيل ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى فُقد ليلة دجيل. وحدّثني غندر قال : حدّثني شعبة ، عن حصين قال : رأيت ابن أبي ليلى يحضض الناس ليالي الجماجم. وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود ، والمعرور بن سويد ، ومحمد بن سعد بن مالك قُتل صبراً ، وطلحة بن مصرف الأيامي ، وزبيد بن الحارث الأيامي ، وعطاء بن السائب مولى ثقيف ، وأبو البختري الطائي قُتل في المعركة.

قال خليفة : عن الحسن الجفري ، عن مالك بن دينار قال : خرج مع ابن الأشعث خمسمئة من القرّاء كلّهم يرون القتال ، وقتل طفيل بن عامر بن واثلة (١).

__________________

(١) تاريخ خليفة بن خياط / ٢١٦ ـ ٢٢٢.

٣٣٤

وكتب عبد الملك إلى الحجّاج أيضاً : أن جمِّر أهل العراق ، وتابع عليهم البعوث ، واستعن عليهم بالفقر ؛ فإنّه جند الله الأكبر. ففعل ذلك بهم سنتين ، ثمّ أعطاهم بعد ذلك عطاءهم (١).

الكوفة على عهد الوليد :

قال اليعقوبي : وكتب الوليد إلى خالد بن عبد الله القسري (عامله على الحجاز) يأمره بإخراج مَنْ بالحجاز من أهل العراقين وحملهم إلى الحجّاج بن يوسف ، فبعث خالد إلى المدينة عثمان بن حيان المري لإخراج مَنْ بها من أهل العراقين ، فأخرجهم جميعاً ـ وجماعاتهم في الجوامع ـ إلى الحجّاج ، ولم يترك تاجراً ولا غير تاجر ، ونادى : ألا برئت الذمّة ممّن آوى عراقياً. وكان لا يبلغه أنّ أحداً من أهل العراق في دار أحد من أهل المدينة إلاّ أخرجه (٢).

قال ابن عساكر : أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي ، عن أبي محمد الجوهري ، عن أبي عمر بن حيوية ، أنا سليمان بن إسحاق ، نا الحارث بن أبي أسامة ، نا محمد بن سعد ، أنا محمد بن عمر الواقدي ، قال : فحدّثني محمد بن عبد الله بن أبي حرّة عن عمّه قال : رأيت عثمان بن حيان أخذ عبيدة بن رباح ومنقذ العراقي في أناس من أهل العراق فحبسهم ، ثمّ بعث بهم في جوامع إلى الحجّاج بن يوسف ، ولم يترك بالمدينة أحداً من أهل العراق تاجراً ولا غير تاجر من كلّ بلد إلاّ أُخرجوا ، فرأيتهم في الجوامع. وسمعته يخطب على المنبر وهو يقول بعد حمد الله : أيّها الناس ، إذا وجدنا أهل غش لأمير المؤمنين في قديم الدهر وحديثه ، وقرضوا إليكم مَنْ لا يزيدكم إلاّ خبالاً أهل العراق ؛ هم أهل الشقاق والنفاق ، وهم والله عش النفاق ، وبيضته التي انفلقت عنه. والله ما سبرت عراقياً قطّ فوجدت عنده

__________________

(١) أنساب الأشراف ٧ / ٣٥٨.

(٢) لا نعلم في أيّ سنة ، ولكنّ اليعقوبي كان قد ذكر قبله حوادث سنة ٩٢ ، وذكر بعده حوادث سنة ٩٥ هجرية.

٣٣٥

ديناً ، وإنّ أفضلهم حالاً عند نفسه الذي يقول في آل أبي طالب ما يقول ، وما هم لهم بشيعة ، إنّهم لأعداء لهم ولغيرهم ، ولكن لما يريد الله من سفك دمائهم ، والتقرّب إليه بذلك منهم. وإنّي والله لا اُؤتى بأحد منكم أكرى أحداً منهم منزلاً ولا أنزله إلاّ هدمت منزله ، وأحللت به ما هو أهله. إنّ البلدان مصّرها عمر بن الخطاب وهو مجتهد على ما يصلح رعيته ، فجعل يمرّ عليه مَنْ يريد الجهاد فيستشيره : الشام أحبّ إليك أمّ العراق؟ فيقول : الشام أحبّ إليّ.

إنّي رأيت العراق داء عضالاً ، وبها فرّخ الشيطان. والله [لقد أعضلوا بي] (١) وإنّي لأراني ساُفرّقهم في البلدان ، ثمّ أقول : لو فرّقتهم لأفسدوا مَنْ دخلوا عليه مع جدل وحجاج ، وكيف ولم ، وسرعة وجيف (٢) في الفتنة ، فإذا خبروا عند السيف لم يخبر منهم طائل ، ولم يصلحوا على عثمان ، وهو من بعد الإمام المظلوم الشهيد فلقي منهم الأمرين ، وكانوا هم أوّل الناس فتق هذا الفتق ، ونقضوا عرى الإسلام عروة عروة ، وأنفلوا البلدان.

والله إنّي لأتقرّب إلى الله بكلّ ما أفعل بهم ؛ لما أعرف من رأيهم ومذاهبهم ، ثمّ وليهم أمير المؤمنين فلم يصطلحوا عليه ، ثمّ يزيد بن معاوية فلم يصطلحوا ، ووليهم رجل الناس جلداً (يعني عبد الملك) ، فبسط عليهم السيف وأخافهم ، فاستقاموا له ، أحبّوا أو كرهوا ؛ وذلك أنّه خبرهم فعرفهم (٣).

قال ابن عساكر : وأنا محمد بن عمر ، حدّثني خالد بن القاسم ، عن سعيد بن عمرو قال : رأيت منادي عثمان بن حيّان ينادي : برئت ذمّة آله ممّن آوى عراقياً ، وكان عندنا رجل من أهل البصرة له فضل يُقال له : سوادة ، من العبّاد ، فقال : والله ما أحبّ أن اُدخل عليكم مكروهاً ، بلّغوني مأمني.

قال : قلت : لا خير لك في الخروج ؛ إنّ الله يدفع عنّا وعنك.

__________________

(١) وردت العبارة في المصدر الأساس (والله لو عضلوا أبي) ، وما أثبتناه بين المعقوفتين هو من تاريخ الطبري. (موقع معهد الإمامين الحسنَين)

(٢) وجفَ : الوجف : سرعة السير. (كتاب العين)

(٣) تاريخ مدينة دمشق ٣٨ / ٣٤٤.

٣٣٦

قال : فأدخلته بيتي ، وبلغ عثمان بن حيّان فبعث أحراساً ، فأدخلته إلى بيت آخر ، فما قدروا على شيء (وكان الذي سعى بي عدوّاً) ، فقلت : أصلح الله الأمير! تؤتي بالباطل فلا تعاقب عليه؟! قال : فضرب الذي سعى بي عشرين سوطاً.

وأخرجنا العراقي ، فكان يصلّي معنا ، ما يغيب عنّا يوماً واحداً ، وحدب عليه أهل دارنا وقالوا : نموت دونك. فما برح معنا في بني اُميّة بن زيد حتّى عُزل الخبيث (١).

أقول : نزع سليمان عثمان بن حيّان عن المدينة لتسع ليال بقين من رمضان سنة ست وتسعين ، وكانت إمارته على المدينة ثلاث سنين إلاّ سبع ليال ، وولّى سليمان بن حزم على المدينة (٢).

قال إسحاق بن الأشعث بن قيس الكندي : قال : كنت في صحابة عمر بن عبد العزيز فاستأذنته في الانصراف إلى أهلي بالكوفة ، فقال لي عمر : إذا أتيت العراق فأقرّهم ولا تستقرّهم ، وعلّمهم ولا تتعلّم منهم ، وحدّثهم ولا تسمع حديثهم.

قال المؤلِّف : وكان من بين هؤلاء العراقيين المختفين في الحجاز سعيد بن جبير ، الذي قتله الحجّاج بعد [أن] سلّمه إليه خالد القسري.

__________________

(١) تاريخ دمشق ـ لابن عساكر ٣٨ / ٣٤٥.

(٢) قال ابن عساكر : وفي سنة أربع وتسعين نزع الوليد عمر بن عبد العزيز عن أهل المدينة وولاّها عثمان بن حيّان القرشي. قال : وفي سنة ست وتسعين نزع عثمان بن حيّان عن أهل المدينة وأمّر أبا بكر بن حزم الأنصاري. وقال : كان عثمان بن حيّان أميراً على المدينة في خلافة الوليد بن عبد الملك. قال : وكان ابن حزم يومئذ قاضياً. قال : فعزل عثمان بن حيّان بعد ذلك وولي أبا بكر بن حزم بعده.

٣٣٧

ثورة زيد بن علي رحمه‌الله

قال البلاذري وهو يترجم لزيد بن علي رحمه‌الله : وقرأت في كتب سالم كاتب هشام كتاباً نسخته :

أمّا بعد ، فقد عرفت حال أهل الكوفة في حبِّهم أهل البيت ، ووضعهم إيّاهم في غير مواضعهم ؛ لافتراضهم على أنفسهم طاعتهم ، ووظَّفوا عليهم شرائع دينهم ، ونحلتهم إيّاهم عظيم ما هو كائن ممَّا استأثر الله بعلمه دونهم ، حتّى حملوهم على تفريق الجماعة والخروج على الأئمة. وقد قَدِم زيد بن علي على أمير المؤمنين في خصومة ، فرأى رجلاً جدلاً لسناً ، حوَّلاً قُلَّباً (١) ، خليقاً بصوغ الكلام وتمويهه ، واجترار الرجال بحلاوة لسانه ، وكثرة مخارجه في حججه ، وما يدلي به عند الخصام من العلو على الخصم بالقوَّة المؤدّية إلى الفلج رحمه‌الله ، فعجِّل إشخاصه إلى الحجاز ، ولا تدعه المقام قِبَلك ؛ فإنَّه إن أعاره القوم أسماعهم فحشاها من لين لفظه ، وحلاوة منطقه مع ما يدلي به من القرابة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجدهم مُيَّلاً إليه (٢) ، غير مُتَّئِدة قلوبهم ، ولا ساكنة أحلامهم ، ولا مصونة عندهم أديانهم ، وبعض التحامل عليه فيه أذى له ، وإخراجه وتركه مع السلامة للجميع ، والحقن للدماء ، والأمن للفرقة أحبُّ إليَّ من أمر فيه سفك دمائهم ، وانتشار كلمتهم ، وقطع نسلهم. والجماعة حبل الله المتين ، ودين الله القويم ، وعروته الوثقى ، فادع إليك أشراف أهل المصر ، وأوعدهم العقوبة

__________________

(١) رجل حوَّل : ذو حيل ، كتاب العين.

(٢) إلى هنا ينتهي نصّ الكتاب لدى البلاذري ٣ / ٤٣٤.

٣٣٨

في الأبشار ، واستصفاء الأموال ؛ فإنَّ مَنْ له عقد أو عهد منهم سيبطئ عنه ، ولا يخف معه إلاَّ الرعاع وأهل السواد ، ومَنْ تنهضه الحاجة استلذاذاً للفتنة ، واُولئك ممَّن يستعبد إبليس وهو يستعبدهم ، فبادرهم بالوعيد ، واعضضهم بسوطك ، وجرِّد فيهم سيفك ، وأخف الأشراف قبل الأوساط ، والأوساط قبل السفلة. واعلم أنَّك قائم على باب اُلفة ، وداع إلى طاعة ، وحاضّ على جماعة ، ومشمِّر لدين الله ، فلا تستوحش لكثرتهم ، واجعل معقلك الذي تأوي إليه ، وصغوك الذي تخرج منه الثقة بربِّك ، والغضب لدينك ، والمحاماة عن الجماعة ، ومناصبة مَنْ أراد كسر هذا الباب الذي أمرهم الله بالدخول فيه ، والتشاح عليه ؛ فإنَّ أمير المؤمنين قد أعذر إليه ، وقضى من ذمامه ، فليس له منزى إلى ادّعاء هو له ظلمة من نصيب نفسه ، أو فيء ، أو صلة لذي قربى إلاَّ الذي خاف أمير المؤمنين من حمل بادرة السفلة على الذي عسى أن يكونوا به أشقى وأضلَّ. ولهم أمر ، ولأمير المؤمنين أعزّ وأسهل إلى حياطة الدين والذبِّ عنه ؛ فإنَّه لا يحبُّ أن يرى في أمَّته حالاً متفاوتاً ، نكالاً لهم مفنياً ، فهو يستديم النظرة ، ويتأتى للرشاد ، ويجتنبهم على المخاوف ، ويستجرهم إلى المراشد ، ويعدل بهم عن المهالك ، فعل الوالد الشفيق على ولده ، والراعي الحدب على رعيته. واعلم أنَّ من حجّتك عليهم في استحقاق نصر الله لك عند معاندتهم توفيتك أطماعهم واُعطية ذرّيتهم ، ونهيك جندك أن ينزلوا حريمهم ودورهم ، فانتهز رضا الله فيما أنت بسبيله ؛ فإنَّه ليس ذنب أسرع تعجيل عقوبة مَنْ بغى ، وقد أوقعهم الشيطان ، ودلاّهم فيه ، ودلَّهم عليه ، والعصمة بتارك البغي أولى ، فأمير المؤمنين يستعين الله عليهم ، وعلى غيرهم من رعيته ، ويسأل إلهه ومولاه ووليه أن يصلح منهم ما كان فاسداً ، وأن يسرع بهم إلى النجاة والفوز إنَّه سميع قريب (١).

قال البلاذري : وكتب زيد إلى أهل الآفاق كتباً يصف فيها جور بني اُميّة ، وسوء سيرتهم ، ويحضهم على الجهاد ، ويدعوهم إليه ، وقال : لا تقولوا خرجنا غضباً لكم ، ولكن قولوا خرجنا غضباً لله ودينه.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ / ١٧٠ ـ ١٧١ ، ولم يذكر الطبري مصدره الذي أخذ الرواية عنه.

٣٣٩

وكان زيد إذا بويع قال : أدعوكم إلى كتاب الله ، وسنّة نبيّه ، وجهاد الظالمين ، والدفع عن المستضعفين ، وإعطاء المحرومين ، وقسم هذا الفيء على أهله ، ورد المظالم ، وإقفال الُمجَمَّرة ، ونصرنا أهل البيت على مَنْ نصب لنا الحرب ، أتبايعون على هذا؟ فيبايعونه ويضع يده على يد الرجل ثمّ يقول : عليك عهد الله وميثاقه لتفينَّ لنا ، ولتنصحنَّ في السرّ والعلانية ، والرخاء والشدّة ، والعسرة واليسرة. فيماسح على ذلك (١).

قال البلاذري : وبعث يوسف بن عمر إلى اُمّ امرأة لزيد أزدية ، فهدم دارها وحُملت إليه ، فقال لها : أزوَّجتِ زيداً؟ قالت : نعم ، زوّجته وهو سامع مطيع ، ولو خطب إليك إذ كان كذلك لزوَّجته. فقال : شُقّوا عليها ثيابها. فجلدها بالسياط وهي تشتمه وتقول : ما أنت بعربي ، تعرِّيني وتضربني لعنك الله! فماتت تحت السياط ، ثمّ أمر بها فأُلقيت في العراء ، فسرقها قومها ودفنوها في مقابرهم.

وأخذ امرأة قوَّت زيداً على أمره فأمر بها أن تُقطع يدها ورجلها ، وضرب عنق زوجها.

وضرب امرأة أشارت على اُمّها أن تؤوي ابنة لزيد خمسمئة سوط.

وهدم دوراً كثيرة.

وأُتِيَ يوسف بعبد الله بن يعقوب السلمي من ولد عتبة بن فرقد (وكان زوَّجَ ابنته من يحيى بن زيد) ، فقال له يوسف : ائتني بابنتك. قال : وما تصنع بها؟ جارية عاتق (٢) في البيت. قال : أقسم لتأتيني بها أو لأضربنَّ عنقك. (وقد كان كتب إلى هشام يصف طاعته) فأبى أن يأتيه بابنته ، فضرب عنقه ، وأمر العريف أن يأتيه بابنة عبد الله بن يعقوب فأبى ، فأمر به فدُقَّت.

قال البلاذري : ولمّا فرغ يوسف من أمر زيد صعد منبر الكوفة فشتم أهلها ، وقال : يا

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣ / ٤٣٤ ـ ٤٣٥.

(٢) العاتق : الجارية أوّل ما أدركت.

٣٤٠