الحسين عليه السلام في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام

السيّد سامي البدري

الحسين عليه السلام في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام

المؤلف:

السيّد سامي البدري


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: ياسين
الطبعة: ١
ISBN: 964-499-093-5
الصفحات: ٥٢٧

قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَنْ يريد أن يحيا حياتي ، ويموت موتي ، ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي فليتولّ علي بن أبي طالب ؛ فإنّه لن يخرجكم من هدى ، ولن يدخلكم في ضلالة». (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه).

الطبقات الكبرى ٣ / ٢٣ روح بن عبادة قال : أخبرنا عون ، عن ميمون ، عن البرّاء بن عازب وزيد بن أرقم قالا : لمّا كان عند غزوة جيش العسرة وهي تبوك ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي بن أبي طالب : «إنّه لا بدّ من أن اُقيم أو تُقيم». فخلّفه ، فلمّا فصل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله غازياً قال ناس : ما خلّف علياً إلاّ لشيء كرهه منه. فبلغ ذلك علياً ، فأتبع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى انتهى إليه ، فقال له : «ما جاء بك يا علي؟». قال : «لا يا رسول الله ، إلاّ إنّي سمعت ناساً يزعمون أنّك إنّما خلّفتني لشيء كرهته منّي». فتضاحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : «يا علي ، أما ترضى أن تكون منّي كهارون من موسى غير أنّك لست بنبي؟». قال : «بلى يا رسول الله». قال : «فإنّه كذلك».

الفضائل ٢ / ٦٤٥ حدّثنا الفضل بن الحباب ، ثنا إبراهيم بن بشار الرمادي ، نا سفيان ، ثنا الأجلح بن عبد الله الكندي ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن الخليل ، عن زيد بن أرقم قال : أتى علي باليمن بثلاثة نفر وقعوا على جارية في طهر واحد ، فولدت ولداً فادعوه ، فقال علي لأحدهم : «تطيب به نفساً لهذا؟». قال : لا. وقال لآخر : «تطيب به نفساً لهذا؟». قال : لا. وقال للآخر : «تطيب به نفساً لهذا؟». قال : لا. فقال : «أراكم شركاء متشاكسون. إنّي مقرع بينكم فأيّكم أصابته القرعة أغرمته ثلثي القيمة ، وألزمته الولد». فذكروا ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : «ما أجد فيها إلاّ ما قال علي».

الفضائل ٢ / ٦٦٤ حدّثنا الحسن ، ثنا الحسن بن علي بن راشد ، نا شريك ، ثنا الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي الطفيل ، عن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَنْ أحبّ أن يستمسك بالقضيب الأحمر الذي غرسه الله عزّ وجلّ في جنّة عدن بيمينه ، فليتمسّك بحبّ علي بن أبي طالب».

٣٠١

وروى ابن ديزيل ، قال : حدّثنا يحيى بن زكريا ، قال : حدّثنا على بن القاسم ، عن سعيد بن طارق ، عن عثمان بن القاسم ، عن زيد بن أرقم ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ألا أدلّكم على ما إن تساءلتم عليه لم تهلكوا؟ إنّ وليكم الله ، وإنّ إمامكم علي بن أبى طالب ، فناصحوه وصدّقوه ؛ فإنّ جبريل أخبرني بذلك» (١).

وعن إسماعيل السدي ، عن زيد بن أرقم ، قال : كنّا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في الحجرة يوحى إليه ، ونحن ننتظره حتّى اشتدّ الحرّ ، فجاء علي بن أبي طالب ومعه فاطمة وحسن وحسين عليهم‌السلام ، فقعدوا في ظلّ حائط ينتظرونه ، فلمّا خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، رآهم فأتاهم ووقفنا نحن مكاننا ، ثمّ جاء إلينا وهو يظلهم بثوبه ، ممسكاً بطرف الثوب ، وعلي ممسك بطرفه الآخر ، وهو يقول : «اللّهمّ إنّي أحبّهم فأحبّهم ، اللّهمّ إنّي سلم لمَنْ سالمهم ، وحرب لمَنْ حاربهم». قال : فقال ذلك ثلاث مرّات (٢).

وروى المدائني ، عن زيد بن أرقم قال : خرج الحسن عليه‌السلام وهو صغير ، وعليه بردة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يخطب ، فعثر فسقط ، فقطع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الخطبة ونزل مسرعاً إليه ، وقد حمله الناس ، فتسلّمه وأخذه على كتفه ، وقال : «إنّ الولد لفتنة ، لقد نزلت إليه وما أدرى». ثمّ صعد فأتمّ الخطبة (٣).

قال الواقدي : فحدّثني ابن أبي سبرة ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن رافع بن إسحاق ، عن زيد بن أرقم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خطبهم فأوصاهم ، فقال : «أوصيكم بتقوى الله ، وبمَنْ معكم من المسلمين خيراً ؛ اغزو باسم الله وفي سبيل الله ، قاتلوا مَنْ كفر بالله ، لا تغدروا ولا تغلوا ، ولا تقتلوا وليداً ، وإذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث ، فأيّتهنّ أجابوك إليها فاقبل منهم ، واكفف عنهم. ادعهم إلى الدخول في

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٣ / ٩٨.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٣ / ٢٠٨.

(٣) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٦١ / ٢٧.

٣٠٢

الإسلام ، فإن فعلوا فاقبل واكفف ، ثمّ ادعهم إلى التحوّل من دارهم إلى المهاجرين ، فإن فعلوا فأخبرهم أنّ لهم ما للمهاجرين ، وعليهم ما على المهاجرين. وإن دخلوا في الإسلام واختاروا دارهم فأخبرهم أنّهم يكونون كأعراب المسلمين ، يجري عليهم حكم الله ، ولا يكون لهم في الفيء ولا في الغنيمة شيء إلاّ أن يجاهدوا مع المسلمين ، فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية ، فإن فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم ، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإن أنت حاصرت أهل حصن أو مدينة فأرادوا أن تستنزلهم على حكم الله فلا تستنزلهم على حكم الله ، ولكن أنزلهم على حكمك ؛ فإنّك لا تدرى أتصيب حكم الله فيهم أم لا ، وإن حاصرت أهل حصن أو مدينة وأرادوا أن تجعل لهم ذمّة الله وذمّة رسول الله فلا تجعل لهم ذمّة الله وذمّة رسول الله ، ولكن اجعل لهم ذمّتك وذمّة أبيك وأصحابك ؛ فإنّكم إن تخفروا (١) ذممكم وذمم آبائكم خير لكم من أن تخفروا ذمّة الله وذمّة رسوله» (٢).

قال ابن أبي الحديد : وروى عن زيد بن أرقم من طرق مختلفة أنّه قيل له : بأيّ شيء كفّرتم عثمان؟ فقال : بثلاث ؛ جعل المال دولة بين الأغنياء ، وجعل المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمنزلة مَنْ حارب الله ورسوله ، وعمل بغير كتاب الله (٣).

وكذلك روايات عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وعامر بن واثلة وعطية ونظرائهم ، وستأتي في فصل قادم من هذا الكتاب.

الحرب بين مصعب والمختار :

قال الطبري : وفي هذه السنة (٦٧ هـ) سار مصعب بن الزبير إلى المختار فقتله.

قال هشام بن محمد ، عن أبي مخنف ، حدّثني حبيب بن بديل قال : لمّا قدم شبث على مصعب بن الزبير البصرة ، وتحته بغلة له قد قطع ذنبها ، وقطع طرف اُذنها ، وشقّ قباءه

__________________

(١) الأخفار : عدم الوفاء للمجير. والخفارة : الذمّة. (كتاب العين ـ مادة خَفَر).

(٢) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١٥ / ٦٤.

(٣) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٣ / ٥١.

٣٠٣

وهو ينادي : يا غوثاه! يا غوثاه! فأتى مصعب ، فقيل له : إنّ بالباب رجلاً ينادي : يا غوثاه! يا غوثاه! مشقوق القباء ، من صفته كذا وكذا ، فقال لهم : نعم ، هذا شبث بن ربعي ، لم يكن ليفعل هذا غيره ، فأدخلوه. فأُدخل عليه ، وجاءه أشراف الناس من أهل الكوفة فدخلوا عليه ، فأخبروه بما أُصيبوا به ، وسألوه النصر لهم والمسير إلى المختار معهم.

أقول : ولا بدّ أنّ شبثاً وأصحابه قالوا لمصعب : إنّ المختار وأصحابه قد أظهر هو وسبائيته البراءة من الأسلاف الصالحين (١).

قال أبو مخنف : فحدّثني أبو يوسف بن يزيد أنّ مصعب لمّا أراد المسير إلى الكوفة حين أكثر الناس عليه قال لمحمد بن الأشعث : إنّي لا أسير حتّى يأتيني المهلّب بن أبي صفرة. فكتب مصعب إلى المهلّب وهو عامله على فارس : أن أقبل إلينا لتشهد أمرنا ، فإنّا نريد المسير إلى الكوفة.

فخرج المهلّب وأقبل بجموع كثيرة وأموال عظيمة معه.

وخرج مصعب ، فقدّم أمامه عبّاد بن الحصين الحبطي من بني تميم على مقدّمته ، وبعث عمر بن عبيد الله بن معمر على ميمنته ، وبعث المهلّب بن أبي صفرة على ميسرته ، وجعل مالك بن مسمع على خمس بكر بن وائل ، ومالك بن المنذر على خمس عبد القيس ،

__________________

(١) روى الطبري قال : قال أبو مخنف : فحدّثني قدامة بن حوشب قال : جاء شبث بن ربعي ، وشمر بن ذي الجوشن ، ومحمد بن الأشعث ، وعبد الرحمن بن سعيد بن قيس ، حتّى دخلوا على كعب بن أبي كعب الخثعمي ، فتكلّم شبث وقال فيما يعتب المختار : إنّه زعم أنّ ابن الحنفيّة بعثه إلينا ، وقد علمنا أنّ ابن الحنفيّة لم يفعل ، وأظهر هو وسبائيته البراءة من أسلافنا الصالحين (تاريخ الطبري ٤ / ٥١٨). أقول : إنّ أبا مخنف يجعل هذه الواقعة في الكوفة بعد روايته قيام ثورة ضدّ المختار من قِبل شبث وأصحابه من قَتَلة الحسين ، ولم يكن قد بدأ بقتلهم ، غير أننا نرى أنّ المختار حين قام وجرت معركة بينه وبين شبث وأصحابه وابن مطيع مع المختار وأصحابه لم يؤمن قتلة الحسين عليه‌السلام ، بل قتلهم في تلك الواقعة واقتصّ منهم ، ثمّ هرب شبث وأصحابه إلى البصرة ، وشبث يعرف أنّ اُطروحة المختار وأصحابه هي أطروحة علي ، (وموقف علي عليه‌السلام من الحكّام الذين قبله معروف). والسبائية في النصّ لقب ظهر في العهد العباسي الأوّل يشير إلى الشيعة القائلين بالنصّ لعلي عليه‌السلام ، الذي يترتّب عليه البراءة من عدوّه.

٣٠٤

والأحنف بن قيس على خمس تميم ، وزياد بن عمرو الأزدي على خمس الأزد ، وقيس بن الهيثم على خمس أهل العالية. ومعهم بقيّة الجيش الذي قاتل الحسين عليه‌السلام الذين فرّوا إلى البصرة ؛ منهم شبث بن ربعي ، ومحمد بن الأشعث ، وزحر بن قيس ، وحجّار بن أبجر وغيرهم ، ومنهم أيضاً عبيد الله بن الحرّ الجعفي.

وبلغ ذلك المختار ، فقام في أصحابه ، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال :

يا أهل الكوفة ، يا أهل الدين وأعوان الحقِّ ، وأنصار الضعيف ، وشيعة الرسول وآل الرسول ، إنّ فُرّارَكم الذين بغوا عليكم أتوا أشباههم من الفاسقين فاستغووهم عليكم ؛ ليمصح (١) الحق وينتعش الباطل ، ويقتل أولياء الله ، والله لو تهلكون ما عبد الله في الأرض إلاّ بالفري على الله واللعن لأهل بيت نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثمّ التقى أصحاب مصعب مع أصحاب المختار ، وجرت بينهما وقعات كثيرة انتهت بقتل المختار ، وقتل سبعة آلاف من المقاتلين وغيرهم ممّن تحصّنوا بالقصر ، ثمّ استؤمنوا ثمّ قُتلوا جميعاً.

مصعب يقتل سبعة آلاف من الشيعة صبراً :

قال بجير بن عبد الله المسلي ، أحد المحصورين في القصر حين اُتي به مصعب ومعه منهم ناس كثير يخاطب مصعباً :

الحمد لله الذي ابتلانا بالإسار وابتلاك بأن تعفو عنّا ، وهما منزلتان إحداهما رضا الله والاُخرى سخطه. مَنْ عفا عفا الله عنه وزاده عزّاً ، ومَنْ عاقب لم يأمن القصاص.

__________________

(١) مصح الشيء يمصح مصوحاً ، إذا رسخ. (كتاب العين)

٣٠٥

يابن الزبير ، نحن أهل قبلتكم وعلى ملّتكم ، ولسنا تركاً ولا ديلماً ؛ فإن خالفنا إخواننا من أهل مصرنا ؛ فإمّا أن نكون أصبنا وأخطئوا ، وإمّا أن نكون أخطأنا وأصابوا ، فاقتتلنا كما اقتتل أهل الشام بينهم ، فقد اختلفوا واقتتلوا ثمّ اجتمعوا ، وكما اقتتل أهل البصرة بينهم فقد اختلفوا واقتتلوا ، ثم اصطلحوا واجتمعوا ، وقد ملكتم فأسجحوا (١) ، وقد قدرتم فاعفو.

فما زال بهذا القول ونحوه حتّى رقَّ لهم الناس ، ورقَّ لهم مصعب ، وأراد أن يخلّي سبيلهم.

فقام عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فقال : تخلّي سبيلهم؟! اخترنا يابن الزبير أو اخترهم.

ووثب محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني فقال : قتل أبي وخمسمئة من همدان ، وأشراف العشيرة ، وأهل المصر ، ثمّ تخلّي سبيلهم ودماؤنا ترقرق في أجوافهم؟! اخترنا أو اخترهم.

ووثب كلّ قوم وأهل بيت كان أُصيب منهم رجل ، فقالوا نحواً من هذا القول ، فلمّا رأى مصعب بن الزبير ذلك أمر بقتلهم.

فنادوه بأجمعهم : يابن الزبير ، لا تقتلنا ، اجعلنا مقدّمتك إلى أهل الشام غداً ، فوالله ما بك ولا بأصحابك عنّا غداً غنى إذا لقيتم عدوّكم ؛ فإن قتلنا لم نقتل حتّى نرقهم لكم ، وإن ظفرنا بهم كان ذلك لك ولمَنْ معك.

فأبى عليهم وتبع رضا العامّة.

قال أبو مخنف : وحدّثني أبي قال : حدّثني أبو روق : أنّ مسافر بن سعيد بن نمران قال لمصعب بن الزبير :

__________________

(١) الأسجاح : حسن العفو. (كتاب العين)

٣٠٦

يابن الزبير ، ما تقول لله إذا قدمت عليه وقد قتلت أمّة من المسلمين صبراً؟ حكموك في دمائهم فكان الحقّ في دمائهم ألاّ تقتل نفساً مسلمة بغير نفس مسلمة ؛ فإن كنّا قتلنا عدّة رجال منكم فاقتلوا عدّة مَنْ قتلنا منكم وخلّوا سبيل بقيتنا ، وفينا الآن رجال كثير لم يشهدوا موطناً من حربنا وحربكم يوماً واحداً ، كانوا في الجبال والسواد يجبون الخراج ويؤمنون السبيل.

فلم يستمع له.

قال أبو جعفر : وحدّثني عمر بن شبة قال : حدّثنا علي بن محمد قال : لمّا قُتل المختار شاور مصعب أصحابه في المحصورين الذين نزلوا على حكمه. فقال عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ، ومحمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس وأشباههم ممّن وترهم المختار : اقتلهم.

وضجّت ضجّة وقالوا : دم منذر بن حسان.

فقال عبيد الله بن الحرّ : أيّها الأمير ، ادفع كلّ رجل في يديك إلى عشيرته تمنّ عليهم بهم ؛ فإنّهم إن كانوا قتلونا فقد قتلناهم ، ولا غنى بنا عنهم في ثغورنا. فأمر مصعب بالقوم جميعاً فقتلوا ، وكانوا ستة آلاف.

فقال عقبة الأسدي :

قتلتم ستةَ الآلاف صبراً

مع العهدِ الموثّقِ مكتفينا

وما كانوا غداةَ دعوا فغروا

ذلولاً ظهره للواطئينا

جعلتم ذمّةَ الحبطي جسراً

بعهدهمُ بأوّلِ خائنينا

قال أبو مخنف : حدّثني محمد بن يوسف أنّ مصعباً لقي عبد الله بن عمر ، فسلّم عليه وقال له : أنا ابن أخيك مصعب.

٣٠٧

فقال له ابن عمر : نعم ، أنت القاتل سبعة آلاف (١) من أهل القبلة في غداة واحدة ، عش ما استطعت.

فقال مصعب : إنّهم كانوا كفرة سحرة.

فقال ابن عمر : والله ، لو قتلت عدّتهم غنماً من تراث أبيك لكان ذلك سرفاً.

ثمّ إنّ مصعب أمر بكفّ المختار فقطعت ، ثمّ سمرت بمسمار حديد إلى جنب المسجد ، فلم يزل على ذلك حتّى قدم الحجّاج بن يوسف فنظر إليها ، فقال : ما هذه؟ قالوا : كفّ المختار. فأمر بنزعها.

مصعب يقتل زوجة المختار بفتوى أخيه عبد الله :

قال المسعودي : وكان من جملة مَنْ أدركه الإحصاء ممّن قتله مصعب مع المختار سبعة آلاف رجل ، كلّ هؤلاء طالبون بدم الحسين عليه‌السلام وقتلة أعدائه ، فقتلهم مصعب وسمّاهم الخشبية.

وتتبّع مصعب الشيعة بالقتل بالكوفة وغيرها.

اُتي بحرم المختار فدعاهنّ إلى البراءة منه ففعلنّ ، إلاّ حرمتين له :

إحداهما بنت سمرة بن جندب الفزاري ، والثانية ابنة النعمان بن بشير الأنصاري ، وقالتا : كيف نبرأ من رجل يقول ربّي الله؟! كان صائماً نهاره ، قائماً ليله ، قدّم دمه لله ولرسوله في طلب قتلة ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهله وشيعته ، فأمكنه الله منهم حتّى شفى النفوس.

فكتب مصعب إلى أخيه عبد الله بخبرهما وما قالتاه.

فكتب إليه : إنْ هما رجعتا عمّا هما عليه وتبرّأتا منه وإلاّ فاقتلهما.

فعرضهما مصعب على السيف ، فرجعت بنت سمرة ولعنته وتبرّأت منه ، وقالت :

__________________

(١) قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ٢ / ٢٠ : إنّهم كانوا ثمانية آلاف.

٣٠٨

لو دعوتني إلى الكفر مع السيف لكفرت ، أشهد أنّ المختار كافر.

وأبت ابنة النعمان بن بشير ، وقالت : شهادة أُرزقها فأتركها؟ كلاّ ، إنّها موتة ثمّ الجنّة والقدوم على الرسول وأهل بيته. والله ، لا يكون آتي مع ابن هند فاتبعه وأترك علي بن أبي طالب. اللّهمّ اشهد أنّي متّبعة لنبيّك وابن بنته وأهل بيته وشيعته ، ثمّ قدّمها فقُتلت صبراً (١).

فقال عمر بن أبي ربيعة القرشي في قتل مصعب عمرة بنت النعمان بن بشير :

إنّ من أعجبِ العجائب

عندي قتلَ بيضاءَ حرّةٍ عطبولِ

قُتلت هكذا على غيرِ جرمٍ

إنّ لله درَّها من قتيلِ

كُتب القتلُ والقتالُ علينا

وعلى المحصناتِ جرُّ الذيولِ

فقال سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت في ذلك :

ألم تعجب الأقوامُ من قتلِ حرّةٍ

من المحصناتِ الدينِ محمودةِ الأدبْ

من الغافلاتِ المؤمناتِ بريئةٍ من

الذمِّ والبهتانِ والشكِ والكذبْ

عجبتُ لها إذ كُفّنت وهي حيّة ألا

إنّ هذا الخطب من أعجبِ العجبْ

بعث مصعب عمّاله على الجبال والسواد ، ثمّ إنّه كتب إلى ابن الأشتر يدعوه إلى طاعته ويقول له : إن أنت أجبتني ودخلت في طاعتي فلك الشام وأعنّة الخيل ، وما غلبت عليه من أرض المغرب ما دام لآل الزبير سلطان.

وكتب عبد الملك بن مروان من الشام إليه يدعوه إلى طاعته ويقول : إن أنت أجبتني ودخلت في طاعتي فلك العراق. فدعا إبراهيم أصحابه ، فقال : ما ترون؟ فقال بعضهم : تدخل في طاعة عبد الملك. وقال بعضهم : تدخل مع ابن الزبير في طاعته. فقال ابن الأشتر : ذاك لو لم أكن أصبت عبيد الله بن زياد ولا رؤساء أهل الشام تبعت عبد الملك ، مع أنّي لا أحبّ أن أختار على أهل مصري مصراً ، ولا على عشيرتي عشيرة. فكتب إلى مصعب ، فكتب إليه مصعب : أن اقبل ، فأقبل إليه بالطاعة.

__________________

(١) مروج الذهب ٣ / ٩٩ ـ ١٠٠.

٣٠٩

استخلف مصعب على الكوفة القُباع ، وكان والياً من قبله على البصرة ، وأمره أن يجعل عمرو بن حريث خليفته ، وولّى القُباع شُرَطَه شبث بن رِبعي.

عبد الله بن الزبير يُحيي سيرة الشيخين في الكوفة :

صفا الجو لعبد الله بن الزبير في الحجاز والعراق واليمن وجزء من فارس مدّة خمس سنوات ، ونفّذ سياسته الإعلامية (١) التي يريد ضدّ علي عليه‌السلام وشيعته بأسلوبين :

الاُسلوب الأوّل : استخدمه في الحجاز ، وهو المنع من العمل بمدرسة علي في إحياء السنّة النبويّة ، والمنع من نشر أحاديث النبي في أهل بيته ، وتطويق ابن عباس وابن الحنفيّة وأصحابهم ، ثمّ إبعادهم أخيراً إلى الطائف. وقد استمرت هذه السياسة بعد قتل ابن الزبير حين حكم بنو اُميّة الجاز ... وفي ضوء ذلك كان محبّو أهل البيت في الحجاز في تلك الفترة قليلين. روى أبو عمر النهدي قال : سمعت علي بن الحسين عليه‌السلام يقول : «ما بمكة والمدينة عشرون رجلاً يحبّنا» (٢).

__________________

(١) كانت سياسة عبد الله بن الزبير الإعلامية ذات شقين ؛ الأوّل : يرتبط بالموقف من مدرسة علي ، وهو ما ذكرناه في المتن. الثاني : يرتبط بالموقف من بني اُميّة ويرتكز على تبنّي نشر أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في بني اُميّة.

(٢) قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ٤ / ١٠١ كان سعيد بن المسيب منحرفاً عن أمير المؤمنين ، وجبهه محمد بن علي في وجهه بكلام شديد. روى عبد الرحمن بن الأسود ، عن أبي داود الهمداني قال : شهدت سعيد بن المسيب ، وأقبل عمر بن علي بن أبي طالب ، فقال له سعيد : يابن أخي ، ما أراك تكثر غشيان مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما تفعل إخوتك وبنو عمك؟ فقال عمر : يابن المسيّب ، أكلّما دخلت المسجد أجيء فأشهدك؟ فقال سعيد : ما أحبّ أن تغضب. سمعت أباك يقول : «إنّ لي من الله مقاماً لهو خير لبني عبد المطلب ممّا على الأرض من شيء». فقال عمر : وأنا سمعت أبي يقول : «ما كلمة حكمة في قلب منافق فيخرج من الدنيا حتّى يتكلّم بها». فقال سعيد : يابن أخي ، جعلتني منافقاً؟! فقال : هو ما أقول. ثمّ انصرف.

وكان الزهري من المنحرفين عنه. وروى جرير بن عبد الحميد ، عن محمد بن شيبة قال : شهدت مسجد المدينة ، فإذا الزهري وعروة بن الزبير جالسان يذكران علياً فنالا منه ، فبلغ ذلك علي بن الحسين عليه‌السلام

٣١٠

الاُسلوب الثاني : استخدمه في العراق وبخاصّة في الكوفة ، وهو إعلان البراءة من المختار ، ووضع الأحاديث الكاذبة ضدّه ، ثم عرض الناس على البراءة أو القتل ، وقد افتتح ابن الزبير عهده في الكوفة بعد قتل المختار بقتل سبعة آلاف من الشيعة صبراً بعد أن آمنهم على نفوسهم ، ولم يتورّع عبد الله بن الزبير أن يأمر أخاه مصعباً بعرض زوجتي المختار على البراءة من المختار أو القتل ، فتبرّأت ابنة سمرة بن جندب خوفاً ، ولم تتبرّأ ابنة النعمان بن بشير ؛ رغبة في الشهادة.

لقد أعادت ولاية مصعب وسياسته إلى الذاكرة في الكوفة عهد زياد وابنه عبيد الله فيها.

بقي ابن الزبير يكره أهل العراق ولا يخفي ذلك عنهم.

عبد الله بن الزبير يطعن أهل العراق :

قال ابن قتيبة : قدم مصعب على أخيه عبد الله بن الزبير في سنة إحدى وسبعين ومعه رؤساء أهل العراق ووجوهم وأشرافهم ، فقال : يا أمير المؤمنين ، قد جئتك برؤساء أهل العراق وأشرافهم ، كلّ مطاع في قومه ، وهم الذين سارعوا إلى بيعتك ، وقاموا بإحياء دعوتك ، ونابذوا أهل معصيتك ، وسعوا في قطع عدوّك (١).

فقال له عبد الله بن الزبير اسكت:

فوالله ، لوددت أنّ لي بكلّ عشرة من أهل العراق واحداً من أهل الشام ، صرف الدينار بالدراهم.

فقال أبو حاضر الأسدي : يا أمير المؤمنين ، إنّ لنا ولك مثلاً ، أفتأذن في ذكره؟

قال : نعم.

__________________

فجاء حتّى وقف عليهما ، فقال : «أمّا أنت يا عروة ، فإنّ أبي حاكم أباك إلى الله فحكم لأبي على أبيك ، وأمّا أنت يا زهري ، فلو كنت بمكة لأريتك كرامتك». (بحار الأنوار ـ العلامة المجلسي ٦٤ / ١٤٣).

(١) الإمامة والسياسة ٢ / ٢٠.

٣١١

قال : مَثَلُنا ومثَلُك ومَثَل أهل الشام ، قول الأعشى :

عُلِّقْتُها عَرَضاً وعُلِّقت رجلاً غيري

وعُلِّقَ اُخرى غيرَها الرَّجُلُ

أحبَّك أهلُ العراق وأحببتَ أهل الشام ، وأحبَّ أهلُ الشام عبدَ الملك ، فما تصنع؟(١)

أقول :

يريد المتكلّم بأهل العراق في حديثه : أهل البصرة ، ورؤوس الجيش الكوفي الذين قاتلوا الحسين ؛ شبث بن ربعي ، وحجّار بن أبجر ، ومحمد بن الأشعث ، ونظراءهم الذين بايعوا لدُحروجة الجُعل والياً لعبد الله بن الزبير بعد موت يزيد.

قال البلاذري : ولمّا جاء عبد الله بن الزبير خبر مقتل أخيه مصعب أضرب عن ذكره أياماً ، ثمّ صعد المنبر فجلس عليه مليّاً لا يتكلّم ، والكآبة بادية في وجهه ، ثمّ قال : ... إنّه أتانا خبر من العراق أحزننا ... إنّ أهل العراق أهل الغدر والنفاق ، أسلموه وباعوه بأقل ثمن وأخَسِّه ... (٢).

أقول :

إنّ أهل الغدر هؤلاء الذين يشير إليهم ابن الزبير هم الذين عُرِفوا بنفاقهم وارتباطهم ببني اُميّة أيام علي عليه‌السلام ، ثمّ تولّوا الأمور بعد وفاة الحسن عليه‌السلام ، ونفّذوا خطّة معاوية وابنه يزيد في تصفية مدرسة علي عليه‌السلام ، كما مرّ بحثه في فصل خطّة معاوية في تصفية التشيّع في الكوفة.

وهل يترقّب عبد الله بن الزبير من الوجوه التي شهدت على حجر بن عدي زوراً لقتله ، أو قتلت الحسين عليه‌السلام وصحبه وأهل بيته أن تكون وفيّة له ولأخيه مصعب ، وهي ترى مصعباً لا يتوّرع عن قتل سبعة آلاف من المسلمين صبراً ، ولا يتوّرع عن قتل زوجة المختار ؛ لأنّها لم تتبرأ من زوجها ، وشهدت بقيامه الليل وصيامه النهار؟

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٧ / ٧٥.

(٢) أنساب الأشراف ٧ / ١٠٣.

٣١٢

وليس من شك أنّ التعميم ليس في محلّه ؛ لأنّ إبراهيم الأشتر الذي وفى بعهده مع مصعب وقُتل معه ، وقد نبّه مصعباً بأنّ الوجوه التي معه سوف يغدرون به ، هو من وجوه العراق ، وغالبية مَنْ قُتل من أصحاب الحسين عليه‌السلام هم من وجوه أهل العراق ، وسليمان بن صرد وصحبه الذين استشهدوا في عين الوردة هم من وجوه أهل العراق ، والمختار ومَنْ استشهد معه هم من وجوه أهل العراق.

٣١٣

العراق تحت إمرة بني مروان

قال عوانة : لمّا صح عند مصعب وصول عبد الملك يريده ، بعث إلى ابن الأشتر فأقدمه عليه وجعله على مقدّمته ، وكاتب عبد الملك وجوه أهل الكوفة والبصرة ورغّبهم في الأموال والأعمال ، وكتب عبد الملك إلى إبراهيم بن الأشتر فجعل له ولاية العراقين ، فأخذ كتابه فدفعه إلى مصعب ، وقال له : إنّ عبد الملك لم يكتب إليّ إلاّ وقد كتب إلى هؤلاء الوجوه بمثله وقد أفسدهم عليك ، فأنا أرى أن تأخذ وجوه أهل المصرين فتشدّهم بالحديد. فقال له : يا أبا النعمان ، أتأخذ الناس بالظنّة؟ قال : فأجمعهم في أبيض المدائن ؛ لئلاّ يشهدوا الحرب معك. قال : إذاً أفسد قلوب عشائرهم. قال : فابعثهم إلى أخيك بمكة. فقال : ليس هذا برأي. قال : فإن لقيت العدو فلا تمدّني بواحد منهم ، واتّهمهم (١).

وقال الهيثم بن عدي : كتب عبد الملك إلى إبراهيم بن الأشتر ـ وهو مع مصعب ـ كتاباً ، فأتى به إلى مصعب قبل أن يقرأه ، فلمّا قرأه مصعب قال له : يا أبا النعمان ، أتدري ما فيه؟ قال : لا. قال : يعرض عليك ما سقت دجلة ، أو ما سقى الفرات ، فإن أبيت جمعهما لك ، وإنّ هذا لما يرغب فيه. فقال إبراهيم : ما كنت لأتقلّد الغدر والخيانة ، وما عبد الملك من أحد بأياس منه منّي ، وما ترك أحداً ممّن معك إلاّ وقد كتب إليه ... وذكر مثل خبر عوانة ، ولم يقبل مصعب برأي إبراهيم فيهم ، وقال له : ووالله ، لو لم أجد إلاّ النمل لقاتلت به أهل الشام.

__________________

(١) أنساب الأشراف ٧ / ٩٠ ، طبعة دار الفكر ـ بيروت.

٣١٤

فلمّا اصطفّ الناس مال عتاب بن ورقاء فذهب ، وكان على خيل أهل الكوفة ، وجعل إبراهيم يقول لرجل رجل : تقدّم فيأبون عليه ، فتقدّم هو وقاتل حتّى قُتل. ثمّ تقدّم مصعب فقال لحجّار بن أبجر : تقدّم يا أبا أسيد إلى هؤلاء الأنتان. قال : ما تتأخّر إليه أنتن. ثمّ قال للغضبان بن القَبَعْثَرى : تقدم يا أبا السِّمط. فقال : ما أرى. ثمّ التفت إلى قطن بن عبد الله الحارثي وهو على مذحج وأسد ، فقال : تقدّم. فقال : أسفك دماء مذحج في غير شيء (١).

قال المدائني : سار مصعب وحوله نفر يسير ، وقد خذله أهل العراق لعِدَة عبد الملك إيّاهم ، ووعد حجّار بن أبجر ولاية إصبهان ، ووعدها غضبان بن القَبْعَثرَى ، وعتاب بن ورقاء ، وقطن بن عبد الله الحارثي ، ومحمد بن عمير بن عطارد (٢).

مقتل مصعب وانتصار عبد الملك :

قال عروة بن المغيرة : خرج مصعب يسير ، فوقعت عينه عليَّ. فقال : ياعروة ، كيف صنع الحسين عليه‌السلام؟ فأخبرته بإبائه النزول على حكم ابن زياد ، وعزمه على الحرب ، فقال :

إنّ الاُلى بالطفّ من آلِ هاشمٍ

تآسوا فسنُّوا للكرامِ التآسيا

والبيت لسليمان بن قتة.

فقاتل مصعب حتّى قُتل (٣). كان ذلك سنة اثنتين وسبعين ، قُتل في مسكن.

قال أبو نعيم : قُتل مصعب وهو ابن ست وثلاثين سنة.

ثمّ وجّه عبد الملك الحجّاج إلى عبد الله بن الزبير ، وجعل على شُرَط الكوفة قطن بن

__________________

(١) أنساب الأشراف ٧ / ٩٤.

(٢) ونقل البلاذري في أنساب الأشراف أنّ عمرو بن حريث ، وكان خليفة مصعب على الكوفة ، ممّن كاتب عبد الملك ، وكان مائلاً إليه.

(٣) أنساب الأشراف ٧ / ٩٨.

٣١٥

عبد الله بن الحصين الحارثي وكان عثمانياً لم يمِل إلى عبد الملك أحدٌ مَيلَه (أقول : وكان أحد شهود الزور على حجر أيام ولاية زياد) ، وجعل ولايتها لبشر بن مروان.

وولّى عبد الله بن خالد بن أسيد من بني اُميّة البصرة ، ثمّ عزله عنها وضمّها إلى بشر ، ثمّ جمع العراقين لبشر (١).

وروى الذهبي في ميزان الاعتدال ٤ / ١٤٦ في ترجمة عمّار الدهني ، قال : قال علي بن المديني : قال سفيان بن عيينة : قطع بشر بن مروان عرقوبيه (٢) في التشيّع.

وهذا يفيدنا أنّ عبد الملك بدأ بمواصلة خطّة سلفه معاوية ، وخطّة عبد الله بن الزبير في اضطهاد الشيعة بمجرّد استلامهم الحكم في العراق.

__________________

(١) ‏أنساب الأشراف ٧ / ١٠٦ ، انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (وتوفي بالبصرة وله نيف وأربعون سنة).

(٢) عرقوبيه : تثنية عرقوب وهو العصبة الناتئة من القصب إلى الساق.

٣١٦

العراق تحت إمرة الحجاج

قُتل عبد الله بن الزبير على يد الحجّاج ، وولّى عبد الملك الحجّاج الحجاز واليمن واليمامة مدّة سنتين ، ابتدأت بقتل ابن الزبير في ١٧ جمادى الثانية سنة ٧٣ هجرية ، وانتهت برجب سنة ٧٥ هجرية ، وبعدها جعله عبد الملك والياً على العراق بعد وفاة أخيه بشر بن مروان في رجب سنة ٧٥ هجرية ، واستمرت ولايته إلى شوال سنة ٩٥ هجرية.

روى اليعقوبي أنّ عبد الملك كتب إلى الحجّاج : أمّا بعد يا حجّاج ، فقد ولّيتك العراقين صدقة ، فإذا قدمت الكوفة فطَأْها وطأة يتضاءل منها أهل البصرة (١).

ولمّا قدم الحجّاج العراق استعان بوُلد المغيرة بن شعبة

فولّى عروة بن المغيرة الكوفة.

وولّى حمزة بن المغيرة همدان.

وولّى مُطرِّف بن المغيرة المدائن.

وفي أوّل خطّبة خطبها الحجّاج بالكوفة قال لهم :

إنّكم أهل بغي وخلاف ، وشقاق ونفاق ، طالما أوضعتم في

الضلال ، وسننتم سنن البغي ... وإيّاي وهذه الزرافات والجماعات

وكان ويكون ، وما أنتم وذاك؟ إنّي أرى الدماء بين العمائم واللحى

والذي نفس الحجّاج بيده ، لتسلكنّ طريق الحقّ

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢٧٣.

٣١٧

ولتستقيمنّ عليه أو لأجعلنّ لكلّ امرئ منكم شغلاً في جسده ...

ألا لا يركبنّ أحد منكم إلاّ وحده ... وقد بلغني رفضكم

للمهلّب ، وإقبالكم إلى مصركم عصاة مخالفين. وأقسم بالله لا أجد

رجلاً بعد ثلاثة ممّن أخلّ بمركزه إلاّ ضربت عنقه.

ثمّ دعا بالعرفاء فقال لهم : الحقوا الناس بالمهلّب ، وأتوني بكتبه بموافاتهم ، ولا أستبطئكم فأضرب أعناقكم (١).

قال البلاذري : ثمّ أمر مناديه أن برئت الذمّة من عاصٍ مخلٍ بمركزه وجدناه بالكوفة بعد ثلاث ، فالحقوا ببعث المهلّب وبمكاتبكم من الثغور ، ومغازيكم للخوارج.

وجاء عمير بن ظابئ بن الحارث البرجمي التميمي (وكان سيد الحي) (٢) فقال : أصلح الله الأمير ، إنّي شيخ كبير عليل ، وهذا ابني حنظلة وليس في بني تميم رجل أشدّ منه ظهراً وبطشاً ، فإن رأيت أن تخرجه مكاني بديلاً فافعل. فقال الحجّاج : اضربوا عنقه. فضربوا عنقه ، فلمّا ضُربت عنق عمير تطايرت عُصاة الجيوش إلى مكاتبهم التي رفضوها ، ولحق كلّ مخل بثغره ومركزه. وكان الحجّاج أوّل مَنْ ضرب أعناق العصاة.

ثمّ عيَّن أخاه لأمّه عروة بن المغيرة بن شعبة نائباً عنه طوال مدّة غيابه.

وخرج إلى البصرة وخطب وهدَّد بذلك أيضاً ، فأتاه شريك بن عمرو اليشكري (وكان به فتق ، وكان أعور يضع على عينه قطنة فسُمّي ذا الكرسف) ، فقال له : أصلح الله الأمير ، إنّي عرضت على بشر بن مروان فأمر العراض أن يوقعوا على اسمي (زمناً) وأعطوني ، فهذا عطائي قد جئتك به لتردّه إلى بيت المال. فأمر به فضُربت عنقه لاستعفائه ، وكان عريفاً ، فلم يبقَ بالبصرة عاص إلاّ لحق بالمهلّب وبمكتبه.

وجيء برجل وقت غداء الناس عند الحجّاج ، فقيل له : هذا عاص. فقال الرجل : والله

__________________

(١) أنساب الأشراف ٧ / ٢٧٤.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٠٨.

٣١٨

ما شهدت عسكراً قط ، ولا أُثبت لي اسم قطّ في ديوان ، وإنّما أنا نسّاج. فضرب عنقه (١).

ثورات العراقيين على الحجّاج :

ثار على الحجّاج جنده من أهل البصرة سنة ٧٦ هجرية بقيادة عبد الله بن الجارود.

ثمّ ثار عليه جنده من أهل الكوفة سنة ٧٧ هجرية بقيادة مطرف بن المغيرة.

ثمّ ثار عليه جنده من المصرين في البصرة والكوفة بقيادة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث سنة ٨١ هجرية ، ولم يستطع الحجّاج إخضاع التمرّد الأخير إلاّ بواسطة جند أهل الشام ، وبقي محتفظاً بجند أهل الشام ليضبط ولايته ، وبنى لهم مدينة واسط لكي لا يختلطوا بالعراقيين فيتأثّروا بهم.

وفيما يلي موجز عنها :

تمرّد عبد الله بن الجارود :

كان هذا التمرّد محدوداً ، وكان يستهدف الحجّاج خاصّة دون خلع بني اُميّة ، وانتهى التمرّد بقتل ابن الجارود. ولمّا كتب الحجّاج إلى عبد الملك بخبره أجابه : إذا رابَكَ من أهل العراق ريب فاقتل أدناهم يُرعَب منك أقصاهم (٢).

ثورة مطرِّف بن المغيرة بن شعبة :

حاول مطرف في ثورته أن يحيي منهج ابن الزبير بشكل عام ، فقد أعلن ثورته عام ٧٧ هجرية وخلع عبد الملك والحجّاج ، ويروي البلاذري عن أبي عبيدة وابن الهيثم أنّ مطرفاً سمع الحجّاج يقول : أرسول أحدكم أكرم أم خليفته؟ فوجم ، وقال : كافر ، والله والله إنّ قتله حلال.

__________________

(١) ‏أنساب الأشراف ٧ / ٢٨٠.

(٢) أنساب الأشراف ٧ / ٢٩٢.

٣١٩

وكان ممّا خطب به مطرِّف أصحابه : إنّ الله كتب الجهاد على خلقه وأمر بالعدل والإحسان ، وقال فيما أنزل علينا : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) المائدة / ٢ ، وإنّي أُشهد الله أنّي قد خلعت عبد الملك بن مروان والحجّاج بن يوسف ، فمَنْ أحبّ منكم صحبتي ، وكان على مثل رأيي فليتابعني ؛ فإنّ له الأسوة وحسن الصحبة ، ومن أبى فليذهب حيث شاء ؛ فإنّي لست أحبّ أن يتبعني مَنْ ليست له نيّة في جهاد أهل الجور.

أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه وإلى قتال الظلمة ، فإذا جمع الله لنا أمرنا كان هذا الأمر شورى بين المسلمين يرتضون لأنفسهم مَنْ أحبّوا.

وكان ممّا يكتبه إلى الآخرين : أمّا بعد ، فإنّا ندعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه ، وإلى جهاد مَنْ عَنِدَ عن الحقّ واستأثر بالفيء ، وترك حكم الكتاب (١).

انتهت هذه الثورة بمقتل مطرف على يد قوات الحجّاج على مقربة من أصفهان.

ثورة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس ٨١ ـ ٨٤ هجرية :

في عام ٧٨ جعل عبد الملك بن مروان إقليمي خراسان وسجستان ولايتين تابعتين للحجّاج ، وعيَّن الحجّاج المهلّب بن أبي صفرة على خراسان ، وعيَّن عبيد الله بن أبي بكرة الثقفي البصري عاملاً على سجستان.

ولمّا قدم عبيد الله بن أبي بكرة سجستان امتنع زونبيل صاحب الترك عن دفع الجزية ، فأمره الحجّاج أن يغزوه ، فقاد ابن أبي بكرة جيشاً قوامه عشرين ألفاً من أهل الكوفة والبصرة الذين كانوا يرابطون في سجستان ، ولمّا وصلوا على مقربة من كابل وقعوا في كمائن نُصبت لهم ، ولم ينج منهم سوى خمسة آلاف رجل (وذلك عام ٧٩

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ١١١.

٣٢٠