الحسين عليه السلام في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام

السيّد سامي البدري

الحسين عليه السلام في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام

المؤلف:

السيّد سامي البدري


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: ياسين
الطبعة: ١
ISBN: 964-499-093-5
الصفحات: ٥٢٧

وروى سعيد بن جبير أنّ عبد الله بن الزبير قال لعبد الله بن عباس : ما حديث أسمعه عنك؟ قال : وما هو؟ قال : تأنيبي وذمي؟

فقال : إنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «بئس المرء المسلم يشبع ويجوع جاره».

فقال ابن الزبير : إنّي لأكتم بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة ... (١).

وقال : روى عمر بن شبة أيضاً عن سعيد بن جبير قال : خطب عبد الله بن الزبير فنال من علي عليه‌السلام ، فبلغ ذلك محمد بن الحنفيّة ، فجاء إليه وهو يخطب ، فوضع له كرسي فقطع عليه خطبته ، وقال : يا معشر العرب ، شاهت الوجوه! أينتقص علي وأنتم حضور؟! إنّ علياً كان يد الله على أعداء الله ، وصاعقة من أمره ، أرسله على الكافرين والجاحدين لحقِّه ، فقتلهم بكفرهم ؛ فشنئوه وأبغضوه ، وأضمروا له الشَّنَف والحسد وابنُ عمِّه صلى‌الله‌عليه‌وآله حي بعدُ لم يمت ، فلمّا نقله الله إلى جواره ، وأحبّ له ما عنده ، أظهرت له رجال أحقادها ، وشفت أضغانها ؛ فمنهم مَنْ ابتزَّ حقَّه ، ومنهم مَنْ ائتمر به ليقتله ، ومنهم مَنْ شتمه وقذفه بالأباطيل ... والله ما يشتم علياً إلاّ كافر يُسِرّ شتمَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويخاف أن يبوح به ، فيكنّي بشتم علي عليه‌السلام عنه.

أما إنّه قد تخطّت المنيّة منكم مَنْ امتدّ عمره وسمع قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه : «لا يحبّك إلاّ مؤمن ، ولا يبغضك إلاّ منافق» ، (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).

فعاد ابن الزبير إلى خطبته وقال : عَذَرْتُ بني الفواطم يتكلّمون فما بال ابن الحنفيّة؟

فقال محمد : يابن اُمّ رومان ، وما لي لا أتكلّم؟! وهل فاتني من الفواطم إلاّ واحدة؟ ولم يفتني فخرها لأنّها اُمّ أخوي ؛ أنا ابن فاطمة بنت عمران بن عائذ بن مخزوم جدّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنا ابن فاطمة بنت أسد بن هاشم كافلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والقائمة مقام اُمّه. أما والله ، لولا خديجة بنت خويلد ما تركت في بني أسد بن عبد العزى عظماً إلاّ هشمته. ثمّ قام فانصرف (٢).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤ / ٦٢ ـ ٦٣.

(٢) المصدر نفسه.

٢٦١

وقال : إنّ عبد الله بن الزبير استنصر على يزيد بن معاوية بالخوارج واستدعاهم إلى ملكه ، فقال فيه الشاعر :

يابن الزبير أتهوى فتية قتلوا

ظلماً أباك ولمّا تُنزع الشُّكَكُ (١)

ضحّوا بعثمان يوم النحر ضاحيةً

أطيب ذاك الدم الزاكي الذي سفكوا

فقال ابن الزبير : لو شايعني الترك والديلم على محاربة بني اُميّة لشايعتهم وانتصرت بهم (٢).

قال ابن أبي الحديد : روى أبو الفرج علي بن الحسين الإصبهاني في كتاب مقاتل الطالبيِّين أنّ يحيى بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام لمّا آمنه الرشيد بعد خروجه بالديلم وصار إليه ، بالغ في إكرامه وبرّهُ ، فسعى به بعد مدّة عبد الله بن مصعب الزبيري (٣) إلى الرشيد ، وكان يبغضه ، وقال له : إنّه قد عاد يدعو إلى نفسه سرّاً. وحسّن له

__________________

(١) الشكك : الأدعياء.

(٢) شرح نهج البلاغة ٥ / ١٣١.

(٣) عبد الله بن مصعب الزبيري ، مبغض للطالبيِّين ، أحد بطانة هارون الرشيد ، وقد استغل هذه العلاقة للوقيعة بمَنْ قدر عليه منهم ، وابنه مصعب كان على سرّ أبيه أيضاً. قال ابن الأثير (في حوادث سنة ٢٣٦) : كان مصعب بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام منحرفاً عن علي. قال العلاّمة المقرّم رحمه‌الله (في كتابه السيدة سكينة / ٤٤) : إنّ أوّل مَنْ وضع الأحاديث الشائنة في ابنة الحسين سكينة مصعب الزبيري (المتوفى سنة ٢٣٦ هجرية) في كتابه نسب قريش ؛ لينصرف المغنّون والشعراء عن ابنتهم سكينة بنت خالد بن مصعب بن الزبير التي تجتمع مع ابن أبي ربيعة الشاعر والمغنّيات يغنين لهم ، وزاد عليها الزبير بن بكار وابنه. وقال العلاّمة الحلّي (في كشف اليقين / ٩٤ ، ط إيران) : كان الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام من أشدّ الناس عداوة لأمير المؤمنين وولده. وقال الشيخ المفيد (في المسائل السروية / ٦١) : لم يكن الزبير بن بكار مأموناً في الحديث ، ولا موثوق النقل فيما يرويه من القذائف في حقّ أهل البيت عليهم‌السلام ، ومنه تزويج عمر بأمّ كلثوم ؛ لبغضه أمير المؤمنين عليه‌السلام وتحامله عليه.

٢٦٢

نقض أمانه ، فأحضره وجمع بينه وبين عبد الله بن مصعب ليناظره فيما قذفه به ، ورفعه عليه ، فجبهه ابن مصعب بحضرة الرشيد وادّعى عليه الحركة فى الخروج وشقّ العصا.

فقال يحيى : يا أمير المؤمنين ، أتصدَّق هذا عليَّ وتستنصِحُه؟

وهو ابن عبد الله بن الزبير الذي أدخل أباك عبد الله وولده الشعب ، وأضرم عليهم النار حتّى خلَّصه أبو عبد الله الجدلي صاحب علي بن أبي طالب عليه‌السلام منه عنوة؟!

وهو الذي ترك الصلاة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أربعين جمعة في خطبته ، فلمّا التاث (١) عليه الناس قال : إنّ له أُهيل سوء ، إذا صلّيت عليه أو ذكرته أتلعوا (٢) أعناقهم ، واشرأبّوا لذكره ، فأكره أن أسُرَّهُم أو أُقِرَّ أعينهم.

وهو الذي كان يشتم أباك ويلصق به العيوب حتّى ورم كبده ، ولقد ذُبحت بقرة يوماً لأبيك فوجدت كبدها سوداء قد نقبت ، فقال علي ابنه : أما ترى كبد هذه البقرة يا أبتِ؟ فقال : يا بني ، هكذا ترك ابن الزبير كبد أبيك. ثمّ نفاه إلى الطائف ، فلمّا حضرته الوفاة قال لابنه علي : يا بُني ، إذا متّ فالحق بقومك من بني عبد مناف بالشام ، ولا تقم في بلد لابن الزبير فيه إمرة ، فاختار له صحبة يزيد بن معاوية على صحبة عبد الله بن الزبير.

ووالله إنّ عداوة هذا يا أمير المؤمنين لنا جميعاً بمنزلة سواء ، ولكنه قوي عليّ بك ، وضعف عنك ، فتقرّب بي إليك ليظفر منك بي بما يريد ؛ إذ لم يقدر على مثله منك ، وما ينبغي لك أن تسوِّغه ذلك فيَّ ؛ فإنّ معاوية بن أبي سفيان وهو أبعد نسباً منك إلينا ذكر الحسن بن علي عليه‌السلام يوماً فسبّه ، فساعده عبد الله بن الزبير على ذلك ، فزجره وانتهره ، فقال : إنّما ساعدتك يا أمير المؤمنين! فقال : إنّ الحسن لحمي ، آكُلُه ولا أوكَلُه (٣).

__________________

(١) التاث : أي هاج عليه الناس.

(٢) أتلعوا أعناقهم : أي مدّوها.

(٣) شرح نهج البلاغة ١٩ / ٩١ ، وبقيّة كلامه قوله : ومع هذا فهو الخارج مع أخي محمد على أبيك المنصور أبي جعفر ، والقائل لأخي في قصيدة طويلة أوّلها :

٢٦٣

__________________

إنّ الحمامةَ يوم الشعبِ من وثنٍ

هاجت فؤادَ محبّ دائمِ الحزنِ

يحرّض أخي فيها على الوثوب والنهوض إلى الخلافة ، ويمدحه ويقول له :

لا عزّ ركنا نزارٍ عند سطوتها

إنْ أسلمتك ولا ركنا ذوي يمنِ

ألست أكرمهم عوداً إذا انتسبوا

يوماً وأطهرهم ثوباً من الدرنِ

وأعظمَ الناسِ عند الناسِ منزلةً

وأبعدَ الناسِ من عيبٍ ومن وهنِ

قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتها

إنّ الخلافةَ فيكم يا بني حسنِ

إنّا لنأمل أن ترتدّ اُلفتنا

بعد التدابرِ والبغضاءِ والإحنِ

حتّى يثار على الإحسانِ محسننا

ويأمن الخائفُ المأخوذ بالدمنِ

وتنقضي دولةٌ أحكام قادتها

فينا كأحكام قومٍ عابدي وثنِ

فطالما قد بروا بالجور أعظمنا

بري الصناعِ قداحَ النبعِ بالسفنِ

فتغيّر وجه الرشيد عند سماع هذا الشعر ، وتغيّظ على ابن مصعب ، فابتدأ ابن مصعب يحلف بالله الذي لا إله إلاّ هو ، وبأيمان البيعة أنّ هذا الشعر ليس له ، وإنّه لسديف ، فقال يحيى : والله يا أمير المؤمنين ما قاله غيره ، وما حلفت كاذباً ولا صادقاً بالله قبل هذا ، وإنّ الله عزّ وجلّ إذا مجّده العبد في يمينه فقال : والله الطالب الغالب الرحمن الرحيم ، استحيا أن يعاقبه ، فدعني أن اُحلّفه بيمين ما حلف بها أحد قطّ كاذباً إلاّ عوجل. قال : فحلّفه. قال : قل برئت من حول الله وقوّته ، واعتصمت بحولي وقوّتي ، وتقلّدت الحول والقوّة من دون الله استكباراً على الله ، واستعلاء عليه ، واستغناء عنه إن كنت قلت هذا الشعر. فامتنع عبد الله من الحلف بذلك ، فغضب الرشيد وقال للفضل بن الربيع : ما له لا يحلف إن كان صادقاً؟! هذا طيلساني عليّ ، وهذه ثيابي لو حلّفني بهذه اليمين إنّها لي لحلفت. فوكز الفضل عبد الله برجله ، وكان له فيه هوى ، وقال له : احلف ويحك! فجعل يحلف بهذه اليمين ووجهه متغيّر ، وهو يرعد ، فضرب يحيى بين كتفيه وقال : يابن مصعب ، قطعت عمرك ، لا تفلح بعدها أبداً. قالوا : فما برح من موضعه حتّى عرض له أعراض الجذام ، واستدارت عيناه ، وتفقّأ وجهه ، وقام إلى بيته ، فتقطّع وتشقّق لحمه ، وانتثر شعره ، ومات بعد ثلاثة أيام. وحضر الفضل بن الربيع جنازته ، فلمّا جُعل في القبر انخسف اللّحد به حتّى خرجت منه غبرة شديدة ، وجعل الفضل يقول : التراب! التراب! فطرح التراب وهو يهوى فلم يستطيعوا سدّه حتّى سُقّف بخشب وطم عليه ، فكان الرشيد يقول بعد ذلك للفضل : أرأيت يا عبّاسي ما أسرع ما اُديل ليحيى من ابن مصعب؟!

٢٦٤

الحرب بين ابن الزبير والحجّاج :

قال ابن الأثير : أرسل عبد الملك بن مروان الحجّاج لحرب ابن الزبير بمكة ، فنزل الطائف ، وأمدّه بطارق ، فقدم المدينة في ذي القعدة سنة ٧٢ هـ وأخرج عامل ابن الزبير عنها ، وجعل عليها رجلاً من أهل الشام اسمه ثعلبة (١).

وقال : قدم الحجّاج مكّة في ذي القعدة وقد أحرم بحجّة فنزل بئر ميمون ، وحجّ بالناس في تلك السنّة الحجّاج إلاّ أنّه لم يطف حول الكعبة ، ولا سعى بين الصفا والمروة ؛ منعه ابن الزبير من ذلك.

قال : ولم يحجّ ابن الزبير ولا أصحابه ؛ لأنّهم لم يقفوا بعرفة ولم يرموا الجمار.

قال : ولمّا حَصَرَ الحجّاج ابن الزبير ، نصب المنجنيق على أبي قبيس ورمى به الكعبة ، وكان عبد الملك ينكر ذلك أيّام يزيد بن معاوية ، ثمّ أمر به (٢).

وقال الذهبي : وألحّ عليه الحجّاج بالمنجنيق ، وبالقتال من كلّ وجه ، وحبس عنهم الميرة فجاعوا ، وكانوا يشربون من زمزم فتعصمهم ، وجعلت الحجارة تقع في الكعبة (٣).

قال ابن كثير : وكان معه خمس مجانيق ، فألحّ عليها بالرمي من كلّ مكان. ثمّ ذكر مثل قول الذهبي (٤).

وفي فتوح ابن أعثم : أمر الحجّاج أصحابه أن يتفرّقوا من كلّ وجه ؛ من ذي طوى ، ومن أسفل مكّة ، ومن قبل البطح ، فاشتدّ الحصار على عبد الله بن الزبير وأصحابه ، فنصبوا المجانيق وجعلوا يرمون البيت الحرام بالحجارة وهم يرتجزون بالأشعار.

قال : فلم يزل الحجّاج وأصحابه يرمون بيت الله الحرام بالحجارة حتّى انصدع

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ١٣٥.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٤ / ١٣٦.

(٣) تاريخ الإسلام ـ للذهبي ٣ / ١١٤.

(٤) ابن كثير ٨ / ٣٢٩.

٢٦٥

الحائط الذي على بئر زمزم عن آخره ، وانتقضت الكعبة من جوانبها (١).

مقتل ابن الزبير :

قال الطبري : فلم تزل الحرب بين ابن الزبير والحجّاج حتّى كان قبيل مقتله ، وقد تفرّق عنه أصحابه ، وخرج عامّة أهل مكّة إلى الحجّاج في الأمان ، وخذله مَنْ معه خذلانا شديداً ، حتّى خرج إلى الحجّاج نحو من عشرة آلاف ، وفيهم ابناه حمزة وخبيب ، فأخذا منه لأنفسهما أماناً.

وبعث الحجّاج برأس ابن الزبير ، ورأس عبد الله بن صفوان ، وعمارة بن عمرو بن حزم إلى المدينة فنُصبت بها ، ثمّ ذهب بها إلى عبد الملك بن مروان (٢).

وفي تاريخ ابن كثير : وأرسل بالرؤوس مع رجل من الأزد ، وأمرهم إذا مرّوا بالمدينة أن ينصبوا الرؤوس بها ، ثمّ يسيروا بها إلى الشام ، ففعلوا ما أمرهم ، وأعطاهم عبد الملك خمسمئة دينار ، ثمّ دعا بمقراض فأخذ من ناصيته ونواصي أولاده فرحاً بمقتل ابن الزبير.

قال : ثمّ أمر الحجّاج بجثّة ابن الزبير فصلبت على ثنيَّة كَداء عند الحُجون ، يُقال : منكَّسة ، ثمّ أنزل عن الجذع ودفن هناك (٣).

قال الذهبي : واستوسق الأمر لعبد الملك بن مروان ، واستعمل على الحرمين الحجّاج بن يوسف ، فنقض الكعبة التي من بناء ابن الزبير وكانت تشعّثت من المنجنيق ، وانفلق الحجر الأسود من المنجنيق فشعَبوه (٤).

__________________

(١) فتوح ابن أعثم ٦ / ٢٧٥ ـ ٢٧٦.

(٢) تاريخ الطبري ٨ / ٢٠٢ ـ ٢٠٥.

(٣) تاريخ ابن كثير ٨ / ٣٣٢ ، وفي فتوح ابن أعثم ٦ / ٢٧٩ أكّد أنّه صلبه منكوساً.

(٤) تاريخ الإسلام ـ للذهبي ٣ / ١١٥ ، وشعَّبوه هنا بمعنى ضمّوا أجزاءه بعضها إلى بعض.

٢٦٦

الحجّاج يختم أعناق أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وقال الطبري بعده : ثمّ انصرف إلى المدينة في صفر ، فأقام بها ثلاثة أشهر يتعبَّثُ بأهل المدينة ويتعنَّتهم ، وبنى بها مسجداً في بني سلمة فهو ينسب إليه ، واستخفَّ فيها بأصحاب رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فختم في أعناقهم ، وكان جابر بن عبد الله مختوماً في يده ، وأنس مختوماً في عنقه يريد أن يذلّه بذلك. وأرسل إلى سهل بن سعد فدعاه فقال : ما منعك أن تنصر أمير المؤمنين عثمان بن عفّان؟ قال : قد فعلت. قال : كذبت. ثمّ أمر به فختم في عنقه برصاص (١).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ / ٢٠٦ في ذكر حوادث سنة ٧٤ هـ.

٢٦٧

حركة الشيعة في الكوفة (سنة ٥ ٦ ـ ٦٧)

الكوفة بعد موت يزيد :

كان عبيد الله بن زياد حين يذهب إلى البصرة يستخلف على الكوفة الصحابي عمرو بن حريث ، وكان مدير شرطته فيها ، ومعاونه في ملاحقة أنصار الحسين عليه‌السلام وسجنهم قبل مجيئه إلى كربلاء. مات يزيد في ربيع الأوّل سنة ٦٤ هجرية ، وكان عبيد الله بن زياد في البصرة ، وعلى الكوفة خليفته عمرو بن حريث ، ولمّا بايع أهل البصرة لعبيد الله ريثما يجتمع الناس على خليفة (١) ، كتب إلى ابن حريث يأمره بالدعوة إلى بيعته ، غير أنّ يزيد بن رويم الشيباني أحد رؤوس الجيش الكوفي قال : لا حاجة لنا في بني اُميّة ولا في ابن مرجانة ، وهي أمّ عبيد الله ؛ إنّما البيعة لأهل الحِجْر ، يعني أهل الحجاز. فخلع أهل الكوفة ولاية بني اُميّة وإمارة ابن زياد ، وأرادوا أن ينصّبوا لهم أميراً.

فقال جماعة (٢) : عمر بن سعد بن أبي وقاص يصلح لها. فلمّا همّوا بتأميره أقبل نساء همدان وغيرهن من نساء كهلان والأنصار ، وربيعة والنخع حتّى دخلنَ المسجد الجامع ؛ صارخات باكيات مُعوِلات ، يندبن الحسين عليه‌السلام ويقلنَ : أما رضي عمر بن سعد بقتل الحسين عليه‌السلام

__________________

(١) روى المسعودي في مروج الذهب ٣ / ٨٤ : أنّ أشراف البصرة ؛ منهم الأحنف بن قيس التميمي ، وقيس بن الهيثم السلمي ، ومسمع بن مالك العبدي بايعوا عبيد الله ، وتبعهم أهل البصرة.

(٢) هم زملاء يزيد بن رويم ؛ أمثال شبث بن ربعي ، وحجّار بن أبجر ، ومحمد بن الأشعث ، وكان عمر بن سعد قائدهم العام.

٢٦٨

حتّى أراد أن يكون أميراً علينا! فبكى الناس وأعرضوا عن عمر ، وكان المبرزات في ذلك نساء همدان ، وقد كان علي عليه‌السلام مائلاً إلى همدان ، مؤثراً لهم ، وهو القائل :

فلو كنتُ بوّاباً على بابِ جنّة

لقلتُ لهمدان ادخلوا بسلامِ (١)

ثمّ اصطلحوا على عامر بن مسعود بن أميّة بن خلف الجمحي القرشي وبايعوا لابن الزبير.

قال ابن حجر : وكان عامر يلقّب دُحروجَة الجُعَل ؛ لأنّه كان قصيراً ، ثمّ اتفق عليه أهل الكوفة بعد موت يزيد بن معاوية ، فأقرَّه ابن الزبير قليلاً ، ثمّ عزله بعد ثلاثة أشهر ، وولاّها عبد الله بن يزيد الخطمي.

ويُقال : إنّ دُحروجة الجُعل هذا خطب أهل الكوفة فقال : إنّ لكلّ قوم شراباً فاطلبوه في مظانّه ، وعليكم بما يحِل ويُحمَد ، واكسروا شرابكم بالماء.

وفي ذلك يقول الشاعر :

مَنْ ذا يحرّمُ ماءَ المزنِ خالطه

في قعرِ خابيةٍ ماءُ العناقيدِ

إنّي لأكرهُ تشديدَ الرواةِ لنا

فيها ويعجبني قولُ ابنِ مسعودِ

وكثير من الناس يظنّ أنّ الشاعر عنى عبد الله بن مسعود وليس كذلك ، وإنّما عنى هذا (٢).

قال ابن أبي الحديد : وكان عامر بن مسعود مع عائشة في حرب الجمل ، وهرب فنجا من القتل ، وله ولغيره من بني جمح يقول علي عليه‌السلام : «وأفلتتني أعيارُ بني جمح». (والعير : الحمار) (٣). وقد عاش حتّى ولاّه زياد صدقات بكر بن وائل ، وولاّه عبد الله بن الزبير بن العوّام الكوفة ، فكان يصلّي بالناس.

__________________

(١) مروج الذهب ٣ / ٨٥.

(٢) الإصابة ٣ / ٦٠٣.

(٣) جاء في شرح نهج البلاغة ١١ / ١٢٦ أنّ عامر بن مسعود بن أميّة بن خلف كان يسمّى دُحروجة الجُعل ؛ لقصره وسواده.

٢٦٩

أقول :

ودُحروجة الجُعَل هذا هو أحد شهود الزور على حجر بن عدي رحمه‌الله في الرسالة التي بعثها زياد إلى معاوية.

قال ابن أبي الحديد : وقَدِم عبد الله بن يزيد الأنصاري الخطمي (١) من قِبَل عبد الله بن الزبير أميراً على الكوفة على حربها وثغرها ، وقدم معه من قبل ابن الزبير إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله الأعرج أميراً على خراج الكوفة ، وكان قدوم عبد الله بن يزيد الأنصاري الخطمي يوم الجمعة لثمان بقين من شهر رمضان سنة أربع وستين.

خطّة الشيعة في التحرّك :

يتّضح ممّا مضى أنّ الشيعة (أصحاب علي وأولاده عليهم‌السلام) كانوا قد أكلتهم المحنة والسجون ، والتشرّد والتهجير ، فلم يبقَ منهم وجود ظاهر ، فصار حالهم كما أخبر عنه علي عليه‌السلام : «ألا وإنّ أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني اُميّة ؛ فإنّها فتنة عمياء مظلمة ، عمت خطّتها ، وخُصّت بليتها ، وأصاب البلاء مَنْ أبصر فيها ، وأخطأ البلاء مَنْ عمي عنها. وأيم اللّه ، لتجدنَّ بني اُميّة لكم أرباب سوء بعدي كالنّاب الضروس ؛ تعذم بفيها ، وتخبط بيدها ، وتزبن برجلها ، وتمنع درّها ، لا يزالون بكم حتّى لا يتركوا منكم إلاّ نافعاً لهم ، وغير

__________________

(١) ابن حجر في الإصابة ٤ / ٢٦٧ ، والمزي في تهذيب الكمال ١٦ / ٣٠١. عبد الله بن يزيد بن زيد بن حصن بن عمرو بن الحارث بن خطمة بن جشم بن مالك بن الأوس الأنصاري الخطمي ، له ولأبيه صحبة ، وشهد بيعة الرضوان وهو صغير ، وكان يُكنّى أبا موسى ، روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وشهد الجمل وصفين والنهروان مع علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وحديثه عنه في الترمذي وغيره. وعن البراء بن عازب وحديثه عنه في الصحيحين ، وعن أبي أيوب وأبي مسعود وحذيفة ، وقيس بن سعد وزيد بن ثابت وغيرهم ، روى عنه ابنه موسى ، وسبطه عدي بن ثابت ، والشعبي ، وأبو إسحاق ، وابن سيرين ، وآخرون. وولى إمرة مكّة من عبد الله بن الزبير يسيراً ، واستمر مقيماً بها ، وكان شهد قبل ذلك مع علي مشاهده ، وقال ابن حبان : كان الشعبي كاتبه لمّا كان أمير الكوفة. قال البغوي : سكن الكوفة وابتنى بها داراً ، ومات في زمن ابن الزبير.

٢٧٠

ضائر بهم ، ولا يزال بلاؤهم عنكم حتّى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلاّ كانتصار العبد من ربّه ، والصاحب من مستصحبه». وإنّما كانت حركة الحسين عليه‌السلام بالبقيّة الباقية المستترة ؛ ليبعث الحياة في الكوفة من جديد ، وينقذها من مخطّط التذويب الذي وضعه لها معاوية ونفّذه ابن زياد.

من المؤسف جدّاً أنّ المصادر المتوفّرة لدينا التي تتحدّث عن شيعة الكوفة في هذه الفترة تكاد تنحصر بروايات أبي مخنف ، وهي غير كافية لتكوين صورة صادقة عن واقع شيعة الكوفة بعد مقتل الحسين عليه‌السلام ، ولا بعد وفاة يزيد ؛ لكثرة التحريف الذي أصابها ؛ فهي تذكر أنّ حركة سليمان كانت منفصلة عن حركة المختار بل تفيد أنّ المختار كان يخذل عن حركة سليمان في أوّل أمرها.

إنّ الذي تقتضيه طبيعة الحوادث والأوضاع أن يُطلع الحسين عليه‌السلام خواص أصحابه على خطّتة ؛ ليواصلوا الحركة بعد استشهاده ، وإقامة الحكم في الكوفة حين يتيسر أسبابه لهم ومقاتلة بني اُميّة. وتفيد الأخبار أنّ ميثم التمّار كان قد أخبر المختار أنّه سوف يفلت من السجن ويقتل ابن زياد ، وسيأتي الحديث عن ذلك ، ونحن نحتمل (والله العالم) أنّ خطّة الثورة في الكوفة بعد الحسين عليه‌السلام تقاسمها سليمان بن صُرَد والمختار على محورين :

المحور الأوّل : أن يتحرّك سليمان بعدد من الشيعة باتّجاه الشام تنفيذاً لخطّة الحسين عليه‌السلام فيما لو كان قد قدم الكوفة ، نظير ما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حين قدم المدينة ؛ لتثبيت أنّ العدو المركزي هم أهل الشام ، ولطمأنة ابن مطيع والي عبد الله بن الزبير ، ورؤساء الجيش الذين كانوا أداة زياد وابنه في قمع أصحاب علي عليه‌السلام ، وأنّ الشيعة لا يستهدفونهم في خروجهم وثورتهم.

المحور الثاني : أن يبقى المختار في الكوفة ينظّم بقيّة الشيعة ويهيئ للثورة على ابن الزبير.

روى البلاذري ٦ / ٣٨١ ، عن أبي مخنف : أنّ عمر بن سعد ، ويزيد بن الحارث بن رديم ،

٢٧١

وشبث بن ربعي قالوا لعبد الله بن يزيد الخطمي وإبراهيم الأعرج : أنّ سليمان بن صرد يريد قتال أعدائكما ، وأنّ المختار يريد الوثوب بكما والإفساد عليكما ، فأخذاه فحبساه وقيّداه.

والذي تجدر الإشارة إليه هو أنّ هناك تشويهاً لحق بحركة سليمان بن صرد وزملائه ؛ فالعبارة حين نسبت إليه بعض الروايات كلمات من قبيل ما نسب إلى المسيَّب بن نجبة قوله : أمّا بعد ، فقد ابتلينا بطول العمر ... وقد بلا الله أخبارنا فوجدنا كاذبين في أمر ابن ابنة نبيّنا ، وقد بلغتنا كتبه ، وقد أتتنا رسله ، وسألنا نصره عوداً وبدءاً ، وعلانية وسرّاً ، فبخلنا بأنفسنا حتّى قُتل إلى جانبنا ، فلا نحن نصرناه بأيدينا ، ولا جادلنا عنه بألسنتنا ، ولا قويناه بأموالنا ، ولا طلبنا له النصرة إلى عشائرنا .... وما نسب إلى سليمان بن صرد بعد أن قلّده الثائرون رئاستهم قوله : إنّي أخاف ألاّ نكون أُخِّرنا إلى هذا الدهر الذي نكدت فيه المعيشة ، وعظمت فيه الرزية لما هو خير لنا ، إنّا كنّا نمد أعناقنا إلى آل بنيّنا ونمنّيهم النصر ، ونحثّهم على القدوم ، فلمّا قدموا علينا ونينا وعجزنا ، وداهنّا وتربصنا حتّى قُتل ... وأنّهم بكوا عند قبر الحسين عليه‌السلام ، ونادوا : يا لثارات الحسين عليه‌السلام ، وأظهروا التوبة من خِذلانه.

إنّ هذه الروايات والكلمات وغيرها التي أكثر منها أبو مخنف في كتابه ، وعنه انتشرت ، ممّا ينبغي التريُّث في قبوله ؛ إذ أنّ أبا مخنف ألَّف كتابه هذا في زمن تبنى فيه أبو جعفر المنصور حملة إعلامية كالتي تبنّاها معاوية في زمانه ، استهدفت حملة معاوية تكريس النيل من علي عليه‌السلام ، وهذه استهدفت النيل من شيعة علي في الكوفة خاصّة ، وقد أشرنا إلى ذلك في المقدّمة (١).

__________________

(١) أشرنا إلى طرف من هذا الانقلاب في كتابنا (المدخل إلى دراسة مصادر السيرة والتاريخ) ـ الباب الثالث ـ الفصل السادس : العوامل المؤثرة في التدوين التاريخي عند المسلمين / ٤٦٩ ـ ٤٨٩.

٢٧٢

حركة سليمان بن صرد

قال الطبري : وفي هذه السنة (سنة ٦٤ هجرية) تحرّكت الشيعة بالكوفة ، واستعدوا للاجتماع بالنخيلة في سنة خمس وستين للمسير إلى أهل الشام للطلب بدم الحسين بن علي عليهما‌السلام ، وتكاتبوا في ذلك (١).

قال المزي : سليمان بن صرد الخزاعي ، أبو مُطرِّف الكوفي ، له صحبة. روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن أبي بن كعب (دسي) ، وجبير بن مطعم (خ م د س ق) ، والحسن بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وأبيه علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

روى عنه تميم بن سلمة ، وشقير العبدي ، وشمر ، وضبثم الضبي ، وعبد الله بن يسار الجهني (س) ، وعدي بن ثابت (خ م د سي) ، وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي ، وأبو الضحى مسلم بن صبيح ، ويحيى بن يعمر (د) ، وأبو حنيفة والد عبد الأكرم بن أبي حنيفة (ق) ، وأبو عبد الله الجدلي (٢).

قال أبو عمر بن عبد البرّ : كان خيِّراً فاضلاً ، له دين وعبادة. كان اسمه في الجاهلية يساراً فسمّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سليمان. سكن الكوفة وابتنى بها داراً في خزاعة ، وكان

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٥٥٢ سنة ٦٤ ، أنساب الأشراف ٦ / ٣٦٦ ، وفيه : أنّ ابتداء أمر التوابين كان في آخر سنة إحدى وستين ، وكان مهلك يزيد في شهر ربيع الأوّل سنة أربع وستين ، وكان أجل الشيعة الذي ضربوه لمَنْ كتبوا إليه في شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين.

(٢) تهذيب الكمال ـ ترجمة سليمان بن صرد.

٢٧٣

نزوله بها في أوّل ما نزلها المسلمون ، وكانت له سِنٌّ عالية ، وشرف في قومه ، وشهد مع علي عليه‌السلام صفين (١).

قال ابن حجر : وكان خيِّراً فاضلاً ، شهد صفين مع علي عليه‌السلام ، وقَتَلَ حوشباً مبارزة ، ثمّ كان ممّن كاتب الحسين عليه‌السلام ثمّ تخلّف عنه ، ثمّ قدم هو والمسيّب بن نجبة في آخرين ، فخرجوا في الطلب بدمه ، وهم أربعة آلاف ، فالتقاهم عبيد الله بن زياد بعين الوردة بعسكر مروان ، فقُتل سليمان ومَنْ معه ، وذلك في سنة خمس وستين في شهر ربيع الآخر.

وكان لسليمان يوم قُتل ثلاث وتسعون سنة ، وكان الذي قتل سليمان يزيد بن الحصين بن نمير ، رماه بسهم فمات ، وحُمِل رأسه ورأس المسيّب إلى مروان (٢).

أقول :

قول ابن حجر (كان ممّن كاتب الحسين عليه‌السلام ثمّ تخلّف عنه) : تعليقنا عليه هو : إنّ الذين كاتبوا الحسين عليه‌السلام قسمان :

الأوّل : شيعة علي عليه‌السلام وهؤلاء لم يتخلّفوا ، وإنّما سُجن أغلبهم على التهمة والظنّ في الفترة التي قُتل فيها مسلم وهانئ ، واختفى بعضهم محاولاً اللحاق بالحسين عليه‌السلام ، وقد وفق بعضهم في اللحاق كحبيب بن مظاهر ومسلم بن عوسجة وغيرهما ، ولم يوفق القسم الآخر بسبب قطع الطرق فبقي مختفياً ، وكان منهم سليمان بن صرد والمسيّب بن نجبة وغيرهما.

الثاني : وجوه الجيش: أمثال حجّار بن أبجر ، وشبث بن ربعي ، ويزيد بن الحارث بن رويم ، وقطن بن عبد الله بن حصين ، ومحمد بن قيس بن الأشعث وغيرهم ، وهؤلاء عُرِفوا بِنِفاقهم وميلهم إلى الدنيا عندما اشتركوا في شهادة الزور على حجر ؛ إرضاءً لعبيد الله بن زياد ، ولم يكونوا محسوبين من شيعة علي عليه‌السلام وحملة علمه وحديثه ، وقد كتبوا

__________________

(١) الاستيعاب ـ ترجمة سليمان بن صرد.

(٢) الإصابة في معرفة الصحابة ـ ترجمة سليمان بن صرد.

٢٧٤

للحسين عليه‌السلام ـ إن صدّقنا رواية الكتب ـ لمّا نُمي إليهم أنّ حركة مسلم آخذة بالاتّساع ، وقدَّروا أنّ حركة الحسين سوف تنجح ، وهم طلاب دنيا ، وعندما استطاع ابن زياد أن يقضي على حركة مسلم ، ويسجن الناس على التهم والظنّ ، أنكر هؤلاء أنّهم كتبوا للحسين عليه‌السلام ، وأخذوا مواقعهم في الجيش الذي قاتل الحسين عليه‌السلام. وقد بقي هؤلاء على موقفهم وإصرارهم على الإثم حتّى بعد قتل الحسين عليه‌السلام وموت يزيد ، وقد كان هواهم مع ابن الزبير وبايعوا له ، ولم يتُب منهم أحد ، وقد قاتلوا المختار عند قيامه ، ثمّ انهزموا إلى البصرة ولجؤوا إلى مصعب ، وجاؤوا معه لقتال المختار وقضوا عليه.

٢٧٥

حركة المختار بن أبي عبيد الثقفي

ترجمة المختار :

توجد في التراث الشيعي في حقّ المختار روايات تمدح وأخرى تقدح.

فمن الروايات التي تمدح : ما رواه الكشي عن حمدويه قال : حدّثني يعقوب ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن المثنى ، عن سدير ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «لا تسبّوا المختار ؛ فإنّه قتل قتلتنا ، وطلب بثأرنا ، وزوّج أراملنا ، وقسّم فينا المال على العسرة».

وأيضاً ما رواه عن محمد بن الحسن ، وعثمان بن حامد ، قالا : حدّثنا محمد بن يزداد ، عن محمد بن الحسين ، عن موسى بن يسار ، عن عبد الله بن الزبير ، عن عبد الله بن شريك ، قال : دخلنا على أبي جعفر عليه‌السلام يوم النحر وهو متّكئ ، وقد أرسل إلى الحلاّق ، فقعدت بين يديه ، إذ دخل عليه شيخ من أهل الكوفة ، فتناول يده ليقبّلها فمنعه ، ثمّ قال : «مَنْ أنت؟». قال : أنا أبو محمد الحكم بن المختار بن أبي عبيدة الثقفي ، وكان متباعداً من أبي جعفر عليه‌السلام ، فمدّ يده إليه حتّى كاد يقعده في حجره بعد منعه يده ، ثمّ قال : أصلحك الله ، إنّ الناس قد أكثروا في أبي وقالوا ، والقول والله قولك. قال : «وأيّ شيء يقولون؟». قال : يقولون كذّاب ، ولا تأمرني بشيء إلاّ قبلته. فقال : «سبحان الله! أوَ لم يبنِ دورنا ، وقتل قاتلينا ، وطلب بدمائنا؟! رحم الله أباك ، رحم الله أباك ، ما ترك لنا حقّاً عند أحد إلاّ طلبه ؛ قتل قتلتنا ، وطلب بدمائنا».

٢٧٦

ومن الروايات التي تقدح وتطعن : ما رواه الكشي أيضاً عن محمد بن الحسن ، وعثمان بن حامد ، قالا : حدّثنا محمد بن يزداد الرازي ، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، عن عبد الله المزخرف ، عن حبيب الخثعمي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كان المختار يكذب على علي بن الحسين عليه‌السلام.

وعن جبرئيل بن أحمد ، حدّثني العبيدي ، قال : حدّثني محمد بن عمرو ، عن يونس بن يعقوب ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : كتب المختار بن أبي عبيدة إلى علي بن الحسين عليه‌السلام ، وبعث إليه بهدايا من العراق ، فلمّا وقفوا على باب علي بن الحسين دخل الآذن يستأذن لهم ، فخرج إليهم رسوله فقال : أميطوا عن بابي ؛ فإنّي لا أقبل هدايا الكذّابين ... (١).

قال السيد الخوئي رحمه‌الله : وأمّا الروايات الذامّة فهي ضعيفة الإسناد جدّاً ، ولو صحّت فهي لا تزيد على الروايات الذامّة الواردة في حقّ زرارة ومحمد بن مسلم وبريد وأضرابهم ، ويكفي في حسن حال المختار إدخاله السرور في قلوب أهل البيت (سلام الله عليهم) بقتله قَتَلة الحسين عليه‌السلام ، وهذه خدمة عظيمة لأهل البيت عليهم‌السلام يستحق بها الجزاء من قبلهم. ثمّ إنّ خروج المختار وطلبه بثأر الحسين عليه‌السلام كان قد أخبره ميثم التمّار (٢) لمّا كانا في حبس عبيد الله بن زياد ، بأنّه يفلت ويخرج ثائراً بدم الحسين عليه‌السلام (١).

__________________

(١) اختيار معرفة رجال الكشي ١ / ٣٤.

(٢) قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٩٣ : وروى إبراهيم في كتاب الغارات عن أحمد بن الحسن الميثمي ، قال : كان ميثم التمّار مولى علي بن أبي طالب عليه‌السلام عبداً لامرأة من بني أسد رحمه‌الله ، فاشتراه علي عليه‌السلام منها وأعتقه ... وقد أطلعه علي عليه‌السلام على علم كثير وأسرار خفية من أسرار الوصية ، فكان ميثم يحدّث ببعض ذلك ، فيشك فيه قوم من أهل الكوفة ، وينسبون عليّاً عليه‌السلام في ذلك إلى المخرقة والإيهام والتدليس ، حتّى قال له يوماً بمحضر من خلق كثير من أصحابه ، وفيهم الشاك والمخلص : «يا ميثم ، إنّك تؤخذ بعدي وتُصلب ، فإذا كان اليوم الثاني ابتدر منخراك وفمك دماً حتّى تخضب لحيتك ، فإذا كان اليوم الثالث طعنت بحربة يقضى عليك ، فانتظر ذلك. والموضع الذي تُصلب فيه على باب دار عمرو بن حريث ، إنّك لعاشر عشرة أنت أقصرهم خشبة ، وأقربهم من المطهّرة (يعنى الأرض) ، ولأرينك النخلة التي تُصلب على جذعها». ثم أراه إياها بعد ذلك بيومين ، وكان ميثم يأتيها ،

٢٧٧

__________________

فيصلّي عندها ، ويقول : بوركت من نخلة ، لك خلقت ، ولي نبتِ. فلم يزل يتعاهدها بعد قتل علي عليه‌السلام حتّى قُطعت ، (فكان يرصد جذعها ويتعاهده ويتردد إليه ، ويبصره) ، وكان يلقى عمرو بن حريث فيقول له : إنّي مجاورك فأحسن جواري. فلا يُعلم عمرو ما يريد ، فيقول له : أتريد أن تشتري دار ابن مسعود ، أم دار ابن حكيم؟ قال : وحجّ في السنة التي قُتل فيها ، فدخل على اُمّ سلمة رضي‌الله‌عنها ، فقالت له : مَنْ أنت؟ قال : عراقي. فاستنسبته ، فذكر لها أنّه مولى علي بن أبى طالب ، فقالت : أنت هيثم؟ قال : بل أنا ميثم. فقالت : سبحان الله! والله لربّما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوصي بك علياً في جوف الليل. فسألها عن الحسين بن علي ، فقالت : هو في حائط له. قال : أخبريه أنّي قد أحببت السلام عليه ، ونحن ملتقون عند ربّ العالمين إن شاء الله ، ولا أقدر اليوم على لقائه ، واُريد الرجوع. فدعت بطيب فطيّبت لحيته ، فقال لها : أما إنّها ستخضب بدم. فقالت : مَنْ أنباك هذا؟ قال : أنبأني سيّدي. فبكت اُمّ سلمة وقالت له : إنّه ليس بسيّدك وحدك ، هو سيّدي وسيّد المسلمين. ثمّ ودّعته ، فقدم الكوفة ، فأُخذ وأُدخل على عبيد الله بن زياد ، وقيل له : هذا كان من آثر الناس عند أبي تراب. قال : ويحكم! هذا الأعجمي؟! قالوا : نعم. فقال له عبيد الله : أين ربّك؟ قال : بالمرصاد. قال : قد بلغني اختصاص أبي تراب لك. قال : قد كان بعض ذلك ، فما تريد؟ قال : وإنّه ليُقال إنّه قد أخبرك بما سيلقاك. قال : نعم ، إنّه أخبرني أنّك تصلبني عاشر عشرة ، وأنا أقصرهم خشبة ، وأقربهم من المطهّرة. قال : لاُخالفنّه. قال : ويحك! كيف تخالفه ، إنّما أخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأخبر رسول الله عن جبرائيل ، وأخبر جبرائيل عن الله ، فكيف تخالف هؤلاء؟! أما والله ، لقد عرفت الموضع الذي أُصلب فيه أين هو من الكوفة ، وإنّي لأوّل خلق الله أُلجم في الإسلام بلجام كما يُلجم الخيل. فحبسه وحبس معه المختار بن أبي عبيدة الثقفي ، فقال ميثم للمختار وهما في حبس ابن زياد : إنّك تفلت وتخرج ثائراً بدم الحسين عليه‌السلام ، فتقتل هذا الجبّار الذي نحن في سجنه ، وتطأ بقدمك هذا على جبهته وخدّيه فلما دعا عبيد الله بن زياد بالمختار ليقتله طلع البريد بكتاب يزيد بن معاوية إلى عبيد الله بن زياد يأمره بتخلية سبيله ، وذاك أنّ أخته كانت تحت عبد الله بن عمر بن الخطاب ، فسألت بعلها أن يشفع فيه إلى يزيد فشفع ، فأمضى شفاعته وكتب بتخلية سبيل المختار على البريد ، فوافى البريد وقد أُخرج ليُضرب عنقه فأُطلق. وأمّا ميثم فأُخرج بعده ليُصلب ، وقال عبيد الله : لأمضينّ حكم أبي تراب فيه. فلقيه رجل فقال له : ما كان أغناك عن هذا يا ميثم! فتبسّم وقال : لها خُلقت ، ولي غذيت. فلمّا رُفع على الخشبة اجتمع الناس حوله على باب عمرو بن حريث ، فقال عمرو : لقد كان يقول لي : إنّي مجاورك. فكان يأمر جاريته كلّ عشية أن تكنس تحت خشبته وترشه ، وتجمر بالمجمر تحته ، فجعل ميثم يحدّث بفضائل بني هاشم ومخازي بني اُميّة ، وهو مصلوب على الخشبة ، فقيل لابن زياد : قد فضحكم هذا العبد. فقال : ألجموه. فأُلجم ، فكان أوّل خلق الله أُلجم في الإسلام ، فلمّا كان في اليوم الثاني فاضت منخراه وفمه دماً ، فلمّا كان في اليوم الثالث طُعن بحربة فمات. وكان قتل ميثم قبل قدوم الحسين عليه‌السلام العراق بعشرة أيام.

٢٧٨

أقول : أمّا في كتب الرجال السنّية فإنّ المختار مذموم جدّاً ، ولا توجد رواية واحدة تُثني عليه.

قال ابن الأثير (٢) ، وقد نقل كلام ابن عبد البرّ القرطبي : المختار بن أبي عبيد بن مسعود الثقفي أبو إسحاق ، كان أبوه من أجلّة الصحابة. ولد المختار عام الهجرة. وأخباره أخبار غير مرضية ، وذلك مذ طلب الإمارة إلى أن قتله مصعب بن الزبير بالكوفة سنة سبع وستين. وكان قبل ذلك معدوداً في أهل الفضل والخير ، يرائي بذلك كلّه ويكتم الفسق ، فظهر منه ما كان يضمر ، والله أعلم (٣).

قال ابن حجر في الإصابة : روى موسى بن إسماعيل ، عن أبي عوانة ، عن مغيرة ، عن ثابت بن هرمز ، قال : حمل المختار مالاً من المدائن من عند عمّه إلى علي ، فأخرج كيساً فيه خمسة عشر درهماً ، فقال : هذا من اُجور المومسات. فقال له علي : ويلك! ما لي وللمومسات؟! ثمّ قام وعليه مقطعة حمراء ، فلمّا سلّم قال علي : ما له قاتله الله؟! لو شقّ عن قلبه الآن لوجد ملآن من حبّ اللات والعزّى.

وممّا ورد في ذلك : ما أخرجه أحمد في مسند عمرو بن الحمق من طريق السدي ، عن رفاعة القتباني قال : دخلت على المختار فألقى إليَّ وسادة ، وقال : لولا أنّ أخي جبرائيل قام عن هذه ، وأشار إلى أخرى عنده ، لألقيتها لك (٤).

وقال ابن حبّان في ترجمة صفية بنت أبي عبيد في كتابه الثقات : هي أخت المختار المتنبي (٥) بالعراق.

__________________

(١) معجم رجال الحديث ـ السيد الخوئي ٩١ / ١٠٢.

(٢) أُسد الغابة ـ ترجمة المختار بن أبي عبيد الثقفي.

(٣) الاستيعاب ٤ / ١٤٦٥.

(٤) رواها ابن عدي في الكامل ٤ / ١٧٢ ، قال : أخبرنا الفضل بن الحباب ، ثنا مسلم بن إبراهيم ، عن عبد الله بن ميسرة الحارثي الواسطي ، ثنا أبو عكاشة أنّ رفاعة دخل على المختار بن أبي عبيد فقال : انصرف عنّي جبريل آنفاً.

(٥) المتنبّي : أي الذي ادّعى النبوّة.

٢٧٩

قال ابن حجر : وأقوى (١) ما ورد في ذمّه ، ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أسماء بنت أبي بكر : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : يكون في ثقيف كذّاب ومبير ، فشهدت أسماء أنّ الكذّاب هو المختار المذكور.

وذكر ابن سعد عن الواقدي بأسانيده : أنّ أبا عبيد والد المختار قدم من الطائف في زمن عمر حين ندب الناس إلى العرق ، فخرج أبو عبيدة فاستشهد يوم الجسر ، وبقي ولده بالمدينة ، وتزوّج عبد الله بن عمر صفية بنت أبي عبيد ، وأقام المختار بالمدينة منقطعاً إلى بني هاشم ، ثمّ كان مع علي بالعراق ، وسكن البصرة بعد علي ، وله قصّة مع الحسن بن علي لمّا ولّي الخلافة (٢).

أقول :

يريد بقصته مع الحسن عليه‌السلام ما رواه الطبري ، قال : حدّثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدّثنا عثمان بن عبد الحميد ، أو ابن عبد الرحمن المجازي الخزاعي أبو عبد الرحمن ، قال : حدّثنا إسماعيل بن راشد ، قال : بايع الناس الحسن بن علي عليه‌السلام بالخلافة ، ثمّ خرج بالناس حتّى نزل المدائن ، وبعث قيس بن سعد على مقدّمته في اثني عشر ألفاً ، وأقبل معاوية في أهل الشام حتّى نزل مسكن (٣). فبينا الحسن في المدائن إذ نادى مناد في العسكر : ألا إنّ قيس بن سعد قد قُتل فانفروا. فنفروا ونهبوا سرادق الحسن عليه‌السلام حتّى نازعوه بساطاً كان تحته ، وخرج الحسن حتّى نزل المقصورة البيضاء بالمدائن ، وكان عمّ المختار بن أبي عبيد عاملاً على المدائن ، وكان اسمه سعد بن مسعود ، فقال له المختار (وهو غلام شاب) : هل لك في الغنى والشرف؟ قال : وما ذاك؟ قال : توثق الحسن وتستأمن

__________________

(١) أي أقوى سنداً.

(٢) الإصابة ـ ابن حجر ٦ / ٢٧٥.

(٣) اسم للطسوج الذي منه أوانا من أعمال دجيل ، والموضع الذي به قبر مصعب على جانب الآن (مراصد الاطلاع).

٢٨٠