الحسين عليه السلام في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام

السيّد سامي البدري

الحسين عليه السلام في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام

المؤلف:

السيّد سامي البدري


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: ياسين
الطبعة: ١
ISBN: 964-499-093-5
الصفحات: ٥٢٧

حسينٌ حين يطلبُ بذلَ نَصري

على أهلِ العداوةِ والشقاقِ

ولو أنّي أُواسيهِ بنفسي

لَنِلْتُ كرامةً يومَ التلاقِ

مع ابن المصطفى نفسي فداهُ

فولّى ثمّ ودَّع بالفراقِ

غداةَ يقولُ لي بالقَصرِ قولاً

أتتركُنا وتُزمِعُ بانطلاقِ

فلو فَلَقَ التلَهُّفُ قلبَ حيٍّ

لهَمَّ اليومَ قلبي بانفلاقِ

فقد فازَ الأُلى نصروا حسيناً

وخابَ الآخرونَ اُولي النفاقِ (١)

 (ومن الجدير ذكره أنّ حسرة عبيد الله بن الحرّ وندمه على ترك نصرة الحسين عليه‌السلام لم ترتفع به إلى وعي هدف حركة الحسين عليه‌السلام وشهادته) ، ومن هنا لم يصبح في صف الشيعة الثائرين لمواصلة خطّة الحسين عليه‌السلام ، بل اختار عبد الله بن الزبير مرّة ، وعبد الملك بن مروان أخرى ، ثمّ قُتل وهو من أنصار عبد الملك بن مروان (٢).

ممّن ندم على مقاتلته :

حفظت لنا كتب التاريخ كلمات وأبيات للمشاركين في قتل الحسين عليه‌السلام تكشف لنا عن ندمهم ، منهم رضي بن منقذ العبدي ، وينسب إليه قوله :

لو شاء ربّي ما شهدتُ قتالهمْ

ولا جعلَ النعماء عندي ابن جابرِ

لقد كانَ ذاك اليوم عاراً وسُبَّة

يعيِّره الأبناء بعد المعاشرِ

فيا ليت أنّي كنت من قبل قتلِهِ

ويوم حسين كنت في رمس قابر (٣)

كانت هذه ردود فعل سريعة وانتهت سريعاً أيضاً.

__________________

(١) الطبقات ١ / ٥١٦.

(٢) انظر تفاصيل ذلك في تاريخ الطبري ٦ / ١٢٩ ـ ١٣٦.

(٣) تاريخ الطبري ٥ / ٤٣٣.

٢٤١

قال ابن أعثم : لمّا قُتل الحسين عليه‌السلام استوسق العراقان جميعاً (الكوفة والبصرة) لعبيد الله بن زياد وأوصله يزيد بألف ألف درهم جائزة ، ثمّ علا أمره ، وارتفع قدره ، وانتشر ذكره ، وبذل الأموال ، واصطنع الرجال ، ومدحته الشعراء حتّى قال فيه المليح بن الزبير الأسدي :

إليك عبيد الله تهوى ركابنا

تسعفُ إخوانَ الفلاةِ وتدأبُ

إذا ذكروا فضل امرئ ونوالَهُ

ففضلُ عبيد الله أسنى وأطيبُ (١)

أقول :

استمر الحال كذلك إلى قريب من سنتين حتّى ثار أهل المدينة ، ولم تكن ثورتهم لأجل إحياء خطّة الحسين عليه‌السلام ، بل كانت تأثّراً بثورته وشهادته.

واقتص منهم يزيد بقسوة متناهية.

ثمّ غزا البيت الحرام ، حيث كان عبد الله بن الزبير قد أعلن ثورته هناك ، ورماه بالمنجنيق.

ثمّ بتر الله عمر يزيد (هُو يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يونس / ٥٦ ، فمات بعد قتل الحسين بثلاث سنوات.

واستقال ابنه معاوية الثاني بعد أن جاءته البيعة من الآفاق : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِه) الأنفال / ٢٤.

واقتتل أهل الشام على السلطة.

وتزلزلت الأرض تحت بني اُميّة حتّى انهار حكمهم سنة ١٣٢ هجرية كما سنبيّنه في الفصل الآتي.

__________________

(١) ‏الفتوج ٥ / ٢٥٢.

٢٤٢

الفصل الثاني : تتابع الثورات وانهيار الحكم الأموي

سير الحوادث خلال سبعين سنة من قتل الحسين عليه‌السلام :

١ ـ عهد يزيد.

عاش يزيد بعد قتل الحسين عليه‌السلام ثلاث سنوات وشهر وبضعة أيام ، كانت أهم أعماله فيها غزو المدينة وإباحتها ثلاثة أيام للجند الشامي ، غزو الكعبة ورميها بالمنجنيق حتّى أصابها الضرر.

٢ ـ بعد موت يزيد.

بويع لمعاوية بن يزيد بعد موت أبيه ، غير أنّه استقال ، ثمّ توفي بعد ذلك بمدّة يسيرة ، وبذلك انتهت أسرة معاوية.

وتصدّعت الدولة وتمزّقت وعاشت (من سنة ٦٤ هجرية إلى سنة ٨٣ هجرية) حالة من التمزّق والحروب الداخلية ، ثمّ استقر الأمر لعبد الملك بن مروان سنة ٨٣ هجرية.

ـ اقتتال أهل الشام بعد موت يزيد واستقالة ابنه معاوية (١).

__________________

(١) انتهى آخر اختلاف لأهل الشام وفلسطين آخر سنة ٦٦. قال المسعودي في مروج الذهب ٣ / ٩٧ ـ ٩٨ :

٢٤٣

ـ اقتتال أهل الحجاز مع أهل الشام ، وانتصار ابن الزبير لمدّة سنوات. ثمّ انتصار عبد الملك عليه سنة ٧٣.

ـ اقتتال أهل البصرة ، ثمّ استقرار الأمر لابن الزبير.

ـ ثورة المختار وقتالهم لأهل الشام ، ثمّ قتال مصعب للمختار وانتصاره عليه ، ثمّ قتل عبد الملك لمصعب وانتصاره عليه.

ـ اختلاف أهل اليمن واقتتالهم وانتصار خط ابن الزبير ، ثمّ البيعة لعبد الملك بن مروان. ـ اختلاف أهل خراسان واقتتالهم والبيعة لابن الزبير ، ثمّ لعبد الملك بن مروان سنة.

٣ ـ عهد عبد الملك بن مروان وولده الوليد (٧٢ ـ ٨٦)

ـ ثورة ابن الأشعث.

٤ ـ الدولة الإسلاميّة في عهد عمر بن عبد العزيز (٩٩ ـ ١٠١)

٥ ـ الوضع السياسي في عهد هشام بن عبد الملك (١٠١ ـ ١٢٣)

__________________

وقد كان عبد الملك بن مروان سار في جيوش أهل الشام فنزل بطنان (من أعيان قرى مصر قريبة من الفسطاط ـ معجم البلدان) ينتظر ما يكون من أمر ابن زياد ، فأتاه مقتله ومقتل مَنْ كان معه ، وهزيمة الجيش بالليل. وأتاه في تلك الليلة مقتل حبيش بن دلجة ، وكان على الجيش بالمدينة لحرب ابن الزبير. (ثمّ جاءه خبر دخول ناتل بن قيس فلسطين من قبل ابن الزبير ، ومسير مصعب بن الزبير من المدينة إلى فلسطين) ، ثمّ جاءه خبر دمشق وأن عبيدها وأوباشها ودعارها قد خرجوا على أهلها ونزلوا الجبل ، ثمّ أتاه أنّ مَنْ في السجن بدمشق فتحوا السجن وخرجوا منه مكابرة ، وأنّ خيل الأعراب أغارت على حمص وبعلبك والبقاع ، وغير ذلك من المفظعات في تلك الليلة ، فلم يرَ عبد الملك في ليلة قبلها أشدّ ضحكاً ، ولا أحسن وجهاً ، ولا أبسط لساناً ، ولا أثبت جناناً منه تلك الليلة ؛ تجلّداً وسياسة للملوك ، وترك إظهار الفشل. وبعث بأموال وهدايا إلى ملك الروم فشغله وهادنه ، وسار إلى فلسطين وبها ناتل بن قيس على جيش ابن الزبير ، فالتقوا بأجنادين (موضع معروف بالشام من فلسطين من الرملة من كورة ببيت جبرين ، وبه للمسلمين مع الروم يوم مشهور) ، فقتل ناتل بن قيس وعامّة أصحابه ، وانهزم الباقون ، ونمي خبر مقتله وهزيمة الجيش إلى مصعب بن الزبير وهو في الطريق ، فولّى راجعاً إلى المدينة ، ورجع عبد الملك على دمشق فنزلها.

٢٤٤

أ ـ ثورة زيد بن علي ، ثمّ ثورة ولده يحيى.

ب ـ موت هشام ١٢٥ سنة واختلاف بني اُميّة.

ج ـ حركة أبي حمزة الخارجي في المدينة.

د ـ حركة عبد الله بن معاوية بن جعفر.

٦ ـ ثورة العباسيِّين وسقوط بني اُميّة

٢٤٥

ثورة أهل المدينة

رواية زهير بن أبي خيثمة وخليفة بن خياط :

روى أحمد بن زهير بن أبي خيثمة (١) قال : حدّثنا أبي زهير (٢) قال : حدّثنا وهب بن جرير :

__________________

(١) قال ابن حجر في لسان الميزان : (أحمد بن زهير بن حرب بن شدّاد النسائي الأصل البغدادي ، أبو بكر بن أبي خيثمة الحافظ الكبير ابن الحافظ) ، ولد سنة خمس ومئتين ، سمع أباه ، وأبا نعيم ، وعفّان ، ومسلم بن إبراهيم ، وأبا سلمة التبوذكي في عدد كثير ، وصنّف التاريخ فجرّده. روى عنه أبو القاسم البغوي ، وأبو محمد بن صاعد ، ومحمد بن مخلّد ، وأبو بكر بن كامل ، وإسماعيل الصفّار ، وأبو زياد القطّان ، وقاسم بن أصبغ وآخرون. قال الخطيب : كان ثقة عالماً ، متقناً حافظاً ، بصيراً بأيام الناس وأئمّة الأدب ، أخذ علم الحديث عن أبيه ويحيى بن معين فأكثر عنه ، وعن أحمد بن حنبل وغيرهم ، وأخذ علم النسب عن مصعب الزبيري ، وأيام الناس عن أبي الحسن المدائني ، والأدب عن محمد بن سلام الجمحي. قال الخطيب : ولا أعرف أغزر فوائد من تاريخه ، وكان لا يحدّث به إلاّ كاملاً ، وقد أجاز روايته لجمع كبير. وقال الفرغاني : مات في آخر سنة ٩٨ بعد مئتين ، وكانت له معرفة بأيام الناس وأخبارهم ، وله مذهب ، كان الناس ينسبونه إلى القول بالقدر ، وكان مختصّاً بعلي بن عيسى ، انتهى كلامه. وأرّخ غيره وفاته في جمادى الأولى.

(٢) قال ابن حجر في التهذيب : زهير بن حرب بن شدّاد الحرشي ، أبو خيثمة النسائي (خ م د س ق البخاري ومسلم ، وأبي داود والنسائي وابن ماجة) ، نزيل بغداد ، مولى بني الحريش بن كعب ، وكان اسم جدّه (اشتال) فعرب شداداً. روى عنه البخاري ومسلم ، وأبو داود وابن ماجة. وروى له النسائي بواسطة أحمد بن علي بن سعيد المروزي ، وابنه أبو بكر بن أبي خيثمة ، وأبو زرعة ، وأبو حاتم ، وبقي بن مخلد ، وإبراهيم الحربي ، وموسى بن هارون ، وابن أبي الدنيا ، ويعقوب بن شيبة ، وأبو يعلى الموصلي ، وجماعة. قال معاوية بن صالح عن ابن معين : ثقة. وقال علي بن الجنيد عن ابن معين : يكفي قبيلة. وقال أبو حاتم : صدوق ،

٢٤٦

وروى خليفة بن خياط (١) قال : حدّثنا وهب بن جرير (٢) ، قال : حدّثنا جويرية بن أسماء (٣) ، قال : سمعت أشياخ أهل المدينة يحدّثون أنّ معاوية لمّا حضرته الوفاة دعا يزيد ،

__________________

وقال الآجري : قلت لأبي داود : كان أبو خيثمة حجة في الرجال؟ قال : ما كان أحسن علمه. وقال النسائي : ثقة مأمون. وقال الحسين بن فهم : ثقة ثبت. وقال أبو بكر الخطيب : كان ثقة ثبتاً ، حافظاً متقناً. قال محمد بن عبد الله الحضرمي وغيره : مات سنة ٢٣٤. وقال أبو القاسم البغوي : كتبت عنه. وقال ابن قانع : كان ثقة ثبتاً. وقال صاحب الزهرة : روى عنه مسلم ألف حديث ، ومئتي حديث ، وإحدى وثمانين حديثاً. وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل : سُئل أبي عنه ، فقال : ثقة صدوق. وقال ابن وضاح : ثقة من الثقات ، لقيته ببغداد. وقال ابن حبان في الثقات : كان متقناً ضابطاً من أقران أحمد ويحيى بن معين.

(١) قال ابن حجر في تقريب التهذيب : خليفة بن خياط العصفري (بضم العين المهملة وسكون الصاد المهملة وضم الفاء) أبو عمر البصري ، لقبه شباب (بفتح المعجمة وموحدتين الأولى خفيفة) ، صدوق ربّما أخطأ ، وكان أخباريّاً ، علاّمة من العاشرة ، مات سنة أربعين ومئتين ، روى له البخاري.

(٢) قال الذهبي في تذكرة الحفاظ ١ / ٣٣٦ : وهب بن جرير بن حازم المحدّث الحافظ ، أبو العباس الأزدي ، مولاهم البصري ، أحد الأثبات. وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب : روى له الستة ، روى عنه أحمد بن حنبل ، وعلي بن المديني ، ويحيى بن معين ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو خيثمة ، وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ، وآخرون. وقال النسائي : ليس به بأس. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال العجلي : بصري ثقة ، كان عفّان يتكلّم فيه. وقال ابن سعد : مات سنة ست ومئتين. قلت : وقال : كان ثقة. وقال في التقريب : وهب بن جرير بن حازم بن زيد ، أبو عبد الله الأزدي البصري ، ثقة من التاسعة ، مات سنة ست ومئتين ، روى له الستة.

(٣) قال ابن حجر في تهذيب التهذيب : جويرية بن أسماء بن عبيد بن مخارق ، ويُقال : مخراق الضبعي ، أبو مخارق ، ويُقال : أبو أسماء البصري ، م د س ق البخاري ، ومسلم ، وأبي داود ، والنسائي ، وابن ماجة. روى عن أبيه ونافع والزهري ، وبديح مولى عبد الله بن جعفر ، ومالك بن أنس ، وهو من أقرانه ، وغيرهم. وعنه حبّان بن هلال ، وحجّاج بن منهال ، وابن اُخته سعيد بن عامر الضبعي ، وابن أخيه عبد الله بن محمد بن أسماء ، وأبو عبد الرحمن المقري ، وأبو سلمة ، ويحيى القطّان ، ويزيد بن هارون ، ومسدّد ، وأبو الوليد ، وغيرهم. قال ابن معين : ليس به بأس. وقال أحمد : ثقة ليس به بأس. وقال أبو حاتم : صالح. قال ابن حجر : أرّخ البخاري وغيره وفاته سنة ١٧٣ ، وكذلك ابن حبان في الثقات. وقال ابن سعد : كان صاحب علم كثير ، وذكره ابن المديني في الطبقة السابعة من أصحاب نافع. وقال ابن حبّان في مشاهير الأمصار ١ / ١٥٩ : جويرية بن أسماء بن عبيد ، من متقني البصريين ، كنيته أبو مخراق ، مات سنة ثلاث وسبعين ومئة ، وكان متقناً.

٢٤٧

فقال له : إنّ لك من أهل المدينة يوماً ، فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة ؛ فإنّه رجل قد عرفت نصيحته.

فلمّا هلك معاوية وفد إليه وفد من أهل المدينة (١) ، وكان ممّن وفد عليه عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر ، وكان شريفاً فاضلاً ، سيّداً عابداً ، معه ثمانية بنين له ، فأعطاه مئة ألف درهم ، وأعطى بنيه لكلّ واحد منهم عشرة آلاف سوى كسوتهم وحملانهم ، فلمّا قدم المدينة عبد الله بن حنظلة أتاه الناس.

فقال له أهل المدينة : ما وراءك قال : جئتكم من عند رجل ، والله لو لم أجد إلاّ بنيَّ هؤلاء لجاهدته بهم.

قالوا : قد بلغنا أنّه أجداك وأعطاك وأكرمك.

قال : قد فعل ، وما قبلت منه إلاّ لأَتقوّى به ، وحضض الناس فبايعوه.

فبلغ ذلك يزيد ، فبعث مسلم بن عقبة إليهم ، فقتل عبد الله بن حنظلة وبنوه ، وانهزم الناس.

ودخل مسلم بن عقبة المدينة ، (فدعا الناس للبيعة على أنّهم خول ليزيد بن معاوية يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء) (٢).

رواية محمد بن سعد :

وقال ابن سعد في ترجمة عبد الله بن حنظلة الغسيل : هو ابن أبي عامر الراهب ، من الأوس ، واُمّه جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول. وكان حنظلة بن أبي عامر لمّا أراد

__________________

(١) كان ذلك بعد قتل الحسين عليه‌السلام ، حيث عزل يزيد الوليد بن عتبة وعيّن بدله عثمان بن محمد بن أبي سفيان.

(٢) تاريخ الطبري ٥ / ٤٩٥ ، تاريخ خليفة بن خياط / ٢٣٧.

٢٤٨

الخروج إلى أُحد وقع على امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبي سلول ، فعلقت بعبد الله بن حنظلة في شوال على رأس اثنين وثلاثين شهراً من الهجرة ، وقُتل حنظلة بن أبي عامر يومئذ شهيداً ، وولدت جميلة عبد الله بن حنظلة بعد ذلك بتسعة أشهر ، فقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو ابن سبع سنين. وذكر بعضهم أنّه قد رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبا بكر وعمر ، وقد روى عن عمر.

قال : وحدّثنا سعيد بن محمد ، عن عمرو بن يحيى ، عن عبّاد بن تميم ، عن عمّه عبد الله بن زيد وعن غيرهم أيضاً كلّ قد حدّثني ، قالوا : لمّا وثب أهل المدينة ليالي الحرّة فأخرجوا بني اُميّة عن المدينة ، وأظهروا عيب يزيد بن معاوية وخلافه ، أجمعوا على عبد الله بن حنظلة ، فأسندوا أمرهم إليه ، فبايعهم على الموت ، وقال :

يا قوم ، اتقوا الله وحده لا شريك له ، فو الله ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أن نُرمى بالحجارة من السماء ، إنّ رجلاً ينكح الأمّهات والبنات والأخوات ، ويشرب الخمر ، ويدع الصلاة ، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت لله فيه بلاءً حسناً.

فتواثب الناس يومئذ يبايعون من كلّ النواحي ، وما كان لعبد الله بن حنظلة تلك الليالي مبيت إلاّ المسجد ، وما كان يزيد على شربة من سويق يفطر عليها إلى مثلها من الغد يؤتى بها في المسجد يصوم الدهر ، وما رُئي رافعاً رأسه إلى السماء إخباتاً. فلمّا دنا أهل الشام من وادي القرى صلّى عبد الله بن حنظلة بالناس الظهر ، ثمّ صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال :

أيّها الناس ، إنّما خرجتم غضباً لدينكم فابلوا لله بلاءً حسناً ؛ ليوجب لكم به مغفرته ، ويحلّ به عليكم رضوانه ، قد خبّرني مَنْ نزل مع القوم السويداء وقد نزل القوم اليوم ذا خشب ومعهم مروان بن الحكم ، والله إن شاء الله محينه بنقضه العهد والميثاق عند منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٢٤٩

فتصايح الناس وجعلوا ينالون من مروان ويقولون : الوزغ ابن الوزغ. وجعل بن حنظلة يهدّئهم ويقول : إنّ الشتم ليس بشيء ، ولكن أصدقوهم اللقاء ، والله ما صدق قوم قطّ إلاّ حازوا النصر بقدرة الله.

ثمّ رفع يديه إلى السماء واستقبل القبلة ، وقال : اللّهمّ إنّا بك واثقون ، بك آمنّا ، وعليك توكلّنا ، وإليك ألجأنا ظهورنا.

ثمّ نزل وصبح القوم المدينة ، فقاتل أهل المدينة قتالاً شديداً (حتى كثرهم أهل الشام) ، ودخلت المدينة من النواحي كلّها ، فلبس عبد الله بن حنظلة يومئذ درعين وجعل يحضّ أصحابه على القتال ، فجعلوا يقاتلون وقتل الناس ، فما ترى إلاّ راية عبد الله بن حنظلة ممسكاً بها مع عصابة من أصحابه وحانت الظهر ، فقال لمولى له : احمِ لي ظهري حتّى اُصلّي. فصلّى الظهر أربعاً متمكّناً ، فلمّا قضى صلاته ، قال له مولاه : والله يا أبا عبد الرحمن ما بقي أحد ، فعلامَ نقيم؟! ولواؤه قائم ما حوله خمسة. فقال : ويحك! إنّما خرجنا على أن نموت ، ثمّ انصرف من الصلاة وبه جراحات كثيرة ، فتقلّد السيف ونزع الدرع ولبس ساعدين من ديباج ، ثمّ حثّ الناس على القتال وأهل المدينة كالأنعام الشُّرُد ، وأهل الشام يقتلونهم في كلّ وجه ، فلمّا هُزم الناس طرح الدرع وما عليه من سلاح وجعل يقاتلهم وهو حاسر حتّى قتلوه. ولمّا قُتل عبد الله بن حنظلة لم يكن للناس مقام فانكشفوا في كلّ وجه ، وكان الذي ولي قتل عبد الله بن حنظلة رجلان شَرَعا فيه جميعاً ، وحزّا رأسه ، وانطلق به أحدهما إلى مسرف وهو يقول : رأس أمير القوم ، فأومأ مسرف بالسجود وهو على دابته. وكانت الحرّة في ذي الحجّة سنة ثلاث وستين (١).

رواية أبي مخنف :

قال هشام (٢) : قال أبو مخنف : ثمّ إنّ خيل مسلم ورجاله أقبلت نحو عبد الله بن

__________________

(١) طبقات ابن سعد ٥ / ٦٥.

(٢) تاريخ الطبري ٥ / ٤٩٠ سنة ٦٣.

٢٥٠

حنظلة الغسيل ورجاله بعده كما حدّثني عبد الله بن منقذ حتّى دنوا منه ، وركب مسلم بن عقبة فرساً له ، فأخذ يسير في أهل الشام ويحرّضهم ويقول : يا أهل الشام ، إنّكم لستم بأفضل العرب في أحسابها ولا أنسابها ، ولا أكثرها عدداً ولا أوسعها بلداً ولم يخصصكم الله بالذي خصّكم به من النصر على عدوّكم ، وحسن المنزلة عند أئمّتكم إلاّ بطاعتكم واستقامتكم ، وإنّ هؤلاء القوم وأشباههم من العرب غيّروا فغيّر الله بهم ، فتمّوا على أحسن ما كنتم عليه من الطاعة يتمم الله لكم أحسن ما ينيلكم من النصر والفلج. ثمّ جاء حتّى انتهى إلى مكانه الذي كان فيه ، وأمر الخيل أن تقدم على ابن الغسيل وأصحابه ، فأخذت الخيل إذا أقدمت على الرجال فثاروا في وجوهها بالرماح.

مقتل معقل بن سنان الأشجعي :

قال الحاكم في مستدرك الصحيحين ٣ / ٥٣٣ : كان معقل بن سنان بن مطهر بن عركي بن فتيان بن سبيع بن بكر بن أشجع شهد الفتح مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فحدّثني أبو عبد الرحمن بن عثمان بن زياد الأشجعي ، عن أبيه قال : كان معقل بن سنان الأشجعي قد صحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحمل لواء قومه يوم الفتح ، وكان شاباً طرياً ، وبقي بعد ذلك حتّى بعثه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ، وكان على المدينة ، فاجتمع معقل بن سنان ومسلم بن عقبة الذي يعرف بمسرف ، (فقال معقل لمسرف ، وقد كان آنسه وحادثه إلى أن ذكر معقل يزيد بن معاوية).

فقال معقل : إنّي خرجت كُرها لبيعة هذا الرجل ، وقد كان من القضاء والقدر خروجي إليه ؛ هو رجل يشرب الخمر ويزني بالحرم. ثمّ نال منه وذكر خصالاً كانت فيه ، ثمّ قال لمسرف : أحببت أن أضع ذلك عندك.

فقال مسرف : أما أن أذكر ذلك لأمير المؤمنين يومي هذا فلا والله لا أفعل ، ولكن لله عليّ عهد وميثاق لا تمكنني يداي منك ولي عليك مقدرة إلاّ ضربت الذي فيه عيناك.

٢٥١

فلمّا قدم مسرف المدينة وأوقع بهم أيام الحرّة ، (وكان معقل بن سنان يومئذ صاحب المهاجرين) ، فأتي به مسرف مأسوراً.

فقال له : يا معقل بن سنان ، أعطشت؟ قال : نعم ، أصلح الله الأمير. قال : خوضوا له مشربة بلور. قال : فخاضوها له. فقال : أشربت ورويت؟ قال : نعم. قال : أما والله لا تشتهي بعدها بما يفرح ، يا نوفل بن مساحق (١) ، قم فاضرب عنقه. فقام إليه فقتله صبراً ، وكانت الحرّة في ذي الحجة سنة ثلاث وستين.

وروى الطبري (٢) قال : قال هشام : وأمّا عوانة بن الحكم فذكر أنّ مسلم بن عقبة بعث عمرو بن محرز الأشجعي ، فأتاه بمعقل بن سنان ، فقال له مسلم : مرحباً بأبي محمد ، أراك عطشانَ؟! قال : أجل. قال : شوبوا له عسلاً بالثلج الذي حملتموه معنا (وكان له

__________________

(١) في تهذيب التهذيب : هو نوفل بن مساحق بن عبد الله الأكبر بن مخرمة بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي القرشي العامري أبو سعد. ويُقال : أبو مساحق المدني القاضي ، روى عن أبيه وعمر وسعيد بن زيد ، وعثمان بن حنيف وأمّ سلمة. وعنه ابنه عبد الملك وسالم أبو النضر ، وعمر بن عبد العزيز وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين ، وصالح بن كيسان ومنذر بن الجهم. ذكره بن سعد في الطبقة الثانية من المدنيين ، وقال : ولي القضاء بالمدينة. وقال النسائي : ثقة. وذكره بن حبان في الثقات ، وقال : إنّه مات في إمرة عبد الملك بن مروان سنة أربع وسبعين. وفيه نظر لأن الزبير بن بكار حكى أنّ الوليد بن عبد الملك قدم المدينة وهو خليفة فأجلس نوفلاً معه على السرير. قال : وحدّثني عمّي مصعب قال : كان نوفل من أشراف قريش ، وكانت له ناحية من الوليد ، وكان الوليد يطير الحمام ، فأدخل نوفلاً عليه ، وقال له : خصصتك بهذا المدخل. فقال : بل خسستني ، إنّما هذه عروة. فغضب عليه وسيّره إلى المدينة ، وكان يلي المساعي ولا يرفع إلى الأمراء منها شيئاً ، يقسّمها ويطعمها. قال : وقد ذكر البخاري وأبو حاتم الرازي أنّ نوفلاً هذا مات في أوّل ولاية عبد الملك ، وهذا موافق لما قال ابن حبان ؛ (لأنّ ابن الزبير قُتل في أواخر سنة ثلاث وسبعين ، واجتمع الناس إذ ذاك على عبد الملك) ، ولعل الذي اتفق لنوفل مع الوليد كان في حياة عبد الملك ، (ويكون قول الزبير في خلافته وهماً). وزعم الواقدي أنّ نوفلاً هذا كان على شرطة مسلم بن عقبة المري في وقعة الحرّة ، وأنّه قتل معقل بن سنان الأشجعي صبراً بأمر مسلم ، والله تعالى أعلم. أقول : ونوفل هذا والد عبد الملك أحد رواة أبي مخنف الأزدي.

(٢) تاريخ الطبري ٥ / ٤٩٤ سنة ٦٣.

٢٥٢

صديقاً قبل ذلك) فشابوه له ، فلمّا شرب معقل قال له : سقاك الله من شراب الجنّة. فقال له مسلم : أمّا والله لا تشرب بعدها شراباً أبداً حتّى تشرب من شراب الحميم. قال : أنشدك الله والرحم. فقال له مسلم : أنت الذي لقيتني بطبرية ليلة خرجت من عند يزيد فقلت : (سرنا شهراً ورجعنا من عند يزيد صفراً ، نرجع إلى المدينة فنخلع هذا الفاسق ونبايع لرجل من أبناء المهاجرين فيم غطفان وأشجع من الخلع والخلافة) إنّي آليت بيمين لا ألقاك في حرب أقدر فيه على ضرب عنقك إلاّ فعلت ، ثمّ أمر به فقتل.

قال هشام : قال عوانة : وأتى يزيد بن وهب بن زمعة فقال : بايع. قال : أبايعك على سنّة عمر. قال : اقتلوه. قال : أنا أبايع. قال : لا والله ، لا أقيلك عثرتك. فكلّمه مروان بن الحكم لصهر كان بينهما ، فأمر بمروان (فوجئت) عنقه ، ثم قال :

بايعوا على أنّكم خول ليزيد بن معاوية ، ثمّ أمر به فقتل (١).

علي بن الحسين عليه‌السلام لم يشترك في واقعة الحرّة :

روى الطبري (٢) عن أبي مخنف قال : قال عبد الملك بن نوفل : وفصل ذلك الجيش من عند يزيد ، وعليهم مسلم بن عقبة ، وقال له : إن حدث بك حدث فاستخلف على الجيش حصين بن نمير السكوني ، وقال له : ادع القوم ثلاثاً ، فإن هم أجابوك وإلاّ فقاتلهم ، فإذا أظهرت عليهم فأبحها ثلاثاً ، فما فيها من مال أو رقّة ، أو سلاح أو طعام فهو للجند ، فإذا مضت الثلاث فاكفف عن الناس ، وانظر علي بن الحسين عليه‌السلام فاكفف عنه ، واستوص به خيراً وادن مجلسه ؛ فإنّه لم يدخل في شيء ممّا دخلوا فيه ، وقد أتاني كتابه. وعلي عليه‌السلام لا يعلم بشيء ممّا أوصى به يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة ، وقد كان علي بن الحسين عليه‌السلام

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٤٩٣ سنة ٦٣.

(٢) تاريخ الطبري ٥ / ٤٨٥ سنة ٦٣.

٢٥٣

لمّا خرج بنو اُميّة نحو الشام آوى إليه ثقل مروان بن الحكم وامرأته عائشة بنت عثمان بن عفّان ، وهي أمّ أبان بن مروان.

قال الطبري : وقد حُدِّثْتُ عن محمد بن سعد ، عن محمد بن عمر قال : لمّا أخرج أهل المدينة عثمان بن محمد من المدينة كلّم مروان بن الحكم ابن عمر أن يغيب أهله عنده ، فأبى ابن عمر أن يفعل ، وكلّم علي بن الحسين عليه‌السلام ، وقال : يا أبا الحسن ، إنّ لي رحماً ، وحرمي تكون مع حرمك. فقال : «افعل». فبعث بحرمه إلى علي بن الحسين عليه‌السلام ، فخرج بحرمه وحرم مروان حتّى وضعهم بينبع ، وكان مروان شاكراً لعلي بن الحسين عليه‌السلام مع صداقة كانت بينهما قديمة (١).

وروى الطبري قال : قال هشام : قال عوانة عن أبي مخنف قال : قال عبد الملك بن نوفل بن مساحق : ثمّ إنّ مروان أتى بعلي بن الحسين عليه‌السلام ، وقد كان علي بن الحسين عليه‌السلام حين أُخرجت بنو اُميّة منع ثقل مروان وامرأته وآواها ، ثمّ خرجت إلى الطائف فهي أمّ أبان ابنة عثمان بن عفّان فبعث ابنه عبد الله معها ، فشكر ذلك له مروان ...

قال هشام : وقال عوانة بن الحكم : لمّا أُتي بعلي بن الحسين عليه‌السلام إلى مسلم قال : مَنْ هذا؟ قالوا : هذا علي بن الحسين. قال : مرحباً وأهلاً. ثمّ أجلسه معه على السرير والطنفسة ، ثمّ قال : إنّ أمير المؤمنين أوصاني بك قبلاً ، وهو يقول : إنّ هؤلاء الخبثاء شغلوني

__________________

(١) أقول : لعلها محرّف حميمة ، أو صميمة : أي صداقة قوية وشديدة ، وسرّ هذه الصداقة يوضحه قول الراوي (وكان مروان شاكراً لعلي بن الحسين عليه‌السلام) ؛ إذ لم يجد مروان لعائلته مأمناً في قضية الحرّة ، ولم يقبلها حتّى ابن عمر ، وقبلها الإمام السجّاد عليه‌السلام ، وقد استغلّ الإمام السجّاد عليه‌السلام هذه العلاقة فيما بعد لينتزع بعض الروايات المهمّة من مروان ، من قبيل ما رواه البخاري عن علي بن الحسين عليه‌السلام عن مروان ، قال : اختلف علي عليه‌السلام وعثمان في متعة الحجّ ... وكذلك قوله ما رواه الماوردي بسنده عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جدّه علي بن الحسين عليهم‌السلام قال : «دخل عليَّ مروان فقال لي : ما رأيت أكرم غلبة من أبيك ؛ ما كان إلاّ أن ولينا يوم الجمل حتّى نادى مناديه ، ألا لا يُتبع مدبر ، ولا يُذفف على جريح». كتاب قتال أهل البغي من كتاب الحاوي الكبير ـ للماوردي / ١١١.

٢٥٤

عنك وعن وصلتك ، ثمّ قال لعلي عليه‌السلام : لعل أهلك فزعوا؟ قال : «إي والله». فأمر بدابته فاُسرجت ، ثمّ حمله فردّه عليها.

روى الذهبي عن الواقدي ، عن أبي بكر بن أبي سبرة ، عن يحيى بن شبل ، عن أبي جعفر سأله عن يوم الحرّة هل خرج فيها أحد من بني عبد المطلب؟ قال : «لا ، لزموا بيوتهم ، فلمّا قدم مسرف وقتل الناس سأل عن أبي أحاضر هو؟ قالوا : نعم. قال : ما لي لا أراه؟ فبلغ ذلك أبي فجاءه ومعه ابنا محمد بن الحنفيّة ، فرحّب بهم وأوسع لأبي على سريره ، وقال : كيف أنت؟ إنّ أمير المؤمنين أوصاني بك خيراً» (١).

موت مسرف بن عقبة :

قال الطبري : ثمّ دخلت سنة أربع وستين ، ذكر الخبر عمّا كان فيها من الأحداث ، قال أبو جعفر : فمن ذلك مسير أهل الشام إلى مكّة لحرب عبد الله بن الزبير ، ومَنْ كان على مثل رأيه في الامتناع على يزيد بن معاوية.

ولمّا فرغ مسلم بن عقبة من قتال أهل المدينة ، وإنهاب جنده أموالهم ثلاثاً ، شخص بمَنْ معه من الجند متوجهاً إلى مكّة.

قال أبو مخنف : حتّى إذا انتهى مسلم بن عقبة إلى المشلَّل (ويُقال : إلى قفا المشلل) ، نزل به الموت ، وذلك في آخر المحرّم من سنة أربع وستين ، فدعا حصين بن نمير السكوني فقال له : يابن برذعة الحمار ، أما والله لو كان هذا الأمر إليّ ما ولّيتك هذا الجند ، ولكن أمير المؤمنين ولاّك بعدي ، وليس لأمر أمير المؤمنين مرد. خذ عنّي أربعاً : أسرع السير ، وعجّل الوقاع ، وعمّ الأخبار ، ولا تمكن قرشياً من إذنك. ثمّ إنّه مات فدفن بقفا المشلل.

قال هشام بن محمد الكلبي : وذكر عوانة أنّ مسلم بن عقبة شخص يريد ابن الزبير حتّى إذا بلغ ثنية (هِرشى) نزل به الموت ، فبعث إلى رؤوس الأجناد فقال : إنّ أمير

__________________

(١) ‏ في تاريخ الإسلام ٥ / ٢٨.

٢٥٥

المؤمنين عهد إليّ إن حدث بي حدث الموت أن أستخلف عليكم حصين بن نمير السكوني ، والله ، لو كان الأمر إليّ ما فعلت ، ولكن أكره معصية أمر أمير المؤمنين عند الموت. ثمّ دعا به فقال : انظر يابن برذعة الحمار ، فاحفظ ما أوصيك به ؛ عمّ الأخبار ، ولا ترع سمعك قريشاً أبداً ، ولا تردّنّ أهل الشام عن عدوّهم ، ولا تقيمنّ إلاّ ثلاثاً حتّى تناجز ابن الزبير الفاسق. ثمّ قال :

«اللّهمّ إنّي لم أعمل عملاً قطّ بعد شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله أحبّ إليّ من قتلي أهل المدينة ، ولا أرجى عندي في الآخرة».

ولمّا مات خرج حصين بن نمير بالناس ، فقدم على ابن الزبير مكّة وقد بايعه أهلها وأهل الحجاز.

وفي فتوح ابن أعثم : أنّ مسلم بن عقبة قال في وصيته للحصين بن نمير : فانظر أن تفعل في أهل مكّة ، وفي عبد الله بن الزبير كما رأيتني فعلت بأهل المدينة. ثمّ جعل يقول :

«اللّهمّ إنّك تعلم أنّي لم أعص خليفة قطّ ، اللّهمّ إنّي لا أعمل عملاً أرجو به النجاة إلاّ ما فعلت بأهل المدينة».

ثمّ اشتدّ به الأمر فمات. فغسّلوه وكفّنوه ودفنوه ، وبايع الناس للحصين بن نمير السكوني من بعده ، وسار القوم يريدون مكّة ، وخرج أهل ذلك المنزل فنبشوه من قبره وصلبوه على نخلة. وبلغ ذلك أهل العسكر ، فرجعوا إلى أهل ذلك المنزل ، فوضعوا السيف فيهم ، فقُتل منهم مَنْ قُتل وهرب الباقون ، ثمّ أنزلوه من النخلة فدفنوه ، ثمّ أجلسوا على قبره مَنْ يحفظه (١).

__________________

(١) فتوح ابن أعثم ٥ / ٣٠١.

٢٥٦

جيش الخلافة يحرق الكعبة :

قال المسعودي : فسار الحصين حتّى أتى مكّة وأحاط بها ، وعاذ ابن الزبير بالبيت الحرام ، ونصب الحصين في مَنْ معه من أهل الشام المجانيق والعرّادات على البيت ، ورُمي مع الأحجار بالنار والنفط ، ومشّاقات الكتّان ، وغير ذلك من المحروقات ، فانهدمت الكعبة واحترقت البنيّة.

ووقعت صاعقة فأحرقت من أصحاب المنجنيق أحد عشر رجلاً ، فكان ذلك يوم السبت لثلاث خلون من ربيع الأوّل ، وقبل وفاة يزيد بأحد عشر يوماً ، واشتدّ الأمر على أهل مكّة وابن الزبير (١).

وقال اليعقوبي : رمى حصين بن نمير بالنيران حتّى أحرق الكعبة ، وكان عبيد الله بن عمير الليثي قاصّ ابن الزبير إذا تواقف الفريقان قام على الكعبة فنادى بأعلى صوته : يا أهل الشام! هذا حرم الله الذي كان مأمننا في الجاهلية ، يأمن فيه الطير والصيد ، فاتّقوا الله يا أهل الشام. فيصيح الشاميّون : الطاعة الطاعة ، الكرّ الكرّ ، الرواح قبل المساء ، فلم يزل على ذلك حتّى احترقت الكعبة. فقال أصحاب ابن الزبير : نطفئ النار ، فمنعهم وأراد أن يغضب الناس للكعبة. فقال بعض أهل الشام : إنّ الحرمة والطاعة اجتمعتا فغلبت الطاعة الحرمة (٢).

وفي تاريخ الخميس ، وتاريخ الخلفاء للسيوطي : واحترقت من شرارة نيرانهم أستار الكعبة وسقفها ، وقرنا الكبش الذي فدى الله إسماعيل ، وكان معلّقاً في الكعبة (٣).

وقال الطبري وغيره : أقاموا عليه يقاتلونه بقيّة المحرّم وصفر كلّه ، حتّى إذا مضت ثلاثة أيام من شهر ربيع الأوّل يوم السبت (سنة ٦٤ هـ) ، قذفوا البيت بالمجانيق وحرّقوه

__________________

(١) مروج الذهب ٣ / ٧١ ـ ٧٢.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢٥١ ـ ٢٥٢.

(٣) تاريخ الخميس ٢ / ٣٠٣ ، تاريخ السيوطي / ٩.

٢٥٧

بالنار ... قالوا : واستمرّ الحصار إلى مستهلّ ربيع الآخر حين جاءهم نعي يزيد ، وأنّه قد مات لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأوّل (١).

وفي تاريخ الطبري وغيره : بينا حصين بن نمير يُقاتل ابن الزبير إذ جاء موت يزيد ، فصاح بهم ابن الزبير ، وقال : إنّ طاغيتكم قد هلك ; فمَنْ شاء منكم أن يدخل في ما دخل فيه الناس فليفعل ، فمَنْ كره فليلحق بشامه ، فغدوا عليه يُقاتلونه.

فقال ابن الزبير للحصين بن نمير : أُدنُ منيّ أحدّثك. فدنا منه فحدّثه فجعل فرس أحدهما يجفل (الجفل : الروث) ، فجاء حمام الحرم يلتقط من الجفل فكفّ الحصين فرسه عنهّنّ ، فقال له ابن الزبير : ما لك؟

قال : أخاف أن يقتل فرسي حمام الحرم.

فقال له ابن الزبير : أتحرّج من هذا وتريد أن تقتل المسلمين؟!

فقال : لا اُقاتلك ، فأذن لنا نطوف بالبيت وننصرف عنك. ففعل.

قالوا : فأقبل الحصين بمَنْ معه نحو المدينة.

قالوا : واجترأ أهل المدينة وأهل الحجاز على أهل الشام ، فذلّوا حتّى كان لا ينفرد منهم رجل إلاّ أخذ بلجام دابّته ثمّ نكس عنها ، فكانوا يجتمعون في معسكرهم فلا يفترّقون. وقالت لهم بنو اُميّة : لا تبرحوا حتّى تحملونا معكم إلى الشام ففعلوا ، فمضى ذلك الجيش حتّى دخل الشام (٢).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ / ١٤ ـ ١٥ ، وابن الأثير ٤ / ٤٩ ، وابن كثير ٨ / ٢٢٥. قال الطبري : حدّثني عمر بن شبة قال : حدّثنا محمد بن يحيى ، عن هشام بن الوليد المخزومي : أنّ الزهري كتب لجدّه (أسنان الخلفاء) ، فكان فيما كتب من ذلك : ومات يزيد بن معاوية وهو ابن تسع وثلاثين ، وكانت ولايته ثلاث سنين وستة أشهر في قول بعضهم ، ويُقال : ثمانية أشهر.

(٢) تاريخ الطبري ٧ / ١٦ ـ ١٧.

٢٥٨

حركة عبد الله بن الزبير ٦٤ ـ ٧٣

ترجمة عبد الله بن الزبير :

قال ابن عبد البر : قال علي بن زيد الجُدْعاني : كان عبد الله بن الزبير كثير الصلاة ، كثير الصيام ، شديد البأس ، كريم الجدّات والأمّهات والخالات ، إلاّ أنّه كانت فيه خلال لا تصلح معها الخلافة ؛ لأنّه كان بخيلاً ضيّق العطاء ، سيّء الخلق ، حسوداً ، كثير الخلاف. أخرج محمد بن الحنفيّة وعبد الله بن عباس إلى الطائف ، وكانت بيعته بعد موت معاوية بن يزيد ، واجتمع على طاعته أهل الحجاز واليمن والعراق وخراسان. وحجّ بالناس ثماني حجج ، وقُتل رحمه‌الله في أيام عبد الملك ، يوم الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى. وقيل : جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين ، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة ، وصلب بعد قتله بمكة ، وبدأ الحجّاج بحصاره من أوّل ليلة من ذي الحجّة سنة اثنتين وسبعين ، فحاصره ستة أشهر وسبعة عشر يوماً إلى أن قُتل في النصف من جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين.

وقال ابن عبد البرّ : قال علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه : «ما زال الزبير يُعدُّ منّا أهلَ البيت حتّى نشأ عبدُ الله». وبويع لعبد الله بن الزبير بالخلافة سنة أربع وستين. هذا قول أبي معشر ، وقال المدائني : بويع له بالخلافة سنة خمس وستين (١).

__________________

(١) الاستيعاب ـ ترجمة عبد الله بن الزبير.

٢٥٩

قال ابن أبي الحديد : وكان شيخنا أبو القاسم البلخي إذا ذكر عنده عبد الله بن الزبير يقول : لا خير فيه. وقال مرّة : لا يعجبني صلاته وصومه ، وليسا بنافعين له مع قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام : «لا يبغضك إلاّ منافق». وقال أبو عبد الله البصري رحمه‌الله لمّا سُئل عنه : ما صح عندي أنّه تاب من يوم الجمل ، ولكنّه استكثر ممّا كان عليه (١).

وقال : توصل عبد الله بن الزبير إلى امرأة عبد الله بن عمر ، وهي أخت المختار بن أبي عبيد الثقفي ، في أن تكلّم بعلها عبد الله بن عمر أن يبايعه ، فكلّمته في ذلك ، وذكرت صلاته وقيامه وصيامه ، فقال لها : أما رأيتِ البغلات الشُّهُب (٢) التي كنّا نراها تحت معاوية بالحجر إذا قدم مكّة؟ قالت : بلى. قال : فإياها يطلب ابن الزبير بصومه وصلاته (٣).

وقال ابن أبي الحديد : لمّا نزل علي عليه‌السلام بالبصرة ووقف جيشه بإزاء جيش عائشة ، قال الزبير : والله ما كان أمر قطّ إلاّ عرفت أين أضع قدمي فيه إلاّ هذا الأمر ؛ فإنّي لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر! فقال له ابنه عبد الله : كلا ، ولكنّك فرقت سيوف ابن أبي طالب ، وعرفت أنّ الموت الناقع تحت راياته. فقال الزبير : ما لك! أخزاك الله من ولد ، ما أشأمك!

وكان عبد الله بن الزبير يبغض علياً عليه‌السلام وينتقصه ، وينال من عِرضه (٤).

وقال : وروى عمر بن شبة وابن الكلبي والواقدي وغيرهم من رواة السير أنّه مَكَثَ أيام ادعائه الخلافة أربعين جمعة لا يصلّي فيها على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال : لا يمنعني من ذكره إلاّ أن تشمخ رجالٌ بآنافها.

وفى رواية محمد بن حبيب وأبي عبيدة معمر بن المثنى أنّ له اُهَيل سوء يُنغِضِون رؤوسهم (٥) عند ذكره.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ٣٢٦.

(٢) الشهبة في لون الخيل هي أن تشقّ معظم لونه خيط من الشعر الأبيض.

(٣) شرح نهج البلاغة ١ / ٣٢٦.

(٤) شرح نهج البلاغة ٢ / ١٦٦.

(٥) ‏يغضون رؤوسهم : أي يحركونها.

٢٦٠