الحسين عليه السلام في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام

السيّد سامي البدري

الحسين عليه السلام في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام

المؤلف:

السيّد سامي البدري


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: ياسين
الطبعة: ١
ISBN: 964-499-093-5
الصفحات: ٥٢٧

لفظ فوهُ أكباد الأزكياء ، ونبت لحمُه من دماء الشهداء؟ وكيف يُستبطأ في بغضنا أهل البيت مَنْ نظر إلينا بالشَّنَف والشَّنَآن ، والإحَنِ والأضغان؟ ثمّ تقول غير متأثم ولا مستعظم :

لأهلّوا واستهلوا فرحا

ثمّ قالوا يا يزيد لا تَشلْ

منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيد شباب أهل الجنّة تنكتها بمخصرتك! وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة ، وأستأصلت الشأفة بإراقتك دماء ذريّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونجوم الأرض من آل عبد المّطلب؟ وتهتف بأشياخك زعمت أنّك تناديهم! فلتردنّ وشيكاً موردهم ، ولتودّنّ أنّك شُلِلْت وبَكُمت ، ولم تكن قلت ما قلت ، وفعلت ما فعلت.

اللّهمّ خذ لنا بحقّنا ، وانتقم مّمن ظلمنا ، واحلل غضبك بمَنْ سفك دماءنا ، وقتل حماتنا. فوَالله ما فريت إلاّ جلدك ، ولا حززت إلاّ لحمك ، ولتردنّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بما تحمّلت من سفك دماء ذرّيتّه ، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته ، حيث يجمع الله شملهم ، ويلمّ شعثهم ، ويأخذ بحقّهم ، (ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).

وحسبك بالله حاكما ً ، وبمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله خصيماً ، وبجبريل ظهيراً ، وسيعلم مَنْ سوّل لك ومكَّنك من رقاب المسلمين بئس للظالمين بدلاً! وأيّكم شرّ مكاناً وأضعف جنداً! ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك ، إنّي لأستصغر قدرَك ، واستعظم تقريعَك ، واستكثر توبيخَك ، ولكن العيون عبرى ، والصدور حرّى. ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء! فهذه الأيدي تنطف من دمائنا ، والأفواه تتحلّب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل ، وتعفّرها اُمّهات الفراعل ، ولئن اتخذتنا مَغنماً لتجدنا وشيكاً مَغرماً ، حين لا تجد إلاّ ما قدّمت يداك ، وما ربُّك بظلاّم للعبيد ، وإلى الله المشتكى وعليه المعوّل.

٢٢١

«فكد كيدك ، واسع سعيك ، وناصب جهدك ، فَوالله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا يَرحض عنك عارها ، وهل رأيك إلاّ فند ، وأيّامك إلاّ عدد ، وجمعك إلاّ بدد؟ يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين».

والحمد لله ربّ العالمين الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة ، ولأخرنا بالشهادة والرحمة ، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ، ويوجب لهم المزيد ، ويحسن علينا الخلافة ، إنّه رحيم ودود ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

فقال يزيد :

يا صيحةً تُحمد من صوائح

ما أهون النوح على النوائح

وفي سِيَرِ أعلام النبلاء وتاريخ ابن كثير وغيرهما : أنّ رأس الحسين عليه‌السلام صُلب بمدينة دمشق ثلاثة أيّام (١).

خطبة السجّاد عليه‌السلام في مسجد دمشق :

وفي فتوح ابن أعثم ومقتل الخوارزمي : أنّ يزيد أمر الخطيب أن يرقى المنبر ويثني على معاوية ويزيد ، وينال من الإمام عليّ والإمام الحسين عليهما‌السلام ، فصعد الخطيب المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وأكثر الوقيعة في عليّ والحسين عليهما‌السلام ، وأطنب في تقريظ معاوية ويزيد.

فقال علي بن الحسين : «يا يزيد ، ائذن لي حتّى أصعد هذه الأعواد فأتكلّم بكلمات فيهّن لله رضاً ، ولهؤلاء الجالسين أجر وثواب». فأبى يزيد.

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ٣ / ٢١٦ ، مقتل الخوارزمي ٢ / ٧٥ ، تاريخ ابن كثير ٨ / ٢٠٤ ، تاريخ ابن عساكر ـ الحديث ٢٩٦. وراجع خطط المقريزي ٢ / ٢٨٩ ، والإتحاف بحبّ الأشراف / ٢٣.

٢٢٢

فقال الناس : يا أمير المؤمنين ، ائذن له ليصعد ، فعلّنا نسمع منه شيئاً. فقال لهم : إن صعد المنبر هذا لم ينزل إلاّ بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان.

فقالوا : وما قدر ما يحسن هذا؟ فقال : إنّه من أهل بيت قد زقّوا العلم زقّاً. ولم يزالوا به حتّى أذن له بالصعود ، فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال :

«أيّها النّاس ، أُعطينا ستّاً وفُضّلنا بسبع ؛ أُعطينا العلم ، والحلم ، والسماحة ، والفصاحة ، والشجاعة ، والمحبّة في قلوب المؤمنين ، وفُضّلنا بأنّ منّا النبي المختار محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومنّا الصدّيق ، ومنّا الطيار ، ومنّا أسد الله وأسد الرسول ، ومنّا سيّدة نساء العالمين فاطمة البتول ، ومنّا سبطا هذه الأمّة وسيّدا شباب أهل الجنّة ، فمَنْ عرفني فقد عرفني ، ومَنْ لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي :

أنا ابن مكّة ومنى ، أنا ابن زمزم والصفا ، أنا ابن من حُمل الركن بأطراف الرداء ، أنا ابن خير مَنْ ائتزر وارتدى ، أنا ابن خير مَنْ انتعل واحتفى ، أنا ابن خير مَنْ طاف وسعى ، أنا ابن مَنْ حجّ ولبّى ، أنا ابن مَنْ حُمل على البراق في الهواء ، أنا ابن مَنْ أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، فسبحان مَنْ أسرى! أنا ابن مَنْ بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى ، أنا ابن مَنْ دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى ، أنا ابن محمّد المصطفى.

أنا ابن مَنْ ضرب خراطيم الخلق حتّى قالوا لا إله إلاّ الله ، أنا ابن مَنْ بايع البيعتين ، وصلّى القبلتين ، وقاتل ببدر وحنين ، ولم يكفر بالله طرفة عين ، يعسوب المسلمين ، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، سمح سخي ، بهلول زكي ، ليث الحجاز ، وكبش العراق ، مكيّ مدنيّ ، أبطحيّ تهاميّ ، خيفيّ عقبيّ ، بدريّ اُحديّ ، شجريّ مهاجري ، أبي السبطين الحسن والحسين علي بن أبي طالب.

أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا ابن سيّدة النساء ، أنا ابن بضعة الرسول ...».

قال : ولم يزل يقول أنا أنا حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب ، وخشي يزيد أن تكون فتنة.

٢٢٣

فأمر المؤذّن أن يؤذّن ، فقطع عليه الكلام وسكت.

فلمّا قال المؤذن : الله أكبر.

قال علي بن الحسين عليه‌السلام : «كبّرت كبيراً لا يقاس ، ولا يدرك بالحواس ، ولا شيء أكبر من الله».

فلمّا قال : أشهد أن لا إله إلاّ الله.

قال علي : «شهد بها شعري وبشري ، ولحمي ودمي ، ومُخّي وعظمي».

فلمّا قال : أشهد أن محمّداً رسول الله ، التفت علي عليه‌السلام من أعلى المنبر إلى يزيد وقال : «يا يزيد ، محمّد هذا جدّي أم جدّك؟ فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبت ، وإن قلت أنّه جدّي فلِمَ قتلت عترته؟».

قال : وفرغ المؤذّن من الأذان والإقامة فتقدّم يزيد وصلّى الظهر (١).

حديث علي بن الحسين عليه‌السلام مع المنهال :

قال ابن أعثم : خرج علي بن الحسين عليه‌السلام ذات يوم ، فجعل يمشي في أسواق دمشق ، فاستقبله المنهال بن عمرو الصحابي ، فقال له : كيف أمسيت يابن رسول الله؟

قال : «أمسينا كبني إسرائيل في آل فرعون ، يذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم. يا منهال ، أمست العرب تفتخر على العجم بأنّ محمّداً منهم ، وأمست قريش تفتخر على سائر العرب بأنّ محمّداً منها ، وأمسينا أهل بيت محمّد ونحن مغصوبون مظلومون ، مقهورون مقتّلون ، مثبورون مطرّدون ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون على ما أمسينا فيه يا منهال» (٢).

انكسار حاجز الخوف عند البعض :

قال ابن الأثير وروى الأوزاعي ، عن شداد بن عبيد الله قال : سمعت واثلة بن الأسقع

__________________

(١) فتوح ابن أعثم ٥ / ٢٤٧ ـ ٢٤٩ ، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٦٩ ـ ٧١ ، وقد أوجزنا لفظ الخطبة.

(٢) فتوح ابن أعثم ٥ / ٢٤٩ ـ ٢٥٠.

٢٢٤

وقد جيء برأس الحسين ، فلعنه رجل من أهل الشام ولعن أباه ، فقام واثلة وقال : والله ، لا أزال أحبّ علياً والحسن والحسين وفاطمة بعد أن سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول فيهم ما قال ، لقد رأيتني ذات يوم وقد جئت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيت أمّ سلمة ، فجاء الحسن فأجلسه على فخذه اليمنى وقبّله ، ثمّ جاء الحسين فأجلسه على فخذه اليسرى وقبّله ، ثمّ جاءت فاطمة فأجلسها بين يديه ، ثم دعا بعلي ، ثمّ قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

قال شداد : قلت لواثلة : ما الرجس؟

قال : الشك في الله عز وجل (١).

خبر قتل الحسين عليه‌السلام في المدينة :

قال هشام : حدّثني عوانة بن الحكم قال : لمّا قتل عبيد الله بن زياد الحسين بن علي عليه‌السلام وجيء برأسه إليه ، دعا عبد الملك بن أبي الحارث السلمي فقال : انطلق حتّى

__________________

(١) أسد الغابة ٢ / ١٩. وفي مصنّف ابن أبي شيبة ١٢ / ٧٢ ، شواهد التنزيل ـ الحسكاني ٢ / ٤٢ ، مسند أحمد ٤ / ١٠٤ ، واللفظ للأخير : حدّثنا عبد الله ، حدّثني أبي ، ثنا محمد بن مصعب قال : ثنا الأوزاعي ، عن شداد أبي عمّار قال : دخلت على واثلة بن الأسقع وعنده قوم ، فذكروا عليّاً ، وفي رواية ابن أبي شيبة والحسكاني : فشتموا ، فشتمته معهم ، فلما قاموا قال : شتمت هذا الرجل؟ قلت : رأيت القوم شتموه فشتمته معهم. فلمّا قاموا قال لي : ألا أخبرك بما رأيت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قلت : بلى. قال : أتيت فاطمة (رضي الله تعالى عنها) أسألها عن علي ، قالت : «توجه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله». فجلست انتظر حتّى جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومعه علي وحسن وحسين (رضي الله تعالى عنهم) ، آخذ كل واحد منهما بيده حتّى دخل ، فأدنى علياً وفاطمة فأجلسهما بين يديه ، وأجلس حسناً وحسيناً كلّ واحد منهما على فخذه ، ثمّ لفّ عليهم ثوبه (أو قال : كساء) ، ثمّ تلا هذه الآية : (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ، وقال : اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي ، وأهل بيتي أحق. قال ابن أبي شيبة : قال أبو أحمد العسكري : يُقال أن الأوزاعي لم يرو في الفضائل حديثاً غير هذا ، والله أعلم. قال : وكذلك الزهري لم يرو فيها إلاّ حديثاً واحداً ، كانا يخافان بني اُميّة.

٢٢٥

تقدم المدينة على عمرو بن سعيد بن العاص فبشّره بقتل الحسين عليه‌السلام ، (وكان عمرو بن سعيد بن العاص أمير المدينة يومئذ).

قال : فذهب ليعتل له ، فزجره وكان عبيد الله لا يصطلي بناره ، فقال : انطلق حتّى تأتي المدينة ولا يسبقك الخبر ، وأعطاه دنانير وقال : لا تعتل وإن قامت بك راحلتك فاشتر راحلة.

قال عبد الملك : فقدمت المدينة فلقيني رجل من قريش فقال : ما الخبر؟ فقلت : الخبر عند الأمير. فدخلت على عمرو بن سعيد فقال : ما وراءك؟

فقلت : ما سرَّ الأمير ؛ قُتل الحسين بن علي عليه‌السلام.

فقال : ناد بقتله. فناديت بقتله ، فلم أسمع والله واعية قطّ مثل واعية نساء بني هاشم في دورهنّ على الحسين عليه‌السلام.

فقال عمرو بن سعيد ، وضحك :

عجّت نساءُ بني زياد عجّةً

كعجيج نسوتنا غداةَ الأرنبِ

والأرنب : وقعة كانت لبني زبيد على بني زياد من بني الحارث بن كعب من رهط عبد المدان ، وهذا البيت لعمرو بن معد يكرب.

ثم قال عمرو : هذه واعية بواعية عثمان بن عفان. ثمّ صعد المنبر فأعلم الناس بقتله (١).

إرجاع ذريّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مدينة جدّهم :

روى الطبري : إنّ يزيد بن معاوية كلَّف النعمان بن بشير بأن يجهِّزهم بما يصلحهم ، ويبعث معهم رجلاً من أهل الشام أميناً صالحاً ، وبعث معه خيلاً وأعواناً فيسير بهم إلى المدينة.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٤٦٦ سنة ٦١.

٢٢٦

وصول آل الرسول إلى كربلاء :

وفي مثير الأحزان واللهوف : إنّ آل الرسول لمّا بلغوا العراق طلبوا من الدليل أن يمرّ بهم على كربلاء ، فلمّا وصلوا مصرع الشهداء وجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري ، وجماعة من بني هاشم قدموا لزيارة قبر الحسين عليه‌السلام ، فوافَوا في وقت واحد ، فتلاقوا بالحزن والبكاء ، واجتمع إليهم نساء ذلك السواد ، وأقاموا على ذلك أيّاماً ، ثمّ انفصلوا من كربلاء قاصدين مدينة جدّهم.

إقامة العزاء في مدينة النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله :

روى بشير بن حذلم قال : لمّا قرُبنا من المدينة حطَّ علي بن الحسين عليه‌السلام رحله ، وضرب فسطاطه وأنزل نساءه ، وقال : «يا بشير ، رحم الله أباك لقد كان شاعراً ، فهل تقدر على شيء منه؟». فقال : بلى يابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إنّي لشاعر. فقال عليه‌السلام : «ادخل المدينة وانع أبا عبد الله».

قال بشير : فركبت فرسي وركضت حتّى دخلت المدينة ، فلمّا بلغت مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رفعت صوتي بالبكاء ، وأنشأت أقول :

يا أهلَ يثربَ لا مقامَ لكم

بها قُتل الحسينُ فأدمعي مدرارُ

الجسمُ منه بكربلاء مضرّجٌ

والرأسُ منه على القناةِ يدارُ

قال : ثمّ قلت : هذا علي بن الحسين عليه‌السلام مع عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكم ، ونزلوا بفنائكم ، وأنا رسوله إليكم أعرّفكم مكانه.

قال : فلم يبقَ في المدينة مخدّرة ولا محجّبة إلاّ برزنَ من خدورهنّ ، وهنّ بين باكية ونائحة ولاطمة ، فلم يُرَ يوم أمّر على أهل المدينة منه ، وسألوه : مَنْ أنت؟ قال : فقلت : أنا بشير ابن حذلم ، وجَّهني علي بن الحسين ، وهو نازل في موضع كذا وكذا مع عيال أبي عبد الله ونسائه. قال : فتركوني مكاني وبادروني ، فضربت فرسي حتّى رجعت إليهم فوجدت

٢٢٧

الناس قد أخذوا الطرق والمواضع ، فنزلت عن فرسي وتخطَّيتُ رقاب الناس حتّى قربت من باب الفسطاط ، وكان علي بن الحسين عليه‌السلام داخلاً فخرج وبيده خرقة يمسح بها دموعه وخادم معه كرسيّ ، فوضعه وجلس وهو مغلوب على لوعته ، فعزّاه الناس. فأومأ إليهم أن اسكتوا ، فسكنت فورتهم ، فقال : «الحمد لله ربّ العالمين ، مالك يوم الدين ، بارئ الخلائق أجمعين ، الذي بَعُد فارتفع في السماوات العلى ، وقرب فشهد النجوى ، نحمده على عظائم الأمور ، وفجائع الدهور ، وجليل الرزء ، وعظيم المصائب. أيّها القوم ، إنّ الله وله الحمد ابتلانا بمصيبة جليلة ، وثلمة في الإسلام عظيمة ، قُتل أبو عبد الله وعترته ، وسبي نساؤه وصبيته ، وداروا برأسه في البلدان من فوق عالي السنان. أيّها الناس ، فأيّ رجالات يسرّون بعد قتله؟ أيّة عين تحبس دمعها وتضن عن انهمالها؟ فلقد بكت السبع الشداد لقتله ، وبكت البحار والسماوات والأرض والأشجار والحيتان ، والملائكة المقرّبون وأهل السماوات أجمعون. أيّها الناس ، أيّ قلب لا ينصدع لقتله؟ أم أيّ فؤاد لا يحنّ إليه؟ أم أيّ سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام فلا يُصَمُّ؟

أيّها الناس ، أصبحنا مطرودين مشرّدين ، كأنّا أولاد ترك أوكابل ، من غير جرم اجترمناه ، ولا مكروه ارتكبناه ، والله لو أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تقدّم إليهم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوه ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون».

فقام صوحان بن صعصعة بن صوحان ، وكان زمِناً فاعتذر إليه فقبل عذره وشكر له ، وترحّم على أبيه (١).

__________________

(١) مثير الأحزان / ٩٠ ـ ٩١ ، واللهوف / ٧٦ ـ ٧٧.

٢٢٨

الباب الرابع

آثار نهضة الحسين عليه‌السلام وشهادته

مقدّمة الباب :

الفصل الأوّل : ردود الفعل السريعة

الفصل الثاني : تتابع الثورات وانهيار الحكم الأموي

الفصل الثالث : إعادة انتشار أحادي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في أهل بيته عليهم‌السلام ، والروايات الصحيحة في السيرة والتاريخ

الفصل الرابع : حركة الأئمّة من ذرّية الحسين عليهم‌السلام

٢٢٩
٢٣٠

مقدّمة الباب : الواقع السياسي والفكري ، وحال الاُمّة خلال سبعين سنة من قتل الحسين عليه‌السلام :

كانت حركة الحسين عليه‌السلام نوراً هادياً لمَنْ أراد الهداية ، وزلزالاً مدمّراً لكيان بني اُميّة ، ولخطّتهم في تحريف دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقد ظنّوا أنّهم باعتقال أنصار الحسين عليه‌السلام في الكوفة ، على الشبهة والظنّ ، ومن ثمّ محاصرته عليه‌السلام وقتله وسبي نسائه سوف يطفئون النور ، ويوقفون الزلزال ، ويقضون عليه ، وما دَرَوْا أنّ القيام المخلص لله والقتل في سبيله هو من أعظم الوسائل التي يتألق بها نور الهداية ، ويستحكم بها الزلزال على المنحرفين ، وتظهر معالمه جليّة واضحة في كلّ البلاد الإسلاميّة.

فقد ثار أهل المدينة على يزيد بعد سنتين (٦٣ هجرية) من قتل الحسين عليه‌السلام.

وأعلن أهل مكّة تمرّدهم في غضون ذلك ..

وعاجل الله تعالى يزيد فأماته مبكّراً ، واستقال ولده معاوية الثاني ومات بعد استقالته بأيام ، وتمزّقت الدولة الاُمويّة شرّ ممزّق.

فاقتتل أهل الشام بينهم من أجل الملك حتّى صفا الأمر لمروان بن الحكم بعد وقعة مرج راهط التي أهلكت آلاف الناس ، ومن بعده لابنه عبد الملك.

واقتتل أهل خراسان قال المدائني : لمّا مات يزيد بن معاوية ، وثب أهل خراسان بعمّالهم فأخرجوهم ، وغلب كلّ قوم على ناحية ، ووقعت الفتنة ، وغلب عبد الله بن

٢٣١

خازم على خراسان ، ووقعت الحرب (١) ، وأقرَّ عبد الله بن الزبير عبد الله بن خازم على خراسان ، وكاتَبَه عبد الملك ليبايع له فرفض ، فثار عليه وكيع بن الدورقية وقتله (٢). وفي البصرة ، روى أبو مخنف قال : وثب الناس بعبيد الله بن زياد ، وكسر الخوارج أبواب السجون ، وخرجوا منها (٣) ، وقادهم نافع بن الأزرق ، ومن بعده عبيد الله بن الماحوز ، وجرت بينهم وبين أهل البصرة حروب كثيرة ، ثمّ هزمهم المهلّب بن أبي صفرة عن الأهواز.

وفي الكوفة وثب رؤساء الجيش والشرط بعمرو بن حريث خليفة ابن زياد ومدير شرطته ، وكان هواهم مع ابن الزبير ، فأخرجوه من القصر ، واصطلحوا على عامر بن مسعود بن أميّة الجمحي القرشي ، وبايعوا لابن الزبير ، ثمّ كُسرت السجون وخرج الشيعة.

واقتتل أهل اليمن فيما بينهم كذلك.

وكان البلد الوحيد الذي وجدت فيه حركة تحمل خطّ الحسين عليه‌السلام ونهجه ، هو الكوفة بزعامة سليمان بن صرد ، ثمّ بزعامة المختار الثقفي ، ولكن عبد الله بن الزبير لا يحتمل ذلك ، وبخاصة وأنّ الكوفة كانت تابعة له ، فبعث أخاه مصعب بأهل البصرة وبقايا

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٥٤٦.

(٢) قال ابن حجر في تهذيب التهذيب : عبد الله بن خازم السلمي أبو صالح البصري ، أمير خراسان ، يُقال : له صحبة ورواية. روى عنه سعد بن عثمان الرازي ، وسعيد بن الأزرق. قال أبو أحمد العسكري : كان من أشجع الناس ، ولي خراسان عشر سنين ، وافتتح الطبسين ، ثمّ ثار به أهل خراسان فقتلوه ، وكان الذي تولّى قتله وكيع بن الدورقية ، وحمل رأسه إلى عبد الملك بن مروان. وقال صالح بن الرحبية : قُتل سنة ٧١. وقال السلامي في تاريخه : لمّا وقعت فتنة ابن الزبير كتب إليه بن خازم بطاعته ، فأقرّه على خراسان ، فبعث إليه عبد الملك بن مروان يدعوه إلى طاعته فلم يقبل ، فلمّا قتل مصعب بعث إليه عبد الملك برأسه ، فغسله وصلّى عليه ، ثمّ ثار عليه وكيع بن الدورقية وغيره فقتلوه ، وبمعنى ذلك حكى أبو جعفر الطبري ، وزاد : وكان قتله في سنة ٧٢.

(٣) تاريخ الطبري ٥ / ٥٦٧ ، عن أبي مخنف.

٢٣٢

الجيش الذي قاتل الحسين عليه‌السلام الذي خرج من الكوفة فارّاً من المختار ، وطوّق الكوفة وقتل المختار ، وقتل بعد ذلك زوجة المختار ؛ لأنّها لم تتبرّأ منه ، ومعها ستة آلاف صبراً ممّن كان مع المختار في القصر.

ولئن استطاع عبد الملك بعد عشرين سنة أن ينتصر على المعارضة والثوار في أنحاء البلاد الإسلاميّة ، وأن يستعيد وحدة الدولة الاُمويّة ، وفرض السياسة التي اختطّها معاوية من جديد ، فإنَّ حرارة الزلزال في الكوفة والمغتربين من أبنائها في خراسان لم تكن قد انتهت ، فكانت ثورة زيد في الكوفة ، وكان قدره فيها كقدر جدّه الحسين عليه‌السلام أن يكون وقوداً وزيتاً للثائرين. ثمّ كانت ثورة العباسيِّين بالكوفيين المغتربين ومَنْ معهم من أهل خراسان ، وانهار على أيديهم الحكم الأموي ، والأطروحة الاُمويّة للإسلام المبني على لعن علي عليه‌السلام إلى غير رجعة ، حيث لم يجئ حكم بعد ذلك يتبنّى لعن علي عليه‌السلام إلى اليوم ، ولن يجيء إلى آخر الدنيا.

وانتشرت الأحاديث النبويّة التي عمل بنو اُميّة على طمسها ، وكتمانها وتحريفها ، واهتدى بها مَنْ أراد الهداية من الأمّة ، وهي محفوظة في كتب المسلمين جميعاً إلى اليوم. وأيّد الله تعالى الحسين تأييداً خاصاً حين بتر نسل يزيد فلا يوجد اليوم مَنْ ينتسب إليه ، وبارك الله تعالى في نسل الحسين عليه‌السلام فهو يملأ الدنيا ، ورزقه منهم تسعة أئمّة هدى أسباطاً ، أعلام هداية ، نشروا ما كان يحمله الحسين عليه‌السلام من تراث نبوي كتبه علي عليه‌السلام بيده الكريمة الطاهرة ، وأملاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من فيه الشريف المطهّر ، والتفّ حولهم شيعة يأخذون عنهم هذا التراث الإلهي ، ويحملون ظلامة الحسين عليه‌السلام غضّة طرية كلّ عام في عاشوراء ؛ ليهتدي بهديها مَنْ شاء من الناس.

وفيما يلي الحديث عن طرف من أخبار الذين استاؤوا لقتله ، أو ندموا على مقاتلته ، أو ندموا لخذلانه.

ثمّ الحديث عن أهم الثورات التي توالت على الحكم الأموي حتّى أطاحت به.

٢٣٣

ثمّ الحديث عن انتشار أحاديث النبي في أهل بيته ،وفشل خطّة بني اُميّة في طمسها.

ثمّ الحديث عن الأئمّة من ذرية الحسين عليه‌السلام : السجّاد ، والباقر ، والصادق عليهم‌السلام ، ونشرهم التراث النبوي الذي وصلهم من خلال أبيهم الحسين عليه‌السلام ، وتأسيس الشيعة عليه ، حيث برزوا كياناً علمياً متزامناً مع انهيار دولة بني اُميّة استطاع أن يشقّ طريقه إلى اليوم ، رغم خطّة بني العباس في تذويبه واحتوائه.

٢٣٤

الفصل الأول : ردود الفعل السريعة لمقتل الحسين عليه‌السلام

المسلمون زمن الحسين عليه‌السلام ؛ إمّا ناصرون ، وإمّا خاذلون ، وإمّا قاتلون :

أمّا الناصرون : فكان غالبيتهم من أهل الكوفة ، وقد سُجن منهم ما يقرب من اثني عشر ألف (١) ، واختفى عدد آخر ، ولم يمكنه أن يخترق المفارز التي وضعت على الطرق ليلحق بالحسين عليه‌السلام. وكان قد سبق وجوه منهم إلى الحسين وبقوا معه في مكّة ، ثمّ رافقوه حتّى وصوله كربلاء ، فقاتلوا بين يديه حتّى قُتل. وهؤلاء لم يتجاوزوا الستين رجلاً ، بعد أن إنضاف إليهم ما دون العشرة ممّن لم يسجن ، واستطاع أن يخترق المفارز التي وضِعت على الطرق ، وليس من شك أنّ هؤلاء المسجونين والمختفين حين بلغهم قتل الحسين عليه‌السلام عاشوا في حزن عميق ، وأسى ملأ عليهم كيانهم ووجودهم. وقد سارع بعضهم للاستنكار على ابن زياد ممّن كان معذوراً من اللحاق بالحسين عليه‌السلام لفقدانه البصر ، ولازم المسجد للعبادة كعبد الله بن عفيف الأزدي ، فقُتِل ومضى شهيداً على ما مضى عليه الحسين عليه‌السلام. أمّا بقيتهم كالمختار ، وسليمان بن صرد ، والمسيّب بن نجية ، ورفاعة بن شداد وغيرهم فقد

__________________

(١) قال المظفر في تاريخ الشيعة / ٣٤ : إنّ عبيد الله بن زياد سجن اثني عشر ألفاً من الشيعة ، ولم يترك واحداً (من زعمائهم طليقاً). انظر أيضاً المختار بن عبيد الثقفي ـ للدكتور علي حسني الخربوطلي / ٧٤ ـ ٧٥.

٢٣٥

تريث حتّى تتهيأ أسباب القيام بعمل نافع في الظرف المناسب ، وفق خطّة الحسين عليه‌السلام التي اطّلعوا عليها مسبقاً حين التقوا الحسين وهو في مكّة.

أمّا الخاذلون : فهم كلّ المسلمين الذين كانوا في مكّة ممّن بلغته حركة الحسين عليه‌السلام ، ووصلهم نداؤه ولم يجيبوه. نعم ، يوجد منهم مَنْ أجازه الحسين عليه‌السلام بالبقاء كابن عباس وابن الحنفيّة ونظرائهم من حملة الحديث النبوي الصحيح. وممّا لا شك فيه أنّ قسماً من الخاذلين ؛ سواء من الكوفيين ، أو من غيرهم حين بلغهم نبأ شهادة الحسين عليه‌السلام قد ندموا ندماً شديداً ، ونموذجهم ولسان حالهم عبيد الله بن الحرّ ، وسيأتي الحديث عنه.

أمّا القاتلون : فهم جيش بني اُميّة من أبناء الكوفة ، هذا الجيش الذي بناه معاوية بشكل خاصّ في فترة حكمه بعد وفاة الحسن عليه‌السلام ، وقد مرّ الحديث عنه وعن تربيته في الباب الأوّل ، ووجوه هؤلاء شبث بن ربعي ، وحجّار بن أبجر ، ومحمد بن الأشعث ، وعمر بن سعد ، وشمر بن ذي الجوشن وغيرهم. وهم المعروفون بأشراف الكوفة في لغة أبي مخنف وغيره ممّن كتب عن الحسين من الرواة في العهد العباسي. ولم يندم من هؤلاء الوجوه أحد. نعم ، ندم البعض ممّن كان في الجيش ولم يشترك بقتال وهم قليل.

وفيما يلي طرف من أخبار مَنْ استاء لقتله ، ومَنْ ندم على خذلانه :

نماذج ممّن استاء لقتله عليه‌السلام :

زوجة خَوَلِّي :

قال هشام : فحدّثني أبي عن النوار بنت مالك قالت : أقبل خولّي برأس الحسين فوضعه تحت إجّانة في الدار ، ثمّ دخل البيت فآوى إلى فراشه ، فقلت له : ما الخبر ما عندك؟

قال : جئتُكِ بِغِنَى الدهر ، هذا رأس الحسين معكِ في الدار.

قالت : فقلت : ويلك! جاء الناس بالذهب والفضة وجئت برأس ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! لا والله ، لا يجمع رأسي ورأسك بيت أبداً.

٢٣٦

زوجة كعب بن جابر :

قال الطبري : لمّا رجع كعب بن جابر قالت له امرأته (أو أخته النوار بنت جابر) : أعنت على ابن فاطمة وقتلت سيّد القراء؟! لقد أتيت عظيماً من الأمر. والله ، لا أكلمك من رأسي كلمة أبداً.

فقال كعب بن جابر :

سلي تُخبَري عني وأنت ذميمةٌ

غَداة حسينٍ والرماحُ شوارعُ

ألم آتِ أقصى ما كرِهتِ ولم يُخِلْ

عليَّ غداة الروعِ ما أنا صانعُ

معي يَزَنيٌّ لم تخُنه كُعوبه

وأبيضُ مخشوبُ الغِرارين قاطعُ

فجرَّدتُه في عُصبة ليس دينُهم

بديني وإنّي بابن حربٍ لقانعُ

ولم ترَ عيني مثلَهم في زمانهم

ولا قبلَهم في الناس إذ أنا يافعُ

أشدَّ قِراعاً بالسيوف لدى الوغى

ألا كلُّ مَنْ يحمي الذمارَ مقارعُ

وقد صبروا للطعنِ والضربِ حُسَّراً

وقد نازلوا لو أنَّ ذلك نافعُ

قتلتُ بُريراً ثمّ حَمَّلتُ نعمة

أبا منقذٍ لمّا دعا مَنْ يماصعُ

قال أبو مخنف : حدّثني عبد الرحمن بن جندب قال : سمعته في إمارة مصعب بن الزبير وهو يقول : يا ربّ إنّا قد وفينا ، فلا تجعلنا يا ربّ كمَنْ قد غدر.

أقول : يريد كعب بقوله : إنّه وفى ببيعته للخليفة يزيد ، ويريد بمَنْ غدر ببيعته ليزيد أنصار الحسين عليه‌السلام الذين قُتلوا بين يديه ، والذين سجنهم ابن زياد ، ثمّ خرجوا من السجن بعد ذلك وتحرّكوا مع سليمان بن صرد والمختار.

مرجانة أمّ عبيد الله :

قالت لابنها حين قتل الحسين عليه‌السلام : ويلك ماذا صنعت؟! وماذا ركبت؟!

عبد الله بن الزبير :

روى الطبري عن هشام ، عن أبي مخنف ، عن عبد الملك بن نوفل قال : حدّثني أبي قال :

٢٣٧

لمّا قُتل الحسين عليه‌السلام قام ابن الزبير في أهل مكّة وعظّم مقتله ، وقال :

رحم الله حسيناً ، وأخزى قاتل الحسين عليه‌السلام ...

لقد اختار الحسين الميتة الكريمة على الحياة الذميمة ...

أفبعد الحسين عليه‌السلام نطمئن إلى هؤلاء القوم ، ونصدّق قولهم ، ونقبل لهم عهداً؟!

لا ولا نراهم لذلك أهلاً.

أما والله لقد قتلوه ، طويلاً بالليل قيامه ، كثيراً في النهار صيامه ، أحقّ بما هم فيه منهم ، وأولى به في الدين والفضل.

أما والله ما كان يبدِّل بالقرآن الغناء ، ولا بالبكاء من خشية الله الحداء ، ولا بالصيام شرب الحرام ، (ولا بالمجالس في حلق الذكر الركض في تطلاب الصيد ـ يعرِّض بيزيد ـ فسوف يلقون غيّاً).

فثار إليه أصحابه فقالوا له : أيّها الرجل ، أظهر بيعتك ؛ فإنّه لم يبقَ أحد إذ هلك الحسين ينازعك هذا الأمر. وقد كان يبايع الناس سرّاً ويظهر أنّه عائذ بالبيت.

فقال لهم : لا تعجلوا (١).

عثمان بن زياد أخو عبيد الله :

قال الطبري : قال عثمان بن زياد أخو عبيد الله : والله ، لوددت أنّه ليس من بني زياد رجل إلاّ وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة ، وأنّ حسيناً لم يُقتل.

ممّن ندم على خذلانه عبيد الله بن الحرّ :

قال الطبري : روى أحمد بن زهير ، عن علي بن محمد ، عن علي بن مجاهد : أنّ عبيد الله بن الحرّ كان رجلاً من خيار قومه صلاحاً وفضلاً ، وصلاة واجتهاداً ، فلمّا قُتل عثمان وهاج الهَيج بين علي ومعاوية قال : أما إنّ الله ليعلم أنّي اُحبُّ عثمان ولأنصرنّه ميتاً.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٤٧٥.

٢٣٨

فخرج إلى الشام فكان مع معاوية ، وخرج مالك بن مسمع إلى معاوية على مثل ذلك الرأي في العثمانية ، فأقام عبيد الله عند معاوية وشهد معه صفين ، ولم يزل معه حتّى قُتل علي عليه‌السلام ، فلمّا قُتل علي قدم الكوفة.

أقول : قدم الكوفة بعد أن تمّ الصلح بين معاوية والحسن عليه‌السلام وصارت الكوفة تابعة لمعاوية.

قال ابن سعد : لقي عبيد الله بن الحرّ الحسين بن علي عند قصر مقاتل ، فدعاه حسين إلى نصرته والقتال معه ، فأبى وقال : قد أبيت أباك قبلك (١).

قال ابن سعد : فندم عبيد الله بن الحرّ على تركه نصرة حسين عليه‌السلام (٢).

قال أبو مخنف : حدّثني عبد الرحمن بن جندب الأزدي أنّ عبيد الله بن زياد بعد قتل الحسين عليه‌السلام تفقّد أشراف أهل الكوفة فلم يرَ عبيد الله بن الحرّ ، ثمّ جاءه بعد أيام حتّى دخل عليه فقال : أين كنت يابن الحرّ؟

قال : كنت مريضاً. قال : مريض القلب ، أو مريض البدن؟

قال : أمّا قلبي فلم يمرض ، وأمّا بدني فقد منَّ الله عليَّ بالعافية. فقال له ابن زياد : كذبت ، ولكنّك كنت مع عدوّنا. قال : لو كنت مع عدوّك لرُئي مكاني ، وما كان مثل مكاني يخفى.

قال : وغفل عنه ابن زياد غفلة ، فخرج ابن الحرّ فقعد على فرسه.

فقال ابن زياد : أين ابن الحرّ؟ قالوا : خرج الساعة. قال : عليّ به. فحضرته الشرطة ، فقالوا له : أجب الأمير ، فدفع فرسه. ثمّ قال : أبلغوه أنّي لا آتيه والله طائعاً أبداً. ثمّ خرج حتّى أتى منزل أحمر بن زياد الطائي ، فاجتمع إليه في منزله أصحابه ، ثمّ خرج حتّى أتى كربلاء ، فنظر إلى مصارع القوم ، فاستغفر لهم هو وأصحابه ، ثمّ مضى حتّى نزل المدائن ،

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٤٠٧.

(٢) طبقات ابن سعد المفقود ١ / ٥١٣.

٢٣٩

وقال في ذلك :

يقول أميرٌ غادرٌ حقَّ غادرٍ

ألا كنتُ قاتلتَ الشهيدَ ابن فاطمهْ

فيا ندمي إلاّ أكونَ نصرتُه

ألا كلُّ نفسٍ لا تُسددُ نادمهْ

وإنّي لأنّي لم أكن من حُماتِه

لذو حسرةٍ ما إن تُفارِق لازمهْ

سقى اللهُ أرواحَ الذين تآزروا

على نصرهِ سُقيَاً من الغيثِ دائمهْ

وقفتُ على أجداثهم ومجالِهمْ

فكادَ الحشا ينفضُّ والعينُ ساجمهْ

لَعمري لقد كانوا مصاليتَ في الوغى

سِراعاً إلى الهيجا حماةً خضارمهْ

تآسَوْا على نصرِ ابنِ بنتِ نبيّهم

بأسيافهمِ آسادُ غيلٍ ضراغمهْ

فإن يُقتَلوا فكلّ نفسٍ تقيّةٍ

على الأرضِ قد أضحت لذلك واجمهْ

وما أن رأى الراؤون أفضلَ منهمُ

لدى الموتِ ساداتٍ وزُهراً قماقمهْ

أتقتلهم ظلماً وترجو وِدادَنا

فَدَع خُطّةً ليست لنا بملائمهْ

لَعمري لقد راغمتُمونا بقتلهم

فكم ناقمٍ منّا عليكم وناقمهْ

أهُمُّ مِراراً أن أسيرَ بجحفلٍ

إلى فئةٍ زاغت عن الحقِّ ظالمهْ

فكُفُّوا وإلاّ ذُدتُكم في كتائبٍ

أشدَّ عليكم من زُحوفِ الديالمهْ (١)

وقال أيضاً :

أيرجو ابنُ الزبيرِ اليومَ نصري

بعاقبةٍ ولم أنصر حسينا

وكان تخلُّفي عنه تَباباً

وتَركي نصرَهُ غُبناً وحَيْنا (٢)

ولو أنّي اُواسيه بنفسي

أصبتُ فضيلةً وقَرَرْتُ عينا

وقال أيضاً :

يا لكِ حسرةً ما دمتُ

حيّاً تَردَّدُ بين حلقي والتراقي

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٤٧٠ ، الطبقات ١ / ٥١٥.

(٢) التباب : الخسران. الحين بفتح الحاء : الهلاك.

٢٤٠