الحسين عليه السلام في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام

السيّد سامي البدري

الحسين عليه السلام في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام

المؤلف:

السيّد سامي البدري


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: ياسين
الطبعة: ١
ISBN: 964-499-093-5
الصفحات: ٥٢٧

يعزم عليهم ألاّ يبارز رجل منكم رجلاً منهم.

قال أبو مخنف : حدّثني الحسين بن عقبة المرادي ، قال الزبيدي : إنّه سمع عمرو بن الحجّاج حين دنا من أصحاب الحسين يقول :

يا أهل الكوفة! ألزموا طاعتكم وجماعتكم ، ولا ترتابوا في قتل مَنْ مرق من الدين ، وخالف الإمام.

فقال له الحسين عليه‌السلام : «يا عمرو بن الحجّاج ، أعليَّ تحرّض الناس؟ أنحن مرقنا وأنتم ثبتم عليه؟ أما والله لتعلمنّ لو قد قبضت أرواحكم ومتّم على أعمالكم أيّنا مرق من الدين ، ومَنْ هو أولى بصلي النار».

قال أبو مخنف : وقاتلوهم حتّى انتصف النهار أشدّ قتال خلقه الله ، وأخذوا لا يقدرون أن يأتوهم إلاّ من وجه واحد ؛ لاجتماع أبنيتهم ، وتقارب بعضها مع بعض ، فلا يزال الرجل من أصحاب الحسين عليه‌السلام قد قُتل ، فإذا قُتل منهم الرجل والرجلان تبيّن فيهم وأولئك كثير لا يتبيّن فيهم ما يُقتل منهم.

آخر صلاة للحسين عليه‌السلام وأصحابه (رضوان الله عليهم) :

قال : فلمّا رأى ذلك أبو ثمامة عمرو بن عبد الله الصائدي قال للحسين عليه‌السلام : يا أبا عبد الله ، نفسي لك الفِداء! إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك ، ولا والله لا تُقتل حتّى اُقتل دونك إن شاء الله ، وأحبّ أن ألقى ربّي وقد صلّيت هذه الصلاة التي دنا وقتها.

قال : فرفع الحسين عليه‌السلام رأسه ، ثمّ قال :

«ذكرت الصلاة ، جعلك الله من المصلّين الذاكرين. نعم ، هذا أوّل وقتها ، ثمّ قال : سلوهم أن يكفّوا عنّا حتّى نصلّي».

٢٠١

فقال لهم الحصين بن تميم : إنّها لا تُقبل.

فقال له حبيب بن مظاهر : لا تُقبل زعمت الصلاة من آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتُقبل منك يا حمار؟

ثمّ صلّوا الظهر ، وصلّى بهم الحسين عليه‌السلام صلاة الخوف.

شهادة حبيب بن مظاهر :

وحمل حصين بن تميم على أصحاب الحسين عليه‌السلام ، فخرج إليه حبيب بن مظاهر فضرب وجه فرسه بالسيف فشبّ ووقع عنه ، وحمله أصحابه فاستنقذوه ، وأخذ حبيب يقول :

أنا حبيبٌ وأبي مظاهرْ

فارسُ هيجاءٍ وحربٍ تسعَرْ

أنتمْ أعدُّ عدّة وأكثرْ

ونحن أوفى منكمُ وأصبَرْ

ونحن أعلى حجّة وأظهرْ

حقّاً وأتقى منكمُ وأعذَرْ

وقاتل قتالاً شديداً ، فحمل عليه رجل من بني تميم فضربه بالسيف على رأسه فقتله ، وكان يُقال له : بديل بن صريم من بني عقفان ، وحمل عليه آخر من بني تميم فطعنه فوقع ، فذهب ليقوم فضربه الحصين بن تميم على رأسه بالسيف فوقع ، ونزل إليه التميمي فاحتز رأسه.

فقال له الحصين : إنّي لشريكك في قتله. فقال الآخر : والله ما قتله غيري. فقال الحصين : أعطنيه أعلقه في عنق فرسي كيما يرى الناس ويعلموا أنّي شركت في قتله ، ثمّ خذه أنت بعدُ فامض به إلى عبيد الله بن زياد ، فلا حاجة لي فيما تعطاه على قتلك إيّاه. قال : فأبى عليه ، فأصلح قومه فيما بينهما على هذا ، فدفع إليه رأس حبيب بن مظاهر ، فجال به في العسكر قد علّقه في عنق فرسه ، ثمّ دفعه بعد ذلك إليه.

قال أبو مخنف : حدّثني محمد بن قيس قال : لمّا قُتل حبيب بن مظاهر هدَّ ذلك حسيناً ، وقال عند ذلك : «أحتسب نفسي وحماة أصحابي».

٢٠٢

شهادة الحنفي :

ثمّ اقتتلوا بعد الظهر ، فاشتدّ قتالهم ، ووصل إلى الحسين عليه‌السلام ، فاستقدم الحنفي أمامه ، فاستهدف لهم يرمونه بالنبل يميناً وشمالاً قائماً بين يديه ، فما زال يُرمى حتّى سقط.

شهادة زهير بن القين :

وقاتل زهير بن القين قتالاً شديداً ، وأخذ يقول :

أنا زهيرٌ وأنا ابنُ القينِ

أذودهم بالسيفِ عن حسينِ

قال : وأخذ يضرب على منكب الحسين عليه‌السلام ويقول :

أقدِم هُدِيت هادياً مهديّا

فاليوم تلقى جدَّكَ النبيّا

وحسَناً والمرتضى عليّا

وذا الجناحين الفتى الكميّا

قال : فشدّ عليه كثير بن عبد الله الشعبي ومهاجر بن أوس فقتلاه.

شهادة بقية الأصحاب الحسين عليه‌السلام :

قال : فلمّا رأى أصحاب الحسين عليه‌السلام أنّهم قد كُثِروا ، وأنّهم لا يقدرون على أن يمنعوا حسيناً ولا أنفسهم تنافسوا في أن يُقتلوا بين يديه ، وجاء الفتيان الجابريان ؛ سيف بن الحارث بن سريع ومالك بن عبد بن سريع ، وهما ابنا عمّ وأخوان لأمّ ، فأتيا حسيناً فدنوا منه وهما يبكيان.

فقال : «أي ابنَي أخي ، ما يبكيكما؟ فوالله إنّي لأرجو أن تكونا عن ساعة قريرَي عين». قالا : جعلنا الله فداك! لا والله ما على أنفسنا نبكي ، ولكنّا نبكي عليك ؛ نراك قد أُحيط بك ولا نقدر على أن نمنعك.

فقال : «جزاكما الله يا بني أخي بوجدكما من ذلك ، ومواساتكما إيّاي بأنفسكما أحسن جزاء المتقين».

٢٠٣

قال : وجاء حنظلة بن أسعد الشبامي فقام بين يدي الحسين عليه‌السلام فأخذ ينادي : (وقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَْحْزابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ * ويا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) غافر / ٣٠ ـ ٣٣. يا قوم ، لا تقتلوا حسيناً فيسحتكم الله بعذاب ، وقد خاب مَنْ افترى.

فقال له الحسين عليه‌السلام : «يابن أسعد رحمك الله ، إنّهم قد استوجبوا العذاب حين ردّوا عليك ما دعوتهم إليه من الحقّ ، ونهضوا إليك ليستبيحوك وأصحابك ، فكيف بهم الآن وقد قتلوا إخوانك الصالحين؟». قال : صدقت ، جُعلت فداك ، أنت أفقه منّي وأحقّ بذلك ، أفلا نروح إلى الآخرة ونلحق بإخواننا؟ فقال : «رُح إلى خير من الدنيا وما فيها ، وإلى ملك لا يبلى». فقال : السلام عليك أبا عبد الله ، صلى الله عليك وعلى أهل بيتك ، وعرّف بيننا وبينك في جنته. فقال : «آمين آمين». فاستقدم فقاتل حتّى قُتل.

شهادة ذرّية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وآل أبي طالب عليهم‌السلام :

قال : وكان أوّل قتيل من بني أبي طالب يومئذ علي الأكبر بن الحسين بن علي عليهم‌السلام ، وأمّه ليلى ابنة أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثقفي ، وذلك أنّه أخذ يشدّ على الناس ، وهو يقول :

أنا علي بن الحسين بن علي

نحنُ وربِّ البيتِ أولى بالنبي

تالله لا يحكم فينا ابنُ الدَّعي

ففعل ذلك مراراً.

فبصر به مرّة بن منقذ العبدي فقال : عليَّ آثام العرب إن مرّ بي يفعل مثل ما كان يفعل إن لم أثكل أباه. فمرّ يشدّ على الناس بسيفه ، فاعترضه مرّة بن منقذ فطعنه فصُرع ، واحتوشه الناس فقطّعوه بأسيافهم.

٢٠٤

قال أبو مخنف : حدّثني سليمان بن أبي راشد ، عن حميد بن مسلم الأزدي قال : سماع أذني يومئذ من الحسين عليه‌السلام يقول : «قتل الله قوماً قتلوك يا بُنَيَّ ، ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول! على الدنيا بعدك العفاء».

وأقبل الحسين عليه‌السلام إلى ابنه ، وأقبل فتيانه إليه فقال : «احملوا أخاكم». فحملوه من مصرعه حتّى وضعوه بين يدي الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه.

قال : ثمّ إنّ عمرو بن صبيح الصائدي رمى عبد الله بن مسلم بن عقيل بسهم ، فوضع كفّه على جبهته ، فأخذ لا يستطيع أن يحرّك كفيه ، ثمّ انتحى له بسهم آخر ففلق قلبه.

فاعتَوَرَهم الناس من كلّ جانب ؛ فحمل عبد الله بن قطبة الطائي على عون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فقتله. وخرج محمد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وهو يقول :

قد بدلّوا معالمَ الفرقانِ

فعالَ قومٍ في الردى عميانِ

نشكو إلى اللهِ من العدوانِ

ومحكمِ التنزيلِ والتبيانِ

فحمل عليه عامر بن نهشل التيمي فقتله.

وشدّ عثمان بن خالد بن أسير الجهني وبشر بن سوط الهمداني ثمّ القابضي على عبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب فقتلاه.

ورمى عبد الله بن عزرة الخثعمي جعفر بن عقيل بن أبي طالب فقتله.

قال أبو مخنف : حدّثني سليمان بن أبي راشد ، عن حميد بن مسلم قال : خرج إلينا غلام كان وجهه شقّة قمر ، في يده السيف ، عليه قميص وإزار ونعلان ، قد انقطع شسع أحدهما ما أنسى أنّها اليسرى.

فقال لي عمرو بن سعد بن نفيل الأزدي : والله لأشدنّ عليه. فقلت له : سبحان الله! وما تريد إلى ذلك؟ يكفيك قتله هؤلاء الذين تراهم قد احتوشوه.

٢٠٥

قال : فقال : والله لأشِدَّن عليه. فشدَّ عليه ، فما ولّى حتّى ضرب رأسه بالسيف فوقع الغلام لوجهه.

فقال : يا عمّاه! قال : فجلى الحسين عليه‌السلام كما يجلي الصقر ، ثمّ شدَّ شّدة ليث غضب ، فضرب عمراً بالسيف فاتقاه بالساعد فأطنَّها من لدن المرفق ، فصاح ثمّ تنحى عنه ، وحملت خيل لأهل الكوفة ليستنقذوا عمراً من الحسين عليه‌السلام ، فاستقبلت عمراً بصدورها ، فحرّكت حوافرها وجالت الخيل بفرسانها عليه فوطئته حتّى مات.

وانجلت الغبرة ، فإذا أنا بالحسين عليه‌السلام قائم على رأس الغلام ، والغلام يفحص برجليه ، والحسين عليه‌السلام يقول : «بُعداً لقومٍ قتلوك! ومَنْ خصمهم يوم القيامة فيك جّدك». ثمّ قال : «عزَّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك ثمّ لا ينفعك ، صوت واللهِ كثُرَ واترُه ، وقلَّ ناصرُه». ثمّ احتمله ، فكأنّي أنظر إلى رجلي الغلام يخطان في الأرض ، وقد وضع الحسين عليه‌السلام صدره على صدره ، فجاء به حتّى ألقاه مع ابنه علي بن الحسين عليه‌السلام وقتلى قد قُتلت حوله من أهل بيته.

قال : فسألتُ عن الغلام ، فقيل : هو القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام.

قال : وشدّ هانئ بن ثبيت الحضرمي على عبد الله بن علي بن أبي طالب فقتله.

ثمّ شدّ على جعفر بن علي فقتله.

ورمى خَوَلّي بن يزيد الأصبحي عثمان بن علي بن أبي طالب بسهم ، ثمّ شدّ عليه رجل من بني أبان بن دارم فقتله.

ورمى رجل من بني أبان بن دارم محمد بن علي بن أبي طالب فقتله.

شهادة العباس بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام

وبقي العباس بن علي عليه‌السلام قائماً أمام الحسين عليه‌السلام يُقاتل دونه ، ويميل معه حيث مال ، وكان لواء الحسين بيده ، فخرج فحملوا عليه ، وحمل عليهم وهو يقول :

٢٠٦

لا أرهبُ الموت إذا الموت رَقى

حتى أُوارى في المصاليتِ لَقى

نفسي لنفس المصطفى الطهر وِقا

إنّي أنا العباس أغدوا بالسِّقا

ولا أخافُ الشرّ يوم الملتقى

ففرّقهم ، فكمن له زيد بن الورقاء الجهني من وراء نخلة ، وعاونه حكيم بن الطفيل السنبسي فضربه على يمينه ، فأخذ السيف بشماله وحمل عليه وهو يرتجز :

واللهِ إن قطعتمُ يميني

إنّي اُحامي أبداً عن ديني

وعن إمامٍ صادقِ اليقين

نجلِ النبيِّ الطاهرِ الأمينِ

فقاتل حتّى ضعف ، وضربه حكيم بن الطفيل على شماله فقطعها وضربه بعمود من حديد فقتله.

وقال الحسين عليه‌السلام : «الآن انكسر ظهري ، وقلّت حيلتي».

شهادة عبد الله الرضيع :

قال أبو مخنف : قال عقبة بن بشير الأسدي : قال لي أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين : «وأُتيَ الحسين بصبي له في الرضاع ، فهو في يده إذ رماه أحدكم يا بني أسد بسهم فذبحه ، فتلقّى الحسين عليه‌السلام دمه ، فلمّا ملأ كفيه صبّه في الأرض ، ثم قال :

«ربّ إن تكُ حبستَ عنّا النصر من السماء فاجعل ذلك لما هو خير وانتقم لنا من هؤلاء الظالمين».

شهادة الإمام الحسين عليه‌السلام :

قال أبو مخنف : عن الحجّاج ، عن عبد الله بن عمّار بن عبد يغوث البارقي ، عن عبد الله بن عمّار قال :

«فوالله ما رأيت مكثوراً قطّ قد قُتِل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى جناناً ولا أجرأ

٢٠٧

مَقدَماً منه ، والله ما رأيت قبله ولا بعده مثله ، إن كانت الرجّالة لتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف الِمعزى إذا شدَّ فيها الذئب.»

قال هشام : حدّثني عمرو بن شمر ، عن جابر الجعفي قال : عطش الحسين عليه‌السلام حتّى اشتدّ عليه العطش ، فدنا ليشرب من الماء ، فرماه حصين بن تميم بسهم فوقع في فمه ، فجعل يتلقّى الدم من فمه ويرمي به إلى السماء ، ثمّ حمد الله وأثنى عليه ، ثمّ جمع يديه فقال : «اللّهمّ أحصهم عدداً ، واقتلهم بدداً ، ولا تذر على الأرض منهم أحداً».

قال هشام ، عن أبيه محمد بن السائب ، عن القاسم بن الأصبغ بن نباتة قال : حدّثني مَنْ شهد الحسين عليه‌السلام في عسكره ، أنّ حسيناً حين غُلب على عسكره ركب المُسنّاة يريد الفرات ، فضربه رجل من بني أبان بن دارم بسهم فأثبته في حنك الحسين عليه‌السلام ، فانتزع الحسين السهم ، ثم بسط كفيه فامتلأت دماً ، ثمّ قال الحسين عليه‌السلام : «اللّهمّ إنّي أشكو إليك ما يُفعل بابن بنت نبيّك».

قال أبو مخنف في حديثه : إنّ شمر بن ذي الجوشن أقبل في نفر نحو من عشرة من رجّالة أهل الكوفة قِبَلَ منزل الحسين عليه‌السلام الذي فيه ثقله وعياله ، فمشى نحوه ، فحالوا بينه وبين رحله.

قال الحسين عليه‌السلام :

ويلكم : يا شيعة آل أبي سفيان! إن لم يكن لكم دين ، وكنتم لا تخافون يوم المعاد ، فكونوا أحراراً في دنياكم ، هذه ذوي أحساب ، امنعوا عتاتكم وطغاتكم (طغامكم) عن التعرّض لحرمي (١).

__________________

(١) ‏ الفتوح ـ لابن أعثم ٥ / ٢١٤.

٢٠٨

فقال ابن ذي الجوشن : ذلك لك يابن فاطمة ، وأقدم عليه بالرَّجّالة فأخذ الحسين عليه‌السلام يشدّ عليهم فينكشفون عنه.

ثمّ إنّهم أحاطوا به إحاطة وقد أوثقته السهام ، فحملوا عليه من كلّ جانب.

قال : ومكث الحسين عليه‌السلام طويلاً من النهار ، كلّما انتهى إليه رجل من الناس انصرف عنه ، وكره أن يتولّى قتله ، وعظيم إثمه عليه. قال : وإنّ رجلاً من كندة يُقال له مالك بن النسير من بني بداء أتاه فضربه على رأسه بالسيف ، وعليه برنس له فقطع البرنس وأصاب السيف رأسه فأدمى رأسه ، فامتلأ البرنس دماً ، فقال له الحسين عليه‌السلام : «لا أكلت بها ولا شربت ، وحشرك الله مع الظالمين».

قال أبو مخنف : فوالله إنّه لكذلك ، إذ خرجت زينب ابنة فاطمة ، أخته (سلام الله عليها) ، وهي تقول : ليت السماء تطابقت على الأرض. وقد دنا عمر بن سعد من الحسين عليه‌السلام ، فقالت : يا عمر بن سعد ، أيُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟! قال : فكأنّي أنظر إلى دموع عمر وهي تسيل على خديه ولحيته. قال : وصرف بوجهه عنها.

قال : ولقد مكث طويلاً من النهار ، ولو شاء الناس أن يقتلوه لفعلوا ، ولكنّهم كان يتقي بعضهم ببعض ، ويحبّ هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء.

قال : فنادى شمر في الناس : ويحكم ماذا تنتظرون بالرجل؟ اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم. قال : فحُمل عليه من كلّ جانب ، فضُربت كفّه اليسرى ضربة ضربها زرعة بن شريك التميمي ، وضُرب على عاتقه ، ثمّ انصرفوا وهو ينوء ويكبو. قال : وحمل عليه في تلك الحال سنان بن أنس بن عمرو النخعي فطعنه بالرمح فوقع.

قال : ثمّ قال شمر لِخَوَلّي بن يزيد الأصبحي : احتز رأسه ، فأراد أن يفعل فضعف فأَرْعَد. فنزل إليه سنان بن أنس فذبحه واحتزّ رأسه ، ثمّ دفعه إلى خولّي بن يزيد ، وقد ضُرب قبل ذلك بالسيوف.

قال علي بن أسباط ، عن بعض أصحابه ، عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : «لقد قتلوه قتلة نهى

٢٠٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يُقتل بها الكلاب ؛ لقد قُتل بالسيف وبالحجارة ، والخشب وبالعصا» (١).

قال أبو مخنف ، عن جعفر بن محمد بن علي قال : «وجد بالحسين عليه‌السلام حين قُتل ثلاث وثلاثون طعنة ، وأربع وثلاثون ضربة».

الخيول تطأ جسد الحسين عليه‌السلام :

قال أبو مخنف : ثمّ إنّ عمر بن سعد نادى في أصحابه : مَنْ ينتدب للحسين ويوطئه فرسه؟ فانتدب عشرة ، فأتوا فداسوا الحسين عليه‌السلام بخيولهم حتّى رضّوا ظهره وصدره.

يدفنون قتلاهم ويتركون الحسين عليه‌السلام وقتلاه :

وصلى عمر بن سعد على قتلاه ودفنهم ، وترك الحسين عليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه.

بنات الحسين عليه‌السلام وأخواته سبايا :

وأقام عمر بن سعد يومه ذلك والغد ، ثمّ أمر حميد بن بكير الأحمري فأذّن في الناس بالرحيل إلى الكوفة ، وحمل معه بنات الحسين وأخواته ، ومَنْ كان معه من الصبيان ، وعلي بن الحسين عليه‌السلام وهو مريض.

قال أبو مخنف : ولمّا مرّت النسوة بالحسين وأهله وولده صحن ولطمن وجوههن ، فما نسيت من الأشياء لا أنسَ قول زينب ابنة فاطمة عليها‌السلام حين مرّت بأخيها الحسين صريعاً وهي تقول : يا محمّداه! يا محمّداه! صلّى عليك ملائكة السماء ، هذا الحسين بالعراء ، مرمّل بالدماء ، مقطّع الأعضاء. يا محمّداه! وبناتك سبايا ، وذريتك مقتلة تسفي عليها الصبا.

قال : فأبكت والله كلّ عدوّ وصديق.

__________________

(١) ‏ بحار الأنوار ٤٥ / ٩١.

٢١٠

قال : وقطف رؤوس الباقين ، فسرح باثنين وسبعين رأساً مع شمر بن ذي الجوشن ، وقيس بن الأشعث ، وعمرو بن الحجّاج ، وعزرة بن قيس. فأقبلوا حتّى قدموا بها على عبيد الله بن زياد.

وروى نوح بن درّاج ، قال : حدّثني قدامة بن زائدة ، عن أبيه ، قال : قال علي بن الحسين عليهما‌السلام : «… إنّه لمّا أصابنا بالطفّ ما أصابنا ، وقُتل أبي عليه‌السلام ، وقُتل مَنْ كان معه من ولده وإخوته وسائر أهله ، وحُملت حرمه ونساؤه على الأقتاب يراد بنا الكوفة ، فجعلت انظر إليهم صرعى ولم يوارَوْا ، فعظم ذلك في صدري ، واشتدّ لِما أرى منهم قلقي ، فكادت نفسي تخرج ، وتبيّنت ذلك منّي عمّتي زينب الكبرى بنت علي عليه‌السلام ، فقالت : ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدّي وأبي وأخوتي؟!

فقلت : وكيف لا أجزع وأهلع وقد أرى سيّدي وإخوتي وعمومتي وولد عمّي وأهلي مضرّجين بدمائهم ، مرمّلين بالعرى ، مسلّبين لا يكفّنون ولا يوارون ، ولا يعرج عليهم أحد ، ولا يقربهم بشر ، كأنّهم أهل بيت من الديلم والخزر؟!

فقالت : لا يجزعنّك ما ترى ، فو الله إنّ ذلك لعهد من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى جدّك وأبيك وعمّك ، ولقد أخذ الله ميثاق أُناس من هذه الأمّة لا تعرفهم فراعنة هذه الأمّة ، وهم معروفون في أهل السماوات أنّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرّقة فيوارونها ، وهذه الجسوم المضرّجة وينصبون لهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء لا يدرس أثره ، ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيام ، وليجتهدنّ أئمّة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلاّ ظهوراً ، وأمره إلاّ علوّاً» (١).

__________________

(١) كامل الزيارات ـ جعفر بن محمد بن قولويه / ٤٤٤. وفي الرواية بقية ، تقول زينب : إنّ أمّ أيمن حدّثتها أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله زار منزل فاطمة عليها‌السلام في يوم من الأيام ، فعملت له حريرة ، وأتاه علي عليه‌السلام بطبق فيه تمر ، ثمّ قالت أمّ أيمن : فأتيتهم بعسّ فيه لبن وزبد ، فأكل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليها‌السلام من تلك الحريرة ، وشرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وشربوا من ذلك اللبن ، ثمّ أكلّ وأكلوا من ذلك التمر والزبد ، ثمّ غسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يده وعلي يصبّ عليه الماء ، فلمّا فرغ من غسل يده مسح وجهه ،

٢١١

زينب وابن زياد :

واُدخِلت السبايا على عبيد الله بن زياد ، والتفت عبيد الله إلى زينب فقال لها : الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم ، وأكذب أحدوثتكم.

__________________

ثمّ نظر إلى علي وفاطمة والحسن والحسين نظراً عرفنا به السرور في وجهه ، ثمّ رمق بطرفه نحو السماء ملياً ، ثمّ وجّه وجهه نحو القبلة وبسط يديه ودعا ، ثمّ خرّ ساجداً وهو ينشج ، فأطال النشوج ، وعلا نحيبه وجرت دموعه ، ثمّ رفع رأسه وأطرق إلى الأرض ودموعه تقطر كأنّها صوب المطر ، فحزنت فاطمة وعلي والحسن والحسين عليهم‌السلام ، وحزنت معهم ؛ لِما رأينا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهبناه أن نسأله ، حتّى إذا طال ذلك قال له علي ، وقالت له فاطمة : «ما يبكيك يا رسول الله لا أبكى الله عينيك؟ فقد أقرح قلوبنا ما نرى من حالك». فقال : «يا أخي ، سررت بكم سروراً ما سررت مثله قطّ ، وإنّي لأنظر إليكم وأحمد الله على نعمته فيكم ، إذ هبط عليّ جبرئيل فقال : يا محمّد ، إنّ الله تبارك وتعالى اطّلع على ما في نفسك ، وعرف سرورك بأخيك وابنتك وسبطيك ، فأكمل لك النعمة وهنّاك العطية بأن جعلهم وذرّيّاتهم ومحبّيهم وشيعتهم معك في الجنّة ، لا يفرّق بينك وبينهم ، يُحبَوْن كما تُحبى ، ويُعطَون كما تُعطى حتّى ترضى وفوق الرضا على بلوى كثيرة تنالهم في الدنيا ، ومكاره تصيبهم بأيدي أناس ينتحلون ملّتك ، ويزعمون أنّهم من أمّتك ، براء من الله ومنك ، خبطاً خبطاً ، وقتلاً قتلاً ، شتى مصارعهم ، نائية قبورهم ، خيرة من الله لهم ولك فيهم ، فاحمد الله عزّ وجلّ على خيرته ، وارضَ بقضائه ، فحمدت الله ورضيت بقضائه بما اختاره لكم. ثمّ قال لي جبرئيل : يا محمّد ، إنّ أخاك مضطهد بعدك ، مغلوب على أمّتك ، متعوب من أعدائك ، ثمّ مقتول بعدك ، يقتله أشرّ الخلق والخليقة ، وأشقى البرية ، يكون نظير عاقر الناقة ، ببلد تكون إليه هجرته ، وهو مغرس شيعته وشيعة ولده ... وإنّ سبطك هذا ـ وأومي بيده إلى الحسين عليه‌السلام ـ مقتول في عصابة من ذريّتك وأهل بيتك ، وأخيار من أمّتك ، بضفة الفرات بأرض يُقال لها : كربلاء ، وهي أطيب بقاع الأرض وأعظمها حرمة ، وإنّها من بطحاء الجنة ... ثمّ يبعث الله قوماً من أمّتك لا يعرفهم الكفّار ، لم يشركوا في تلك الدماء بقول ولا فعل ولا نيّة ، فيوارون أجسامهم ، ويقيمون رسماً لقبر سيّد الشهداء بتلك البطحاء ، يكون علماً لأهل الحقّ ، وسبباً للمؤمنين إلى الفوز. وتحفّه ملائكة من كلّ سماء مئة ألف ملك في كلّ يوم وليلة ، ويصلّون عليه ويسبحون الله عنده ، ويستغفرون الله لمَنْ زاره ، ويكتبون أسماء مَنْ يأتيه زائراً من أمّتك ، متقرّباً إلى الله تعالى وإليك بذلك ، وأسماء آبائهم وعشائرهم وبلدانهم ... وسيجتهد أناس ممّن حقّت عليهم اللعنة من الله والسخط أن يعفوا رسم ذلك القبر ويمحوا أثره ، فلا يجعل الله تبارك وتعالى لهم إلى ذلك سبيلاً». ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فهذا أبكاني وأحزنني».

٢١٢

فقالت : الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وطهّرنا تطهيراً ، لا كما تقول أنت ، إنّما يفُتَضَحُ الفاسق ، ويكذب الفاجر.

قال : فكيف رأيتِ صُنعَ الله بأهل بيتك؟

قالت : كتب عليهم القتل ، فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم ، فتحاجّون إليه ، وتخاصمون عنده.

قال : فغضب ابن زياد واستشاط.

قال : فقال له عمرو بن حريث : أصلح الله الأمير إنّما هي امرأة ، وهل تؤاخذ المرأة بشيء من منطقها ، إنّها لا تؤاخذ بقول ولا تُلام على خَطَل.

فقال لها ابن زياد : قد أشفى الله نفسي من طاغيتك ، والعصاة المردة من أهل بيتك.

قال : فبكت ، ثمّ قالت : لعمري ، لقد قتلت كهلي ، وأبرت أهلي ، وقطعت فرعي ، واجتثثت أصلي ، فإن يُشفِكَ هذا فقد اشتفيت.

قال أبو مخنف ، عن المجالد بن سعيد : أنّ عبيد الله بن زياد لمّا نظر إلى علي بن الحسين عليه‌السلام قال لشرطي : انطلقوا به فاضربوا عنقه. فقال له علي عليه‌السلام : إن كان بينك وبين هؤلاء النسوة قرابة فابعث معهنّ رجلاً يحافظ عليهنّ. فتعلّقت به عمّته زينب ، وقالت لزياد : حسبك منّا ما رويت من دمائنا؟ وهل أبقيت منّا أحداً؟ فقال ابن زياد : عجباً للرحم! والله إنّي لأظنّها ودّت لو أنّي لو قتلته قتلتها معه ، دعوا الغلام (١).

شهادة عبد الله بن عفيف الأزدي :

قال حميد بن مسلم : لمّا دخل عبيد الله القصر ، ودخل الناس نودي : الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس في المسجد الأعظم ، فصعد المنبر ابن زياد فقال : الحمد لله الذي أظهر الحقّ وأهله ، ونصر أمير المؤمنين يزيد بن معاوية وحزبه ، وقتل الكذّاب ابن الكذّاب الحسين بن علي وشيعته.

__________________

(١) ‏ كان عليه‌السلام ابن خمس وعشرين ، ولكن مرض الإسهال جعله بمنظر الغلمان.

٢١٣

فلمّا فرغ ابن زياد من مقالته وثب إليه عبد الله بن عفيف الأزدي ثمّ الغامدي ثمّ أحد بني والبة (وكان من شيعة علي ، وكانت عينه اليسرى ذهبت يوم الجمل مع علي ، فلمّا كان يوم صفين ضُرب على رأسه ضربة وأخرى على حاجبه فذهبت عينه الأخرى ، فكان لا يكاد يُفارق المسجد الأعظم يصلي فيه إلى الليل ثمّ ينصرف).

فلمّا سمع مقالة ابن زياد قال : يابن مرجانة ، إنّ الكذّاب ابن الكذّاب أنت وأبوك والذي ولاّك وأبوه. يابن مرجانة ، أتقتلون أبناء النبيين وتتكلّمون بكلام الصديقين؟! فقال ابن زياد : عليَّ به.

فوثبت عليه الجلاوزة فأخذوه : فنادى بشعار الأزد : يا مبرور. قال : وعبد الرحمن بن مخنف الأزدي جالس فقال : ويح غيرك! أهلكت نفسك وأهلكت قومك. قال : وحاضر الكوفة يومئذ من الأزد سبعمئة مقاتل ، قال : فوثب إليه فِتية من الأزد فانتزعوه ، فأتوا به أهله ، فأرسل إليه مَنْ أتاه به فقتله ، وأمر بصلبه في السَّبخة فَصُلِب هنالك.

موقف زيد بن أرقم :

قال الطبري : لمّا وضِع رأس الحسين عليه‌السلام بين يدي ابن زياد أخذ ينكت بقضيب بين ثنيتيه ساعة ، فلمّا رآه زيد بن أرقم لا ينجُم (١) عن نكته بالقضيب ، قال له : اعلُ بهذا القضيب عن هاتين الثنيتين ، فوالذي لا إله غيره ، لقد رأيت شفتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على هاتين الشفتين يقبّلهما ، ثمّ انفضخ الشيخ يبكي. وفي رواية الذهبي ، عن أبي داود السبيعي ، فقال له ابن زياد : ما يبكيك أيّها الشيخ؟ قال : يبكيني ما رأيت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رأيته يمصّ موضع هذا القضيب ويلثمه ، ويقول : «اللّهمّ إنّي أحبّه فأحبّه» (٢).

فقال له ابن زياد : أبكى الله عينيك ، فوالله لولا أنّك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك. قال : فنهض فخرج.

__________________

(١) ‏لا ينجُم : أي استمر ينكته بالقضيب.

(٢) سير أعلام النبلاء ٣ / ٣١٥.

٢١٤

تسيير الرؤوس وعيال الحسين عليه‌السلام إلى الشام :

قال أبو مخنف : ثمّ إنّ عبيد الله بن زياد نصب رأس الحسين عليه‌السلام بالكوفة ، فجعل يُدار به في الكوفة ، ثمّ دعا زُحَر بن قيس فسرَّح معه برأس الحسين ورؤوس أصحابه إلى يزيد بن معاوية ، وكان مع زحر أبو بردة بن عوف الأزدي وطارق بن أبي ظبيان الأزدي ، فخرجوا حتّى قدموا بها الشام على يزيد بن معاوية.

قال هشام : فحدّثني عبد الله بن يزيد بن روح بن زنباع الجذامي ، عن أبيه ، عن الغاز بن ربيعة الجرشي من حمير قال : والله ، إنّا لعند يزيد بن معاوية بدمشق إذ أقبل زحر بن قيس حتّى دخل على يزيد بن معاوية ، فقال له يزيد : ويلك ما وراءك وما عندك؟ فقال : أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله ونصره.

قال : ثمّ إنّ عبيد الله أمر بنساء الحسين وصبيانه ، فجُهِّزْنَ وأمر بعلي بن الحسين عليه‌السلام فغُلَّ بِغِلٍّ إلى عنقه ، ثمّ سُرِّح بهم مع مُحَفِّز بن ثعلبة العائذي عائذة قريش ، ومع شمر بن ذي الجوشن ، فانطلقا بهم حتّى قدموا على يزيد.

علي بن الحسين عليه‌السلام يواصل عمله التبليغي وهو أسير :

روى ابن أعثم الكوفي قال : وأُتي بحرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى أُدخلوا مدينة دمشق من باب يُقال له : باب توما ، ثمّ أُتي بهم حتّى وقفوا على درج باب المسجد حيث يُقام السبي ، وإذا شيخ قد أقبل حتّى دنا منهم ، وقال : الحمد لله الّذي قتلكم وأهلككم ، وأراح الرجال من سطوتكم ، وأمكن أمير المؤمنين منكم.

فقال له عليّ بن الحسين عليه‌السلام : «يا شيخ هل قرأت القرآن؟».

فقال : نعم ، قد قرأته.

قال : فعرفت هذه الآية (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)؟

قال الشيخ : قد قرأت ذلك.

٢١٥

قال علي بن الحسين عليه‌السلام : «فنحن القربى يا شيخ».

قال : فهل قرأت في سورة بني إسرائيل : (وآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّه)؟

قال الشيخ : قد قرأت ذلك.

فقال عليّ عليه‌السلام : نحن القربى يا شيخ.

ولكن هل قرأت هذه الآية : (واعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى)؟

قال الشيخ : قد قرأت ذلك.

قال علي عليه‌السلام : فنحن ذو القربى يا شيخ ، ولكن هل قرأت هذه الآية : (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)؟

قال الشيخ : قد قرأت ذلك.

قال علي عليه‌السلام : «فنحن أهل البيت الذين خصّصنا بآية التطهير».

قال : فبقي الشيخ ساعة ساكتاً نادماً على ما تكلّمه ، ثمّ رفع رأسه إلى السماء ، وقال : اللّهمّ إنّي تائب إليك ممّا تكلّمته ، ومن بغض هؤلاء القوم ، اللّهمّ إنّي أبرأ إليك من عدو محمّد وآل محمّد من الجنّ والإنس (١).

__________________

(١) الفتوح ـ أحمد بن أعثم ٥ / ٢٤٢ ـ ٢٤٣ ، وذكرها الطبري متفرّقة في تفسير الآيات بتفسيره. جامع البيان ١٠ / ٨ : قال : حدّثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا إسماعيل بن أبان ، قال : ثنا الصباح بن يحيى المزني ، عن السدي ، عن ابن الديلمي ، قال : قال علي بن الحسين عليه‌السلام لرجل من أهل الشام : «أما قرأت في الأنفال : واعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ...؟» الأنفال / ٤١. قال : نعم. قال : فإنّكم لأنتم هم؟ قال : «نعم». وفي ٢٢ / ١٢ : قال : حدّثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا إسماعيل بن أبان ، قال : ثنا الصباح بن يحيى المري ، عن السدي ، عن أبي الديلم ، قال : قال علي بن الحسين لرجل من أهل الشام : أما قرأت في الأحزاب : إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً؟ قال : ولأنتم هم؟ قال : «نعم». وفي ٢٥ / ٣٣ : قال : حدّثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا إسماعيل بن أبان ، قال : ثنا الصباح بن يحيى المري ، عن السدي ، عن أبي الديلم قال : لمّا جيء بعلي بن الحسين عليهما‌السلام أسيراً ، فأقيم على درج دمشق ، قام رجل من أهل الشام فقال : الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم ،

٢١٦

يزيد يستقبل الرؤوس وسبايا آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وجلس يزيد بن معاوية لاستقبالهم ، ودعا أشراف أهل الشام فأجلسهم حوله ، ثمّ دعا بعليّ بن الحسين عليه‌السلام وصبيان الحسين ونسائه فاُدخوا عليه ، والناس ينظرون.

وروى سبط ابن الجوزي وغيره ، وقالوا : إنّ الصبيان والصبيات من بنات رسول الله كانوا موثّقين في الحبال (١).

قال أبو مخنف : حدّثني الصقعب بن زهير ، عن القاسم بن عبد الرحمن مولى يزيد بن معاوية قال : لمّا وضِعت الرؤوس بين يدي يزيد ، رأس الحسين عليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه قال يزيد :

يفلقنّ هاماً من رجال أعزّةٍ

علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما

فقال يحيى بن الحكم أخو مروان :

لهامٌ بجنبِ الطفِّ أدنى قرابةً من

ابن زياد العبد ذي الحسبِ الوغلِ

يفلقنّ هاماً من رجال أعزّةٍ

علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما

سميّة أمسى نسلُها عدد الحصى وبنتُ رسولِ اللهِ ليسَ لها نسلُ (٢) فضرب يزيد في صدر يحيى وقال : اسكت (٣).

أحد أحبار اليهود يستنكر على يزيد :

في فتوح ابن أعثم ، قال : فالتفت حبر من أحبار اليهود ، وكان حاضراً ، فقال : مَنْ هذا الغلام يا أمير المؤمنين؟

فقال : هذا ، صاحب الرأس أبوه.

__________________

وقطع قرني الفتنة ، فقال له علي بن الحسين عليه‌السلام : «أقرأت القرآن؟». قال : نعم. قال : «أقرأت أل حم؟». قال : قرأت القرآن ولم أقرأ آل حم. قال : «ما قرأت : قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى؟» (الشورى / ٢٣). قال : وإنّكم لأنتم هم؟ قال : «نعم».

(١) تذكرة خواص الأمّة / ١٤٩ ، وفي اللهوف ، ومثير الأحزان / ٧٩ ، واللفظ للتذكرة.

(٢) لا يخفى ما في البيتين من اختلاف حركة حرف الروي. (موقع معهد الإمامين الحسَنَين)

(٣) الطبري ٤ / ٣٥٢.

٢١٧

قال : ومَنْ هو صاحب الرأس يا أمير المؤمنين؟

قال : الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

قال : فمَنْ أمّه؟

قال : فاطمة بنت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقال الحبر : يا سبحان الله! هذا ابن (بنت) نبيّكم قتلتموه في هذه السرعة؟ بئس ما خلّفتموه في ذريته ، ... فارقكم نبيّكم بالأمس فوثبتم على ابن نبيّكم فقتلتموه؟! سوءة لكم من أمّة!

قال : فأمر يزيد بكرٍّ (١) في حلقه.

فقال الحبر : إن شئتم فاضربوني ، أو فاقتلوني ، أو قرّروني ؛ فإنّي أجد في التوراة أنّه مَنْ قتل ذريّة نبي لا يزال مغلوباً أبداً ما بقي ، فإذا مات يصليه الله نار جهنّم (٢).

يزيد يتمثل بأبيات ابن الزبعرى :

روى ابن أعثم والخوارزمي وابن كثير وغيرهم ، أنّ خليفة المسلمين يزيد جعل يتمثّل بأبيات ابن الزبعرى :

ليتَ أشياخي ببدرٍ شهِدوا

جزعَ الخزرج من وَقْع الأسلْ

لأَهلّوا واستهلّوا فرَحاً

ثمّ قالوا يا يزيد لا تُشَلْ

قد قتلنا القَرْمَ (٣) من ساداتهم

وعدلنا مَيْلَ بدر فاعتدلْ

قال ابن أعثم : ثمّ زاد فيها هذا البيت من نفسه :

لستُ من عتبة إن لم أنتقمْ

من بني أحمدَ ما كان فعلْ

وفي تذكرة خواصّ الأمّة : المشهور عن يزيد في جميع الروايات أنّه لمّا حضر الرأس

__________________

(١) الكر : الحبل الغليظ.

(٢) فتوح ابن أعثم ٥ / ٢٤٦.

(٣) ‏ القرم : السيد المعظم.

٢١٨

بين يديه جمع أهل الشام ، وجعل ينكت عليه بالخيزران ، ويقول أبيات ابن الزبعرى :

ليتَ أشياخي ببدرٍ شهِدوا

جزعَ الخزرج من وَقْع الأسلْ

قد قتلنا من ساداتهمْ

وعدلنا ميل بدرٍ فاعتدلْ

وقال : قال الشعبي : وزاد عليها يزيد فقال :

لعبت هاشمُ بالملكِ فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزلْ

لستُ من خِندفَ إنْ لم أنتقمْ

من بني أحمدَ ما كان فعلْ (١)

قال العلاّمة العسكري : لمّا كانت أبيات ابن الزِّبَعرَى مشهورة ترويها الرواة قبل تمثّل يزيد ببعضها ، ثمّ تمثّل بها يزيد وأضاف إليها الأبيات الثاني والرابع والخامس فأخذها الرواة عنه ، وأحياناً أضافوا إلى ما أنشده يزيد ما كان في ذاكرتهم من أصل الأبيات ، ومن ثمّ حصل بعض الاختلاف في ألفاظ الروايات (٢).

خطبة زينب في مجلس الخلافة :

روى ابن طيفور (٣) قال : فلمّا مثُلوا بين يديه أمر برأس الحسين فأُبرز في طست ، فجعل ينكت ثناياه بقضيب في يده (٤) وهو يقول :

__________________

(١) إنّ أبيات ابن الزبعرى جاءت في سيرة ابن هشام ٣ / ٩٧ ، وشرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ٢ / ٣٨٢.

(٢) معالم المدرستين ٣ / ١٦٢.

(٣) بلاغات النساء / ٢٠ ـ ٢٣.

(٤) روى قصة نكت يزيد رأس الحسين عليه‌السلام بقضيبه الذهبي في سير أعلام النبلاء ٣ / ٣١٩. عن أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة ، عن أبيه ، عن جدّه قال : أخبرني أبي حمزة بن يزيد الحضرمي ، قال : رأيت امرأة من أجمل النساء وأعقلهن يُقال لها : ريا ، حاضنة يزيد ، يُقال : بلغت مئة سنة. قال : دخل رجل على يزيد فقال : أبشر فقد أمكنك الله من الحسين وجيء برأسه. قال : فوضع في طست ، فأمر غلام فكشف ، فحين رآه خمَّرَ وجهه كأنّه شمَّ منه ، فقلت لها : أَقَرَعَ ثناياه بقضيب؟ قالت : أي والله. ثمّ قال حمزة : وقد حدّثني بعض أهلنا أنّه رأى رأس الحسين عليه‌السلام مصلوباً بدمشق ثلاثة أيام. وروى (ص ٣٢٠) عن كثير بن هشام قال :

٢١٩

يا غرابَ البين أسمعت فقلْ

إنّما تذكر شيئاً قد فُعلْ

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا

جزعَ الخزرج من وقع الأسلْ

حين حكّت بقباءٍ بركها

واستحرَّ القتلُ في عبد الأشلْ

لأهلّوا واستهلوا فرحاً

ثمّ قالوا يا يزيد لا تُشلْ

فجزيناهم ببدرٍ مثلها

وأقمنا ميلَ بدر فاعتدلْ

لستُ للشيخين إن لم أثأَرِ

من بني أحمدَ ما كان فعلْ

فقالت زينب بنت علي عليه‌السلام :

صدق الله سبحانه حيث يقول : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ). ثم أورد ابن طيفور تمام خطابها رضي‌الله‌عنها ، ونحن نورد الخطبة برواية ابن طاووس ؛ لأنّها أفصح وأتمّ في بعض الموارد.

أظننتَ يا يزيد حيث أخذتَ علينا أقطارَ الأرض وآفاق السماء ، فأصبحنا نُساق كما تُساق الأسارى ، أنّ بنا على الله هواناً ، وبك عليه كرامة ، وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده ، فشمختَ بأنفك ، ونظرت في عطفك ، جذلان مسروراً ، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة ، والأمور متّسقة ، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا؟ فمهلاً مهلاً! أنسيت قول الله تعالى : (ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَِنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)؟

أمن العدل يابن الطلقاء تخديرَك حرائرَك وإماءَك ، وسَوْقَك بنات رسول الله سبابا ، قد هتكت ستورهنّ ، وأبديت وجوههنّ ، تحدو بهنَّ الأعداء من بلد إلى بلد ، ويستشرفهنّ أهل المناهل والمعاقل ، ويتصفّح وجوههنَّ القريب والبعيد ، والدنيّ والشريف ، ليس معهنّ من حُماتهنّ حمي ، ولا من رجالهنّ ولي؟ وكيف يرتجى مراقبة مَنْ

__________________

حدّثنا جعفر بن برقان ، عن يزيد بن أبي زياد ، قال : لمّا أُتي يزيد برأس الحسين جعل ينكت سِنَّه ويقول : ما كنت أظنّ أبا عبد الله بلغ هذا السن ، وإذا لحيته ورأسه قد نصل من الخضاب.

٢٢٠