الحسين عليه السلام في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام

السيّد سامي البدري

الحسين عليه السلام في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام

المؤلف:

السيّد سامي البدري


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: ياسين
الطبعة: ١
ISBN: 964-499-093-5
الصفحات: ٥٢٧

أربعة آلاف من أهل الكوفة يسير بهم إلى دَسْتَبَى (١) ، وكانت الديلم قد خرجوا إليها وغلبوا عليها ، فكتب إليه ابن زياد عهده على الري وأمره بالخروج. فخرج معسكراً بالناس بحمام أعْيَن (٢) ، فلمّا كان من أمر الحسين عليه‌السلام ما كان ، وأقبل إلى الكوفة دعا ابن زياد عمر بن سعد فقال : سرّ إلى الحسين ، فإذا فرغنا ممّا بيننا وبينه سرت إلى عملك. فأقبل في أربعة آلاف حتّى نزل بالحسين عليه‌السلام من الغد من يوم نزل الحسين عليه‌السلام نينوى.

قال : فبعث عمر بن سعد إلى الحسين عليه‌السلام عَزْرَة بن قيس الأحمسي فقال : ائته فسله ما الذي جاء به ، وماذا يريد؟ وكان عَزرة ممّن كتب إلى الحسين عليه‌السلام ، فاستحيا منه أن يأتيه.

قال : فعرض ذلك على الرؤساء الذين كاتبوه فكلّهم أبى وكرهه.

قال : وقام إليه كثير بن عبد الله الشعبي ، وكان فارساً شجاعاً ليس يردّ وجهه شيء ، فقال : أنا أذهب إليه ، والله لئن شئت لأفتكنَّ به. فقال له عمر بن سعد : ما اُريد أن يُفتك به ، ولكن ائته فسله ما الذي جاء به؟ قال : فأقبل إليه ، فلمّا رآه أبو ثمامة الصائدي قال للحسين عليه‌السلام : أصلحك الله أبا عبد الله ، قد جاءك شرّ أهل الأرض وأجرؤهم على دم وأفتكه. فقام إليه فقال : ضع سيفك. قال : لا والله ولا كرامة ؛ إنّما أنا رسول ، فإن سمعتم منّي أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ، وإن أبيتم انصرفت عنكم. فقال له : فإنّي آخذ بقائم سيفك ثمّ تكلّم بحاجتك. قال : لا والله لا تمسّه. فقال له : أخبرني ما جئت به وأنا أبلغه عنك ، ولا أدعك تدنو منه فإنّك فاجر. قال : فاستبّا ، ثم انصرف إلى عمر بن سعد فأخبره الخبر.

قال : فدعا عمر قُرَّةَ بن قيس الحنظلي ، فقال له : ويحك يا قرّة القَ حسيناً فسله ما جاء به ، وماذا يريد؟ فأتاه قرّة بن قيس فلمّا رآه الحسين عليه‌السلام مقبلاً قال : أتعرفون هذا؟ فقال حبيب بن مظاهر : نعم ، هذا رجل من حنظلة تميمي ، وهو ابن أختنا ، ولقد كنت أعرفه

__________________

(١) منطقة كبيرة كانت مقسومة بين الري وهمذان. أودستوا : بلدة بفارس ، وقيل : بلدة بالأهواز.

(٢) ‏منطقة مشهورة بالكوفة ، وأعين مولى سعد بن أبي وقاص.

١٨١

بحسن الرأي ، وما كنت أراه يشهد هذا المشهد ، فجاء حتّى سلّم على الحسين عليه‌السلام وأبلغه رسالة عمر بن سعد إليه له.

فقال الحسين عليه‌السلام : «كتب إليّ أهل مصركم هذا أن أقدم ، فأمّا إذا كرهوني فأنا أنصرف عنهم».

قال : ثمّ قال له حبيب بن مظاهر : ويحك يا قرّة بن قيس! أنى ترجع إلى القوم الظالمين ، انصر هذا الرجل الذي بآبائه أيدّك الله بالكرامة وإيانا معك.

فقال له قرّة : ارجع إلى صاحبي بجواب رسالته وأرى رأيي.

قال : فانصرف إلى عمر بن سعد فأخبره الخبر.

فقال له عمر بن سعد : إنّي لأرجو أن يعافيني الله من حربه وقتاله.

قال هشام عن أبي مخنف قال : حدّثني النضر بن صالح بن حبيب بن زهير العبسي ، عن حسّان بن فائد بن بكير العبسي قال : أشهد أنّ كتاب عمر بن سعد جاء إلى عبيد الله بن زياد وأنا عنده ، فإذا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، أمّا بعد ، فإنّي حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي فسألته عمّا أقدمه ، وماذا يطلب ويسأل ، فقال : كتب إليّ أهل هذه البلاد ، وأتتني به رسلهم ، فسألوني القدوم ففعلت ، فأمّا إذ كرهوني فبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم فأنا منصرف عنهم. فلمّا قُرئ الكتاب على ابن زياد قال :

الآن إذ علِقت مخالبُنا به

يرجو النجاة ولاتَ حينَ مناصِ

وكتب إلى عمر بن سعد : بسم الله الرحمن الرحيم ، أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك ، وفهمت ما ذكرت ، فأعرض على الحسين أن يبايع ليزيد بن معاوية هو وجميع أصحابه ، فإذا فعل ذلك رأَينا رأيَنا ، والسلام.

فلمّا أتى عمر بن سعد الكتاب قال : قد حسبت ألا يقبل ابن زياد العافية.

قال أبو مخنف : حدّثني سليمان بن أبي راشد ، عن حميد بن مسلم الأزدي قال : جاء من عبيد الله بن زياد كتاب إلى عمر بن سعد : أمّا بعد ، فَحُل بين الحسين وأصحابه وبين الماء ولا يذوقوا منه قطرة ، كما صنع بالتقي الزكي المظلوم أمير المؤمنين عثمان بن عفان.

١٨٢

فبعث عمر بن سعد عمرو بن الحجّاج على خمسمئة فارس ، فنزلوا على الشريعة وحالوا بين حسين وأصحابه وبين الماء أن يسقوا منه قطرة ، وذلك قبل قتل الحسين بثلاث. قال : ونازله عبد الله بن أبي حصين الأزدي وعِدادُه في بَجيلة ، فقال : يا حسين ألا تنظر إلى الماء كأنّه كبد السماء؟ والله لا تذوق منه قطرة حتّى تموت عطشاً. فقال الحسين عليه‌السلام : «اللّهمّ اقتله عطشاً ، ولا تغفر له أبداً».

قال حميد بن مسلم : والله ، لعُدْتُه بعد ذلك في مرضه ، فوالله الذي لا إله إلاّ هو لقد رأيتُه يشرب حتّى بَغَرَ ، ثمّ يقيء ثمّ يعود فيشرب حتّى يَبْغُرُ (١) فما يروى ، فما زال ذلك دأبه حتّى لفظ عصبه (٢) ، يعني نفسه.

قال حميد : ولمّا اشتدّ على الحسين وأصحابه العطش ، دعا العباس بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام أخاه ، فبعثه في ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً ، وبعث معهم بعشرين قربة ، فجاؤوا حتّى دنوا من الماء ليلاً ، واستقدم أمامهم باللواء نافع بن هلال الجملي ، فقال عمرو بن الحجّاج الزبيدي : مَنْ الرجل؟ فجئ ، فقال : ما جاء بك؟ قال : جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا (٣) عنه. قال : فاشرب هنيئاً. قال : لا والله لا أشرب منه قطرة وحسين عطشان ، ومَنْ ترى من أصحابه ، فطلعوا عليه. فقال : لا سبيل إلى سقي هؤلاء ؛ إنّما وُضِعنا بهذا المكان لنمنعهم الماء. فلمّا دنا منه أصحابه قال لرجاله : املؤوا قِرَبكم ، فشدَّ الرجَّالة فملؤوا قِرَبهم ، وثار إليهم عمرو بن الحجّاج وأصحابه ، فحمل عليهم العباس بن علي ونافع بن هلال فكفَوْهم ، ثمّ انصرفوا إلى رِحالهم ، وجاء أصحاب حسين بالقِرب فأدخلوها عليه.

قال أبو مخنف : حدّثني أبو جناب عن هانئ بن ثبيت الحضرمي وكان قد شهد قتل الحسين ، قال : بعث الحسين عليه‌السلام إلى عمر بن سعد عمرو بن قرظة بن كعب الأنصاري : «أن

__________________

(١) بَغَر الرجل يبغُر : إذا أكثر من شرب الماء ولم يرو لداء به.

(٢) في لسان العرب : لفظ عصبه أي ريقه.

(٣) يُقال : حلأه عن الماء أي طرده ومنعه منه.

١٨٣

الْقَني الليل بين عسكري وعسكرك». فخرج عمر بن سعد في نحو من عشرين فارساً ، وأقبل حسين في مثل ذلك ، فلمّا التقوا أمر حسين أصحابه أن يتنحوا عنه ، وأمر عمر بن سعد أصحابه بمثل ذلك.

قال : فانكشفنا عنهما بحيث لا نسمع أصواتهما ولا كلامهما ، فتكلّما فأطالا حتّى ذهب من الليل هزيع ، ثمّ انصرف كلّ واحد منهما إلى عسكره بأصحابه ، وتحدّث الناس فيما بينهما ظنّاً يظنونه أن حسيناً قال لعمر بن سعد : اخرج معي إلى يزيد بن معاوية وندع العسكرين. قال عمر : إذن تُهدم داري. قال : أنا أبنيها لك. قال : إذن تؤخذ ضياعي. قال : إذن أعطيك خيراً منها من مالي بالحجاز. قال : فتكره ذلك عمر. قال : فتحدّث الناس بذلك وشاع فيهم من غير أن يكونوا سمعوا من ذلك شيئاً ولا علموه.

قال أبو مخنف : وأمّا ما حدّثنا به المجالد بن سعيد ، والصقعب بن زهير الأزدي وغيرهما من المحدّثين فهو ما عليه جماعة المحدّثين ، قالوا : إنّه قال : اختاروا منّي خصالاً ثلاثاً ؛ إمّا أن أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه ، وإمّا أن أضع يدي في يد يزيد بن معاوية فيرى فيما بيني وبينه رأيه ، وإمّا أن تسيّروني إلى أي ثغر من ثغور المسلمين شئتم فأكون رجلاً من أهله ، لي ما لهم وعليّ ما عليهم.

قال أبو مخنف : فأمّا عبد الرحمن بن جندب فحدّثني :

«عن عقبة بن سمعان قال : صحبت حسيناً فخرجت معه من المدينة إلى مكّة ، ومن مكّة إلى العراق ، ولم أفارقه حتّى قُتل ، وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة ولا بمكة ولا في الطريق ولا بالعراق ولا في عسكر إلى يوم مقتله إلاّ وقد سمعتها. لا والله ، ما أعطاهم ما يتذاكر الناس وما يزعمون من أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية ، ولا أن يسيّروه إلى ثغر من ثغور المسلمين ، ولكنّه قال : دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة حتّى ننظر ما يصير أمر الناس».

١٨٤

الفصل الثالث : طرف من أخبار شهادة الحسين عليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه (رضوان الله عليهم)

شاء الله تعالى أن يحبس النصر عن الحسين عليه‌السلام ، وخُيِّر الحسين بين البيعة ليزيد أو القتال ، واختار القتال ، وآثر أن يخوض معركة غير متكافئة مع عُسلان الفلوات ، ذئاب الفرات ، وطلائع جيش بني اُميّة ، وهو جيش الكوفة الذي نجح زياد في تصفيته من كلّ متّهم بحبّ علي عليه‌السلام فضلاً عن تشيّعه ، ونجح معاوية في تربيته على البغض والحقد على علي وأهل بيته عليهم‌السلام ، ومحض المودّة والطاعة لمعاوية ويزيد. ويسقط الحسين عليه‌السلام قتيلاً بعد أن وفى أصحابه بما بايعوه عليه من القتال بين يده ، ووفى أهل بيته حين قُتِلوا بين يديه ، ويبدي بنو اُميّة وشيعتهم أبشع مستوى من الحقد والبغض لآل الرسول ، وفيما يلي طرف من أخبار هذه المعركة :

شمر يأخذ الأمان للعباس وإخوته :

روى الطبري عن أبي مخنف قال : نهض عمر بن سعد إلى الحسين عليه‌السلام عشية الخميس لتسع مضين من المحرّم ، وجاء شمر حتّى وقف على أصحاب الحسين ، فقال : أين بنو أختنا؟ فخرج إليه العباس وجعفر وعثمان بنو علي ، فقالوا له : ما لك وما تريد؟ قال : أنتم يا بني اُختي آمنون ، وكان قد أخذ لهم أماناً من ابن زياد.

فقال له الفتية : لعنك الله ولعن أمانك لئن كنت خالنا! أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟!

١٨٥

خيل الله تستعد لغزو الحسين عليه‌السلام :

قال : ثمّ إن عمر بن سعد نادى :

«يا خيل الله اركبي وأبشري»

فركب في الناس ، ثمّ زحف نحوهم بعد صلاة العصر.

فبعث إليهم الحسين عليه‌السلام أخاه العباس عليه‌السلام في نحو من عشرين فارساً ، فيهم زهير بن القين ، وحبيب ابن مظاهر ، وقال لهم العباس : ما بدا لكم ، وما تريدون؟ قالوا : جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو ننازلكم.

قال : فلا تعجلوا حتّى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم ، فانصرف العباس راجعاً إلى الحسين يخبره بالخبر ، ووقف أصحابه يخاطبون القوم.

فقال حبيب بن مظاهر لزهير بن القين : كلّم القوم إن شئت. وإن شئت كلّمتهم. فقال له زهير : أنت بدأت بهذا فكن أنت تكلّمهم.

فقال لهم حبيب بن مظاهر : أما والله لبئس القوم عند الله غداً قوم يقدمون عليه قد قتلوا ذرية نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وعترته وأهل بيته عليهم‌السلام ، وعبّاد أهل هذا المصر ، المجتهدين بالأسحار ، والذاكرين الله كثيراً.

فقال له عزرة بن قيس : إنّك لتزكّي نفسك ما استطعت.

فقال له زهير : يا عزرة ، إنّ الله قد زكّاها وهداها ، فاتق الله يا عزرة ؛ فإنّي لك من الناصحين. أنشدك الله يا عزرة أن تكون ممّن يعين الضلاّل على قتل النفوس الزكية.

قال : يا زهير ، ما كنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت ، إنّما كنت عثمانياً.

قال : أما والله قد جمع الطريق بيني وبينه ، ودعاني إلى نصرته ، وتذكّرت حديث سلمان الباهلي ، وذكرت بالحسين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومكانه منه ، فرأيت أن أنصره ، وأن أكون في حزبه ، وأن أجعل نفسي دون نفسه ؛ حفظاً لما ضيّعتم من حقّ الله وحقّ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

١٨٦

الحسين عليه‌السلام يطلب إمهاله ليلة العاشر من المحرّم :

وأقبل العباس بن علي عليه‌السلام حتّى انتهى إليهم فقال : يا هؤلاء ، إنّ أبا عبد الله يسألكم أن تنصرفوا هذه العشية حتّى ينظر في هذا الأمر ، فإذا أصبحنا التقينا إن شاء الله ؛ فإمّا رضيناه فأتينا بالأمر الذي تسألونه وتسومونه ، أو كرهنا فرددناه.

فلمّا أتاهم العباس بن علي عليه‌السلام بذلك ، قال عمر بن سعد : ما ترى يا شمر؟ قال : ما ترى أنت ، أنت الأمير والرأي رأيك. قال : قد أردت ألاّ أكون. ثمّ أقبل على الناس فقال : ماذا ترون؟

فقال عمرو بن الحجّاج بن سلمة الزبيدي : سبحان الله! والله لو كانوا من الديلم ثمّ سألوك هذه المنزلة لكان ينبغي لك أن تجيبهم إليها. وقال قيس بن الأشعث : أجبهم إلى ما سألوك ، فلعمري ليصبحنّك بالقتال غدوة. فقال : والله لو أعلم أن يفعلوا ما أخّرتهم العشية.

قال : وكان العباس بن علي عليه‌السلام حين أتى حسيناً بما عرض عليه عمر بن سعد قال :

ارجع إليهم ، فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة ، وتدفعهم عنّا العشية ؛ لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره ، فهو يعلم أنّي قد كنت أحبّ الصلاة له ، وتلاوة كتابه ، وكثرة الدعاء والاستغفار.

كلام الحسين عليه‌السلام مع أصحابه ليلة العاشر :

قال أبو مخنف : حدّثني الحارث بن حصيرة ، عن عبد الله بن شريك العامري (١) ، عن

__________________

(١) ‏قال الذهبي في ميزان الاعتدال ٢ / ٤٣٩ : عبد الله بن شريك العامري حدّث عن ابن عمر وجماعة ، وكان في أوائل أمره من أصحاب المختار ، ولكنّه تاب. وثّقه أحمد وابن معين وغيرهما ، وليّنه النسائي. وقال الجوزجاني : كذّاب. وقال ابن عيينة : جالسنا عبد الله بن شريك وهو ابن مئة سنة ، وكان ممّن جاء إلى ابن الحنفيّة ، عليهم أبو عبد الله الجدلي. الحميدى ، حدّثنا سفيان ، عن عبد الله بن شريك قال : قال

١٨٧

علي بن الحسين عليه‌السلام (١) قال : «جمع الحسين أصحابه بعدما رجع عمر بن سعد ، وذلك عند قرب المساء».

قال علي بن الحسين عليه‌السلام : «فدنوت منه لأسمع وأنا مريض ، فسمعت أبي وهو يقول لأصحابه : أثني على الله تبارك وتعالى أحسن الثناء ، وأحمده على السرّاء والضرّاء. اللّهمّ إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة ، وعلّمتنا القرآن ، وفقّهتنا في الدين ، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة ، ولم تجعلنا من المشركين. أمّا بعد ، فإنّي لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي جميعاً خيراً ، ألا وإنّي أظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً ، ألا وإنّي قد رأيت لكم ، فانطلقوا جميعاً في حلٍّ ليس عليكم منّي ذمام ؛ هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً ، ثمّ ليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي وتفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتّى يفرّج الله ؛ فإنّ القوم إنّما يطلبوني ، ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري.

فقال له إخوته وأبناؤه ، وبنو أخيه وابنا عبد الله بن جعفر : لِمَ نفعل؟! لنبقى بعدك! لا أرانا الله ذلك أبداً. بدأهم بهذا القول العباس بن علي.

وقام مسلم بن عوسجة الأسدي فقال : أنحن نخلِّي عنك ولمّا نعذر إلى الله في أداء حقّك؟! أما والله حتّى أكسر في صدورهم رمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولا أفارقك ، ولو لم يكن معي سلاح اُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتّى أموت معك.

وقال سعيد بن عبد الله الحنفي : والله لا نخليك حتّى يعلم الله أنا حفظنا غيبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيك. والله لو علمت أنّي اُقتل ثمّ اُحيا ثمّ اُحرق حياً ثمّ اُذرّ ، يُفعل ذلك بي سبعين

__________________

الحسين : «نُبعث نحن وشيعتنا كهاتين» ، وأشار بالسبابة والوسطى. وقال إبراهيم بن عرعرة ، عن سفيان : كان مختارياً ، وأن لا يحدّث عنه. قال : وكان عبد الرحمن بن مهدى قد ترك الحديث عنه.

(١) ‏ قال الطبري في ذيل المذيل : وشهد علي بن الحسين الأصغر وهو ابن ثلاث وعشرين سنة ، وكان مريضاً نائماً على فراش.

١٨٨

مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك ، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ، ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟!

وقال زهير بن القين : والله لوددت أنّي قُتلت ثمّ نُشرت ثمّ قتلت حتّى اُقتل كذا ألف قتلة وإنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك ، وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك.

وتكلّم جماعة من أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً في وجه واحد ، فقالوا : والله لا نفارقك ، ولكن أنفسنا لك الفداء ، نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا ، فإذا نحن قُتلنا كنّا وفينا وقضينا ما علينا».

قال أبو مخنف : عن عبد الله بن عاصم ، عن الضحاك بن عبد الله المشرقي قال : فلمّا أمسى الحسين عليه‌السلام وأصحابه قاموا الليل كلّه يصلّون ويستغفرون ، ويدعون ويتضرّعون.

قال أبو مخنف : فلمّا صلّى عمر بن سعد الغداة يوم السبت ، وقد بلغنا أيضاً أنّه كان يوم الجمعة (١) ، وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء ، خرج فيمَنْ معه من الناس.

سرور برير الهمداني بالشهادة :

قال أبو مخنف : أمر الحسين عليه‌السلام بفُسطاط فَضُرِب ، ثمّ أمر بِمِسك فَميثَ في جَفنة عظيمة أو صحفة ، قال : ثمّ دخل الحسين عليه‌السلام ذلك الفُسطاط فتطلى بالنورة. قال : وكان عبد الرحمن بن عبد ربّه (٢) وبرير بن خضير الهمداني على باب الفُسطاط تحتك مناكبهما

__________________

(١) ‏المشهور أنّ يوم العاشر سنة ٦١ كان يوم الجمعة ، ويؤيد روايات السبت ما ورد في كامل الزيارات عن صفوان ، عن يعقوب بن شعيب ، عن حسين بن أبي العلاء : ... وقُتل يوم السبت يوم عاشوراء. وما ورد في التهذيب ٤ / ٣٣٤ للطوسي ، عن الباقر عليه‌السلام قال : «يخرج القائم عليه‌السلام يوم السبت يوم عاشوراء ، اليوم الذي قُتل فيه الحسين عليه‌السلام».

(٢) عبد الرحمن بن عبد ربّه الأنصاري صحابي ، ذكره ابن عقدة في كتاب الموالاة فيمَنْ روى حديث «مَنْ كنت مولاه فعلى مولاه» ، وساق من طريق الأصبغ بن نباتة قال : لمّا نشد علي الناس في الرحبة مَنْ سمع

١٨٩

فازدحما أيّهما يطلي على أثره ، فجعل برير يهازل عبد الرحمن ، فقال له عبد الرحمن : دعنا فوالله ما هذه بساعة باطل. فقال له برير : والله ، لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل شاباً ولا كهلاً ، ولكن والله إنّي لمستبشر بما نحن لاقون ، والله إنّ بيننا وبين الحور العين إلاّ أن يميل هؤلاء علينا بأسيافهم ، ولوددت أنّهم قد مالوا علينا بأسيافهم.

تعبئة الحسين عليه‌السلام أصحابه :

قال : وعبّأ الحسين عليه‌السلام أصحابه وصلّى بهم صلاة الغداة ، وكان معه اثنان وثلاثون فارساً ، وأربعون راجلاً (١).

فجعل زهير بن القَين في ميمنة أصحابه.

وحبيب بن مظاهر في ميسرة أصحابه.

وأعطى رايته العباس بن علي أخاه.

وجعلوا البيوت في ظهورهم ، وأمر بحطب وقصب كان من وراء البيوت يحرق بالنار مخافة أن يأتوهم من ورائهم.

قال : وكان الحسين عليه‌السلام أُتي بقصب وحطب إلى مكان من ورائهم منخفض كأنّه ساقية ، فحفروه في ساعة من الليل ، فجعلوه كالخندق ، ثمّ ألقوا فيه ذلك الحطب والقصب ،

__________________

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول يوم غدير خم ما قال إلاّ قام ولا يقوم إلاّ مَنْ سمع ، فقام بضعة عشر رجلاً ، منهم : أبو أيوب ، وأبو زينب ، وعبد الرحمن بن عبد ربّه ، فقالوا : نشهد أنا سمعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «إنّ الله وليي وأنا ولي المؤمنين ، فمَنْ كنت مولاه فعلي مولاه». وفي سنده مَنْ لا يُعرف. الإصابة ٤ / ٣٢٨.

(١) وفي رواية عمار الدهني (الطبري ٤ / ٢٩٢) : أنّه عليه‌السلام كان معه خمسة وأربعين فارساً ، ومئة راجل قال المؤلِّف : هؤلاء الرجالة سواء كانوا أربعين أو مئة فهم الذين خرجوا من الكوفة بشِقِّ الأنفس خُفية أيام المهادنة ، وهذا قرينة أكيدة على أنّ خطّة مسلم عليه‌السلام مع أنصار الحسين عليه‌السلام بعد اعتقال هانئ بن عروة في الكوفة هي اللحاق بالحسين عليه‌السلام ، كلّ بحسب قدرته وتمكّنه ، ولم تكن خطّته أن يثور بأهل الكوفة ضدّ ابن زياد.

١٩٠

وقالوا : إذا عَدَوا علينا فقاتلونا ألقينا فيه النار كيلا نؤتى من ورائنا ، وقاتلنا القوم من وجه واحد. ففعلوا وكان لهم نافعاً.

تعبئة عمر بن سعد جيشه :

قال أبو مخنف : حدّثني فضيل بن خديج الكندي ، عن محمد بن بشر عن عمرو الحضرمي قال : لمّا خرج عمر بن سعد بالناس.

كان على ربع أهل المدينة يومئذ عبد الله بن زهير بن سليم الأزدي.

وعلى ربع مذحج وأسد عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي.

وعلى ربع ربيعة وكندة قيس بن الأشعث بن قيس.

وعلى ربع تميم وهمدان الحرّ بن يزيد الرياحي.

فشهد هؤلاء كلّهم مقتل الحسين عليه‌السلام إلاّ الحرّ بن يزيد ؛ فإنّه عدل إلى الحسين عليه‌السلام وقُتل معه.

وجعل عمر على ميمنته عمرو بن الحجّاج الزبيدي.

وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن.

وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسي.

وعلى الرجَّالة شَبَث بن رَبعي الرياحي.

وأعطى الراية دويداً (١) مولاه.

دعاء الحسين عليه‌السلام يوم العاشر :

قال أبو مخنف عن بعض أصحابه ، عن أبي خالد الكاهلي قال : لمّا أصبحت خيل الحسين عليه‌السلام رفع الحسين عليه‌السلام يديه فقال : «اللّهمّ أنت ثقتي في كلّ كرب ، ورجائي في كلّ شدّة ، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدّة. كم من همٍّ يضعف فيه الفؤاد ، وتقل فيه الحيلة

__________________

(١) ‏ دويد : تصغير داود.

١٩١

ويخذل فيه الصديق ، ويشمت فيه العدو ، أنزلته بك وشكوته إليك ؛ رغبة منّي إليك عمّنْ سواك ففرَّجته وكشفته ، فأنت ولي كلّ نعمة ، وصاحب كلّ حسنة ، ومنتهى كلّ رغبة».

خطاب الحسين عليه‌السلام يوم العاشر :

ثمّ اتّجه إلى القوم وخاطبهم : «أيّها الناس ، اسمعوا قولي ولا تعجلوني حتّى أعظكم بما لحقّ لكم عليَّ ، وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم ؛ فإن قبلتم عذري ، وصدّقتم قولي ، وأعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد ، ولم يكن لكم عليّ سبيل ، وإنْ لم تقبلوا منّي العذر ، ولم تعطوا النصف من أنفسكم ، فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة ثمّ اقضوا إليّ ولا تنظرون ، إنّ وليي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين ...».

وحمد الله وأثنى عليه ، وذكر الله بما هو أهله ، وصلى على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى ملائكته وأنبيائه ، فذكر من ذلك ما الله أعلم ، وما لا يحصى ذكره.

قال : فوالله ما سمعت متكلّماً قطّ قبله ولا بعده أبلغ في منطق منه.

ثمّ قال : «عباد الله ، اتقوا الله وكونوا من الدنيا على حذر ؛ فإنّ الدنيا لو بقيت لأحد وبقي عليها أحد كانت الأنبياء أحقّ بالبقاء ، وأولى بالرضا ، وأرضى بالقضاء ، غير أنّ الله تعالى خلق الدنيا للبلاء ، وخلق أهلها للفناء ؛ فجديدها بالٍ ، ونعيمها مضمحلّ ، وسرورها مكفهر ، والمنزل بلغة ، والدار قلعة ، فتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى ، واتقوا الله لعلكم تفلحون» (١).

ثمّ قال : «أمّا بعد ، فانسبوني فانظروا مَنْ أنا؟ ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟

ألست ابن بنت نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وآله وابن وصيه وابن عمّه ، وأوّل المؤمنين بالله ، والمصدق لرسوله بما جاء به من عند ربّه؟

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ٤١ / ٢١٨.

١٩٢

أوَ ليس حمزة سيد الشهداء عمّ أبي؟ أوَ ليس جعفر الشهيد الطيار ذو الجناحين عمّي؟

أوَ لم يبلغكم قول مستفيض فيكم أنّ رسول الله (صلى الله تعالى عليه وآله) قال لي ولأخي : هذان سيدا شباب أهل الجنة (١)؟ فإن صدقتموني بما أقول وهو الحقّ ، والله ما تعمّدت كذباً مذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله ، ويضرّ به مَنْ اختلقه ، وإن كذبتموني فإنّ فيكم مَنْ إن سألتموه عن ذلك أخبركم ؛ سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري ، أو أبا سعيد الخدري ، أو سهل بن سعد الساعدي ، أو زيد بن أرقم ، أو أنس بن مالك يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لي ولأخي ، أفما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟».

فقال له شمر بن ذى الجوشن : هو يعبد الله على حرف إن كان يدرى ما تقول.

فقال له حبيب بن مظاهر : والله إنّي لأَراك تعبد الله على سبعين حرفاً ، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدرى ما يقول ، قد طبع الله على قلبك. ثمّ قال لهم الحسين عليه‌السلام : «فإن كنتم في شك من هذا القول ، أفتشكّون أثراً ما أنّي ابن بنت نبيكم؟ فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري منكم ولا من غيركم ، أنا ابن بنت نبيّكم خاصة.

أخبروني ، أتطلبوني بقتيل منكم قتلته ، أو مال لكم استهلكته ، أو بقصاص من جراحة؟».

قال : فأخذوا لا يكلّمونه.

قال : فنادى : «يا شبث بن ربعي ، ويا حجّار بن أبجر ، ويا قيس بن الأشعث ، ويا يزيد بن الحارث ، ألم تكتبوا إليّ أن قد أينعت الثمار ، واخضرّ الجناب ، وطُمَّت الجِمام (٢) ، وإنّما تقدم على جندك لك مجند فأقبل؟».

__________________

(١) من المؤكد أنّ الحسين عليه‌السلام قد ذكر لهم حديث الغدير ، وحديث الثقلين ، وحديث الكساء ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «رحم الله مَنْ أحبّ حسيناً ، حسين منّي وأنا من حسين». ولكنّ أبا مخنف لم تكن سياسته في وضع كتابه أن يذكر ذلك ؛ مسايرة لهدف بني العباس.

(٢) طم الماء : علا وغمر. والجمام : جمع جمّة ، وهو المكان الذي يجتمع فيه الماء.

١٩٣

قالوا له : لم نفعل. فقال عليه‌السلام : «سبحان الله! بلى والله لقد فعلتم».

ثمّ قال : «أيّها الناس ، إذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض».

قال : فقال له قيس بن الأشعث : أوَ لا تنزل على حكم بني عمّك ، فإنّهم لن يروك إلاّ ما تحبّ ، ولن يصل إليك منهم مكروه.

فقال له الحسين : «أنت أخو أخيك ، أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ إقرار العبيد ، عباد الله إنّي عذت بربّي وربّكم أن ترجمون ، أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب» (١).

ثمّ قال : «لا والله ، لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد» (٢).

ثمّ التفت إلى العسكر قائلاً :

تبّا لكم أيتها الجماعة وترحاً ... تداعيتم إلينا كتداعي الفراش هلعاً وذلّة لطواغيت الأمّة ، وشذّاذ الأحزاب ، ونبذة الكتاب ، وغضبة الآثام ، وبقيّة الشيطان ، ومحرّفي الكلام ، ومطفئي السنن ... الذين جعلوا القرآن عضين. لبئس ما قدّمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون!

فهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون؟ ألا وإنّ (ابن الدعي) قد ركن (ركز) بين اثنتين ؛ بين المسألة والذلّة ، وهيهات منّا الدنية (الذلّة) ، يأبى الله (لنا) ذلك ورسوله والمؤمنون ، وحجور طابت (وطهرت) ... ، واُنوف حميّة ، ونفوس أبيّة أن تؤثر مصارع الكرام على ظئار اللئام» (٣).

ثم تمثّل :

فإن نَهزِم فهزّامون قدماً

وإن نُهزَم فغير مُهزّمينا

وما إن طبّنا جُبنٌ ولكن

منايانا وطعمة آخرينا (٤)

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣٢٢.

(٢) تاريخ ابن عساكر ١٤ / ٢١٩.

(٣) ظئار : اللئام إظهار حبّهم وعطفهم.

(٤) ‏يختلف نصّ الخطبة عند أبي مخنف عن نصّها عند ابن عساكر في تاريخ دمشق ١٤ / ٢١٩ ، وقد اخترنا من الخطبتين المقاطع التي نرى أنّها صحيحة.

١٩٤

ندم الحر وتوبته :

قال أبو مخنف : عن أبي جناب الكلبي ، عن عدي بن حرملة قال : ثمّ إنّ الحرّ بن يزيد لمّا زحف عمر بن سعد ، قال له : أصلحك الله ، مقاتل أنت هذا الرجل؟ قال : إي والله قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي.

قال : فأقبل حتّى وقف من الناس موقفاً ومعه رجل من قومه يُقال له قرّة بن قيس ، فقال : يا قرّة هل سقيت فرسك اليوم؟ قال : لا. قال : أما تريد أن تسقيه؟ قال : فظننت والله أنّه يريد أن يتنحّى فلا يشهد القتال ، وكره أن أراه حين يصنع ذلك فيخاف أن أرفعه عليه ، فقلت له : لم أسقه ، وأنا منطلق فساقيه. قال : فاعتزلت ذلك المكان الذي كان فيه. قال : فوالله لو أنّه أطلعني على الذي يريد لخرجت معه إلى الحسين عليه‌السلام.

قال : فأخذ يدنو من الحسين عليه‌السلام قليلاً قليلاً ، فقال له رجل من قومه يُقال له : (المهاجر) ابن أوس : ما تريد يابن يزيد؟ أتريد أن تحمل؟ فسكت ، وأخذه مثل العرواء ، فقال له : يابن يزيد ، والله إنّ أمرك لمريب ، والله ما رأيت منّك في موقف قطّ مثل شيء أراه الآن ، ولو قيل لي : مَنْ أشجع أهل الكوفة رجلاً؟ ما عدوتك ، فما هذا الذي أرى منك؟!

قال : إنّي والله اُخير نفسي بين الجنّة والنار ، ووالله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطِّعت وحُرِّقت. ثمّ ضرب فرسه فلحق بالحسين عليه‌السلام ، فقال له : جعلني الله فداك يابن رسول الله! أنا صاحبك الذي حبستُك عن الرجوع ، وسايرتُك في الطريق ، وجعجعتُ بك في هذا المكان. والله الذي لا إله إلاّ هو ، ما ظننت أن القوم يبلغون منك هذه المنزلة ، وإنّي قد جئتك تائباً ممّا كان منّي إلى ربّي ، ومواسياً لك بنفسي حتّى أموت بين يديك ، أفترى لي توبة؟

قال : «نعم ، إن تبت يتوب الله عليك ويغفر لك».

فاستقدم أمام أصحابه ثمّ قال : أيّها القوم ، بئسما خلفتم محمّداً في ذريته! ها هم أولاء قد صرعهم العطش ، حلأتموهم عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهود والمجوس والنصارى ، وتمرّغ فيه خنازير السواد وكلابه.

١٩٥

فحملت عليه رجّالة لهم ترميه بالنبل ، فأقبل حتّى وقف أمام الحسين عليه‌السلام.

الحسين عليه‌السلام يكره أن يبدأهم بقتال :

قال أبو مخنف : فحدّثني عبد الله بن عاصم ، قال : حدّثني الضحّاك المشرقي ، قال : لمّا أقبلوا نحونا فنظروا إلى النار تضطرم في الحطب والقصب الذي كنّا ألهبنا فيه النار من ورائنا لئلا يأتونا من خلفنا ، إذ أقبل إلينا منهم رجل يركض على فرس كامل الأداة ، فلم يكلّمنا حتّى مرّ على أبياتنا ، فنظر إلى أبياتنا فإذا هو لا يرى إلاّ حطباً تلتهب النار فيه ، فرجع راجعاً فنادى بأعلى صوته : يا حسين ، استعجلت النار في الدنيا قبل يوم القيامة. فقال الحسين عليه‌السلام : «مَنْ هذا؟ كأنّه شمر بن ذي الجوشن». فقالوا : نعم ، أصلحك الله هو هو. فقال : «يابن راعية المعزى! أنت أولى بها صليّاً». فقال له مسلم بن عوسجة : يابن رسول الله جعلت فداك ، ألا أرميه بسهم ؛ فإنّه قد أمكنني ، وليس يسقط منّي سهم ، فالفاسق من أعظم الجبّارين.

فقال له الحسين عليه‌السلام : «لا ترمه ؛ فإنّي أكره أن أبدأهم».

شهادة عبد الله بن عمير الكلبي :

قال أبو مخنف : خرج يسار مولى زياد بن أبي سفيان ، وسالم مولى عبيد الله بن زياد فقالا : مَنْ يبارز؟ ليخرج إلينا بعضكم.

قال : فوثب حبيب بن مظاهر وبرير بن خضير. فقال لهما الحسين عليه‌السلام : «اجلسا».

فقام عبد الله بن عمير الكلبي فقال : أبا عبد الله ، رحمك الله ، ائذن لي لأخرج إليهما.

فرأى الحسين رجلاً آدم طويلاً ، شديد الساعدين ، بعيد ما بين المنكبين ، فقال الحسين عليه‌السلام : «إنّي لأحسبه للأقران قتّالاً ، اخرج إن شئت». فخرج إليهما وقتلهما.

فأخذت أمّ وهب امرأته عموداً ثمّ أقبلت نحو زوجها تقول له : فداك أبي وأمّي! قاتل دون الطيبين ذرّيّة محمد. فأقبل إليها يردّها نحو النساء ، فأخذت تجاذب ثوبه.

١٩٦

ثمّ قالت : إنّي لن أدعك دون أن أموت معك. فناداها حسين عليه‌السلام فقال : «جزيتم من أهل بيت خيراً ، ارجعي رحمك الله إلى النساء فاجلسي معهنّ ؛ فإنّه ليس على النساء قتال». فانصرفت إليهنّ.

شهادة برير :

قال أبو مخنف : وحدّثني يوسف بن يزيد ، عن عفيف بن زهير بن أبي الأخنس ، وكان قد شهد مقتل الحسين عليه‌السلام قال : وخرج يزيد بن معقل من بني عميرة بن ربيعة ، وهو حليف لبني سليمة من عبد القيس فقال : يا برير بن خضير ، كيف ترى الله صنع بك؟ قال : صنع الله والله بي خيراً وصنع الله بك شرّاً.

قال : كذبت ، وقبل اليوم ما كنت كذّاباً. هل تذكر وأنا أماشيك في بني لوذان وأنت تقول : إنّ عثمان بن عفّان كان على نفسه مسرفاً ، وإنّ معاوية بن أبي سفيان ضالّ مضلّ ، وإنّ إمام الهدى والحقّ علي بن أبي طالب؟

فقال له برير : أشهد أنّ هذا رأيي وقولي. فقال له يزيد بن معقل : فإنّي أشهد أنّك من الضالين.

فقال له برير بن خضير : هل لك فلاُباهلك ، ولندعُ الله أن يلعن الكاذب ، وأن يقتل المبطل ، ثمّ اخرج فلاُبارزك؟

قال : فخرجا فرفعا أيديهما إلى الله يدعوانه أن يلعن الكاذب ، وأن يقتل المحقُّ المبطلَ ، ثمّ برز كلّ واحد منهما لصاحبه فاختلفا ضربتين ؛ فضرب يزيد بن معقل برير بن خضير ضربة خفيفة لم تضرّه شيئاً ، وضربه برير بن خضير ضربة قدّت المغفر وبلغت الدماغ ، فخرّ كأنّما هوى من حالق ، وإنّ سيف ابن خضير لثابت في رأسه ، فكأنّي أنظر إليه ينضنضه من رأسه ، وحمل عليه رضي بن منقذ العبدي واعتركا ووقعا على الأرض ، فجاء كعب بن جابر بن عمرو الأزدي وطعنه بالرمح حتّى وضعه في ظهره ، ثمّ أقبل عليه يضربه بسيفه حتّى قتله.

١٩٧

قال عفيف : كأنّي أنظر إلى العبدي الصريع قام ينفض التراب عن قبائه ويقول : أنعمت عليَّ يا أخا الأزد نعمة لن أنساها أبداً.

عمرو بن قرظة الأنصاري :

وخرج عمرو بن قرظة الأنصاري يُقاتل دون الحسين عليه‌السلام وهو يقول :

قد علمت كتيبةُ الأنصارِ

إنّي سأحمي حوزةَ الذمّارِ

ضربَ غلامٍ غيرَ نكسٍ شاري

دونَ حسينٍ مهجتي وداري

قال أبو مخنف عن ثابت بن هبيرة : فقُتل عمرو بن قرظة بن كعب ، وكان مع الحسين عليه‌السلام ، وكان علي أخوه مع عمر بن سعد ، فنادى علي بن قرظة : يا حسين ، يا كذّاب ابن الكذّاب ، أضللت أخي وغررته حتّى قتلته. قال عليه‌السلام : «إنّ الله لم يضلّ أخاك ، ولكنّه هدى أخاك وأضلّك». قال : قتلني الله إن لم أقتلك أو أموت دونك. فحمل عليه فاعترضه نافع بن هلال المرادي فطعنه فصرعه ، فحمله أصحابه فاستنقذوه ، فدووي بعد فبرأ.

شهادة مسلم بن عوسجة :

قال : ثمّ إنّ عمرو بن الحجّاج حمل على الحسين عليه‌السلام في ميمنة عمر بن سعد من نحو الفرات ، فاضطربوا ساعة ، فصرع مسلم بن عوسجة الأسدي أوّل أصحاب الحسين عليه‌السلام ، ثمّ انصرف عمرو بن الحجّاج وأصحابه وارتفعت الغبرة ، فإذا هم به صريع ، فمشى إليه الحسين عليه‌السلام فإذا به رمق ، فقال : رحمك ربّك يا مسلم بن عوسجة (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (١).

ودنا منه حبيب بن مظاهر فقال : عزَّ عليَّ مصرعك يا مسلم ، أبشر بالجنّة. فقال له مسلم قولاً ضعيفاً : بشّرك الله بخير.

__________________

(١) سورة الأحزاب / ٢٣.

١٩٨

فقال له حبيب : لولا أنّي أعلم أنّي في أثرك ، لاحق بك من ساعتي هذه لأحببت أن توصيني بكلّ ما أهمَّك ؛ حتّى أحفظك في كلّ ذلك بما أنت أهل له في القرابة والدين.

قال : بل أنا أوصيك بهذا رحمك الله ـ وأهوى بيده إلى الحسين عليه‌السلام ـ أن تموت دونه. قال : أفعل وربّ الكعبة.

شهادة عابس بن شبيب :

وجاء عابس بن أبي شبيب الشاكري ومعه شوذب مولى شاكر.

فقال : يا شوذب ، ما في نفسك أن تصنع؟

قال : ما أصنع؟ أقاتل معك دون ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى أُقتل.

قال : ذلك الظنّ بك أملاً ، فتقدّم بين يدي أبي عبد الله حتّى يحتسبك كما احتسب غيرك من أصحابه ، وحتى أحتسبك أنا ؛ فإنّه لو كان معي الساعة أحد أنا أولى به منّي بك لسرّني أن يتقدم بين يدي حتّى أحتسبه ، فإنّ هذا يوم ينبغي لنا أن نطلب الأجر فيه بكلّ ما قدرنا عليه ؛ فإنّه لا عمل بعد اليوم وإنّما هو الحساب.

قال : فتقدّم ، فسلّم على الحسين عليه‌السلام ثمّ مضى فقاتل حتّى قُتل.

ثمّ قال عابس بن أبي شبيب : يا أبا عبد الله ، أما والله ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد أعزّ عليَّ ولا أحبّ إليَّ منك ، ولو قدرت على أن أدفع عنك الضيم والقتل بشيء أعزّ عليّ من نفسي ودمي لفعلته. السلام عليك يا أبا عبد الله ، أشهد الله أنّي على هديك وهدي أبيك. ثمّ مشى بالسيف مصلتاً نحوهم وبه ضربه على جبينه.

قال أبو مخنف : حدّثني نمير بن وعلة ، عن رجل من بني عبد من همدان يُقال له : ربيع بن تميم (شهد ذلك اليوم) ، قال : لمّا رأيته مقبلاً عرفته ، وقد شاهدته في المغازي وكان أشجع الناس ، فقلت : أيّها الناس ، هذا الأسد الأسود ، هذا ابن أبي شبيب لا يخرجنّ إليه أحد منكم. فأخذ ينادي : ألا رجل لرجل؟ فقال عمر بن سعد : أرضخوه بالحجارة. قال : فرمي بالحجارة من كلّ جانب. فلمّا رأى ذلك ألقى درعه ومغفره ثمّ شدّ على الناس ، فوالله

١٩٩

لرأيته يطرد أكثر من مئتين من الناس ، ثمّ إنّهم تعطّفوا عليه من كلّ جانب فقُتل. قال : فرأيت رأسه في أيدي رجال ذوي عدّة. هذا يقول : أنا قتلته ، وهذا يقول : أنا قتلته ، فأتوا عمر بن سعد فقال : لا تختصموا ، هذا لم يقتله سنان واحد ، ففرق بينهم بهذا القول.

شهادة نافع :

قال هشام بن محمد ، عن أبي مخنف قال : حدّثني يحيى بن هانئ بن عروة أنّ نافع بن هلال كان يُقاتل يومئذ وهو يقول :

أنا الجملي أنا

على دين علي

قال : فخرج إليه رجل يُقال له : مزاحم بن حريث ، فقال : أنا على دين عثمان. فقال له : أنت على دين شيطان. ثمّ حمل عليه فقتله.

ثمّ حمل فقتل اثني عشر من أصحاب عمر بن سعد سوى مَنْ جرح ، ثمّ تكاثروا عليه وأخذوه أسيراً حتّى أتي به عمر بن سعد ، فقال له عمر بن سعد : ويحك يا نافع! ما حملك على ما صنعت بنفسك؟ قال : إنّ ربّي يعلم ما أردت. ثمّ قال له والدماء تسيل على لحيته : والله ، لقد قتلت منكم اثني عشر سوى مَنْ جرحت ، وما ألوم نفسي على الجهد ، ولو بقيت لي عضد وساعد ما أسرتموني.

قال له شمر : أقتله أصلحك الله. قال : أنت جئت به ، فإن شئت فاقتله. قال : فانتضى شمر سيفه ، فقال له نافع : أما والله ، أن لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقى الله بدمائنا ، فالحمد لله الذي جعل منايانا على يدي شرار خلقه. فقتله.

هجوم جيش ابن سعد على أصحاب الحسين عليه‌السلام :

ثمّ صاح عمرو بن الحجّاج بالناس : يا حمقى! أتدرون مَنْ تقاتلون؟ تقاتلون فرسان المصر ، قوماً مستميتين لا يبرزنّ لهم منكم أحد ؛ فإنّهم قليل وقلّما يبقون ، والله لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم. فقال عمر بن سعد : صدقت ، الرأي ما رأيت ، وأرسل إلى الناس

٢٠٠