الحسين عليه السلام في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام

السيّد سامي البدري

الحسين عليه السلام في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام

المؤلف:

السيّد سامي البدري


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: ياسين
الطبعة: ١
ISBN: 964-499-093-5
الصفحات: ٥٢٧

مبايعته هو وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر وابن عباس ، ثمّ مات عبد الرحمن ابن أبي بكر وهو مصمّم على ذلك ، فلمّا مات معاوية سنة ستين وبويع ليزيد بايع ابن عمر وابن عباس ، وصمّم على المخالفة الإمام الحسين عليه‌السلام وابن الزبير وخرجا فارين إلى مكّة فقاما بها. ونزل الحسين عليه‌السلام دار العباس (١) ، فعكف الناس على الحسين عليه‌السلام يفدون إليه ، ويقدمون عليه ويجلسون حواليه ، ويستمعون كلامه حين سمعوا بموت معاوية وخلافة يزيد. وأمّا ابن الزبير فإنّه لزم مصلاّه عند الكعبة ، وجعل يتردّد في غبون (٢) ذلك إلى الحسين عليه‌السلام في جملة الناس ، ولا يمكنه أن يتحرّك بشيء ممّا في نفسه مع وجود الحسين عليه‌السلام ؛ لما يعلم من تعظيم الناس له وتقديمهم إياه (٣).

وفي رواية الطبري عن أبي مخنف : فأقبل الحسين عليه‌السلام حتّى نزل مكّة ، فأقبل أهلها يختلفون إليه ويأتونه ، ومَنْ كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق.

أقول :

بقي الحسين عليه‌السلام في مكّة شهر شعبان ورمضان وشوال وذي القعدة وثمانية أيام من ذي الحجّة ، وممّا لا شك فيه أنّ الحسين عليه‌السلام في هذه الفترة ، وفي حلقاته مع المعتمرين وأهل الآفاق كان قد كسر الطوق الذي فرضه معاوية على الحديث النبوي الصحيح في علي وأهل بيته عليهم‌السلام ، أو في ذمّ بني اُميّة ، أو في بيان أحكام متعة الحجّ وغير ذلك. وبدأ يذكِّر الناس ، ويُسْمِع مَنْ لم يَسْمَع منهم أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في تفسير القرآن ، وفي فضل أبيه علي عليه‌السلام ، وفي فضله وفضل أخيه الحسن عليه‌السلام ، وفي ذمّ بني اُميّة ونزوهم على منبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي الموقف الصحيح عند ظهور الظلم والبدع وغير ذلك من قبيل :

__________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ١٦٢. أقول : هي دار هاشم وعبد المطلب ، وهي أشهر دار في مكّة ، تقع في قبال زمزم وباب البيت ، ثمّ سميّت بدار العباس في عهد العباسيِّين.

(٢) غبن الرجل يغبنه غبناً : مرّ به وهو مائل فلم يرَ ولم يفطن له (لسان العرب ـ مادة غبن).

(٣) البداية والنهاية ٨ / ١٥١.

١٦١

حديث الغدير (١).

وحديث الدار.

وحديث المنزلة.

وحديث الثقلين.

وحديث الكساء.

وحديث رؤيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والشجرة الملعونة في القرآن.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَنْ رأى سلطاناً جائراً ، مستحلاً لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يُغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله» (٢).

ثمّ يذكّرهم بجرائم بني اُميّة ومخالفاتهم لأحكام الله وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتعطيلهم الحدود ، وقتلهم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، كحجر بن عدي ، وعمرو بن الحمق ، ونفي الأخيار والنساء كصعصعة بن صوحان العبدي ، وآمنة بنت الشريد زوجة عمرو بن الحمق بعد أن كانت رهينة الحبس لحين يسلّم زوجها نفسه.

ومن ذلك قوله عليه‌السلام : «ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلوا حرام الله ، وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ مَنْ غَيَّر (٣)».

__________________

(١) روى ابن عساكر في ترجمة علي عليه‌السلام من تاريخه ، بسنده عن أحمد بن علي بن مهدي ، عن أبيه ، عن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام : «أنبأنا أبي ، عن أبيه جعفر الصادق ، حدّثني أبي ، عن أبيه علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن جدّه علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : مَنْ كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهمّ وال مَنْ والاه ، وعاد مَنْ عاداه ، وانصر مَنْ نصره ، واخذل مَنْ خذله».

(٢) تاريخ الطبري ٥ / ٤٠٣.

(٣) تاريخ الطبري ٥ / ٤٠٣.

١٦٢

وقوله : «ألا ترون إلى الحقّ لا يُعْملُ به ، وإلى الباطل لا يُتَناهى عنه ، لَيَرْغبَ المؤمن في لقاء الله ؛ فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة ، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً» (١).

وقوله : «إنّي أدعوكم إلى إحياء معالم الحقّ ، وإماتة البدع» (٢).

ثمّ يذكّرهم بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه : «حسين منّي وأنا من حسين ، أحبّ الله مَنْ أحبّ حسيناً» ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه وفي أخيه : «الحسن والحسين سبطان من الأسباط ، الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة».

ولا بدّ إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد ذكّرهم وأخبرهم بما أعلنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله منذ ولادة الحسين عليه‌السلام بأنّه يُقتل بأرض العراق ، فمَنْ أدركه فلينصره (٣).

وكان عليه‌السلام يقول : «وأيم الله ، لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتّى يقضوا فيَّ حاجتهم ، ووالله لَيَعْتَدُنَّ عليَّ كما اعتدت اليهود في السبت» (٤).

أقول : وذلك لمّا قتلوا يحيى عليه‌السلام ، وقد قال لعبد الله بن عمر : «أما علمت أنّ من هوان الدنيا على الله أن رأس يحيى بن زكريا اُهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل … فلم يعجّل عليهم بل أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر؟!». ثمّ قال له : «اتق الله يا أبا عبد الرحمن ، ولا تدعنّ نصرتي» (٥).

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر ١٤ / ٢١٧ عن الزبير بن بكار ، تاريخ الطبري ٥ / ٤٠٤.

(٢) الأخبار الطوال ـ للدينوري / ٣٢١.

(٣) انظر رواية أنس بن الحارث وغيره في ذخائر العقبى ـ لأحمد بن محمد الكبري المكي (ت ٦٩٤ هجرية) ، تحقيق أكرم البوشي ، طبع مكتبة الصحابة ـ جدّة / ١٤١٥ هجرية ، وفي مجمع الزوائد ٩ / ١٩ ، ومعجم الطبراني ٣ / ١٢٠. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «واهاً لفراخ آل محمد من خليفة مستخلف مترف ، يقتل خلفي وخلف الخلف!». وأحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في قتل الحسين عليه‌السلام في المصادر السنيّة والشيعيّة ، بل والكتابية كثيرة جدّاً.

(٤) تاريخ الطبري ٤ / ٢٨٩ طبعة الأعلمي ، تاريخ ابن الأثير ٤ ، الناقص من طبقات ابن سعد ١ / ٤٣٣ عن معاوية بن قرة ، تاريخ ابن عساكر ١٤ / ٢١٦ عن معاوية بن قرة.

(٥) فتوح ابن أعثم ٥ / ٤٢.

١٦٣

وممّا اُثر عنه عليه‌السلام قوله أيضاً : «كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء ، فيملأن منّي أكراشاً جوفاً ، وأجربة سغباً ، لا محيص عن يوم خطّ بالقلم ، رضا الله رضانا أهل البيت ، [نصبر على بلائه] ويوفّينا أجور الصابرين. لن تشذّ عن رسول الله لحمته ...» (١).

لقد كان الحسين عليه‌السلام يحدّث بهذا وأمثاله ، ويبصّر المسلمين ، ويستنهض به هممهم ، ويطلب نصرتهم ، ويذكّرهم بتكليفهم الشرعي سرّاً وعلانية في جو من الاستضعاف والخوف والإرهاب ، نظير ما عاشه جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مكّة يوم استضعفته قريش وعذّبت أصحابه ، فقُتل مَنْ قُتل ، وسُجن مَنْ سُجن ، وتشرّد مَنْ تشرّد.

وليس من شك أنّ هذه الحركة التبليغيّة العامّة من الحسين عليه‌السلام تقوم على أساس ما أمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من تبليغ حديثه إلى الناس ، وما أمر به الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله من إظهار العلم عند ظهور البدع ، وقد تخيَّر لها الحسين عليه‌السلام بتوفيق إلهي خاصّ ظرفها المناسب ، وهذا يعني في الوقت نفسه كما بيّنا أنّ السلطة الاُمويّة في الشام سوف لن تسكت على مثل هذه الحركة ، بل سيكون موقفها منها هو العمل على القضاء عليها ، وبكلّ وسيلة ممكنة ، وبأقسى ما يتصوّر من العقوبة ؛ لتكون نكالاً للآخرين وعبرة.

إنّ السلطة حين أرادت من الحسين عليه‌السلام أن يُبايع يعني إنّها أرادت منه أن يوافق على سياستها وضلالها وإضلالها للناس ، وهذا الأمر لا يقرُّه الدين للعالم القادر على التغيير ، والحسين عليه‌السلام لا ينافسه أحد ممّن هو في عصره في العلم بالشريعة والقدرة على التغيير ، وفي ضوء ذلك فليس من المترقّب من الحسين المطهّر الذي قال فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «حسين منّي وأنا من حسين» أن يُبايع ليزيد ويقرّه على سياسة تحريف الدين ، وإضلال الأمّة حتّى لو كلّفه ذلك دمه الزكي ، بل شعاره في ذلك «لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد» (٢). وهو في ذلك نظير جدّه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حين قال لعمّه أبي طالب : «ياعم ، والله لو وضعوا

__________________

(١) اللهوف ـ لابن طاووس / ٣٨.

(٢) فتوح ابن أعثم ٥ / ٢٣.

١٦٤

الشمس في يميني ، والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتّى يظهره الله ، أو أهلك دونه» (١). والقضية واحدة عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعند الحسين عليه‌السلام ، قريش أرادت من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يترك دعوة التوحيد ويقرّ عبادة الأصنام ، وبنو أميّة يريدون من الحسين عليه‌السلام أن يترك أحاديث جدّه في أهل بيته الذين عيّنهم بأمر الله تعالى حججاً على الناس وأئمّة هدى لتموت ، وتحلّ بدلها أحاديث كاذبة قيلت على لسانه في خلفاء بني اُميّة على أنّهم حجج الله وأئمّة الهدى ليتديَّن بها الناس على أنّها الحقّ.

الكوفة المستضعفة تستجيب للحسين عليه‌السلام :

وكما كان جدّ الحسين عليه‌السلام النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يعرض نفسه على القبائل في موسم الحجّ فلم يستجب له غير أهل المدينة وفازوا بنصرته ، وبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله معهم مصعباً ، فأوجد جوّاً عاماً في المدينة ، وجاء وجوههم وبايعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على النصرة والقتال ودعوه إلى المدينة ، ولمّا عرفت قريش بذلك صمّمت على قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله غيلة ، وأوحى الله تعالى له بذلك فترك مكّة ليلاً وسار أياماً ، وبعثت قريش خلفه أُناساً ليقتلوه ، ثمّ أدركه الطلب فالتجأ إلى غار ثور ، وبعث الله تعالى الحمامة والعنكبوت لتنسج على باب الغار ، وبذلك أنقذ الله تعالى نبيّه من قتل محتّم ، ووصل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أنصاره وقاتل بهم قريشاً حتّى نصره الله تعالى وبلّغ رسالته.

كذلك قيَّض الله تعالى للحسين عليه‌السلام بقايا وجوه شيعة أبيه من أهل الكوفة ، هؤلاء الذين كانوا عماد حركته التبليغيّة السرّية زمن معاوية ، وتحمّلوا القتل والسجن والتشريد من أجلها ، دعوه إلى بلدهم ، وبعث معهم ابن عمّه مسلم بن عقيل يتحرّك باسمه بين الناس سرّاً (٢) ، وأوجد جوّاً عاماً لنصرة الحسين عليه‌السلام ، ثمّ خرج إلى مكّة وجوه منهم يبايعون

__________________

(١) تاريخ الطبري ٢ / ٦٧.

(٢) قال ابن سعد (في الناقص من الطبقات ١ / ٤٥٨) : فقدم مسلم بن عقيل الكوفة مستخفياً ، وأتته الشيعة. وأكّد ذلك القاضي النعمان المغربي في كتابه (شرح الأخبار ٣ / ١٤٣) ، قال : وكان مسلم بن عقيل رحمه‌الله قد بايع له جماعة من أهل الكوفة في استتارهم.

١٦٥

الحسين عليه‌السلام عن إخوانهم ، ويرافقونه في هجرته إليهم ، أمثال : برير الهمداني (١) ، وعابس بن حبيب الشاكري الهمداني ، وشوذب مولى عابس ، وحجّاج بن مسروق الجعفي (٢) ، ويزيد بن مغفل المذحجي الجعفي ، والصحابي أنس بن الحارث (٣) وغيرهم ، وبقيت وجوه

__________________

(١) من بقايا أصحاب علي عليه‌السلام ، ومن شيوخ القراء في الكوفة ، له كتاب القضايا والأحكام ، يرويه عن علي وعن الحسن عليهما‌السلام ، وكتابه من الأصول المعتبرة ، سار من الكوفة إلى مكّة ، وجاء مع الحسين عليه‌السلام إلى كربلاء.

(٢) كان من أصحاب علي عليه‌السلام ، أقبل مع الحسين عليه‌السلام من مكّة إلى كربلاء.

(٣) قال ابن حجر في الإصابة : أنس بن الحارث بن نبيه ، قال بن منده : عداده في أهل الكوفة. وقال البخاري : أنس بن الحارث قُتل مع الحسين بن علي عليه‌السلام ، سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قاله محمد ، عن سعيد بن عبد الملك الحرّاني ، عن عطاء بن مسلم ، حدّثنا أشعث بن سحيم ، عن أبيه : سمعت أنس بن الحارث. ورواه البغوي وابن السكن وغيرهما من هذا الوجه ، ومتنه : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «إنّ ابني هذا (يعني الحسين عليه‌السلام يُقتل بأرض يُقال لها : كربلاء ، فمَنْ شهد ذلك منكم فلينصره». قال : فخرج أنس بن الحارث إلى كربلاء فقُتل بها مع الحسين عليه‌السلام. قال البخاري : يتكلّمون في سعيد ، يعني راويه. وقال البغوي : لا أعلم رواه غيره. وقال ابن السكن : ليس يروى إلاّ من هذا الوجه ، ولا يُعرف لأنس غيره. قال ابن حجر : وسيأتي ذكر أبيه الحارث بن نبيه في مكانه ، ووقع في التجريد للذهبي : لا صحبة له وحديثه مرسل. وقال المزي : له صحبة فوهم ، انتهى. ولا يخفى وجه الردّ عليه ممّا أسلفناه وكيف يكون حديثه مرسلاً وقد قال : سمعت ، وقد ذكره في الصحابة البغوي وابن السكن ، وابن شاهين والدغولي ، وابن زبر والباوردي ، وابن منده وأبو نعيم وغيرهم؟ قال البدري : تكلّموا في سعيد بسبب رواياته الأخرى. قال ابن حجر في لسان الميزان : سعيد بن عبد الملك بن واقد الحرّاني ، عن أبي المليح الرقي ، قال أبو حاتم : يتكلّمون فيه. روى أحاديث كذب ، أخبرنا بن علان كتابة أخبرنا أبو اليمان الكندي ، أنا أبو منصور الفزاز ، أنا الخطيب ، أنا أبو العلاء الواسطي ، أنا الدار قطني وعمر بن شاهين قالا : حدّثنا محمد بن مخلد ، ثنا الحسن بن موسى بن ناصح الرسغني ، ثنا سعيد بن عبد الملك الحرّاني ، ثنا الوليد بن مسلم ، عن أبي إسحاق الفزاري ، عن بن جريج ، عن عطاء ، عن بن عمر (رضي الله تعالى عنهما) قال : خرج رسول الله عليه‌السلام وبلال ، فقال : ناد في الناس أنّ الخليفة أبو بكر ، وأنّ الخليفة من بعده عمر ، ثمّ عثمان. ثمّ قال : يا بلال ، امضِ أبى الله إلاّ ذاك. فهذا موضوع ، والرسغني محلّه إن شاء الله الصدق ، انتهى. قال المؤلِّف : من المحتمل أنّ الوضع في هذه الرواية وأمثالها من إبراهيم بن محمد أبي إسحاق الفزاري ، كوفي. قالوا في ترجمته : ثقة ، وكان رجلاً صالحاً قائماً بالسنة. وقال في موضع آخر : إبراهيم بن محمد أبو إسحاق الفزاري ، كوفى ،

١٦٦

اُخرى مع مسلم بن عقيل التحقت بالحسين عليه‌السلام وهو في الطريق ، أو أيام المهادنة بينه وبين عمر بن سعد ، منهم : أبو الشعثاء يزيد بن زياد بن مهاصر البهدلي الكندي (١) ، وعمرو بن خالد الصيداوي (٢) ، وحبيب بن مظاهر الأسدي (٣) ، ومسلم بن عوسجة الأسدي ، وأبو ثمامة الصائدي (٤) ، ونافع بن هلال الجملي وغيرهم (٥).

__________________

نزل الثغر بالمصيصة وكان ثقة ، رجلاً صالحاً ، صاحب سنّة ، وهو الذي أدّب أهل الثغر ، وعلمهم السنّة ، وكان يأمرهم وينهاهم ، وإذا دخل الثغر رجل مبتدع أخرجه ، وكان كثير الحديث ، أمر سلطاناً يوماً ونهاه ، فضربه مئة سوط ، فغضب له الأوزاعي فتكلّم في أمره.

(١) خرج من الكوفة إلى الحسين عليه‌السلام فصادفه في الطريق قبل أن يلاقيه الحرّ.

(٢) خرج بعد قتل مسلم هو ومولاه سعد بن مجمع بن عبد الله وابنه عائذ ودليلهم الطرماح. قال ابن الأثير : لمّا رآهم الحرّ حجزهم. فقال له الحسين عليه‌السلام : «هؤلاء أصحابي ، ولأمنعنهم ممّا أمنع منه نفسي». فكفّ عنهم الحرّ.

(٣) قال ابن حجر في لسان الميزان : حبيب بن مظاهر الأسدي ، روى عن علي بن أبي طالب (رضي الله تعالى عنه) ، ذكره الطوسي في رجال الشيعة ، وقال أبو عمرو الكشي : كان من أصحاب علي ، ثمّ كان من أصحاب الحسن والحسين عليهم‌السلام ، وذكر له قصة مع ميثم التمّار. ويقال : أنّ حبيب بن مظاهر قُتل مع الحسين بن علي (رضي الله تعالى عنهم).

(٤) كان من أصحاب علي عليه‌السلام الذين شهدوا معه مشاهده كلّها ، وبعده صحب الحسن ، ثمّ بقي في الكوفة إلى أن هلك معاوية ، ثمّ بعد اجتمع مع مَنْ اجتمع من وجوه الشيعة في دار سليمان بن صرد ، خرج مع نافع بن هلال بعد قتل مسلم والتحق بالحسين عليه‌السلام.

(٥) ويذكر الطبري (٥ / ٣٥٤) عن أبي مخنف أنّه قال : قد بلغ ابن زياد إقبال الحسين ، فكتب إلى عامله بالبصرة أن يضع المناظر ، وقال : خرج يزيد بن نبيط ـ وهو من عبد القيس ـ إلى الحسين عليه‌السلام ، وكان له بنون عشرة ، فقال : أيكم يخرج معي؟ فانتدب معه ابنان له عبد الله وعبيد الله ، فتقدّى في الطريق حتّى انتهى إلى الحسين عليه‌السلام ، فدخل في رحله بالأبطح ، وبلغ الحسين عليه‌السلام مجيئه فجعل يطلبه ، وجاء الرجل إلى رحل الحسين عليه‌السلام فقيل له : قد خرج إلى منزلك. فأقبل في أثره ، ولمّا لم يجده الحسين عليه‌السلام جلس في رحله ينتظره ، وجاء البصري فوجده في رحله جالساً ، فقال : بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا. قال : فسلّم عليه وجلس إليه ، فخبّره بالذي جاء له ، فدعا له بخير ، ثمّ أقبل معه حتّى أتي فقاتل معه فقُتل معه هو وابناه. (تقدى في الطريق : أي لزم سنن الطريق جادته).

١٦٧

موقف السلطة الاُمويّة من حركة الحسين عليه‌السلام :

نُمي خبر حركة الحسين عليه‌السلام في مكّة إلى يزيد ، ودسَّ للحسين عليه‌السلام مَنْ يقتله فيها غيلة ، ووصل الخبر للحسين عليه‌السلام عن طريق شخص نظير مؤمن آل فرعون حين أوصل خبر عزم فرعون على قتل موسى إلى موسى ، وخرج الحسين عليه‌السلام في الثامن من ذي الحجة متوجّهاً إلى الكوفة.

روى ابن قولويه بسنده عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام ، قال : «قال عبد الله بن الزبير للحسين عليه‌السلام : ولو جئت (١) إلى مكّة فكنت بالحرم. فقال الحسين عليه‌السلام : لا نستحلّها ولا تُستحلّ بنا ، ولَئن اُُقتل على تل أعفر (٢) أحبّ إليَّ من أن اُُقتل بها». وعن أبي سعيد عقيصا (٣) قال : سمعت الحسين بن علي عليهما‌السلام يقول : «يقول لي ابن الزبير : كن حماماً من حمام الحرم ، ولئن اُقتل وبيني وبين الحرم باع أحبّ إليَّ من أن اُقتل وبيني وبينه شبرّ ، ولئن اُقتل بالطفّ أحبّ إليَّ من أن اُقتل بالحرم» (٤). وفي رواية القاضي أبي حنيفة النعمان : ثمّ قال عليه‌السلام : «والله ، لو كنت في حجر هامة لأخرجوني حتّى يقضوا فيَّ حاجتهم ، والله ليعتدوا فيَّ كما اعتدت اليهود في السبت» (٥).

وروى ابن قولويه بسنده عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «كتب الحسين بن علي من مكّة إلى محمد بن علي : بسم الله الرحمن الرحيم ، من الحسين بن علي إلى محمد بن

__________________

(١) ‏ الذي أحتمله جدّاً أنّه مصحفة عن رجعت أي لو رجعت إلى مكّة والتزمت الحرم لا تخرج منه.

(٢) ‏ الأعفر : الرمل الأحمر. (يشير إلى كربلاء) كما في الرواية التي بعدها.

(٣) ‏ عقيصا : أبو سعيد التيمي (التميمي) ، اسمه دينار ، يروي عن علي عليه‌السلام ، يعد في موالى بني تيم. ذكره ابن حبان في الثقات في عقيصا ، فقال صاحب الكرابيسى : روى عن علي وعمّار ، وعنه محمد بن جحادة. وقد أخرج له الحاكم في المستدرك وقال : ثقة مأمون. وقال أبو حاتم : هو لين ، وهو أحبّ إليّ من أصبغ بن نباتة. لسان الميزان ، ميزان الاعتدال.

(٤) ‏ كامل الزيارات ـ جعفر بن محمد بن قولويه / ١٥٠.

(٥) ‏ شرح الأخبار ـ للقاضي أبي حنيفة النعمان المغربي ٣ / ١٤ ، تحقيق السيد الجلالي ، طبعة مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم.

١٦٨

علي ومَنْ قبله من بني هاشم. أمّا بعد ، فإنّ مَنْ لحق بي استشهد ، ومَنْ لم يلحق بي لم يدرك الفتح ، والسّلام» (١).

قال أبو مخنف : حدّثني الحارث بن كعب الوالبي ، عن عقبة بن سمعان قال : لمّا خرج الحسين من مكّة اعترضته رسل عمرو بن سعيد بن العاص ، عليهم يحيى بن سعيد ، فقالوا له : انصرف أين تذهب؟ فأبى عليهم ومضى ، وتدافع الفريقان ، فاضطربوا بالسياط ، ثمّ إنّ الحسين وأصحابه امتنعوا منهم امتناعاً قوياً ، ومضى الحسين عليه‌السلام على وجهِِهِ ، فنادوه : يا حسين ، ألا تتقي الله؟! تخرج من الجماعة وتفرّق بين هذه الأمّة؟ فتأوَّل حسين قول الله عزّ وجلّ : (وإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِي‏ءٌ مِمَّا تَعْمَلُون َ) يونس / ٤١ (٢).

روى الطبري ، قال هشام ، عن عوانة بن الحكم ، عن لَبَطَة بن الفرزدق بن غالب ، عن أبيه قال : حججت بأمّي ، فأنا أسوق بعيرها حين دخلت الحرم في أيام الحجّ وذلك في سنة ستين إذ لقيت الحسين بن علي عليه‌السلام خارجاً من مكّة معه أسيافه وأتراسه (٣) ، فقلت : لمَنْ هذا القطار؟ فقيل : للحسين بن علي عليه‌السلام. فأتيته فقلت : بأبي واُمّي يابن رسول الله! ما أعجلك عن الحج؟ فقال : «لو لم أعجل لأُخذت» (٤).

__________________

(١) كامل الزيارات / ١٥٧.

(٢) ‏ قال أبو مخنف بعد هذه الرواية : ثمّ إنّ الحسين عليه‌السلام أقبل حتّى مرّ بالتنعيم ، فلقى بها عيراً قد أُقبل بها من اليمن بعث بها بحير بن ريسان الحميري إلى يزيد بن معاوية ، وكان عامله على اليمن ، وعلى العير الورس والحلل ينطلق بها إلى يزيد ، فأخذها الحسين عليه‌السلام ، فانطلق [بها ، ثمَّ] قال لأصحاب الإبل : «لا أكرهكم ، مَنْ أحبّ أن يمضي معنا إلى العراق أوفينا كراءه وأحسنّا صحبته ، ومَنْ أحبّ أن يفارقنا من مكاننا هذا أعطيناه من الكراء على قدر ما قطع من الأرض» ، قال : فمَنْ فارقه منهم حوسب فأوفى حقّه ، ومَنْ مضى منهم معه أعطاه كراءه وكساه. (تاريخ الطبري ٤ / ٢٩٠) أقول : يبعد جدّاً أن يتصرّف الحسين عليه‌السلام مثل هذا التصرّف.

(٣) ‏ حملة هذه الأسياف والأتراس هم بنو هاشم ، وممّن بايعه على النصرة من أصحابه لحمايته في الطريق.

(٤) تاريخ الطبري ٥ / ٣٨٦.

١٦٩

وروى البسوي كتاب ابن عباس إلى يزيد بعد قتل الحسين وواقعة الحرّة جاء فيه : ... فما أنس من الأشياء فلست بناسٍ اطِّرادَك حسيناً رحمه‌الله من حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى حرم الله تعالى (١) ، وتسييرَك إليه الرجال لتقتله في الحرم ، فما زلتَ بذلك وعلى ذلك حتّى أشخصته إلى العراق ، فخرج خائفاً يترقّب ، فتزلزلتْ به خيلُك عداوةً لله ولرسوله ولأهل بيته عليهم‌السلام الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً (٢).

وفي رواية اليعقوبي : فما زلتَ بذلك كذلك حتّى أخرجته من مكّة إلى أرض الكوفة ، تزأر به خيلك وجنودك زئير الأسد ؛ عداوةً منك لله ولرسوله ولأهل بيته عليهم‌السلام ، ثمّ كتبت إلى ابن مرجانة أن يستقبله بالخيل والأسنَّةِ والسيوف (٣).

قتل مسلم وهانئ :

لمّا بلغ يزيد حركة مسلم بن عقيل في الكوفة وضعف واليها النعمان بن بشير في مواجهة حركة الثورة فيها ، عزله عنها وضمّها إلى عبيد الله بن زياد والي البصرة ، وكلّفه بالبحث عن مسلم ومَنْ معه وسجنهم أو قتلهم.

وجاء ابن زياد إلى الكوفة وهو وارث خبرة أبيه وقسوته ودرايته ، واجتمع بالعرفاء والمناكب (٤) والشُّرْطة (٥) ، وشدَّدَ عليهم وهدَّدَهم ، ودَسَّ الرجال ليتعرَّفوا له خبر مسلم ،

__________________

(١) يفيد هذا النص أنّ الحسين عليه‌السلام لو كان قد بقي في المدينة لأخذته جلاوزة السلطة الاُمويّة هناك ، ويؤكّد ذلك ما رواه الطبري أنّ يزيد كتب إلى والى المدينة الوليد بن عتبة رسالة خاصة يقول له فيها : أمّا بعد ، فخذ حسيناً ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً ، ليست فيه رخصة حتّى يبايعوا والسلام.

(٢) المعرفة والتاريخ / ٥٣٢.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢٤٧.

(٤) جاء في لسان العرب لابن منظور مادة (نكب) : منكب القوم : رأس العرفاء على كذا وكذا ، عريفاً منكب ، ويُقال له : النكابة في قومه. والنكابة : كالعرافة والنقابة.

(٥) ‏ الشُّرْطة ، والشُّرَطة : سمّوا بذلك لأنّهم أُعدوا لذلك وأعدوا أنفسهم بعلامات ، وهم أوّل كتيبة تشهد الحرب وتتهيَّأ للموت ، ومنه شرطة الخميس : أي مقدّمة الجيش. لسان العرب.

١٧٠

وقطع الطريق إلى الحج (١) ، ثمّ سجن على التهمة والظن ما يزيد على عشرة آلاف (٢) ، وكان منهم المختار بن أبي عبيد الثقفي (٣) ، ثمّ استطاع أن يمسك بمسلم وهاني ويقتلهما (٤) ، ثمّ وضع المسالح (٥) على منافذ العراق المؤدّية إلى الكوفة ، وسرح بالكتائب لتستقبل ركب الحسين عليه‌السلام وأهل بيته الآتي من مكّة.

قال ابن سعد : وجمع ابن زياد المقاتلة وأمر لهم بالعطاء ، وأعطى الشُّرَط (٦).

قال الطبري : كتب ابن زياد بعد أن قتل مسلماً وهانئاً : أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله أنّ مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانئ بن عروة المرادي ، وإنّي جعلت عليهما العيون ودسست إليهما الرجال (٧) وكدتهما حتّى استخرجتهما ، وأمكن الله تعالى منهما ، فقدّمتهما فضربت أعناقهما ، وقد بعثت إليك [برأسيهما] مع هانئ بن أبي حية الهمداني ،

__________________

(١) لم تذكر لنا كتب المقاتل ولا كتب التاريخ حوادث التقاء بين الحجّاج من الكوفيين والبصريين وغيرهم من أهل العراق إلاّ ما جرى بين زهير بن القين مع الحسين عليه‌السلام ، ، وهو يفيد أنّ ابن زياد كان قد اتّخذ إجراء منع أهل الكوفة والبصرة من الحجّ وهو ما تقتضيه طبيعة الأشياء أيضاً.

(٢) قال الدكتور الخربوطلي في كتابه المختار ابن أبي عبيد الثقفي / ٧٤ : سجن ابن زياد اثني عشر ألفاً من الشيعة ، ولم يترك واحداً من زعمائهم طليقاً.

(٣) قال اليعقوبي : أقبل المختار في جماعة يريدون نصر الحسين عليه‌السلام فأخذه عبيد الله بن زياد فحبسه ، وضربه بالقضيب حتّى شتر عينه ، فكتب فيه عبد الله بن عمر إلى يزيد ، وكتب يزيد إلى عبيد الله فخلّى سبيله ونفاه ، فخرج المختار إلى الحجاز فكان مع ابن الزبير. تاريخ اليعقوبي ٢ / ٧ ، طبعة النجف.

(٤) ‏ لم نتطرق إلى قصة مسلم في الكوفة وشهادته ؛ لأنّها تحتاج إلى بحث تفصيلي خاص بها ، لعلنا نفرد لها كتاباً في مستقبل الأيام إن شاء الله تعالى.

(٥) ‏ جمع مسلحة ، وهم القوم على الثغور وعلى مفاصل الطرق الكبيرة يحفظونها. سمّوا مسلحة ؛ لأنّهم يحملون السلاح.

(٦) الطبقات لابن سعد ١ / ٤٦٢.

(٧) وذلك لأنّ حركة مسلم لم تكن حركة علنية بل كانت سرية ، روى الطبري ٥ / ٣٥٤ قال : ثمّ دعا مسلم بن عقيل فسرحه مع قيس بن مسهر الصيداوي ، وعمارة بن عبيد السلولي وعبد الرحمن بن عبد الله بن الكدن الأرحبي ، فأمره بتقوى الله وكتمان أمره واللطف ، فإن رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجّل إليه بذلك.

١٧١

والزبير بن الأروح التميمي ، وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة ، فليسألهما أمير المؤمنين عمّا أحبّ من أمر ؛ فإنّ عندهما علماً وصدقاً وفهماً وورعاً ، والسّلام (١).

قطع الطرق ومحاصرة الحسين عليه‌السلام :

قال الطبري : ولمّا بلغ عبيد الله إقبال الحسين عليه‌السلام من مكّة إلى الكوفة كتب إلى عامله بالبصرة أن يضع المناظر (٢) ويأخذ الطرق (٣).

قال ابن سعد : ووجَّه حصين بن تميم الطُّهَوي (٤) إلى القادسية ، وقال له : أقم بها ، فمَنْ أنكرته فخذه. وكان الحسين عليه‌السلام قد وجّه قيس بن مُسْهِر الأسدي إلى مسلم بن عقيل قبل أن يبلغه قتله ، فأخذه حصين فوجّه به إلى عبيد الله ، فقال له عبيد الله : قد قتل الله مسلماً ، فقم في الناس فاشتم الكذّاب ابن الكذّاب. فصعد قيس المنبر ، فقال : أيّها الناس ، إنّي تركت الحسين بالحاجِر (٥) ، وأنا رسوله إليكم ، وهو يستنصركم (٦). فأمر به عبيد الله فطرح من فوق القصر فمات (٧).

وروى البلاذري عن هلال بن يساف قال : أمر ابن زياد فأخذ ما بين واقِصة إلى طريق الشام إلى طريق البصرة (٨).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٣٨٠.

(٢) ‏المناظر : هي التلال والروابي في الأراضي المنبسطة لمراقبة الطرق.

(٣) تاريخ الطبري ٥ / ٣٥٣.

(٤) ‏صاحب شرطة عبيد الله بن زياد. وفي الإرشاد واللهوف : هو حصين بن نمير.

(٥) ‏الحاجِر (من بطن الرَّمَّة) : واد معروف لعالية نجد.

(٦) في الطبري عن أبي مخنف : أنّ قيساً قال : أيّها الناس ، إنّ هذا الحسين بن علي خير خلق الله ابن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنا رسوله إليكم ، وقد فارقته بالحاجر فأجيبوه ، ثمّ لعن عبيد الله بن زياد وأباه ، واستغفر لعلي بن أبي طالب.

(٧) الطبقات ١ / ٤٦٣ ، وفي رواية الطبري عن أبي مخنف : فأمر به عبيد الله فأُلقي من فوق القصر إلى الأرض ، فكُسرت عظامه وبقي به رمق ، فأتاه رجل يُقال له : عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه ، فلمّا عيب ذلك عليه قال : إنّما أردت أن أريحه.

(٨) أنساب الأشراف ـ تحقيق المحمودي ٣ / ١٧٣.

١٧٢

قال ابن سعد : وجعل الرجل والرجلان والثلاثة يتسللون إلى الحسين عليه‌السلام من الكوفة فبلغ ، ذلك عبيد الله فخرج وعسكر بالنخيلة ، واستعمل على الكوفة عمرو بن حريث ، وأخذ الناس بالخروج إلى النخيلة ، وضبط الجسر فلم يترك أحداً يجوزه (١).

وروى البلاذري أيضاً قال : ووضع ابن زياد المناظر (٢) على الكوفة ؛ لئلاّ يجوز أحد من العسكر مخافة لأن يلحق الحسين مغيثاً له ، ورتّب المسالح (٣) حولها ، وجعل على حرس الكوفة زحر بن قيس الجعفي (٤).

قال أبو مخنف : … ثمّ أقبل الحسين سيراً إلى الكوفة … حتّى كان بالماء فوق زرود. قال أبو مخنف : فحدّثني السدي عن رجل من بني فزارة قال : كنّا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكّة نساير الحسين عليه‌السلام ، فلم يكن شيء أبغض إلينا من أن نسايره في منزل ، فإذا سار الحسين عليه‌السلام تخلّف زهير بن القين ، وإذا نزل الحسين عليه‌السلام تقدّم زهير ، حتّى نزلنا يومئذ في منزل لم نجد بداً من أن ننازله فيه ، فنزل الحسين عليه‌السلام في جانب ونزلنا في جانب ، فبينا نحن جلوس نتغدى من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين عليه‌السلام حتّى سلّم ، ثمّ دخل ، فقال : يا زهير بن القين ، إنّ أبا عبد الله الحسين بن علي بعثني إليك لتأتيه. قال : فطرح كلّ إنسان ما في يده حتّى كأنّنا على رؤوسنا الطير.

__________________

(١) الطبقات ١ / ٤٦٦.

(٢) المناظر : أشراف الأرض لأنّه ينظر منها ، المنظرة المرقبة. (لسان العرب).

(٣) المسلحة : قوم في عدّة بموضع رصد قد وكّلوا به بإزاء ثغر واحد هم مسلحي ، والجمع المسالح. والمسلحة : كالثغر والمرقب. قال ابن شميل : مسلحة الجند : خطاطيف لهم بين أيديهم ينفضون لهم الطريق ، ويتجسسون خبر العدو ، ويعلمون علمهم لئلاّ يهجم عليهم ، ولا يدعون واحداً من العدو يدخل بلاد المسلمين ، وإن جاء جيش أنذروا المسلمين. المسلحة : القوم الذين يحفظون الثغور من العدو ، سمّوا مسلحة ؛ لأنّهم يكونون ذوي سلاح ، أو لأنّهم يسكنون المسلحة ، وهي كالثغر والمرقب يكون فيها أقوام يرقبون العدو لئلاّ يطرقهم على غفلة ، فإذا رأوه أعلموا أصحابهم ليتأهبوا له. (لسان العرب).

(٤) أنساب الأشراف ٣ / ١٧٨.

١٧٣

قال أبو مخنف : فحدّثتني دلهم بنت عمرو امرأة زهير بن القين قالت : فقلت له : أيبعث إليك ابن رسول الله ثمّ لا تأتيه؟! سبحان الله! لو أتيته فسمعت من كلامه ثمّ انصرفت. قالت : فأتاه زهير بن القين ، فما لبث أن جاء مستبشراً قد أسفر وجهه. قالت : فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه فقُدّم وحُمل إلى الحسين عليه‌السلام ، ثمّ قال لامرأته : أنت طالق ، الحقي بأهلك ؛ فإنّي لا أحبّ أن يصيبك من سببي إلاّ خير ، ثمّ قال لأصحابه : مَنْ أحبّ منكم أن يتبعني وإلاّ فإنّه آخر العهد ؛ إنّي سأحدّثكم حديثاً : غزونا بَلَنْجَر (١) ، ففتح الله علينا وأصبنا غنائم ، فقال لنا سلمان الباهلي (٢) : أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم؟! فقلنا : نعم. فقال لنا : إذا أدركتم شباب آل محمّد فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معهم منكم بما أصبتم من الغنائم. فأمّا أنا فإنّي أستودعكم الله. قال : ثمّ والله ما زال في أوّل القوم حتّى قُتل (٣).

قال أبو مخنف : وفي الثعلبية (٤) بلغه خبر قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ، ثمّ

__________________

(١) ‏قال الحموي : بلنجر (بفتحتين ، وسكون النون ، وجيم مفتوحة) : مدينة ببلاد الخزر خلف باب الأبواب. قالوا : فتحها عبد الرحمن بن ربيعة واستشهد ، ثمّ أخذ الراية أخوه سليمان بن ربيعة الذي رجع ببقية المسلمين على طريق جيلان.

(٢) الإصابة ـ ابن حجر ٣ / ١١٧ : سلمان بن ربيعة بن يزيد بن عمرو بن سهم بن ثعلبة الباهلي ، مختلف في صحبته. قال أبو حاتم : له صحبة ، يُكنى أبا عبد الله. وقال أبو عمر : ذكره العقيلي في الصحابة وهو عندي كما قال أبو حاتم. شهد فتوح الشام ثمّ سكن العراق ، وولي غزو أرمينية في زمن عثمان فاستشهد قبل الثلاثين أو بعدها (الإصابة ترجمة سلمان بين ربيعة). قال المؤلِّف : بلنجر : من أعمال أرمينية. قال البلاذري (في فتوح البلدان / ٢٤٠ ـ ٢٤١) : قُتل سلمان بن ربيعة الباهلي خلف نهر البلنجر في أربعة آلاف من المسلمين ، وكان مع سلمان ببلنجر قرضة بن كعب الأنصاري ، وهو جاء بنعيه إلى عثمان. والظاهر من رواية سيف أنّ استشهاده سنة ٣٣ هجرية. انظر الردّة والفتوح ـ لسيف بن عمر. قال المؤلِّف : وفي ضوء ذلك يتّضح أنّ رواية سلمان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «خير قتل شباب آل محمد في كربلاء» ، إنّما كان في النصف الثاني من عهد عثمان حين ضعفت سياسة المنع من نشر الحديث ، وتصدّي أبي ذر ونظرائه لإحياء أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في أهل بيته عليهم‌السلام.

(٣) تاريخ الطبري ٥ / ٣٩٧ سنة ٦٠.

(٤) ‏ الثعلبية : منزل من منازل مكّة كانت قرية فخربت ، وهي بعد زود وقبل زُبالة.

١٧٤

ارتحل الحسين عليه‌السلام حتّى انتهى إلى زُبالة وفيها سقط إليه (١) مقتل رسوله عبد الله بن بُقْطُر ، ثمّ سار حتّى مرّ ببطن العقبة فنزل بها ، ثمّ سار حتّى نزل شَراف (٢) ، فلمّا كان في السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا ، ثمّ ساروا منها حتّى التقى مع الحرّ بن يزيد التميمي اليربوعي في ألف فارس مع الحرّ ، وكان مجيء الحرّ بن يزيد ومسيره إلى الحسين عليه‌السلام من القادسية ؛ وذلك أنّ عبيد الله بن زياد لمّا بلغه إقبال الحسين بعث الحصين بن تميم التميمي ـ وكان على شرطه ـ فأمره أن ينزل القادسية ، وأن يضع المسالح فينظم ما بين القُطْقُطانة إلى خَفّان ، وقدّم الحرّ بن يزيد بين يديه في هذه الألف من القادسية فيستقبل حسيناً عليه‌السلام. وقال الحرّ للحسين عليه‌السلام : قد أُمرنا إذا نحن لقيناك ألاّ نفارقك حتّى نقدمك على عبيد الله بن زياد ، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا تدخلك الكوفة ولا تردّك إلى المدينة تكون بيني وبينك نصفاً ؛ حتّى أكتب إلى ابن زياد وتكتب أنت إلى يزيد بن معاوية إن أردت أن تكتب إليه ، أو إلى عبيد الله بن زياد إن شئت ، فلعل الله إلى ذاك أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلى بشيء من أمرك ، ثمّ إنّ الحسين عليه‌السلام سار في أصحابه والحرّ يسايره. قال أبو مخنف عن عُقْبَة بن أبي العَيْزار : إنّ الحسين عليه‌السلام خطب أصحابه وأصحاب الحرّ بالبَيْضَة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : «أيّها الناس ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : مَنْ رأى سلطاناً جائراً ، مستحلاً لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله. ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله ، وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ مَنْ غيَّر» (٣). وقال عليه‌السلام في ذي حُسُم : «إنّه قد نزل من الأمر ما قد ترون ، وإنّ الدنيا قد تغيّرت

__________________

(١) أي بلغه.

(٢) ‏ما بين واقصة والقرعاء.

(٣) اجتزأنا من الخطبة ما نراه صحيحاً منها وقد بيّنا تقييمنا لكتاب أبي مخنف وما نأخذه منه وما ندع.

١٧٥

وتنكّرت ، وأدبر معروفها ، واستمرت جدّاً ، فلم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل. ألا ترون أنَّ الحقّ لا يُعمل به ، وأنَّ الباطل لا يُتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقّاً ؛ فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة ولا الحياة مع الظالمين إلاّ برماً».

قال أبو مخنف : فقام زهير بن القين البجلي فقال لأصحابه : تكلّمون أم أتكلّم؟ قالوا : لا بل تكلّم. فحمد الله فأثنى عليه ، ثمّ قال : قد سمعنا هداك الله يابن رسول الله مقالتك ، والله لو كانت الدنيا لنا باقية ، وكنّا فيها مخلّدين إلاّ أنّ فراقها في نصرك ومواساتك لآثرنا الخروج معك على الإقامة فيها. قال : فدعا له الحسين عليه‌السلام ثمّ قال له خيراً.

وأقبل الحرّ يسايره وهو يقول له : يا حسين ، إنّي أذكّرك الله في نفسك ؛ فإنّي أشهد لئن قاتلت لتُقتلنّ ، ولئن قوتلت لتهلكنّ فيما أرى.

فقال له الحسين عليه‌السلام : «أفبالموت تخوفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟! ما أدري ما أقول لك ، ولكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه ولقيه وهو يريد نصرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال له : أين تذهب فإنّك مقتول؟ فقال :

سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى

إذا ما نوى حقّاً وجاهدَ مسلما

وآسى الرجالَ الصالحين بنفسه

وفارقَ مثبوراً يغشّ ويرغما

قال : فلمّا سمع ذلك منه الحرّ تنحّى عنه ، وكان يسير بأصحابه في ناحية ، وحسين في ناحية أخرى حتّى انتهوا إلى عُذيب الهِجّانات ، وكان بها هجائن (١) النعمان ترعى هنالك ، فإذا هم بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة على رواحلهم يجنبون فرساً (٢) لنافع بن هلال يُقال له : الكامل ، ومعهم دليلهم الطرماح بن عدي على فرسه.

قال : فلمّا انتهوا إلى الحسين عليه‌السلام أنشدوه هذه الأبيات ، فقال : «أما والله إنّي لأرجو أن يكون خيراً ما أراد الله بنا ، قُتلنا أم ظفرنا». قال : وأقبل إليهم الحرّ بن يزيد فقال : إنّ هؤلاء

__________________

(١) ‏ الهجائن : هي الابل البيض الكريمة.

(٢) ‏ اي يسيرون بجانبهم فرسا لنافع ليس عليه راكب.

١٧٦

النفر الذين من أهل الكوفة ليسوا ممّن أقبل معك ، وأنا حابسهم أو رادّهم. فقال له الحسين عليه‌السلام : «لأمنعنهم ممّا أمنع منه نفسي ؛ إنّما هؤلاء أنصاري وأعواني ، وقد كنت أعطيتني ألاّ تعرض لي بشيء حتّى يأتيك كتاب من ابن زياد».

فقال : أجل ، لكن لم يأتوا معك. قال : «هم أصحابي ، وهم بمنزلة مَنْ جاء معي ، فإن أتممت على ما كان بيني وبينك وإلاّ ناجزتك».

قال : فكفَّ عنهم الحرّ.

قال : ثم قال لهم الحسين عليه‌السلام : «أخبروني خبر الناس وراءكم؟».

فقال له مجمع بن عبد الله العائذي ، وهو أحد النفر الأربعة الذين جاؤوه : أمّا أشراف الناس فقد اُعظمت رشوتهم ، ومُلئت غرائرهم ، يُستمال ودّهم ، ويُستخلص به نصيحتهم ، فهم (ألب واحد عليك) (١).

قال : «أخبروني فهل لكم برسولي إليكم؟». قالوا : مَنْ هو؟ قال : «قيس بن مسهر الصيداوي». فقالوا : نعم ، أخذه الحصين بن تميم فبعث به إلى ابن زياد ، فأمره ابن زياد أن يلعنك ويلعن أباك ، فصلّى عليك وعلى أبيك ، ولعن ابن زياد وأباه ، ودعا إلى نصرتك ، وأخبرهم بقدومك ، فأمر به ابن زياد فأُلقي من طَمارِ القصر (٢).

فترقرقت عينا الحسين عليه‌السلام ولم يملك دمعه ، ثمّ قال : «فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً. اللّهمّ اجعل لنا ولهم الجنّة نُزُلاً ، واجمع بيننا وبينهم في مستقر من رحمتك ، ورغائب مذخور ثوابك».

قال أبو مخنف : حدّثني جميل بن مرثد من بني معن ، عن الطرماح بن عدي : أنّه دنا من

__________________

(١) ألب واحد عليك : أي مجتمعين عليك. أشراف الكوفة في عهد ابن زياد هم الوجوه الاجتماعية التي كانت ركائز النفاق على عهد علي عليه‌السلام ، ولم تستجب لهديه ؛ ومن ثَمّ اعتمدها زياد في تنفيذ مخطّط معاوية لتصفية التشيّع في الكوفة ، وهم رؤوس الجيش الذي حارب الحسين عليه‌السلام.

(٢) أي أعلى القصر.

١٧٧

الحسين عليه‌السلام فقال له : والله ، إنّي لأنظر فما أرى معك أحداً ، ولو لم يقاتلك إلاّ هؤلاء الذين أراهم ملازميك لكان كفي بهم ، وقد رأيت قبل خروجي من الكوفة إليك بيوم ظهر الكوفة وفيه من الناس ما لم ترَ عيناي في صعيد واحد جمعاً أكثر منه ، فسألت عنهم فقيل : اجتمعوا ليُعْرَضوا ثمّ يُسْرَحون إلى الحسين.

فأنشدك الله إن قدرت على ألاّ تقدم عليهم شبراً إلاّ فعلت ، فإن أردت أن تنزل بلداً يمنعك الله به حتّى ترى من رأيك ، ويستبين لك ما أنت صانع فسر حتّى اُنزلك مناع جبلنا الذي يُدعى أَجَأ ، امتنعنا والله به من ملوك غسّان وحمير ، ومن النعمان بن المنذر ، ومن الأسود والأحمر. والله إن دخل علينا ذلّ قط فأسير معك حتّى أنزلك القُرَيَّةَ ، ثمّ نبعث إلى الرجال ممّن بأجأ (١) وسلمى من طيء ، فوالله لا يأتي عليك عشرة أيام حتّى تأتيك طيء رجالاً وركباناً ، ثمّ أقم فينا ما بدا لك ؛ فإن هاجك هَيْج فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم ، والله لا يصلوا إليك أبداً وفيهم عين تَطْرِف.

فقال له : «جزاك الله وقومك خيراً ، إنّه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على الانصراف ، ولا ندري علامَ تنصرف بنا وبهم الاُمور في عاقبة».

قال أبو مخنف : ومضى الحسين عليه‌السلام حتّى انتهى إلى قصر بني مقاتل فنزل به.

قال أبو مخنف : حدّثني عبد الرحمن بن جندب ، عن عقبة بن سمعان قال : لمّا كان في آخر الليل أمر الحسين عليه‌السلام بالاستقاء من الماء ، ثمّ أمرنا بالرحيل ، ففعلنا. قال : فلمّا ارتحلنا من قصر بني مقاتل وسرنا ساعة خَفَق الحسين عليه‌السلام برأسه خفْقَة ثمّ انتبه وهو يقول : «إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، والحمد لله ربّ العالمين». قال : ففعل ذلك مرتين أو ثلاثاً.

فأقبل إليه ابنه علي بن الحسين عليه‌السلام على فرس له فقال : يا أبت جعلت فداك ، ممَّ حمدت الله واسترجعت؟!

__________________

(١) ممّن بأجأ : أي ممّن هم في طريقة واحدة ونهج واحد.

١٧٨

قال : «يا بني ، إنّي خفقت برأسي خفقة فعنَّ لي فارس على فرس فقال : القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم ، فعلمت أنّها أنفسنا نُعيت إلينا».

قال له : يا أبت ، لا أراك الله سوءاً ، ألسنا على الحقّ؟

قال : «بلى والذي إليه مرجع العباد».

قال : يا أبت ، إذاً لا نبالي نموت محقّين.

فقال له : «جزاك الله من ولد خير ما جزى ولداً عن والده».

قال أبو مخنف : فلمّا انتهوا إلى نينوى (المكان الذي نزل به الحسين عليه‌السلام) قال : فإذا راكب على نجيب له وعليه السلاح ، متنكب قوساً مقبل من الكوفة ، فدفع إلى الحرّ كتاباً من عبيد الله بن زياد ، فإذا فيه : أمّا بعد ، فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ، ويقدم عليك رسولي ، فلا تنزله إلاّ بالعَراء في غير حُصن وعلى غير ماء ، وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتّى يأتيني بإنفاذك أمري ، والسلام.

فلمّا قرأ الكتاب ، قال لهم الحرّ : هذا كتاب الأمير عبيد الله بن زياد يأمرني فيه أن أجعجع بكم في المكان الذي يأتيني فيه كتابه ، وهذا رسوله وقد أمره ألاّ يفارقني حتّى أنفذ رأيه وأمره.

وأخذ الحرّ بن يزيد القوم بالنزول في ذلك المكان على غير ماء ولا في قرية ، فقالوا : دعنا ننزل في هذه القرية (يعنون نِينَوى) (١) ، أو هذه القرية (يعنون الغاضرية) ، أو هذه الأخرى (يعنون شُفَيَّة).

فقال : لا والله ، ما أستطيع ذلك هذا رجل قد بُعث إلي عيناً. فقال له زهير بن القين : يابن رسول الله ، إنّ قتال هؤلاء أهون من قتال مَنْ يأتينا من بعدهم ، فلعمري! ليأتينا من بعد مَنْ ترى ما لا قبل لنا به.

__________________

(١) قال الحموي في معجم البلدان : نينوى بسواد الكوفة منها كربلاء التي قُتل بها الحسين عليه‌السلام ، قال المؤلِّف : ورد اسم نينوى لمدينة في جنوب العراق في الكتابات المسمارية المكتشفة في وادي الرافدين قبل نينوى الموصل بقرون.

١٧٩

فقال له الحسين عليه‌السلام : «ما كنت لأبدأَهم بالقتال».

وفي رواية ابن عساكر : وعدل الحسين إلى كربلاء (١). ثمّ نزل.

وذلك يوم الخميس ، وهو اليوم الثاني من المحرّم سنة إحدى وستّين (٢).

روى السيد ابن طاووس قال : قال الحسين عليه‌السلام لمّا نزل كربلاء : «انزلوا ، هاهنا محطّ رحالنا ، ومسفك دمائنا ، وهنا محلّ قبورنا ، بهذا حدّثني جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله». فنزلوا جميعاً (٣).

قال أبو مخنف : فلمّا كان من الغد قدم عليهم عمر بن سعد بن أبي وقاص من الكوفة في أربعة آلاف.

قال : وكان سبب خروج ابن سعد إلى الحسين عليه‌السلام ، أن عبيد الله بن زياد بعثه على

__________________

(١) ‏تاريخ ابن عساكر ترجمة الحسين عليه‌السلام.

(٢) هذا هو المشهور بين المؤرخين ، وفي الأخبار الطوال ـ للدينوري / ٢٥٣. قال : إنّ الحسين عليه‌السلام نزل كربلاء يوم الأربعاء غرّة شهر المحرّم سنة إحدى وستين.

(٣) اللهوف في قتلى الطفوف ـ السيد ابن طاووس الحسني / ٤٩. أقول : وقد تواترت الأخبار بذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، منها ما روي عن علي عليه‌السلام. قال ابن كثير : قال الإمام أحمد : حدّثنا محمد بن عبيد ، ثنا شراحيل بن مدرك ، عن عبد الله بن نجيى ، عن أبيه أنّه سار مع علي عليه‌السلام ، وكان صاحب مطهرته ، فلمّا جاؤوا نينوى وهو منطلق إلى صفين نادى علي : «صبراً أبا عبد الله ، صبراً أبا عبد الله بشط الفرات». قلت : وماذا تريد؟ قال : «دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم وعيناه تفيضان ، فقلت : ما أبكاك يا رسول الله؟! قال : بلى ، قام من عندي جبريل قبل ، فحدّثني أنّ الحسين يُقتل بشط الفرات». قال : «فقال : هل لك أن أشمّك من تربته؟». قال : «فمدّ يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها ، فلم أملك عيني أن فاضتا». قال ابن كثير : تفرّد به أحمد. البداية والنهاية ٨ / ٢١٧ ، مسند أحمد ١ / ٨٥ ، الآحاد والمثاني ١ / ٣٠٨. قال ابن كثير : وروى محمد بن سعد ، عن علي بن محمد ، عن يحيى بن زكريا ، عن رجل ، عن عامر الشعبي ، عن علي مثله. وروى نصر بن مزاحم في كتابه وقعة صفين / ١٤٢ ، عن سعيد بن حكيم العبسى ، عن الحسن بن كثير ، عن أبيه : أنّ علياً أتى كربلاء فوقف بها ، فقيل : يا أمير المؤمنين ، هذه كربلاء. قال : «ذات كرب وبلاء». ثمّ أومأ بيده إلى مكان فقال : «هاهنا موضع رحالهم ومناخ ركابهم». وأومأ بيده إلى موضع آخر فقال : «هاهنا مهراق دمائهم».

١٨٠