الحسين عليه السلام في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام

السيّد سامي البدري

الحسين عليه السلام في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام

المؤلف:

السيّد سامي البدري


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: ياسين
الطبعة: ١
ISBN: 964-499-093-5
الصفحات: ٥٢٧

الإجراء الرابع : قتل حجر وأصحابه بتلفيق التهم عليهم بأنّهم خلعوا معاوية ، وخرجوا على واليه في الكوفة.

الإجراء الخامس : تصفية الجيش في الكوفة من خلال عرض الناس على البراءة من علي ولعنه ، وقتل مَنْ يأبى ذلك ، وإسقاط اسم المتّهم بحبّ علي من ديوان العطاء ، واعتماد الحمراء والبخارية ليكونوا شرطة بدلاً من أهل القبائل.

الإجراء السادس : المنع من نشر أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في فضل علي وأهل بيته عليهم‌السلام ، وكلّ حديث فيه ذمّ لبني أميّة ، وحثّ الطامعين في الدنيا في الكذب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ووضع أحاديث تمدح بني أميّة وغيرهم وتطعن في علي وأهل بيته عليهم‌السلام ، وكذلك وضع أحاديث تنزل من شخصية الرسول لتجعله بمستوى الإنسان الذي تصدر منه الأخطاء الفاضحة.

الإجراء السابع : إطلاق صفة خليفة الله (الخاصة بالمعصومين من الأنبياء وأوصيائهم) على الحاكم الأموي ، ووضع الأحاديث الكاذبة في السكوت على الظلم والجور ، وتحريف الوصية الخاصة بالأوصياء واستبدالها بولاية العهد ، وإلغاء دور الكتاب والسنّة في تشخيص مَنْ له حقّ الحكم ، ومصادرة دور الأمّة في ممارسة البيعة لمَنْ نصّ عليه الكتاب والسنّة.

الإجراء الثامن : تولية العهد لولده يزيد المعروف بفسقه وفجوره ، وأخذ البيعة من الأمّة له قهراً.

ردّ فعل الاُمّة إزاء غدر معاوية :

حكم معاوية عشرين سنة ، كانت السنوات العشر الأولى منها في ظلّ حياة الحسن عليه‌السلام ، وكان معاوية فيها مجبوراً على العودة بأهل الشام إلى جسم الأمّة والتقيّد بالشروط التي اشترطها للحسن عليه‌السلام ، وبسبب ذلك لم يروِّع معاوية أي شيعي في هذه السنوات العشر بل كان يكرم وجوه الشيعة ، ويتحمّل صراحتهم ويظهر التودّد والترحّم

١٤١

على علي عليه‌السلام في المجالس العامّة كما في قصة ضرار وغيره ، وليس من شكٍّ أنّه كان يستبطن غير ذلك (١).

وكانت السنوات العشر الثانية بعد وفاة الحسن عليه‌السلام ، سنوات نقض الشروط ، وتعطيل الحدود ، وقتل الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، وقد تدرج معاوية بخطّة مدروسة نَفَّذَ مقدّماتها في السنوات العشر الأولى التي كانت تستهدف تثبيت دعائم السلطة وملاحقة الخوارج ، وتعبئة الجو العام باتّجاه الفتوح.

كان الناس على أصناف أربعة إزاء إعلان السبّ لعلي عليه‌السلام ؛ بوصفه رأس الحربة في الانقلاب :

الصنف الأوّل : الخوارج ، وهؤلاء كانوا مسرورين من ذلك ؛ لأنّهم ممّن يعلن البراءة من علي عليه‌السلام أيضاً ، إلاّ إنّهم يرون معاوية امتداداً لعثمان الذي يتبرؤون منه كما يتبرؤون من علي بل يرون مواصلة الخروج على معاوية ، وقد توالى خروجهم عليه منذ بداية الصلح ولم ينقطع.

الصنف الثاني : قريش وأنصارها ، ويتوزّع قريشاً محوران هما :

١ ـ بنو اُميّة وكلّهم موتور من علي عليه‌السلام ، مبغض له.

٢ ـ عبد الله بن الزبير وشيعته ، وهو معروف ببغضه علياً عليه‌السلام ، وقد تناول علياً وتنقّصه في فترة حكمه للحجاز.

الصنف الثالث : الحسين عليه‌السلام وبنو هاشم ومركزهم المدينة ، وشيعة علي الذين تربّوا على يديه ، أمثال حجر وعمرو بن الحمق وحبيب بن مظاهر وغيرهم ، ومركزهم الكوفة ، وهذا الصنف يدرك تخطيط معاوية بعمق ، ويعمل على إحباطه بحكمة ، ويقدّم من أجل ذلك أغلى التضحيات.

__________________

(١) وقد فصّلنا ذلك في كتابنا (صلح الإمام الحسن عليه‌السلام قراءة جديدة).

١٤٢

الصنف الرابع : مَنْ عرف فضل علي عليه‌السلام ووجوب محبته وحرمة بغضه من خلال أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله التي انتشرت ، ولكنّه لم يكن راسخاً في موالاته. وأكثر هذا الصنف من عامّة الناس ورعاعهم ، وأغلبهم يتأثر بالجو العام ، وينعق مع الناعق المتسلط فيه ، وبشكل عام فإنّ أفاضل هذا الصنف من الصحابة والتابعين لم يكونوا يفطنون إلى الأبعاد الكاملة لخطّة معاوية ، وظنّوا أنّ إعلان السبّ لعلي هو فورة سرعان ما تهدأ.

الحسين عليه‌السلام بين موقفين :

كان أمام الحسين عليه‌السلام أحد موقفين إزاء معاوية :

الموقف الأوّل :

أن يتعامل مع معاوية في ضوء معرفته الخاصّة ، ومعرفة خُلَّص أصحابه بتخطيط معاوية ونواياه ، وبخاصّة بعد أن دسّ السمّ للحسن عليه‌السلام ، فيبادر إلى الكوفة مركز شيعة أبيه ويعلن عن تمرّد عسكري ، ثمّ يخوض معركة الجهاد ضدّ معاوية ، وكان هذا الموقف قد عرضه وجوه أصحاب أبيه وأخيه الحسن عليه‌السلام بعد وفاته.

والذي لا شك فيه أنّ هذا الموقف سابق لأوانه وتواجهه مشكلات كثيرة ، بسبب عدم وضوح مبرّر هذا الفعل لدى الأمّة ككل ، وقدرة معاوية على احتوائه ؛ سواء انتهى بقتل الحسين عليه‌السلام ، أو انتهى بانتصاره المحدود وتأسيسه دولة في الكوفة ؛ وذلك لأنّه في حالة انتهائه بالقتل سيكون مشابهاً لخرجات الخوارج التي تكرّرت في السنوات العشر الأولى (خاصّة من حكم معاوية) ، وانتهت بقتل قادتها ، ويستطيع معاوية هنا معالجة كون المقتول هو الحسين عليه‌السلام حفيد النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بوضع أحاديث كذب تبرّر لمعاوية قتله.

أمّا إذا انتهى بالانتصار المحدود فإنّ هذا الانتصار له حالتان معقولتان :

الأولى : انتصار يملك مقوّمات استمرار دولة الكوفة إلى جنب دولة الشام ، وهذا سوف يعيد للواقع الخطر الذي دفعه الحسن عليه‌السلام بصلحه ، وهو خطر انشقاق الأمّة إلى أمّتين ودولتين ، ثمّ

١٤٣

إلى قبلتين وكتابين ، ولا يترقّب من الحسين عليه‌السلام أن يرضى بذلك ، شأنه شأن أخيه الحسن عليه‌السلام (١).

الثانية : انتصار مؤقت ينتهي بقتل الحسين عليه‌السلام على يد معاوية كما قتل ابن الزبير على يد عبد الملك بعد سبع سنوات من حكمه ، وهذا القتل تؤكّده الأخبار الغيبية الواردة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وخلاصة القول في الموقف الأوّل : أنّه إمّا أن ينتهي إلى عودة انشقاق الأمّة وما يستلزمه من اختلاف القبلة والكتاب ، أو ينتهي بقتل الحسين عليه‌السلام مع قدرة معاوية على تشويه حركة الحسين عليه‌السلام ، وخلط أوراقها يساعده على ذلك الجو العام الذي صنعه معاوية لإحياء حركة الفتوح والغزو وتعبئة الأمّة بشكل عام إزاءه هذا ، مع عدم ظهور كلّ نوايا معاوية العدوانية وأضغانه وموبقاته.

الموقف الثاني :

أن يؤجّل الحسين عليه‌السلام قيامه وتصدّيه إلى ما بعد وفاة معاوية ، ويكتفي بقيام وجوه شيعة أبيه كحجر بن عدي وعمرو بن الحمق وأصحابهما بالإنكار اللساني ، ثمّ ممارسة التبليغ الفكري سرّاً ، وهذا الموقف هو الذي اختاره الحسين عليه‌السلام وأمر به غالبية أصحابه حين قال لهم : «كونوا أحلاس بيوتكم» (٢). وبعبارة اُخرى : فإنّ هذا الموقف يتكوّن من مرحلتين :

الاُولى : تسجيل الإنكار اللساني من قبل الوجوه كحجر وأمثاله ، ومواصلة التبليغ الفكري سرّاً.

الثانية : المواجهة الفكرية والسياسية المعلنة من الحسين عليه‌السلام بعد وفاة معاوية ، وطلب النصرة من المسلمين لحمايته حتى يواصل تبليغه والإطاحة بسلطة بني أميّة كما صنع جده النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع قريش.

__________________

(١) وقد تناولنا الحديث مفصلاً عن هذا الاحتمال في بحثنا عن صلح الحسن عليه‌السلام.

(٢) كونوا أحلاس بيوتكم : أي الزموها ولا تبرحوها.

١٤٤

وليس من شك أنّ الموقف الثاني هذا سوف يجنّب الحسين عليه‌السلام المشكلات التي يثيرها له الموقف الأوّل ، ويفتح أمامه عطاءات وآثار مهمّة للقيام والنهوض غير قابلة للاحتواء ؛ سواء انتهت حركته بشهادته ، أو انتهت بالنصر المؤزر.

وذلك لاتّضاح مبرّرات قيام الحسين عليه‌السلام ، وأنّ قيامه ليس من أجل الملك بل من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتبليغ حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أهل بيته الذي مُحي من الساحة العامّة في المجتمع وحلّ محلّه الكذب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتحرير الإسلام والأمّة من أخطر عدوّ أخبر عنه الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وسيأتي كيف أنّ الله تعالى جعل البركة والعطاء العظيم في هذه الشهور الخمسة من حركة الحسين عليه‌السلام التبليغية العامّة التي انتهت بشهادته.

وفيما يلي الحديث عن هذه الخطّة وآثارها.

١٤٥

خطّة الحسين عليه‌السلام في التغيير :

ليس من شك أنّ خروج الحسين عليه‌السلام وثورته وقيامه لا يشبه خروج طلحة والزبير ؛ لأنّه لم يرتبط بعهد بيعة ثمّ نقضه ، ولا تشبه خروج وثورة الخوارج ؛ لأنّه لا يكفّر المسلمين ، ولا يبادئ أهل القبلة بقتال كما كان يصنعون ، وإنّما الذي تبنّاه من نشاطات وأهداف هو الاُمور التالية :

١ ـ العمل السرّي بين الأمّة لنشر الأحاديث الصحيحة التي عمل النظام الأموي على طمسها وإماتتها في المجتمع ، وكان آخر نشاط في هذا الصدد هو المؤتمر السرّي الذي عقده في موسم الحجّ قبل موت معاوية بسنة ، وسيأتي الحديث عنه.

٢ ـ كسر الطوق الاجتماعي والسياسي المفروض على الأحاديث النبويّة الصحيحة بالمبادرة إلى التحديث بها علناً من قبل الحسين عليه‌السلام بعد موت معاوية ؛ لإسماع مَنْ لم يسمعها ، وتذكير مَنْ كان قد سمعها ثمّ تناساها صاحبها خشية أن تناله أعظم العقوبة بسببها. وهذا الهدف يناسبه أن يمارسه الحسين عليه‌السلام في بقعة يتواجد فيها المسلمون من كلّ الأطراف ، وليس مثل مكة بلد في هذه الصفة ؛ إذ هي قبلة المسلمين جميعاً ، ومهوى أفئدتهم في موسم العمرة والحج.

٣ ـ إفهام المسلمين جميعاً أنّ السلطة الأموية مصمّمة على قتله ؛ لأنّه مصمّم على عدم الاستجابة لسياستها في كتمان الحقّ بل مصمّم على توعية الأمّة بأحاديث جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه وفي أبيه عليه‌السلام ، وفي بني أميّة وفي أحكام الإسلام التي غيّروها ، ثمّ يعرض عليهم أن يحموه وتُحمى عملية التبليغ عن جدّه. وليس من شك أنّ أفضل مكان يستطيع الحسين عليه‌السلام فيه أن يلتقي بأخيار المسلمين من كلّ الأقطار هو مكّة ، وبخاصة في موسم العمرة والحج.

٤ ـ أن تتوفّر له حماية أولية تسمح له أن يمارس في ظلّها حركته التبليغية المعلنة في مرحلتها الأولى ريثما يحصل على أنصار في بلد يتبنّى نصرته وحمايته. وقد تمثّلت هذه

١٤٦

الحماية ببني هاشم ؛ (حيث هم للحسين عليه‌السلام في هذه المرحلة كما كان آباؤهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبل).

٥ ـ أن يهاجر إلى بلد النصرة والحماية ؛ ليقوم بتوعية أهله بأحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الصحيحة وإقامة العدل فيهم ، ثمّ جهاد السلطة الأموية وتطويق سياستها الضالّة الظالمة ومن ثمّ الإطاحة بها. وقد تمثّل هذا البلد بالكوفة ، حيث وجد فيها أنصار للحسين عليه‌السلام قادرون على حمايته ويقاتلون دونه ، كما وجد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبل أنصار في المدينة حموه وقاتلوا دونه.

٦ ـ باعتبار الأخبار الإلهية بواسطة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ الحسين عليه‌السلام سوف يستشهد في خروجه ذاك ، وهو أمر معروف عند الأمّة ، وقد أخبر به الحسين عليه‌السلام في مواطن عدّة ، فهو عليه‌السلام لا بدّ أن يُطلع خواص أصحابه على خطّته ، ويعهد إلى بعضهم بمواصلة تنفيذ ما بقي منها. وسيأتي الحديث عن هذا الجزء.

نشاط الحسين عليه‌السلام زمن معاوية :

من المؤسف أنّنا لا نملك معلومات كثيرة عن نشاط الحسين عليه‌السلام في هذه المرحلة ، ولعل مردّ ذلك إلى السرّية التامّة التي طبعت أغلب نشاطاته فيها ، إلاّ إنّ المحفوظ منها على قلّته كاف في تسليط الضوء على طبيعة موقف الحسين عليه‌السلام ونشاطه في هذه المرحلة.

روى البلاذري قال :

لمّا توفي الحسن بن علي عليه‌السلام اجتمعت الشيعة ومعهم بنو جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي ـ واُمّ جعدة هي اُمّ هانئ بنت أبي طالب ـ في دار سليمان بن صرد ، فكتبوا للحسين كتاباً بالتعزية ، وقالوا في كتابهم : إنّ الله قد جعل فيك أعظم الخلف ممّن مضى ، ونحن شيعتك المصابة بمصيبتك ، المحزونة بحزنك ، المسرورة بسرورك ، المنتظرة لأمرك.

وكتب إليه بنو جعدة يخبرونه بحسن حال رأي أهل الكوفة فيه ، وحبّهم لقدومه ، وتطلّعهم إليه ، وأن قد لقوا من أنصاره وإخوانه مَنْ يرضى هديه ، ويطمئن إلى قوله ، ويعرف

١٤٧

نجدته وبأسه ، فأفضوا إليهم ما هم عليه من شنآن ابن أبي سفيان والبراءة منه ، ويسألونه الكتابة إليهم برأيه.

فكتب الحسين عليه‌السلام إليهم : «إنّي لأرجو أن يكون رأي أخي رحمه‌الله في الموادعة ، ورأيي في جهاد الظلمة رشداً وسداداً ؛ فالصقوا بالأرض ، واخفوا الشخص ، واكتموا الهوى ، واحترسوا من الأظنّاء (١) ما دام ابن هند حيّاً ؛ فإن يحدث به حدث وأنا حيٌّ يأتكم رأيي إن شاء الله» (٢).

وفي كلام له عليه‌السلام مع محمد بن بشر الهمداني وسفيان بن ليلى الهمداني :

«ليكن كلّ امرئ منكم حِلساً من أحلاس بيته ما دام هذا الرجل حيّاً ، فإن يهلك (ونحن) وأنتم أحياء رجونا أن يخير الله لنا ، ويؤتينا رشدنا ، ولا يكلنا إلى أنفسنا ؛ فإنّ الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون» (٣).

رسالة الحسين عليه‌السلام إلى معاوية بعد قتل حجر وأصحابه :

روى ابن قتيبة والكشي : أنّ مروان بن الحكم كتب إلى معاوية (وهو عامله على المدينة) أنّ رجالاً من أهل العراق ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي ، وأنّه لا يُؤمن وثوبه. وقال : وقد بحثت عن ذلك فبلغني أنّه يريد الخلافة ... (٤).

وفي رواية البلاذري : وكان رجال من أهل العراق وأشراف أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين يجلّونه ويعظّمونه ، ويذكرون فضله ويدعونه إلى أنفسهم ، ويقولون إنّا لك عضد ويد ؛ ليتّخذوا الوسيلة إليه ، وهم لا يشكّون في أنّ معاوية إذا مات لم يعدل الناس بحسين

__________________

(١) جمع الظنين ، وهو المتّهم الذي تظنّ به التّهمة ، ومصدرها الظِّنة. يُقال منه : أظنّه وأطنه (بالطاء والظاء) إذا اتّهمه. ورجل ظنين : متّهم من قوم أظنّاء. (لسان العرب).

(٢) أنساب الأشراف ـ تحقيق المحمودي ٣ / ١٥١ ـ ١٥٢ ، الأخبار الطوال ـ للدينوري / ٢٢٢.

(٣) أنساب الأشراف ٣ / ١٥٠.

(٤) الإمامة والسياسة ـ لابن قتيبة ، اختيار معرفة الرجال للطوسي.

١٤٨

أحداً ، فلمّا كثر اختلافهم إليه أتى عمرو بن عثمان بن عفان مروان بن الحكم وهو إذ ذاك عامل معاوية على المدينة ، فقال له : قد كثر اختلاف الناس إلى الحسين عليه‌السلام ، والله لأرى أنّ لكم منه يوماً عصيباً.

فكتب مروان ذلك إلى معاوية.

فكتب إليه معاوية : أن اترك حسيناً ما تركك ولم يظهر لك عداوته ، ولم يبد لك صفحته ، واكمن له كمون الشرى (١).

وكتب معاوية إلى الحسين عليه‌السلام : قد انتهت إليَّ اُمور عنك إن كانت حقّاً فإنّي أرغب بك عنها ، وإن كانت باطلاً فأنت أسعد الناس بمجانبتها ، وبحظّ نفسك تبدأ ، وبعهد الله توفي ، فلا تحملني على قطيعتك والإساءة إليك.

فمتى تنكرني أنكرك ، ومتى تكدني أكدك ، فاتق الله في شقّ عصا هذه الأمّة ، وأن تردهم إلى فتنة.

فكتب إليه الحسين عليه‌السلام : «... أمّا ما ذكرت أنّه رقي إليك عنّي فإنّه إنّما رقاه إليك الملاّقون المشّاؤون بالنميمة ... ما أردت لك حرباً ولا عليك خلافاً ، وإنّي لأخشى الله في ترك ذلك منك ، ومن الأعذار فيه إليك وإلى أوليائك الفاسقين الملحدين حزب الظلمة.

ألَست القاتل حجر بن عدي أخا كنده وأصحابه المصلّين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستفضعون البدع ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ولا يخافون في الله لومة لائم ، ثمّ قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلّظة ، والمواثيق المؤكّدة ؛ جرأة على الله ، واستخفافاً بعهده؟!

أوَ لَست القاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، العبد الصالح الذي أبلته العبادة ؛ فنحل جسمه واصفرّ لونه ، فقتلته بعدما أمنته وأعطيته ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس الجبال؟!

__________________

(١) أي راقبه في خفاء.

١٤٩

أوَ لَست المدّعي زياد بن سُميّة المولود على فراش عبيد بن ثقيف ، فزعمت أنّه ابن أبيك ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الولد للفراش وللعاهر الحجر. فتركت سنّة الرسول تعمّداً وتبعت هواك بغير هدى من الله ، ثمّ سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم ، ويسمل أعينهم ، ويصلبهم على جذوع النخل ، كأنّك لست من هذه الأمّة وليسوا منك؟!

أوَ لَست صاحب الحضرميين الذين كتب فيهم أنّهم على دين علي عليه‌السلام ، فكتبت إليه : أن اقتل كلّ مَنْ كان على دين علي ، فقتلهم ومثَّل بهم بأمرك ، ودين علي هو دين ابن عمّه صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان يضرب عليه أباك ، وضربك عليه ، وبه جلست مجلسك الذي أنت فيه؟!

وقلت فيما قلت : انظر لنفسك ودينك ولأمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واتّق شقّ عصا هذه الأمّة ، وأن تردهم إلى فتنة ، وإنّي لا أعلم فتنة على هذه الأمّة أعظم من ولايتك عليها ، ولا أعظم نظراً لنفسي ولديني ولأمّة محمد أفضل من أن أجاهدك ؛ فإن فعلت فإنّه قربة إلى الله تعالى ، وإن تركته فإنّي استغفر الله لديني ، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري.

وقلت فيما قلت : إنّي إن أنكرتك تنكرني ، وإن أكدك تكدني ، فكدني ما بدا لك ؛ فإنّي أرجو أن لا يضرّني كيدك ، وأن لا يكون على أحد أضرّ منه على نفسك ؛ لأنّك قد ركبت جهلك ، وتحرّصت على نقض عهدك.

ولعمري ما وفيت بشرط ، ولقد نقضت عهدك بقتلك هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان ، والعهود والمواثيق ، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوك ونقضوا عهدك ، ولم تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقّنا.

فقتلتهم مخافة أمر لعلك لو لم تقتلهم متّ قبل أن يفعلوا ، أو ماتوا قبل أن يُدركوا.

فابشر يا معاوية بالقصاص ، وأيقن بالحساب.

وليس الله بناس لأخذك بالظنّة ، وقتلك أولياءه على التهم ، ونفيك إيّاهم من دورهم إلى دار الغربة ، وأخذك الناس ببيعة ابنك غلام حدث ، يشرب الشراب ، ويلعب بالقرود»(١).

__________________

(١) رجال الكشي ـ ترجمة عمرو بن الحمق ، طبقات ابن سعد ـ ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام ، أنساب الأشراف

١٥٠

الوليد بن عتبة يحجب أهل العراق عن الحسين عليه‌السلام بعد سنة ٥٧ هجرية :

روى البلاذري عن العتبي قال : حجب الوليد بن عتبة بن أبي سفيان (١) أهل العراق عن الحسين ، فقال له الحسين : «يا ظالماً لنفسه ، عاصياً لربّه ، علامَ تحول بيني وبين قوم عرفوا من حقّي ما جهلته أنت وعمّك؟». فقال الوليد : ليت حلمنا عنك لا يدعو جهل غيرنا إليك ، فجناية لسانك مغفورة ما سكنت يدك ، فلا تخطر بها فنخطر بك (٢).

مؤتمر الشيعة في الحجّ قبل موت معاوية بسنة :

وروى سليم بن قيس : لما كان قبل موت معاوية بسنة حجّ الحسين بن علي عليهما‌السلام وعبد اللّه بن عباس وعبد اللّه بن جعفر ، فجمع الحسين بني هاشم ثمّ رجالهم ونساءهم ومواليهم ومَنْ حجّ من الأنصار ممّن يعرفه الحسين وأهل بيته عليهم‌السلام ، ثمّ أرسل رسلاً لا تدعون أحداً حجّ العام من أصحاب رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله المعروفين بالصلاح والنسك إلاّ اجمِعوهم لي ، فاجتمع إليه بمنى أكثر من سبعمئة رجل وهم في سرادقه ، عامّتهم من التابعين ونحو من مئتي رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. فقام فيهم خطيباً :

فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثمّ قال :

«أمّا بعد ، فإنّ الطاغية قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم ، وعلمتم وشهدتم ، وإنّي اُريد أن أسألكم عن شيء ، فإن صدقت فصدّقوني ، وإن كذبت فكذّبوني. اسمعوا مقالتي واكتبوا قولي ، ثمّ ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم ؛ فمَنْ أمنتم من الناس ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون من حقّنا ؛ فإنّي أتخوّف أن يُدْرس (٣) هذا الأمر ، ويذهب الحقّ ويُغلب ، واللّه متمّ نوره ولو كره الكافرون».

__________________

ترجمة معاوية ، مختصر تاريخ دمشق ـ ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام.

(١) كان أميرا على المدينة لمعاوية سنة ٥٧ ـ ٦٠.

(٢) أنساب الأشراف ـ ترجمة الحسين ٣ / ١٥٧ ، وأنساب الأشراف ـ ترجمة معاوية ٤ ق ١ / ٣٠٢.

(٣) دروس الشيء : انمحاؤه.

١٥١

وما ترك شيئاً ممّا أنزله الله فيهم من القرآن إلاّ تلاه وفسّره ، ولا شيئاً ممّا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أبيه وأخيه وأمّه وفي نفسه وأهل بيته إلاّ رواه ... ، وفي كلّ ذلك يقول أصحابه : اللّهمّ نعم ، وقد سمعنا وشهدنا. ويقول التابعي : اللهمّ قد حدّثني به مَنْ أثق به وائتمنه من الصحابة. فقال : «أنشدكم الله إلاّ حدّثتم به مَنْ تثقون به وبدينه» (١).

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس.

١٥٢

الفصل الثاني : نهضة الحسين عليه‌السلام للتغيير بعد موت معاوية

الحسين عليه‌السلام لا يبايع ليزيد :

أقول : الثابت في كلّ كتب التاريخ أنّ الحسين عليه‌السلام خرج من المدينة إلى مكّة مع أهل بيته ولم يعطِ بيعة ليزيد.

ماذا تعني البيعة؟

وممّا لا شك فيه أنّ إعطاء البيعة كمفهوم عام معناه الموافقة على سياسة الدولة ، والطاعة لرأس الهرم وامتداداته فيها.

وعدم إعطاء البيعة يعني أحد حالتين :

الاُولى : رفض سياسة الدولة ، ورفض الطاعة لرأس الدولة معاً.

الثانية : عدم منح الثقة لرأس الدولة ، وعدم الموافقة على سياسة الدولة ونظامها الفكري المتّبع.

ومن المهمّ جدّاً أن نعرف موقف الحسين عليه‌السلام الرافض للبيعة من أيّ حالة هو؟

خلاصة السياسة الاُمويّة :

وهذا لا يتيسّر لنا إلاّ إذا تذكّرنا على الأقل بعض بنود السياسة العامّة ، والنظام الفكري المتّبع في الدولة الاُمويّة ، وهي كما يلي :

١٥٣

دين الدولة الرسمي هو الإسلام ، والإسلام يؤخذ من كتاب الله وسنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا ممّا لا خلاف فيه ، ولكنّها تبنّت سياسة لعن علي عليه‌السلام وسبّه على المنابر بصفته رجلاً ملحداً في الدين ، وهي سياسة مخالفة لقوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) الشورى / ٢٣ ، وكذلك مخالفة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام : «لا يحبّك إلاّ مؤمن ، ولا يبغضك إلاّ منافق» (١). ومن أجل أن تضلّل الدولة شعبها عن هذه المخالفة الشرعية تتبنّى سياسة أخرى ، وهي المنع من ذكر أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيان منزلة علي عليه‌السلام وفضله ، وافتعال أحاديث كاذبة على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تبرّر للدولة لعنه وسبّه والبراءة منه.

وتبنّت سياسة أن يلقّب الحاكم بألقاب ، منها لقب خليفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا اللقب يقتضي أن يكون الحاكم مقتدياً بهدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرته ، ولكن الحاكم الأموي يصعب عليه ذلك ، أو لا يريد ذلك أساساً ، فتتبنّى الدولة سياسة منع الأحاديث الصحيحة في سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وافتعال أحاديث كاذبة تظهر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كأيّ شخص عادي في سلوكه يسب ويشتم حين يغضب ، ولا يصبر عن النساء فيصطحب زوجة من زوجاته في الحروب. ومنها سياسة تلقيب الحاكم بخليفة الله ؛ لتكون طاعته طاعة لله ومعصيته معصية لله.

وتبنّت الدولة سيرة الجور وهدر كرامة الإنسان واستلاب حقوقه ؛ سواء كان معارضاً ، أم لم يكن ، والقرآن والسنة يأمران بالإنكار على الحاكم الجائر جوره في كلّ ذلك ؛ ومن أجل أن تتقِ الدولة الأثر السلبي لذلك تنهى عن رواية الأحاديث النبوية الصحيحة ، وتعمل على افتعال أحاديث كذب تأمر المسلم المظلوم بالسكوت والصبر وانتظار ثواب الآخرة ، وتجعل ظلم الحاكم من قضاء الله وقدره لتبرّر الظلم والسكوت.

وخلاصة الكلام في السياسة الاُمويّة : أنّها سياسة تقوم على الكذب على الله ورسوله ، وتشويه الإسلام وتاريخه ، والمنع من ذكر علي عليه‌السلام بخير في المجتمع ، علي عليه‌السلام

__________________

(١) صحيح مسلم ١ / ٨٦ ، السنن الكبرى ٥ / ٤٧ ، مسند أبي يعلى ١ / ٢٥١.

١٥٤

الذي له أروع السابقات في الإسلام ، وأعظم المنزلة عند الله ورسوله ، وملاحقة مَنْ يُعرف بحبّه وولائه له.

وأقلّ ما يُقال في يزيد بن معاوية : إنّه رجل طالب ملك ودنيا ، ورجل شهوات وملذّات. وتعتبر هذه السياسة هي الطريق الوحيد لكي يتبوّأ موقع الحكم في المجتمع الإسلامي والدولة الإسلاميّة المترامية الأطراف ، وبالتالي فهو سوف لن يتساهل في تطبيق هذه السياسة ؛ لأنّ الملك عقيم كما يُقال ، وسوف يقتل أيّ شخص معارض لتلك السياسة مهما كانت منزلته. وبين يديه تجربة أبيه حين قتل الصحابي حجر بن عدي جهاراً ، وحجر قد أجمعت كلمة علماء المسلمين قاطبة على إجلاله واحترامه ، ولم يكن له ذنب سوى أنّه عارض هذه السياسة بلسانه لا غير.

الموقف المترقّب من الحسين عليه‌السلام إزاء السياسة الاُمويّة :

وليس من شك أنّ الحسين عليه‌السلام وهو في منزلته المعروفة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي يقول فيه : «حسين منّي وأنا من حسين» ، لا يترقّب منه أن يقرّ تلك السياسة ، أو يقف منها موقفه زمن معاوية بل المترقّب منه هو رفضها ، والعمل على كسرها مهما كان ثمن الرفض غالياً.

ومن هنا كان موقفه واضحاً من اليوم الأوّل ، وهو رفض بيعة يزيد «لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد» (١).

وممّا لا شك فيه أنّ ثمن هذا الموقف الرافض للبيعة هو القتل ، إلاّ أن يتوفّر له أهل بلد من البلدان الإسلاميّة يبايعونه على حمايته ونصرته ، وهذا معناه أن يتعرّض ذلك البلد إلى جيش أهل الشام ، ويجري عليه ما جرى على أهل المدينة حين ثاروا بقيادة عبد الله بن حنظلة على يزيد ، وأخرجوا واليه ومَنْ كان بالمدينة من بني اُميّة ، أو ينصره الله تعالى كما نصر نبيّه على قريش بعد عدّة وقائع جرت بينه وبينها.

__________________

(١) فتوح ابن أعثم ٥ / ٣٢ ، مقتل الخوارزمي.

١٥٥

ويتّضح من ذلك أنّ الحسين عليه‌السلام أمام ثورة على السلطة ـ كما يعبّر بلغة العصر ـ ، أو خروج ـ كما يعبّر بلغة تاريخية ـ فما هو يا ترى هدفه من الثورة أو الخروج؟ وما هي خطّته لتحقيق ذلك ، وبخاصّة وقد سبقه خروج الخوارج المتكرّر على معاوية خلال عشرين سنة من حكمه؟

أشرنا فيما مضى إلى الهدف والخطّة ولا بأس باستذكارها هنا :

١ ـ استهدف الحسين عليه‌السلام من خروجه كسر الطوق الاجتماعي والسياسي المفروض على الأحاديث النبوية الصحيحة بالمبادرة إلى التحديث بها علناً ؛ لإسماع مَنْ لم يسمعها ، وتذكير مَنْ كان قد سمعها ثمّ تناساها صاحبها خشية أن تناله أعظم العقوبة بسببها. وهذا الهدف يناسبه أن يمارسه الحسين عليه‌السلام في بقعة يتواجد فيها المسلمون من كلّ الأطراف ، وليس مثل مكّة بلد في هذه الصفة إذ هي قبلة المسلمين آنذاك جميعاً ، ومهوى أفئدتهم في موسم العمرة والحجّ.

٢ ـ إفهام المسلمين جميعاً أنّ السلطة الاُمويّة مصمّمة على قتله ؛ لأنّه مصمّم على عدم الاستجابة لسياستها ، وهو مصمّم على توعية الأمّة بأحاديث جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه وفي أبيه ، وفي بني اُميّة وفي أحكام الإسلام التي غيّروها ، ثمّ يعرض عليهم أن يحموه ليواصل التبليغ عن جدّه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. وليس من شك أنّ أفضل مكان يستطيع الحسين عليه‌السلام فيه أن يلتقي بأخيار المسلمين من كلّ الأقطار هو مكّة ، وبخاصّة في موسم العمرة والحجّ.

٣ ـ أن تتوفّر له حماية أولية تسمح له أن يمارس في ظلّها حركته التبليغيّة المعلنة في مرحلتها الأولى ، ريثما يحصل على أنصار في بلد يتبنّى نصرته وحمايته ؛ ليحقق أهدافه كاملة من تبليغ الإسلام الصحيح والتربية عليه وإقامة دولة الحق. وقد تمثّلت هذه الحماية ببني هاشم حيث صاروا للحسين عليه‌السلام في هذه المرحلة كما كان آباؤهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبل.

٤ ـ أن يهاجر إلى بلد النصرة والحماية ؛ ليقوم بتوعية أهله بأحاديث النبي الصحيحة

١٥٦

وإقامة العدل فيهم ، ثمّ جهاد السلطة الاُمويّة وتطويق سياستها الضالة الظالمة ومن ثمّ الإطاحة بها. وقد تمثّل هذا البلد بالكوفة حيث وجد فيها أنصار للحسين عليه‌السلام قادرون على حمايته ويقاتلون دونه ، كما وجد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبل أنصار في المدينة حموه وقاتلوا دونه. وعند استشهاده كما [هو] المتوقّع في ضوء أخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يواصل خواصّ أصحابه تنفيذ ما بقي من الخطّة ، وقد وردت الأخبار أنّها تشخّص المختار لهذا الدور كما سيأتي.

الحسين عليه‌السلام لا يبايع ليزيد :

قال الطبري : ولي يزيد في هلال رجب سنة ستين ، وأمير المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ، وأمير الكوفة النعمان بن بشير الأنصاري ، وأمير البصرة عبيد الله بن زياد ، وأمير مكّة عمرو بن سعيد بن العاص.

وكتب يزيد إلى الوليد يحثّه على أخذ البيعة ممّن لم يبايع ، ومنهم الحسين عليه‌السلام ، وبعث الوليد إلى الحسين عليه‌السلام ليأخذ منه البيعة.

روى خليفة بن خياط في تاريخه قال : حدّثني وهب قال : حدّثني جويرية بن أسماء قال : سمعت أشياخنا من أهل المدينة ما لا أُحصي يحدّثون : أنّ معاوية توفي وفي المدينة يومئذ الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ، فأتاه موته ، فبعث إلى مروان بن الحكم واُناس من بني اُميّة فأعلمهم الذي أتاه ، فقال مروان : ابعث الساعة إلى الحسين وابن الزبير ؛ فإن بايعا وإلاّ فاضرب أعناقهما ـ وقد هلك عبد الرحمن بن أبي بكر قبل ذلك ـ فأتاه ابن الزبير فنعى له معاوية وترحّم عليه ، وجزاه خيراً ، فقال له : بايع. قال : ما هذه ساعة مبايعة ، ولا مثلي يبايعك هاهنا ، فترقى المنبر فأبايعك ويبايعك الناس علانية غير سرّ. فوثب مروان فقال : اضرب عنقه ؛ فإنّه صاحب فتنة وشرّ. قال : إنّك لهتّاك يابن الزرقاء! واستبّا ، فقال الوليد : أخرجوهما (عنّي ، وكان رجلاً رفيقاً سرياً كريماً). فاُخرجا عنه. فجاء الحسين بن علي عليهما‌السلام على تلك الحال فلم يكلم في شيء حتّى رجعا جميعاً … وخرج الحسين عليه‌السلام من ليلته (١).

__________________

(١) تاريخ خليفة بن خياط / ٢٣٢ ـ ٢٣٣.

١٥٧

وفي رواية الطبري عن أبي مخنف : أنّ الوليد طلب من الحسين عليه‌السلام البيعة ، فقال له الحسين عليه‌السلام : «إنّ مثلي لا يُعطي بيعته سرّاً ، ولا أراك تجتزئ بها منّي سرّاً دون أن نظهرها على رؤوس الناس علانية». قال : أجل. قال : «فإذا خرجت إلى الناس فدعوتهم إلى البيعة دعوتنا مع الناس فكان أمراً واحداً». فقال له الوليد ، وكان يحب العافية : فانصرف على اسم الله حتّى تأتينا مع جماعة الناس. فقال له مروان : والله لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتّى تكثر القتلى بينكم وبينه ، احبس الرجل ولا يخرج من عندك حتّى يبايع أو تضرب عنقه. فوثب عند ذلك الحسين عليه‌السلام فقال : «يابن الزرقاء! أنت تقتلني أم هو؟ كذبت والله وأثمت». ثمّ خرج فمرّ بأصحابه فخرجوا معه حتّى أتى منزله. فقال مروان للوليد : عصيتني! لا والله ، لا يمكّنك من مثلها من نفسه أبداً. قال الوليد : وبّخ غيرك يا مروان ، إنّك اخترت لي التي فيها هلاك ديني. والله ما أحبّ أنّ لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وإنّي قتلت حسيناً. سبحان الله! أقتل حسيناً أن قال لا اُبايع! والله إنّي لا أظنّ امرأً يُحاسب بدم حسين لخفيف الميزان عند الله يوم القيامة (١).

وفي رواية البلاذري : إنّ الوليد لمّا بعث إلى الحسين عليه‌السلام لم يأته الحسين عليه‌السلام وامتنع بأهل بيته وبمَنْ كان على رأيه ، وفعل ابن الزبير مثل ذلك ، وبعث الحسين عليه‌السلام أن كُفّ حتّى ننظر وتنظروا ونرى وتروا. وخرج الحسين عليه‌السلام ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب سنة ستين (٢).

وفي رواية الواقدي قال : لمّا دُعي الحسين عليه‌السلام وابن الزبير إلى البيعة ليزيد أبيا ، وخرجا من ليلتهما إلى مكّة ... (٣).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٣٤٠.

(٢) أنساب الأشراف ق ٤ ، ١ / ٣٠٠.

(٣) تاريخ الطبري ٥ / ٣٤٣.

١٥٨

روى أبو مخنف عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق ، عن أبي سعيد المقبري قال : لمّا سار الحسين عليه‌السلام نحو مكّة قال : (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). فلمّا دخل مكّة قال : (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) (١).

قال الطبري : وعزل يزيد الوليد بن عتبة عن المدينة ، عزله في شهر رمضان فأقرّ عليها عمرو بن سعيد الأشدق.

الحسين عليه‌السلام في مكّة :

بيت بني هاشم زمن الحسين عليه‌السلام له موقع متميّز في المجتمع الإسلامي بحكم كونه البيت الذي أنجب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو كباقي البيوت الشاخصة له قدرة على حماية الفرد المنتسب إليه ، شأنه في ذلك شأن البيوتات المعروفة ، وكانوا آنذاك أكثر من أربعين رجلاً ، وكان البارزون في هذا البيت زمن الحسين عليه‌السلام عدّة ، منهم :

عبد الله بن عباس :

وهو أبرز شخصية علمية إسلاميّة بعد الحسين عليه‌السلام ، وقد كان من المقرّبين إلى الخليفة عمر ، وعيَّنه في وقته مقرئاً لكبار الصحابة ، أمثال عبد الرحمن بن عوف وغيره. ثمّ برز على عهد علي عليه‌السلام حين كان واليه على البصرة طيلة عهده ، ثمّ كانت له بعد وفاة علي عليه‌السلام مع معاوية صلات قوية ومحاورات ذكرتها كتب التاريخ.

عبد الله بن جعفر بن أبي طالب :

من الشخصيات الاجتماعية البارزة آنذاك المعروفة بالكرم وقضاء الحوائج ، وكانت له علاقات قوية جدّاً مع معاوية (٢) ويزيد ورجالات بني اُميّة.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٣٤٣.

(٢) روى البلاذري ٢ / ٣١٢ ، قال : قدم معاوية المدينة ، فأمر حاجبه أن يأذن للناس ، فخرج فلم يرَ أحداً

١٥٩

محمد بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام المعروف بابن الحنفيّة :

من الشخصيات العلمية الإسلاميّة البارزة ، كان صاحب راية جيش أبيه في حرب الجمل.

العباس بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام :

أمّه أمّ البنين بنت حزام بن ربيعة ، أخي الشاعر لبيد بن ربيعة ، والعباس يُعرف مكانته من موقعه في جيش الحسين عليه‌السلام ، حيث كان حامل اللواء ، ولا يحمل اللواء إلاّ الأشجع عادة ، ومن قول الإمام السجّاد عليه‌السلام : «كان عمّي العباس نافذ البصيرة».

مسلم بن عقيل بن أبي طالب عليه‌السلام :

كان أبوه عقيل أسن من علي عليه‌السلام بعشرين سنة ، وكان شخصية جاهلية وإسلاميّة بارزة ، وكان أحد أربعة في قريش يوقف عند قولهم في النسب ، وكانت قريش تهابه لذكره مثالبها. أمّا مسلم فقد ذكروا عنه أنّه أرجل ولد عقيل ، ولجلالة قدره اعتمده الحسين عليه‌السلام سفيراً عنه إلى الكوفة ، ولوعيه بأهداف الحسين عليه‌السلام وتقواه رفض أن يغتال عبيد الله حين زار شريكاً في بيت هاني لمّا أمكنته الفرصة منه.

وهؤلاء نظراء الرعيل الأوّل من بني هاشم ؛ أبي طالب والعباس وحمزة وعبيد الله بن الحارث بن المطلب بن هاشم يوم وقفوا مع الرسول يحمونه في حركته التبليغيّة في مكّة.

ولمّا وصل الحسين عليه‌السلام إلى مكّة نزل دار العباس بن عبد المطلب ، واتّخذها مقرّاً له يحفّه بنو هاشم لا يفارقه عدّة منهم ؛ كالعباس وإخوته ، وأولاد عبد الله بن جعفر ، وأولاد عقيل ؛ خوفاً عليه وحماية له.

أحاديث الحسين عليه‌السلام في مكّة :

قال ابن كثير : لمّا أُخِذت البيعة ليزيد في حياة معاوية كان الحسين عليه‌السلام ممّن امتنع من

__________________

فأعلمه ، قال : فأين الناس؟ قيل : عند عبد الله بن جعفر في مأدبة له ، فأتاه معاوية … إلى آخر الخبر.

١٦٠