الدّرر النجفيّة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

مقدّمة المؤلّف

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله الذي هدى أبصار بصائرنا بأنوار الولاية الحيدريّة ، وفتح مسامع قلوبنا بأخبار الصفوة المصطفويّة ، وسقانا في عالم الأرواح من طيب لذيذ ذلك (١) الراح الموجب في النشأتين للمسرّة (٢) والأفراح ، فجاءت بذلك القلوب في هذه النشأة مجبولة على حبّ أولئك الأشباح ، فلا مساح لها عن (٣) ذلك ولا براح ، ووفّقنا للاغتراف بكأس رحيق شريعتهم الطاهرة والاقتطاف من جني ثمارهم الناضرة ، والصلاة على من توّج هام النبوّة والرسالة وتسنّم أوج الرفعة والشرف والبسالة ، ثمّ على وصيّه قطب رحى الخلافة والإمامة وشنف (٤) صدر الولاية والإيالة (٥) والشهامة ، ثمّ على ذريّتهما المتبوّئين من ذرا العلا أرفع ذروة وهامة.

أمّا بعد : فيقول الفقير إلى الجود السبحاني والمتعطّش للفيض الصمداني يوسف بن أحمد بن إبراهيم البحراني ـ وفّقه الله تعالى لإصلاح داريه وأذاقه حلاوة نشأتيه

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) في «ح» : للمرّة.

(٣) في «ح» : من.

(٤) الشّنف : الذي يلبس في أعلى الاذن. لسان العرب ٧ : ٢١٤ ـ شنف.

(٥) في «ح» : الإمامة. والإيالة : السياسة. لسان العرب ١ : ٢٦٥ ـ أول.

٦١

وألحقه بمواليه وساداته وحشره في زمرة أئمّته وهداته ـ : إني لمّا وفّقني الله تعالى إلى ممارسة أخبار العترة الأطهار ، والتقاط جملة من تلك الدرر الساطعة الأنوار ، فكانت من بين العلوم شعاري ودثاري ، وبها أنسي في ليلي ونهاري.

وقد وفّقني الله تعالى إلى إبراز جملة من الأحكام المستنبطة منها في قالب التأليف ، ونظم شطر منها في سمط التصنيف من كتب ورسائل وحواش وأجوبة مسائل. وكان من جملة درر تلك المسائل وغرر هاتيك الدلائل ما لم ينتظم في الأبواب التي بوّبها الأصحاب أو نظموها ، ولكن لم يكشفوا عن وجوه خرائدها نقاب الاحتجاب ، أحببت أن أنظم جملة من تلك الدرر في سمط التحرير ، واشنّفها بما سنح لي من واضح البيان والتقرير ، وحيث كانت درر تلك المسائل الشريفة وفرائد هاتيك الدلائل المنيفة خارجة من باب مدينة العلوم النبويّة ومشكاة الأنوار الإلهيّة ، حسن نسبة تلك الدرر إلى واديه الأقدس وإضافتها إلى ناديه المقدّس ؛ فلذا سمّيته ب (١) (الدرر النجفيّة من الملتقطات اليوسفيّة) ، وألحقته إلى تلك الحضرة السامية العليّة والحضرة (٢) المقدّسة العلويّة ، راجيا من عواطف كرمه الفوز بالقبول والإمداد بإنجاح المأمول ، والمعذرة إليه صلوات الله عليه ظاهرة لا ابديها ، فـ

إن الهدايا على مقدار مهديها

والله (٣) سبحانه أسأل أن يوفّقني ، سيّما للفوز بسعادة الإتمام ، وأن يعصمني من هفوات الكلام وفلتات الأقلام.

__________________

(١) في «ح» : كتاب.

(٢) في «ح» : الحظيرة.

(٣) في «ح» ومن الله.

٦٢

(١)

درّة نجفيّة

في معنى رواية : «الماء كله طاهر حتى تعلم أنه قذر»

روى المشايخ الثلاثة ـ عطّر الله مراقدهم ـ بأسانيدهم عن الصادق عليه‌السلام ، أنه قال : «الماء كلّه طاهر حتى تعلم أنه قذر» (١).

واختلف الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في المعنى المراد من العلم في هذا الخبر ، فالمفهوم من كلام أبي الصلاح التقيّ بن نجم الحلبي (٢) ـ حيث اكتفى في الحكم بالنجاسة بالظنّ ، سواء استند إلى سبب شرعي كإخبار المالك وشهادة العدلين ، أم لا ـ هو المعنى الأعمّ من اليقين والظنّ مطلقا.

ومقتضى المنقول عن ابن البرّاج (٣) ـ من عدم اعتبار الظنّ مطلقا في المسألة المذكورة وإن استند إلى سبب شرعي ـ هو (٤) القطع واليقين. وظاهر العلّامة رحمه‌الله في (التذكرة) و (المنتهى) الاكتفاء بالظنّ المستند إلى سبب شرعي فإنه يحكم بالنجاسة بحصول أحد الأمرين من اليقين أو الظنّ المستندين (٥) على ذلك

__________________

(١) الكافي ٣ : ١ / ٣ ، باب طهور الماء ، الفقيه ١ : ٦ / ١ ، تهذيب الأحكام ١ : ٢١٥ / ٦١٩ ، وسائل الشيعة ١ : ١٣٤ ، أبواب الماء المطلق ، ب ١ ، ح ٥.

(٢) الكافي في الفقه : ١٤٠.

(٣) المهذّب ١ : ٣٠.

(٤) في «ح» : وهو.

(٥) من «ح» ، وفي «ق» : المستند.

٦٣

السبب (١) ، فيكون العلم في الخبر عنده أعمّ منهما.

قال في (التذكرة) : (إن استند الظنّ إلى سبب كقول العدل ، فهو كالمتيقّن (٢) ، وإلّا فلا) (٣).

وقال في (المنتهى) : (لو أخبر عدل بنجاسة الإناء لم يجب القبول ، أمّا لو شهد عدلان فالأولى القبول) (٤).

وفي موضع آخر من (المنتهى) : (لو أخبر العدل بنجاسة إنائه فالوجه القبول ، ولو أخبر الفاسق بنجاسة إنائه فالأقرب القبول أيضا) (٥).

وقال في (المعالم) : (وما فصّله في (المنتهى) هو المشهور بين (٦) المتأخرين) (٧).

وقال شيخنا البهائي ـ عطّر الله مرقده ـ في بعض فوائده ، بعد احتمال المعاني الثلاثة في الخبر : (وأنت خبير بأن فهم هذا التعميم من الرواية بعيد بخلاف الأوّلين). وأراد بالتعميم ما ذهب إليه العلّامة رحمه‌الله ، وفيه نظر.

وجزم المحقّق في (المعتبر) (٨) بعدم القبول في العدل الواحد ، وجعل القبول في العدلين أظهر ، ونسبه العلّامة في (المختلف) (٩) إلى ابن إدريس (١٠) أيضا. وربّما قيّد بعضهم قبول خبر (١١) العدلين في ذلك بذكر السبب ، قال : (لاختلاف العلماء في المقتضي للتنجيس). ونقله في (المعالم) (١٢) عن بعض الأصحاب.

__________________

(١) فإنه يحكم ... ذلك السبب ، سقط في «ح».

(٢) في «ح» : المتيقّن.

(٣) تذكرة الفقهاء ١ : ٩٠ / المسألة : ٢٦.

(٤) منتهى المطلب ١ : ٩.

(٥) منتهى المطلب ١ : ٩ ـ ١٠.

(٦) من «ح» ، وفي «ع» : من.

(٧) معالم الدين وملاذ المجتهدين / قسم الفقه : ٣٨٢ / المسألة : ٢.

(٨) المعتبر ١ : ٥٤.

(٩) مختلف الشيعة ١ : ٨٣ / المسألة : ٤٥.

(١٠) السرائر ١ : ٨٦.

(١١) في «ح» : الخبر.

(١٢) معالم الدين وملاذ المجتهدين / قسم الفقه : ٣٨٢ / المسألة : ٢.

٦٤

وقيّد جماعة (١) الحكم بقبول أخبار الواحد بنجاسة إنائه بما (٢) إذا وقع الإخبار قبل الاستعمال ، فلو كان الإخبار بعده لم يقبل بالنظر إلى نجاسة المستعمل له ، فإن ذلك في الحقيقة إخبار بنجاسة الغير ، فلا يكفي فيه الواحد وإن كان عدلا ؛ ولأن الماء يخرج بالاستعمال عن (٣) ملكه ، إذ هو في معنى الإتلاف أو نفسه ، وبهذا التقييد صرّح (٤) في (التذكرة) (٥) على ما نقله عنه (٦) بعض الأفاضل (٧).

هذا ملخّص ما حضرني من الأقوال في ذلك.

وحكي عن أبي الصلاح (٨) الاحتجاج على مذهبه بأن الشرعيّات كلّها ظنيّة ، فإن العمل بالمرجوح مع قيام الراجح باطل.

وعن ابن البرّاج (٩) الاحتجاج على ما ذهب إليه بأن الطهارة معلومة بالأصل ، وشهادة الشاهدين لا تفيد إلّا الظن ، فلا يترك لأجله المعلوم.

أقول : ويرد على (١٠) ما ذهب إليه أبو الصلاح أن المفهوم من الأخبار أنه لا ينتقل من (١١) يقين الطهارة ويقين الحليّة إلّا بيقين مثله ، وأن مجرّد الظن لا وجب الخروج عن ذلك كالأخبار الواردة (١٢) في متيقّن الطهارة من الحدث والطهارة من الخبث في ثوبه أو بدنه ، فإنه لا يخرج عن ذلك إلّا بيقين مثله.

ومن تلك الأخبار صحيحة عبد الله بن سنان في الثوب (١٣) إذا اعير من ذمّي

__________________

(١) عنهم في المعالم : ١٦٣.

(٢) من «ح».

(٣) من «ح» ، وفي «ق» : من.

(٤) في «ح» : خرج.

(٥) تذكرة الفقهاء ١ : ٩٠ / المسألة : ٢٦.

(٦) في «ح» : نقل.

(٧) عنه في المعالم : ١٦٣.

(٨) عنه في معالم الدين وملاذ المجتهدين / قسم الفقه : ٣٨٢ / المسألة : ٢.

(٩) المهذّب ١ : ٣٠.

(١٠) في «ح» : يرد عليه.

(١١) في «ح» : عن.

(١٢) في «ح» : واردة.

(١٣) ليست في «ح».

٦٥

يعلم أنه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير ، حيث قال عليه‌السلام : «صلّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك ، فإنك أعرته إيّاه وهو طاهر ، ولم تستيقن أنه نجّسه ، فلا بأس أن تصلّي فيه حتى تستيقن أنه نجّسه» (١).

وما ورد في الجبن (٢) من قوله عليه‌السلام : «ما علمت أنه ميتة (٣) فلا تأكله ، وما لم تعلم فاشتر وبع وكل».

إلى أن قال : «والله إني لاعترض السوق فأشتري بها اللحم والسمن والجبن والله ما أظنّ كلّهم يسمّون (٤) ، هذه البربر وهذه السودان» (٥).

وما ورد في الرجل يجد في إنائه فأرة وكانت متفسّخة (٦) وقد توضّأ من ذلك الإناء مرارا و (٧) اغتسل منه وغسل ثيابه ، حيث قال عليه‌السلام : «ليس عليه شي‌ء لأنه لا يعلم متى سقطت فيه» ثمّ قال : «لعلّه إنّما سقطت فيه تلك الساعة التي رآها (٨)» (٩).

وهي كما ترى ظاهرة في حصول الظنّ بوقوعها سابقا (١٠) لمكان التفسّخ ، مع أنه عليه‌السلام ـ عملا بسعة الشريعة وسهولتها ـ لم يلتفت إليه (١١). وقال : «لعلّه (١٢) إنّما سقطت الساعة» (١٣).

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٢ : ٣٦١ / ١٤٩٥ ، الاستبصار ١ : ٣٩٢ / ١٤٩٧ ، وسائل الشيعة ٣ : ٥٢١ ، أبواب النجاسات ، ب ٧٤ ، ح ١.

(٢) من «ح» ، وفي «ق» : الحسن.

(٣) ليست في «ح».

(٤) في «ب» : يسمعون.

(٥) المحاسن ٢ : ٢٩٦ / ١٩٧٦ ، وسائل الشيعة ٢٥ : ١١٩ ، أبواب الأطعمة المباحة ، ب ٦١ ، ح ٥.

(٦) في «ح» : منفّخة.

(٧) في «ح» : من أراد.

(٨) ليست في «ح».

(٩) تهذيب الأحكام ١ : ٤١٨ / ١٣٢٢ ، وسائل الشيعة ١ : ١٤٢ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٤ ، ح ١.

(١٠) ليست في «ح».

(١١) في «ح» : عمل بسعة الشريعة وسهولتها ولم يلتفت إليه ، بدل : عملا بسعة ... إليه.

(١٢) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : لعلها.

(١٣) تهذيب الأحكام ١ : ٤١٨ / ١٣٢٢ ، وسائل الشيعة ١ : ١٤٢ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٤ ، ح ١.

٦٦

ومنها ما ورد في المنيّ ، من أنه «إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه منّي ، فليغسل الذي أصابه ، وإن ظنّ أنه أصابه منيّ ولم يستيقن ولم ير مكانه ، فلينضحه بالماء» (١) الحديث. وهو صريح في المطلوب ، والنضح فيه محمول على الاستحباب ، كما في نظائره ، إلى غير ذلك من الأخبار (٢).

وبالجملة ، فالمستفاد من الأخبار أن تيقّن (٣) الطهارة وكذلك الحليّة لا يخرج عنه إلّا بيقين مثله.

ويرد على ما ذهب إليه ابن البرّاج :

أوّلا : أن اشتراط اليقين إن كان مخصوصا بحكم النجاسة دون ما عداها من حكم الطهارة والحليّة والحرمة ، فهو تحكّم محض. وإن كان الحكم في الجميع واحدا فيقين (٤) الطهارة الذي اعتمده ليس إلّا عبارة عن عدم العلم بملاقاة النجاسة ، وهو أعمّ من العلم بالعدم ، ومثله يقين الحليّة.

وثانيا : أنه قد روى ثقة الإسلام في (الكافي) (٥) والشيخ في (التهذيب) (٦) بسنديهما عن الصادق عليه‌السلام في الجبن ، قال : «كلّ شي‌ء لك حلال ، حتى يجيئك شاهدان يشهدان (٧) عندك أن فيه ميتة».

ورويا أيضا بسنديهما عنه عليه‌السلام : «كلّ شي‌ء لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٤ / ٤ ، باب المني والمذي يصيبان الثوب والجسد ، تهذيب الأحكام ١ : ٢٥٢ / ٧٢٨ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٢٤ ، أبواب النجاسات ، ب ١٦ ، ح ٤.

(٢) من الأخبار ، ليس في «ح».

(٣) في «ح» : يقين ، بدل : تيقن.

(٤) في «ح» : واحد فتعيين ، بدل : واحدا فيتعين.

(٥) الكافي ٦ : ٣٣٩ / ٢ ، باب نوادر كتاب العقيقة.

(٦) لم نعثر عليه في التهذيب ، علما أن صاحبي بحار الأنوار ٦٢ : ١٥٦ / ٣٠ ، ووسائل الشيعة ٢٥ : ١١٨ ، أبواب الأطعمة المباحة ، ب ٦١ ، ح ٢ ، نقلاه جميعا من الكافي.

(٧) في «ح» : ويشهدان.

٦٧

فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك (١) قد اشتريته وهو سرقة». إلى أن قال : «والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البيّنة» (٢).

والحكم في المسألتين من باب واحد ، فإنه كما قام الدليل على أصالة الطهارة حتى تعلم النجاسة ، كذلك قام الدليل على أصالة الحلّ في كلّ شي‌ء حتى يعلم التحريم ، كما هو قول من يعتمد البراءة الأصلية وأصالة الحلّ فيما اشتبهت أفراده المحرّمة بالمحلّلة ممّا هو غير محصور حتى (٣) يعلم الحرام منه بعينه ، كما هو قول آخرين.

وكيف كان ، فالخبران صريحان في الاكتفاء في ثبوت العلم بشهادة الشاهدين ، وممّا يؤيّد الاكتفاء بشهادة العدلين في الحكم النجاسة أن الظاهر أنه لا خلاف ولا (٤) إشكال في أنه لو كان الماء مبيعا فادّعى المشتري فيه العيب بكونه نجسا ، وأقام شاهدين عدلين بذلك ، فإنه يتسلّط على الردّ ، وما ذاك إلّا لثبوت النجاسة والحكم بها.

وما ذكره بعض فضلاء متأخري المتأخرين ـ من إمكان المناقشة في ذلك بأن اعتبار شهادتهما في نظر الشارع مطلقا بحيث يشمل ما نحن فيه ممنوع ، وقبول شهادتهما في الصورة المفروضة لا يدلّ على أزيد من ترتّب جواز الردّ أو أخذ الأرش عليه ، وأمّا أن يكون حكمه حكم النجس في سائر الأحكام فلا بدّ له من دليل ، انتهى ـ ممّا لا ينبغي أن يعرّج عليه ولا يلتفت في المقام إليه ، كيف واستحقاق جواز الرّد وأخذ الأرش إنّما هو فرع ثبوت النجاسة وحكم الشارع

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٤٠ ، باب نوادر كتاب المعيشة ، تهذيب الأحكام ٧ : ٢٢٦ / ٩٨٩.

(٣) في «ح» : كما.

(٤) من «ح».

٦٨

بها ؛ ليتحقّق العيب الذي هو سبب في ذلك؟

والتحقيق عندي في هذا المقام ـ ممّا لا يحوم حوله للناظر المنصف نقض ولا إبرام ـ ما أوضحناه في موضع آخر من فوائدنا ، وملخّصه : أن كلّا من الطهارة والنجاسة والحلّ والحرمة ليست امورا عقليّة ، بل هي امور شرعيّة لها أسباب (١) معيّنة من الشارع متلقّاة منه ، فكلّما وجد سبب من تلك الأسباب وصار معلوما للمكلّف ترتّب عليه مسبّبه (٢) من الحكم بأحد تلك الأحكام ، فكما أن من جملة الأسباب المتلقّاة منه مشاهدة ملاقاة النجاسة للماء مثلا ، كذلك من جملتها إخبار المالك بنجاسة مائه وثوبه ونحوهما ، وشهادة العدلين بنجاسة شي‌ء ، ومثله يأتي أيضا في ثبوت الطهارة والحليّة والحرمة.

وليس ثبوت النجاسة لشي‌ء (٣) واتّصافه بها عبارة عن مجرّد ملاقاة عين أحد النجاسات في الواقع ونفس الأمر خاصّة حتى يقال بالنسبة إلى غير العالم بالملاقاة : إن هذا الشي‌ء نجس واقعا وطاهر بحسب الظاهر. بل هو نجس (٤) بالنسبة إلى العالم بالملاقاة أو أحد الأسباب المتقدّمة ، وطاهر بالنسبة إلى غير العالم ، والشارع لم يجعل شيئا من الأحكام منوطا بالواقع ونفس الأمر.

وحينئذ ، فلا يقال : إن إخبار المالك والعدلين إنّما يفيدان ظنّ النجاسة لاحتمال ألّا يكون كذلك في الواقع. كيف ، وهما من جملة الأسباب التي رتّب الشارع الحكم بالنجاسة عليها؟

وبالجملة ، فحيث حكم الشارع بقبول شهادة العدلين وإخبار المالك في ذلك ،

__________________

(١) من «ح» ، وفي «ع» : لأسباب ، بدل : لها أسباب.

(٢) في «ح» : سببه.

(٣) في «ح» : بشي‌ء.

(٤) في «أ» : طاهر.

٦٩

فقد حكم بثبوت الأحكام بهما ، فيصير الحكم ـ حينئذ ـ معلوما من الشارع ، ولا معنى للنجس ونحوه ـ كما عرفت ـ إلّا ذلك وإن فرض عدم ملاقاة النجاسة في (١) الواقع ، ألا ترى أنه وردت الأخبار بأن الأشياء كلّها على يقين الطهارة ويقين الحليّة حتى يعلم النجس والتحريم بعينه؟ مع أن هذا اليقين ـ كما عرفت ـ ليس إلّا عبارة عن عدم العلم بالنجاسة والحرمة. وعدم العلم لا يدلّ على العدم ، فيجوز أن تكون تلك الأشياء ـ كلّا أو بعضا ـ بحسب الواقع ونفس الأمر على النجاسة أو الحرمة لو كان كلّ من النجاسة والحرمة من الامور النفس الأمريّة الواقعيّة بدون علم المكلّف بذلك. وكذلك القول في حكم (٢) الشارع بقبول قول المالك في طهارة ثوبه وإنائه ، وطهارة ما في أسواق المسلمين وحليّته ؛ لعين ما ذكرنا.

وبالجملة ، فالعلم واليقين المتعلّق بهذه الأحكام ليس عبارة عمّا توهّموه من الإناطة بالواقع ونفس الأمر وإن لم يظهر للمكلّف ، وأن متيقّن النجاسة عند المكلّف ليس إلّا عبارة عمّا وجد فيه النجاسة ، حتى إنه يصير ما عدا هذا الفرد ممّا أخبر به المالك أو شهد به العدلان مظنون النجاسة ؛ إذ لو كان كذلك لزم مثله في جانب الطهارة ؛ إذ الجميع من باب واحد ، فإنها أحكام متلقّاة من الشارع ، فيختصّ الحكم بالطهارة يقينا حينئذ بما باشر المكلّف أو حضر تطهيره ولم يغب عنه بعد ذلك ، وإلّا لكان مظنون الطهارة أو مرجوحها ، مع أن المعلوم من الشرع ـ كما عرفت ـ خلافه ، فإنّه قد حكم بأن الأشياء على يقين الطهارة.

ويؤيّد (٣) ما صرنا إليه في هذا المقام ـ وإن غفل عنه جملة من علمائنا الأعلام ـ ما نقله في كتاب (المعالم (٤)) (٥) عن سيّدنا المرتضى رضي‌الله‌عنه ـ وارتضاه جملة

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) في «ح» : بحكم ، بدل : في حكم.

(٣) في «ح» : يزيد.

(٤) من «م» ، وفي «ح» : لمعة ، وفي «ق» : العلل.

(٥) معالم الاصول : ٢٦٩ ، بالمعنى.

٧٠

ممّن تأخر عنه ـ من أن وجوب الحكم على القاضي بعد شهادة العدلين ليس من حيث إنها توجب (١) حصول الظنّ ، بل من حيث إن الشارع جعلها سببا لوجوب الحكم على القاضي كما جعل دخول الوقت سببا لوجوب الصلاة (٢). انتهى.

وأيّده بعض من تأخر عنه ، بأن كثيرا ما لا يحصل الظنّ بشهادتهما لمعارضة قرينة حاليّة مع وجوب الحكم على القاضي (٣). انتهى.

ومثله يأتي في ما ذكرنا من الأسباب ، كما لا يخفى على ذوي الألباب. وبذلك يظهر أن الأظهر في معنى الخبر المذكور هو أن المراد بالعلم فيه ما هو المتبادر من لفظه وهو اليقين والقطع ، لكن لا بالنظر إلى نفس الأمر من حيث هو ؛ إذ لا مدخل له كما عرفته في الأحكام الشرعيّة ، بل بالنظر إلى الأسباب التي جعلها الشارع مناطا للنجاسة وعلم المكلّف بها ، فيقين النجاسة والطهارة إنّما يدور على ذلك وجودا وعدما. وحينئذ ، فالظاهر شرعا هو ما لا يعلم المكلّف بملاقاة النجاسة له ، لا ما لم تلاقه النجاسة مطلقا ، والنجس هو ما علم المكلّف نجاسته (٤) بأحد تلك الأسباب ، لا ما لاقته النجاسة مطلقا.

تتميم قبول قول المالك في الطهارة والنجاسة

ظاهر كلام الأصحاب ـ قدّس الله أرواحهم ـ الاتّفاق على قبول قول المالك في طهارة ثوبه وإنائه ونجاستهما. وناقش فيه بعض أفاضل متأخري المتأخرين ، حيث قال : (وأما قبول قول المالك عدلا كان أو فاسقا فلم نظفر له على حجّة ، وقد يؤيّد بما رواه في (التهذيب) عن إسماعيل بن عيسى ، قال : سألت

__________________

(١) في «ح» : موجب.

(٢) الفوائد المدنيّة : ٩١ ، وفيه نسبة القول للسيد المرتضى أيضا عن المعالم.

(٣) الفوائد المدنيّة : ٩١.

(٤) في «ح» : بنجاسته.

٧١

أبا الحسن عليه‌السلام عن جلود الفراء يشتريها (١) الرجل من أسواق الجبل ، يسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ قال : «عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك ، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه» (٢).

وجه التأييد أن ظاهره أن قول المشركين يقبل في أموالهم أنه ذكيّة ، وإلّا فلا فائدة للسؤال عنهم. وإذا قبل قول المشركين ، فقول المسلمين بطريق أولى.

لكن سند الرواية غير نقي ، مع أن في الظهور المذكور تأمّلا) (٣) انتهى.

أقول : ما ذكره قدس‌سره من المناقشة في عموم الحكم المذكور على وجه يشمل الكافر في محلّه ؛ لعدم الظفر بمستنده. وأما الرواية التي ذكرها وزعم دلالتها بظاهرها على قبول قول الكافر ، فالظاهر أن المعنى فيها ليس على ما فهمه قدس‌سره ، وإن كان قد سبقه إلى ذلك المحدّث الكاشاني في (الوافي) ، حيث قال بعد نقل الخبر المذكور : (وإنّما يجب السؤال إذا كان البائع مشركا (٤) لغلبة الظنّ حينئذ بأنه غير ذكي ، إلّا إنه يخبر هو بأنه من ذبيحة المسلمين فيصير مشكوكا فيه ، فجاز لبسه حينئذ حتى يعلم كونه ميتة) (٥) انتهى.

ولا يخفى أنه يرد على هذا التفسير :

أوّلا : أنه لا مناسبة في ارتباط الجواب بالسؤال ؛ إذ المسائل إنّما سأل عن الاشتراء من المسلم ، فكيف يجاب على تقدير الاشتراء من المشرك؟

وثانيا : أنه لا معنى لقوله في آخر الخبر «إذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه» ،

__________________

(١) في «ح» : الفرا يشبها ، بدل : الفراء يشتريها.

(٢) تهذيب الأحكام ٢ : ٣٧١ / ١٥٤٤.

(٣) القائل هو المحقّق الخونساري في شرح الدروس ، صرّح بذلك المصنّف رحمه‌الله في الحدائق الناضرة ٥ : ٢٥٢ ـ ٢٥٣.

(٤) في «ح» : مشتركا.

(٥) الوافي ٧ : ٤٢١.

٧٢

بل الأظهر في معنى الخبر المذكور ، أنه لمّا سأل السائل عن حكم الشراء في السوق المذكورة إذا كان البائع مسلما ، وأنه هل يسأل عن ذكاته أم لا؟ أجاب عليه‌السلام بالتفصيل بأنه إذا كان في تلك السوق من يبيع من المشركين فعليكم السؤال في ذلك المسلم ؛ إذ لعلّه أخذه من المشركين ، وإذا رأيتم المسلم يصلّي فيه فلا تسألوا ؛ لأن صلاته فيه دليل على طهارته عنده.

ويفهم من الخبر بمفهوم الشرط أنه مع عدم من يبيع من المشركين فليس عليهم السؤال ، ويدلّ على عدم السؤال إطلاق صحيحة البزنطي ، قال : سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فراء لا يدري أذكيّة هي أم غير ذكيّة أيصلّي فيها؟ قال : «نعم ، ليس عليكم المسألة ، إن أبا جعفر عليه‌السلام كان يقول : إن الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم ، وإن الدين أوسع من ذلك» (١).

وأنت خبير بأنه يظهر من خبر البزنطي المذكور ـ حيث تضمّن نفي المسألة والردّ على الخوارج في ذلك ، ونسبتهم إلى تضييق الدين بالمسألة ـ أنه مع السؤال يقبل قول المسؤول ، وإلّا لما حصل الضيق في الدين بالسؤال كما لا يخفى ؛ إذ الظاهر أن المراد من الخبر أن جميع الأشياء بمقتضى سعة الدين المحمّدي على ظاهر الحلّيّة والطهارة ، فالسؤال والفحص عن كلّ فرد فرد بأنه حلال أو حرام أو طاهر أو نجس تضييق لها ورفع لسهولتها التي قد منّ الشارع بها على عباده.

ومعلوم أن حصول الضيق حينئذ إنّما يتمّ بقبول قول المالك بالنجاسة والحرمة.

وممّا يدلّ على المنع من السؤال بعض الأخبار الواردة في الجبن ، حيث إنه عليه‌السلام

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٦٧ / ٧٨٧ ، تهذيب الأحكام ٢ : ٣٦٨ / ٥٢٩ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٩١ ، أبواب النجاسات ، ب ٥ ، ح ٣.

٧٣

أعطى الخادم درهما وأمره أن يبتاع به من مسلم جبنا ونهاه عن السؤال (١).

وحينئذ ، ففي هذه الأخبار ونحوها دلالة على قبول قول المالك عدلا كان أم لا.

وممّا يدلّ على ذلك ما رواه الحميري في (قرب الإسناد) عن عبد الله بن بكير ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أعار رجلا ثوبا يصلّي فيه وهو لا يصلّي فيه.

قال : «لا يعلمه». قلت : فإن أعلمه؟ قال : «يعيد» (٢).

وهي كما ترى صريحة في قبول قول المالك في طهارة ثوبه ونجاسته ؛ لحكمه عليه‌السلام بإعادة الصلاة على المستعير لو صلّى بعد الإعلام.

ويدلّ على ذلك أيضا موثّقة معاوية بن عمّار ، قال : سألت أبا عبد الله عن الرجل من أهل المعرفة بالحقّ يأتيني بالبختج (٣) ويقول : قد طبخ على الثلث ، وأنا أعلم أنه يشربه على النصف ، فأشربه بقوله وهو يشربه على النصف؟ فقال : «لا تشربه». قلت : فرجل من غير أهل المعرفة ممّن لا نعرفه يشربه على الثلث ولا يستحلّه على النصف ، يخبرنا أن عندنا بختجا وقد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه ، يشرب منه؟ قال : «نعم» (٤).

ورواية عليّ بن جعفر عن أخيه ، قال : سألته عن الرجل يصلّي إلى القبلة لا يوثق به ، أتى بشراب زعم أنه على الثلث ، فيحلّ شربه؟ قال : «لا يصدّق إلّا أن يكون مسلما عارفا» (٥).

__________________

(١) المحاسن ٢ : ٢٩٥ ـ ٢٩٦ / ١٩٧٥ ، وسائل الشيعة ٢٥ : ١١٧ ـ ١١٨ ، أبواب الأطعمة المباحة ، ب ٦١ ، ح ١.

(٢) قرب الإسناد : ١٦٩ / ٦٢٠.

(٣) البختج : العصير المطبوخ. النهاية في غريب الحديث والأثر ١ : ١٠١ ـ بختج.

(٤) الكافي ٦ : ٤٢١ / ٧ ، تهذيب الأحكام ٩ : ١٢٢ / ٥٢٦ ، وسائل الشيعة ٢٥ : ٢٩٣ ـ ٢٩٤ ، أبواب الأشربة المحرّمة ، ب ٧ ، ح ٤.

(٥) تهذيب الأحكام ٩ : ١٢٢ / ٥٢٨ ، وسائل الشيعة ٢٥ : ٢٩٤ ، أبواب الأشربة المحرّمة ، ب ٧ ، ح ٧.

٧٤

وموثّقة عمّار بن موسى عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه سئل عن الرجل يأتي بالشراب ، فيقول : هذا مطبوخ على الثلث ، فقال : «إن كان مسلما ورعا مأمونا ، فلا بأس أن يشرب» (١). وقد دلّت هذه الأخبار على قبول قول المالك في حلّ ما بيده إذا لم يعلم منه خلافه.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٩ : ١١٦ / ٥٠٢ ، وسائل الشيعة ٢٥ : ١٩٤ ، أبواب الأشربة المحرّمة ، ب ٧ ، ح ٧.

٧٥
٧٦

(٢) درّة نجفيّة

في معذورية الجاهل

قد استفاضت الأخبار (١) عن الأئمّة الأخيار ـ صلوات الله عليهم ـ بمعذوريّة الجاهل في جملة من الأحكام إلّا مواضع مخصوصة ، والمشهور بين الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ عدم المعذورية إلّا في مواضع مخصوصة ، كحكمي الجهر والاخفات ، والقصر والاتمام. وفرّعوا على ذلك بطلان صلاة الجاهل ، وهو من لم يكن مجتهدا ولا مقلّدا ؛ حيث أوجبوا معرفة واجب الصلاة وندبها ، وابقاء كلّ منهما على وجهه ، وأنّ تلك لا بدّ أن تكون عن أحد ذينك الوجهين المذكورين.

فصلاة المكلّف بدون اجتهاد أو تقليد باطلة عندهم وإن طابقت الواقع ، وطابق اعتقاده وإيقاعه للواجب والندب ما هو المطلوب شرعا.

وممن صرح بذلك الشهيدان (٢) ـ رحمهما‌الله ـ في مواضع من مصنّفاتهما ، وخالف في ذلك جمع من متأخري المتأخرين ، منهم المولى الأردبيلي ، وتلميذه السيّد السند صاحب (المدارك) والمحدّث الكاشاني ، والمحدّث الأمين الأسترآبادي (٣) ، والفاضل المحدث العلّامة السيّد نعمة الله الجزائرى ، وشيخنا

__________________

(١) انظر وسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٩ ، أبواب جهاد النفس ، ب ٥٦.

(٢) الألفيّة في الصلاة اليوميّة : ٢٢ ـ ٢٣ ، روض الجنان : ٢٤٨.

(٣) سيأتي نص كلامه ، وكلام من قبله.

٧٧

العلّامة الشيخ سلمان بن عبد الله البحراني ، قدس الله أرواحهم. وهو الحق الحقيق بالاتّباع كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى.

قال المحدث السيد نعمة الله رحمه‌الله في شرح كتاب (عوالي (١) اللآلي) بعد نقل ذلك عن الشهيدين : (ويلزم على هذا بطلان عبادة أكثر الناس خصوصا في هذه الأعصار وما قاربها ، وذلك أن وجود (٢) المجتهدين في كلّ صقع وكل بلد متعذّر ؛ لأن صروف الليالي أذهبت العلماء ، وما بقي (٣) من يرجع إلى قوله إلّا القليل في بلد من البلدان أو صقع من الأصقاع :

فكأنها برق تألّق بالحمى

ثم انثنى فكأنه لم يلمع (٤)

وإذا كان المقلد في أقاصي البلدان فكيف (٥) يتمكّن من الوصول إلى المجتهد في أكثر أوقاته؟ فيلزم الحرج على الخلق).

إلى أن قال : (والناس في الأعصار السابقة واللاحقة كانوا يتعلمون العبادات وأحكامها من الواجبات والمندوبات والسنن بعضهم من بعض من غير معرفة باجتهاد ولا تقليد ، والعوام في جميع الأعصار ؛ حتى في أعصار الأئمَّة عليهم‌السلام كانوا يصلّون ويصومون على ما أخذوا من الآباء ، ومن حضرهم من العلماء وإن لم يبلغوا مرتبة الاجتهاد.

على (٦) أن الصلاة المأمور بها شرعا ما كان تتفق إلّا من آحاد العلماء. ألا ترى

__________________

(١) في «ح» : غوالي. قال صاحب (الذريعة) قدس‌سره ، (وقد يقال له (غوالي) ـ بالغين ـ ولا أصل له). انظر الذريعة ٥ : ٣٥٨ ، وقال المصنّف في مقدمة كتابه : (وسميته عوالي اللآلي ...) ، وفي هامشه ما لفظه : (بالعين المهملة ، وما يدور على ألسنة بعض الفضلاء بالغين المعجمة ؛ فإنه تصحيف ، فإنه مضبوط بخطه بالمهملة). «جه» عوالي اللآلي ١ : ٥       .

(٢) في «ح» : وجوه.

(٣) في «ح» : لا بقي.

(٤) البيت من الكامل. كشف الأسرار في شرح الاستبصار ٢ : ٧٤.

(٥) في «ح» : كيف.

(٦) في «ب» : وعلى.

٧٨

إلى (١) حمّاد كيف كان يحفظ كتاب حريز في الصلاة؟ فلمّا صلّى بحضور الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «يا حمّاد لا تحسن أن تصلي» (٢). فقام عليه‌السلام وصلّى ركعتين تعليما له.

هذا وحمّاد من أجلّ أهل الرواية ومن أصحاب الأئمّة ، فلما ظنك بصلاة غيره لو أوقعها بحضور أحدهم عليهم‌السلام؟ على أن الصلاة إذا وقعت على نهج الصواب وكانت مأخوذة من أهل الإيمان ، فما السبب في بطلانها؟ وشي‌ء آخر وهو أنهم صرحوا بأنه لا فرق بين تارك الصلاة ، وبين من أوقعها على غير الوجه المطلوب ، ولو بالإخلال بحرف من القراءة أو حركة أو ذكر أو قيام أو قعود ، إلى غير ذلك ممّا حرره في كتبهم.

وأنت إذا تتّبعت عبادات عوام المذهب سيّما في الصلاة ، ما تجد أحدا منهم إلّا والخلل في عباداته ، خصوصا الصلاة ، ولا سيّما القراءة فيما يوجب بطلانها بكثير ، فيلزم بطلان صلاتهم كلها ، فيكونون متعمّدين في ترك الصلاة مدّة أعمارهم ، بل مستحلّين تركها ؛ لأنهم يرون أن الصلاة المشروعة هي ما أتوا به ، وقد حكمتم ببطلانها. فهذه هي الداهية العظمى والمصيبة الكبرى على عوام مذهبنا مع تكثّرهم ووفورهم.

فإن قلت : فما المخلص من هذه البلية العامة؟

قلت : قد استفاض من الأخبار عن النبيّ وأهل بيته ـ عليهم أفضل الصلوات من الملك الجبار ـ «الناس في سعة ما لم يعلموا» (٣) فمن كان جاهلا للأصل أو جاهلا للحكم يكون داخلا تحت عموم الخبر ، فيعذر في جهله ، حتى يعرف

__________________

(١) في «ب» : أن.

(٢) الفقيه ١ : ١٩٦ / ٩١٦ ، وسائل الشيعة ٥ : ٤٥٩ ، أبواب أفعال الصلاة ، ب ١ ، ح ١.

(٣) الكافي ٦ : ٢٩٧ / ٢ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٩٣ ، أبواب النجاسات ، ب ٥ ، ح ١١ ، وفيهما : «هم في سعة حتى يعلموا».

٧٩

الحكم فيطلبه. وحينئذ ، فيكون الأولى أن يجعل (١) الضابط هكذا : الجاهل معذور إلّا ما قام الدليل عليه. والأكثر عكسوا الكلية ، وقالوا : الجاهل كالعالم إلّا ما خرج بالدليل ، فيلزم ما تقدم من الضيق والحرج ، وللنظر إلى ما حررناه وردت الأخبار المتضمّنة لقولهم عليهم‌السلام : «ما أخذ الله على الجهّال أن يتعلّموا حتّى أخذ على العلماء أن يعلّموا» (٢).

وقال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصف نفسه الشريفة : «طبيب دوار بطبه ، قد أحكم مراهمه ، وأحمى مواسمه ، يضع عن ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عمي ، وآذن صمّ ، وألسنة بكم ، متتبّع (٣) بدوائه في مواضع الغفلة ومواطن الحيرة» (٤).

يعني : أنه عليه‌السلام طبيب داء الجهل ، والجهال مرضى القلوب (٥). ومن القانون أن الطبيب يمضي إلى المريض كما كان المسيح عليه‌السلام يفعل ذلك ، فقال له الحواريون : هنا؟ في موضع ما كانوا عهدوه يمضي إليه ، فقال : «نعم إنّما يأتي الطبيب المريض» (٦).

والمراد ب «مراهمه» : علومه ومواعظه التي هي مراهم قلب الجاهل. والمراد من «المراسم» : سيفه وسوطه ، فإن من لا تنفع فيه المواعظ وقعت عليه الحدود الإلهيّة.

والحاصل أن الجهّال معذورون حتّى يأتي إليهم علوم الأحكام والمعرفة بها من علماء الدين) انتهى كلامه ، زيد إكرامه.

__________________

(١) في «ح» : يحصل.

(٢) بحار الأنوار ٢ : ٧٨ / ٦٧.

(٣) في «ح» : تتبع.

(٤) نهج البلاغة : ٢٠١ / الخطبة : ١٠٨ ، بحار الأنوار» ٣٤ : ٢٤٠.

(٥) من «م».

(٦) شرح نهج البلاغة (ابن أبي الحديد) ٧ : ١٨٣ ، وفيه : إنما يأتي الطبيب المرضى.

٨٠