الدّرر النجفيّة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

وثانيها : أن معناه : (أنه ليس لك من العدد إلّا الوحدانية ، والمراد : أنه ليس بداخل في العدد ، بل له تعالى هذا الوصف بمعنى آخر) (١). ولعل ذكر العدد لفائدة أنه إذا وصف تعالى بكونه أحدا ربما يتوهم منه أن أحديته عددية يلزمها ما يلزم الوحدة العددية. فقوله عليه‌السلام يدل على أنه ليس له إلّا الوحدانية المغايرة لوحدة العدد ، المشاركة لها في الاسم.

ويحتمل أن يكون في التعبير بالوحدانية دون الواحدية إشارة إلى أن العدد هنا ليس العدد الذي له الواحدية ، بل الذي له الوحدانيّة ، فيكون مسمّى بالعدد مجازا ، والمعنى : إذا عدّت الموجودات كنت أنت المتفرد بالوحدانية من بينها.

وثالثها : أن معناه : (أن لك من جنس العدد صفة الوحدة ، وهو كونك لا شريك لك ، ولا ثاني لك في الربوبية) (٢).

ورابعها : أن المراد به : (أن لك وحدانية العدد بالخلق والإيجاد لها ، فإن الوحدة العددية ؛ من صنعه وفيض وجوده) (٣). ولا يخفى أنه بمعزل عن المقام كما لا يخفى على ذوي الأفهام.

وخامسها : أن المعنى : (أنه لا قيوم واجب بالذات إلّا أنت. ويكون معناه : أن الوحدة العددية ظل الوحدة الحقّة الصرفة (٤) القيّومة ؛ فسبيل اللام في قوله عليه‌السلام : لك سبيلها في قوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (٥)) (٦). والظاهر بعده.

وسادسها : أن الياء في ال «وحدانية» ياء النسبة ، وحاصل المعنى (أن الوحدانيّة ـ التي نسبت إليها الأعداد وتركّبت منها ، وهي لم تدخل تحت عدد ـ مخصوصة بالإطلاق عليك لا تطلق على غيرك ؛ لأن كل ما سواك فله ثان يندرج معه تحت

__________________

(١) انظر منية الممارسين : ٣١٦.

(٢) انظر رياض السالكين ٤ : ٢٩٥.

(٣) انظر المصدر نفسه.

(٤) من «ح» ، وفي «ق» : المعرفة.

(٥) البقرة ٢٥٥.

(٦) انظر منية الممارسين : ٣١٦.

٣٨١

كلّيّ ، فهو واحد من الجنس) (١).

وسابعها : أن تكون الياء للمبالغة مثلها في (أحمري) ، والمعنى (أن حقيقة الوحدة العددية التي ينبغي أن تسمى وحدة مخصوصة بك ، وأما إطلاقها على غيرك فمجاز شائع) (٢). وتحقيقه ما رواه ثقة الإسلام في (الكافي) (٣) والصدوق في (التوحيد) (٤) بسنديهما عن فتح الجرجاني عن أبي الحسن عليه‌السلام في حديث طويل يقول فيه : قلت : يا بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، [قلت] : «لا يشبهه شي‌ء ولا يشبه هو شيئا ، والله واحد والإنسان واحد» ، أليس قد تشابهت الوحدانية؟ قال : «يا فتح ، أحلت ثبّتك الله ، إنما التشبيه في المعاني ، وأما في الاسماء فهي واحدة ، وهي دليل (٥) على المسمى ، وذلك أن الإنسان وإن قيل : واحد ، فإنه يخبر أنه جثة واحدة ، وليس باثنين ، والإنسان نفسه ليس بواحد ، لأن أعضاءه مختلفة وألوانه مختلفة ومن ألوانه مختلفة غير واحد (٦). وهو أجزاء مجزأة ليست بسواء ؛ دمه غير لحمه ، ولحمه غير دمه ، وعصبه غير عروقه ، وشعره غير بشره ، وسواده غير بياضه ، وكذلك سائر جميع الخلق. فالإنسان واحد في الاسم لا واحد في المعنى ، والله جل جلاله هو واحد ولا واحد غيره ، لا اختلاف فيه ولا تفاوت ، ولا زيادة ولا نقصان.

فأما (٧) الإنسان المخلوق المصنوع (٨) من أجزاء مختلفة وجواهر شتّى ، غير أنه بالاجتماع شي‌ء واحد». قلت : جعلت فداك فرجت عني ، فرّج الله عنك.

وثامنها : أن معناه (لا كثرة فيك ، أي لا جزء لك ولا صفة لك يزيدان على

__________________

(١) انظر منية الممارسين : ٣١٤.

(٢) انظر المصدر نفسه.

(٣) الكافي ١ : ١١٨ ـ ١١٩ / ١ ، باب الفرق بين المعاني التي تحت أسماء الله وأسماء المخلوقين.

(٤) التوحيد : ٦٢ / ١٨.

(٥) في المصدر : دالة.

(٦) أي مختلف الألوان متكثّر.

(٧) كذا في النسختين والمصدر.

(٨) في «ح» والمصدر بعدها : المؤلّف.

٣٨٢

ذلك) (١). وإلى هذا مال بعض أفاضل متأخري المتأخرين في شرح له على (الصحيفة السجّادية) ، قال : (وتوضيح المرام أن قوله عليه‌السلام : «لك يا إلهي وحدانية العدد» يفسّره قوله عليه‌السلام : «ومن سواك ... مختلف الحالات ، منتقل في الصفات؟» (٢) ، فإنه عليه‌السلام قابل كلّ فقرة من الفقرات الأربع المتضمنة للصفات الّتي قصرها عليه سبحانه بفقرة متضمنة لخلافها فيمن سواه على طريق اللف والنشر الذي يسميه أرباب البديع (معكوس الترتيب) (٣).

إذا علمت ذلك ظهر لك أن المراد بوحدانية العدد له [تعالى] معنى يخالف معنى اختلاف الحالات والتنقل في الصفات لغيره سبحانه. فيكون المقصود إثبات وحدانية ما تعدد من صفاته وتكثر من جهاته ، وأن عددها وكثرتها في الاعتبارات والمفهومات لا يقتضي اختلافا في الجهات والحيثيات ، ولا تركيبا من الأجزاء ، بل جميع نعوته وصفاته المتعددة موجودة بوجود ذاته. وحيثيّة ذاته بعينها حيثية علمه وقدرته وسائر صفاته الإيجابية ، فلا تعدد فيها ولا تكثير فيها أصلا ، بل هي وحدانية العدد موجودة بوجود واحد بسيط من كل وجه ؛ إذ كل منها عين ذاته ؛ فلو تعددت لزم كون الذات الواحدة ذواتا).

إلى أن قال : (وبالجملة ، فمعنى قصر وحدانية العدد عليه سبحانه : نفي التعدد والتكثر والاختلاف عن الذات والصفات على الإطلاق. وهذا المعنى مقصور عليه سبحانه لا يتجاوزه إلى غيره) (٤) انتهى ملخّصا ، وهو جيد. وحاصله أن ما كان متعددا بالنسبة إلى غيرك من الذات المباينة للصفات المتعددة المتغايرة

__________________

(١) انظر رياض السالكين ٤ : ٢٩٥.

(٢) الصحيفة الكاملة السجّادية : ٧٦.

(٣) اللف والنشر : ذكر متعدد على التفصيل أو الإجمال ثم ذكر ما لكل واحد من آحاد هذا المتعدّد. شرح المختصر ٢ : ١٤٣.

(٤) رياض السالكين ٤ : ٢٩٥ ـ ٢٩٦ ، ٢٩٧.

٣٨٣

واحدة بالنسبة إليك ، وهو راجع إلى المعنى الثالث من معاني الواحد المتقدّمة.

أقول : والتحقيق أن الكلام هنا مبني على عدم دخول الواحد في الأعداد وإن تركبت منه كما هو أصح القولين ، وإليه جنح شيخنا البهائي قدس‌سره في (الزبدة) حيث قال : (والحق أنه ليس بعدد وإن تألفت منه الأعداد).

ويدل عليه أيضا ما رواه الصدوق رحمه‌الله في (التوحيد) عن الباقر عليه‌السلام حيث قال : «والأحد والواحد بمعنى واحد وهو المتفرّد الذي لا نظير له. والتوحيد : الإقرار بالوحدة وهو الانفراد. والواحد المتباين الذي لا ينبعث من شي‌ء ولا يتّحد بشي‌ء. ومن ثمّ قالوا : إن بناء العدد من الواحد وليس الواحد من العدد ؛ لأن العدد لا يقع على الواحد ، بل يقع على الاثنين» (١) الحديث.

وحينئذ ، فالواحد إذا لم يكن له ثان ليس بداخل في العدد. وبهذا المعنى يكون مخصوصا به سبحانه ؛ لأن ما سواه فله ثان يندرج معه تحت كلّيّ ، ويشير إليه قوله عليه‌السلام في خبر الأعرابي : «لأن ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد».

وحاصل المعنى حينئذ : أن الوحدة المنسوبة إليها الأعداد باعتبار تركبها منها ـ وهي ليست منها ـ حقيقة مخصوصة بالإطلاق عليك ، فلا تطلق على غيرك ، فهو سبحانه متفرّد بالوحدانية لذاته ، بمعنى أن الوحدانية مقتضى ذاته كما يشير إليه قوله عليه‌السلام : «ولا يتحدّد بشي‌ء» ، أي ليس اتّصافه بالوحدة من جهة أمر آخر وراء ذاته.

وأما غيره ، فثبوت الوحدة له لا من حيث الذات ، بل من حيث الانفراد عن المماثل له من أبناء النوع والجنس ، كما هو المفهوم المتعارف من معنى انفراد الناس بعضا عن بعض ممن عادته مشاركته في محادثاته ومحاوراته وسائر

__________________

(١) التوحيد : ٩٠ / ٢.

٣٨٤

حالاته وانفراد أحد المخالفين من الحيوانات عن الآخر ممن يأنس به ويستوحش بفقده.

وبالجملة ، فالواحد إنما يوصف بكونه عدديا إذا كان له كثرة بحيث يكون مبدأ لها وعادّا لها ، وإلّا فهو في حد ذاته من حيث هو لا يوصف بذلك. وحينئذ ، فيحمل ما ورد في الأخبار من تنزيهه سبحانه عن الوحدة العددية على المعنى الأوّل ، بمعنى : أنه تعالى ليس بواحد عددي بأن يكون مبدأ كثرة يكون عادّا لها.

وما ورد في الدعاء من ثبوت الوحدانية العددية على المعنى الثاني ، ويؤيده الخبر المنقول عن الباقر عليه‌السلام ، والله العالم بمراد أوليائه.

فإن قلت : ما تقول في قوله تعالى (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلّا هُوَ سادِسُهُمْ) (١) ـ الآية ـ فإنها تدل بظاهرها على دخوله سبحانه في الأعداد ، وكونه واحدا من تلك الأفراد ، مع أنه تعالى كما ذكرت منزّه عن الوحدة العددية (٢)؟

قلت : الجواب عن ذلك من وجهين :

أحدهما : ما ذكره شيخنا الصدوق ـ عطر الله مرقده ـ في (التوحيد) حيث قال بعد أن ذكر أن الشي‌ء قد يعد مع ما جانسه وشاكله وماثله ، وأن الله لا يعد على هذا الوجه ولا يدخل في العدد من هذا الوجه ما لفظه : (وقد يعد الشي‌ء مع مالا يجانسه ولا يشاكله ، يقال : هذا بياض ، وهذا بياضان وسواد ، وهذا محدث وهذان محدثان وهذان ليسا بمحدثين ولا مخلوقين ، بل أحدهما قديم والآخر محدث ، وأحدهما ربّ والآخر مربوب. فعلى هذا الوجه يصح دخوله في الأعداد ، وعلى

__________________

(١) المجادلة : ٧.

(٢) وهو أن الواحد في حدّ ذاته من حيث هو لمّا يوصف بالوحدة العدديّة ربما وصف بها هنا من حيث نسبة الأعداد إليه ، والحال أنه ليس هنا كما سبق بيانه. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

٣٨٥

هذا النحو قال الله تبارك وتعالى (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) (١) الآية) (٢).

وثانيهما ـ وهو الأظهر ؛ فإن ما ذكره شيخنا الصدوق رحمه‌الله لا يخلو من خدش ـ : ما ورد في صحيحة عمر بن أذينة عن أبي عبد الله عليه‌السلام في تفسير الآية المذكورة ، حيث قال عليه‌السلام : «هو واحد وأحدي بالذات ، بائن من خلقه (٣) ، وهو بكل شي‌ء محيط بالإشراف والإحاطة والقدرة ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض (٤) ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر بالإحاطة والعلم لا بالذات ؛ لأن الأماكن محدودة تحويها حدود أربعة ؛ فإذا كان بالذات لزمها الحواية» (٥).

وحاصل معنى الخبر المذكور أن كونه رابع الثلاثة وسادس الخمسة إنما هو باعتبار إحاطة علمه سبحانه بما يتناجون به ، وإشرافه على ذلك ، لا باعتبار حضور ذاته مع ذواتهم ؛ فإن ذلك يستلزم المحلّ والمكان والحواية.

وبالجملة ، فمعيته سبحانه معهم ، إنما هي عبارة عن العلم والإحاطة الواحدة بالنسبة إلى جميع المعلومات لا المعية الذاتية المستلزمة للمعية المكانية والزمانية. ويوضّح هذا المعنى ما رواه في كتاب (التوحيد) عن محمد بن النعمان قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله تعالى (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) (٦) ، قال : «كذلك هو في كل مكان». قلت : بذاته؟ قال : «ويحك ، إن الأماكن أقدار ، فإذا قلت : في مكان بذاته ، لزمك أن تقول في أقدار وغير ذلك ، ولكن هو بائن

__________________

(١) المجادلة : ٧.

(٢) التوحيد : ٨٦.

(٣) في المصدر بعدها : وبذلك وصف نفسه.

(٤) في المصدر : ولا في الأرض.

(٥) التوحيد : ١٣١ / ١٣.

(٦) الأنعام : ٣.

٣٨٦

من خلقه ، محيط بما خلق علما وقدرة وسلطانا وملكا وإحاطة (١). وليس علمه بما في الأرض بأقل من علمه بما في السماء (٢) ، ولا يبعد منه شي‌ء ، والأشياء له سواء ، علما وقدرة وسلطانا وملكا وإحاطة (٣)» (٤).

وحينئذ تبيّن لك أنه ليس معنى (إِلّا هُوَ رابِعُهُمْ) : أنه (٥) رابع الثلاثة بالعدد ، ومصيرها أربعة بضم الواحد العددي الذي هو نفسه إليها كما هو المعتبر في مرتبة الأعداد ، والمتوهم هنا في بادئ الرأي. وبذلك يتّضح وجه الفرق بين هذه الآية وبين قوله سبحانه (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) (٦) ـ الآية ـ فإن هذه الآية صريحة في كون الثالث المضاف إلى الثلاثة من جنسها ، وأنه واحد من أعدادها ، بمعنى : أنهم قالوا بآلهة ثلاثة ، وأن الله ثالثهم ، بخلاف قولك : رابع الثلاثة فإنه لا يدلّ صريحا على أنه من جنس الثلاثة وفي أعدادها ؛ فإن رابع الثلاثة قد لا يكون من جنس الثلاثة ولا في أعدادها كما في قوله سبحانه (ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ) (٧).

فإذا لم يلزم أن يكون من جنسها جاز أن يكون فيه على نحو آخر ، بأن يكون المعنى باعتبار إحاطته علما بما اشتركوا فيه من الجهة الجامعة. فلو قيل في تلك الآية أيضا : ثالث اثنين مكان قولهم : (ثالِثُ ثَلاثَةٍ) ، لم يلزم كفرهم ؛ لقبول الاحتمال بما ذكرناه ، وعدم الصراحة فيما يؤدي إلى الكفر ، والله تعالى أعلم.

__________________

(١) في المصدر : علما وقدرة وإحاطة وسلطانا وملكا ، وكذا في «ح» غير أنه ليس فيها :وملكا.

(٢) في المصدر : باقل مما في السماء ، بدل : بأقل من علمه بما في السماء.

(٣) وليس علمه ... ملكا وإحاطة ، من «ح» والمصدر.

(٤) التوحيد : ١٣٣ / ١٥.

(٥) رابعهم أنه ، سقط في «ح».

(٦) المائدة : ٧٣.

(٧) الكهف : ٢٢.

٣٨٧
٣٨٨

(١٧)

درّة نجفيّة

في تحقيق الفرقة الناجية

روى فخر المحققين عن والده العلّامة قدس‌سرهما قال : (حكى لي والدي عن أفضل المتأخرين ، نصير الملة والحق والدين ، الطوسي ـ طيب الله ثراه ـ قال : (الفرقة الناجية هي الفرقة الإمامية ، وذلك أني وقفت على جميع المذاهب اصولها وفروعها ، فوجدت من عدا الإمامية مشتركين في الاصول المعتبرة في الإيمان وإن اختلفوا في أشياء يساوي إثباتها نفيها بالنسبة إلى الإيمان ، ثم وجدت أن طائفة الإمامية هم يخالفون الكل في اصولهم ؛ فلو كانت فرقة من عداهم ناجية لكان الكلّ ناجين ، [فدلّ] (١) على أن الناجية هم الامامية لا غير) (٢) انتهى.

قال الفاضل المحدث السيد نعمة الله الجزائري قدس‌سره بعد نقل ذلك : (وتحريره أن جميع الفرق متفقون على أن مناط النجاة ودخول الجنة هو الإقرار بالشهادتين ، وخالفهم الإمامية وقالوا : لا بدّ من ضم ولاية أهل البيت عليهم‌السلام والبراءة من أعدائهم ، وهي التي يدور عليها النجاة والهلاك).

ثم قال رحمه‌الله : (وأجاب نصير الملة والدين الطوسي جوابا آخر حيث قال : إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله عين الفرقة الناجية والهالكة في حديث صحيح متفق عليه وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مثل

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : يدل.

(٢) إيضاح الفوائد ١ : ٨ ـ ٩ ، باختلاف يسير.

٣٨٩

أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق» (١).

وهذا الحديث متفق عليه ، رواه الجمهور من طرق متعددة. والإمامية هم مختصّون بركوب هذه السفينة ؛ لأنهم أخذوا مذهبهم عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما‌السلام ولقب مذهبهم بالجعفري ، وهو أخذه عن أبيه باقر العلوم ، وهو أخذه عن أبيه زين العابدين ، وهو أخذه عن سيد الشهداء عليه‌السلام وهو أخذه عن أبيه أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهو أخذه عن أخيه وابن عمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو أخذه عن جبرئيل عليه‌السلام ، وهو أخذه عن ربّ العزة جلّ شأنه. وكل فرقة غيرهم أخذت دينها عن إمامها ، كأصحاب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي وأصحاب أحمد بن حنبل ، وهو ظاهر لا يحتاج إلى البيان.

على أن الحديث روي بعدة أسانيد هكذا : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «افترقت أمّة موسى على إحدى وسبعين فرقة كلّها في النار إلّا واحدة وهي التي اتبعت وصيّه يوشع ، وافترقت أمّة عيسى على اثنين وسبعين فرقة كلها في النار إلّا واحدة وهي التي اتبعت وصيّه شمعون ، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلّا واحدة وهي التي تتبع وصيي عليا (٢)» (٣)) انتهى كلامه زيد اكرامه.

__________________

(١) أقول : روى الخبر بهذا الوجه الذي ذكر الطبرسي قدس‌سره في كتاب (الاحتجاج) (١) ، والظاهر أن نقله هاهنا وقع بالمعنى. والخبر روي عن علي عليه‌السلام ، وفي آخره : ثم قال : «ثلاث وعشرون فرقة من الثلاث والسبعين فرقة كلها تنتحل مودّتي وحبّي واحدة منها في الجنة ، وهي النمط الأوسط ، واثنا عشرة في النار» الحديث. والمراد بهذه الفرق : فرق الشيعة كالزيدية والفطحية ونحوها ، وتلك الفرقة الناجية منها هي الإمامية. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

(٢) المعجم الكبير ٣ : ٤٥ ـ ٤٦ / ٢٦٣٦ ـ ٢٦٣٨ ، الصواعق المحرقة : ١٨٦.

(٣) كتاب سليم بن قيس : ٩٦ ، الأمالي (الطوسي) ٥٢٣ ـ ٥٢٤ / ١١٥٩ ، بحار الأنوار ٢٨ : ٣ ـ ٤ / ٥.

__________________

١ ـ عنه في مشكاة المصابيح ٣ : ٣٧٨ / ٦١٨٣.

٣٩٠

يقول ناظم هذه الدر ومطرز هذه الحبر : قد وقع لي تحقيق في هذا المقام قبل الوقوف على كلام هؤلاء الأعلام أذكره هنا بلفظه :

أقول : من أقوى الإلزامات للمخالفين ، وأظهر الحجج والبراهين على صحة مذهب الإمامية ـ أنار الله برهانهم ـ وبطلان ما عداه ، قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة فرقة واحدة في الجنة والباقون في النار».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق».

والحديث الأول مما أجمع على نقله المخالف والمؤالف ، وقد صنف الشهرستاني في كتاب (الملل والنحل) (١) ؛ وضبط الفرق تصديقا للخبر المذكور.

وبمقتضاه يجب أن يحكم بنجاة فرقة واحدة من تلك الفرق لا أزيد ، وهلاك الباقين وإلّا لزم تكذيبه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والرد عليه فيما قال ، وهو كفر محض بغير إشكال.

وأما الحديث الثاني فقد استفاض ، بل تواتر نقله ، من طريق الجمهور بألفاظ عديدة ؛ رواه أحمد في مسنده ، ونقله صاحب (المشكاة) (٢) عن أبي ذر رضي‌الله‌عنه أنه قال (٣) وهو متعلق بأستار الكعبة : من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأذني ـ وإلّا فصمتّا ـ يقول : «ألا إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها هلك» (٤).

وقد روى الفقيه ابن المغازلي الشافعي هذا المعنى في كتاب (المناقب) (٥) بعدة أسانيد ، بعبارات مختلفة.

__________________

(١) الملل والنحل ١ : ٢٠ ـ ٢٢.

(٢) مشكاة المصابيح ٣ : ٣٧٨ / ٦١٨٣ ، باختلاف.

(٣) رواه أحمد ... أنه قال ، سقط في «ح».

(٤) الحديث سقط في «ح» وليس منه إلّا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : هلك.

(٥) مناقب علي بن أبي طالب : ١٣٢ / ١٧٣ ـ ١٧٥.

٣٩١

ويعضد هذا الخبر أيضا ما تواتر أيضا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله : «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما».

وقد رواه أحمد في مسنده بثلاثة طرق (١) بعبارات متقاربة ورواه مسلم في صحيحة (٢) ، والثعلبيّ في تفسيره (٣) ، وابن المغازلي في مناقبه (٤) ، وزرين العميدي في (الجمع بين الصحاح الستة) (٥) ، إلى غير ذلك من المواضع.

وأنت خبير بأنه لا معنى لكونهم «كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها هلك» كما تضمنه الخبر الثاني ، ولا معنى للتمسك بهم كما تضمنه الخبر الثالث إلّا الأخذ بأقوالهم ، والاقتداء بأفعالهم ، والتدين بدينهم وشريعتهم ، والاهتداء بسنتهم وطريقتهم. وقد اعترف بذلك المخالفون لهم في الدين وإن كانوا عنهم ناكبين.

قال التفتازاني في (شرح المقاصد) : (فإن قيل : «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله فيه الهدى» ـ إلى آخره ـ وقال : «إني تارك فيكم ما إن أخذتم لن تضلّوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي» ، ومثل هذا يشعر بفضلهم على العالم وغيره.

قلت : نعم ، لاتّصافهم بالعلم والتقوى مع شرف النسب ، ألا ترى أنه عليه‌السلام قرنهم ب (القرآن) في كون التمسك بهم منقذا من الضلالة ، ولا معنى للتمسك ب (الكتاب) إلّا الأخذ بما فيه [من العلم] الهداية ، وكذا العترة؟) (٦) انتهى.

وقال الطبيعي في شرح (المشكاة) ، في بيان معنى الحديث الثاني ما صورته : (شبّه الدنيا بما فيها من الكفر والضلالات والبدع والأهواء الزائفة ، ببحر لجّي

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ٣ : ١٤ ، ١٧ ، ٢٦.

(٢) صحيح مسلم ٥ : ١٨٠.

(٣) عنه في عمدة عيون صحاح الأخبار : ٧١ / ٨٧.

(٤) مناقب علي بن أبي طالب : ٢٣٤ / ٢٨١.

(٥) عنه في عمدة عيون صحاح الأخبار ٧٢ / ٨٩.

(٦) شرح المقاصد ٥ : ٣٠٢ ـ ٣٠٣ ، باختلاف فيه.

٣٩٢

يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ؛ ظلمات بعضها فوق بعض ، وقد أحاط بأكناف وأطراف الأرض كلها ، وليس منه خلاص ولا مناص إلّا بتلك السفينة) انتهى.

وحينئذ ، فنقول : من البين الواضح البيان ، والمستغني بذلك عن إقامة الحجة والبرهان أنه لم يركب أحد من الامّة في تلك السفينة المنجية من الضلال ، ولم يتخذها أحد من تلك الفرق العديدة منجى من الأهوال ، ولم يتمسك بحبل ولاء الأئمَّة الطاهرين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ الذين هم أحد الثقلين غير الشيعة الاثني عشرية ؛ فإنهم من زمنهم عليهم‌السلام هم القائلون بإمامتهم ، والعاكفون على إحياء طريقتهم وسنتهم ، فلا يعتمدون في معالم دينهم اصولا وفروعا إلّا على أخبارهم ، ولا يهتدون إلّا بآثارهم ، عاكفون على زيارة قبورهم واعلاء منارهم ، مقيمون لشعائر أحزانهم وتعزيتهم ، صابرون على الأذى ، بل القتل في حبهم ومودتهم.

وهذا كله ظاهر لا ينكره إلّا من أنكر المحسوسات الوجدانية ، وقائل بالتمويهات السوفسطائية بخلاف غيرهم من فرق الامّة. وبه يظهر أن الفرقة الناجية من تلك الفرق الثلاث والسبعين هي فرقة الإمامية الاثنا عشرية.

ومن العجب نقل اولئك الفضلاء من المخالفين لهذه الأخبار ، واعترافهم بأن التمسك بهم عليهم‌السلام منقذ من الضلالة ، وأنه لا نجاة من بحور الغواية والجهالة إلّا بالتمسك بهم والركوب في سفينة ولايتهم وحبهم ، والأخذ بما فيه الهداية من أقوالهم وأفعالهم ، والاقتداء بهم في جملة أحوالهم ، مع أنهم من العاكفين على خلافهم ، والتاركين للاهتداء بشريف أخلاقهم وأوصافهم ، بل تراهم لا يروون بواسطة أحد منهم رواية ، ولا يعدونه (١) من جملة من اعتمدوه من ذوي الغواية ،

__________________

(١) من «ح» وفي «ق» يعدّونهم.

٣٩٣

فضلا عن أن يتخذوه منارا للهداية ومقصدا فيها وغاية ، إلّا أنها (لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (١). فليت شعري بم يجيبون غدا بين يدي الجبار؟ وبم يعتذرون بعد رواية هذه الأخبار؟

وأعجب من ذلك ما رواه الحافظ محمد بن موسى الشيرازي من علماء القوم على ما نقله عنه جمع من أصحابنا منهم السيد الزاهد العابد المجاهد رضي الدين ابن طاوس قدس‌سره في كتاب (الطرائف) وغيره. روى ذلك الحافظ المذكور في كتابه الذي استخرجه من التفاسير الاثني عشر : تفسير أبي يوسف يعقوب بن سفيان ، وتفسير ابن جريج ، وتفسير مقاتل بن سليمان ، وتفسير وكيع بن جراح ، وتفسير يوسف بن موسى القطان ، وتفسير قتادة ، وتفسير أبي عبيدة القاسم بن سلام ، وتفسير علي بن حرب ، وتفسير السدّي ، وتفسير مجاهد ، وتفسير مقاتل بن حيان ، وتفسير أبي صالح ، وكلهم من أهل السنّة رووا عن أنس بن مالك قال : كنا جلوسا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتذاكرنا رجلا يصلي ويصوم ويتصدق ويزكي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا أعرفه». فقلنا : يا رسول الله ، إنه يعبد الله ويسبحه ويقدسه ويهلله؟ فقال : «لا أعرفه».

فبينا نحن في ذكر الرجل إذ طلع علينا ، فقلنا : يا رسول الله ، هو ذا. فنظر إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال لأبي بكر : «خذ سيفي هذا ، وامض إلى الرجل فاضرب عنقه ؛ فإنه أول من يأتي في حزب الشيطان».

فدخل أبو بكر المسجد فرآه راكعا ، فقال : والله لا أقتله ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهانا عن قتل المصلين ، فرجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال : يا رسول الله ، إني وجدت الرجل راكعا ، وأنت نهيتنا عن قتل الراكعين.

__________________

(١) إشارة إلى الآية : ٤٦ ، من سورة الحج.

٣٩٤

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اجلس فلست بصاحبه». ثم قال : «يا عمر قم (١) ، فخذ سيفي من يد أبي بكر ، وادخل المسجد واضرب عنقه».

قال عمر : فأخذت السيف من يد أبي بكر ودخلت المسجد ، فرأيت الرجل ساجدا ، فقلت : والله لا أقتله فقد استأذنه من هو خير مني. فرجعت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقلت : يا رسول الله ، إني وجدت الرجل ساجدا. فقال : «يا عمر ، اجلس فلست بصاحبه ، قم يا علي ، فإنك قاتله ، فإن وجدته فاقتله ؛ فإنك إن قتلته لم يبق بين أمّتي اختلاف أبدا».

قال علي عليه‌السلام : «فأخذت السيف ، فدخلت المسجد فلم أره ، فرجعت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقلت : يا رسول الله ما رأيته. فقال : يا أبا الحسن ، إن أمّة موسى افترقت على إحدى وسبعين فرقة فرقة ناجية والباقون في النار ، وإن أمّة عيسى افترقت على اثنتين وسبعين فرقة فرقة ناجية والباقون في النار ، وستفرق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة فرقة ناجية والباقون في النار. فقلت : يا رسول الله ، فما الناجية؟ قال : المستمسك بما أنت وأصحابك. وأنزل الله في ذلك (ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) يقول : هذا أول من يظهر من أصحاب البدع والضلالات».

قال ابن عباس : والله ما قتل ذلك الرجل إلّا أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم النهروان.

ثم قال الله تعالى (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) أي القتل ، (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) (٢) ، أي بقتاله علي بن أبي طالب عليه‌السلام يوم النهروان (٣).

أقول : فلينظر العاقل المنصف إلى ما تضمنه هذا الخبر الشريف والأثر الطريف من النص الجلي على مخالفة أبي بكر وعمر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته بحضوره في

__________________

(١) في «ح» : قم يا عمر.

(٢) الحج : ٩.

(٣) الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف ٢ : ١٣٣ ـ ١٣٥ ، وفيه : صفين ، بدل : النهروان.

٣٩٥

قتل رجل لو قتل لم يقع بين أمّته اختلاف ، ويتعلّلان باشتغاله بالركوع والسجود ، مع أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله عالم بذلك ، لا سيما مع تقدم وصفه والثناء عليه ، مع أنه قال لأبي بكر حين أمره بقتله : «إنه أول من يأتي في حزب الشيطان» ، فإذا كان هذه حالهم معه صلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته فكيف يستبعد منهم المخالفة له بعد مماته سيما فيما يكون لهم فيه مطالب وأغراض دنيوية ؛ من الرئاسة والإمارات على كافة البرية؟

وما تضمنه (١) من النص الجلي على أن الفرقة الناجية من تلك الفرق هم علي عليه‌السلام وشيعته.

وأنت خبير بأن ظاهر هذا الخبر وأمثاله أن المراد بنجاة هذه الفرقة من النار هو عدم دخولها النار بالكلية ، وبأن ما عداها في النار خلودا فيها ؛ فإن تلك الفرقة الناجية من الامم الثلاث المذكورة في الخبر إنما نجت بمتابعة الوصي ، كما تقدم نقل الرواية به في صدر المقالة.

وحينئذ ، فما عداها ممن خالف الوصي وأنكر وصايته ونيابته مستحق الخلود في العذاب ، كما لا يخفى على أولي الألباب ، وبذلك يظهر لك ما في كلام المحقق الدواني حيث قال ـ بعد نقل حديث : «ستفترق أمّتي» ـ : (قوله : «كلها في النار إلّا واحدة» من حيث الاعتقاد ، فلا يرد أنه لو أريد الخلود فيها فهو خلاف الإجماع ، فإن المؤمنين لا يخلدون فيها ، وإن اريد مجرد الدخول فهو مشترك بين الفرق ؛ إذ ما من فرقة إلّا وبعضها عصاة. والقول بأن معصية الفرقة الناجية مطلقا مغفورة بعيد جدا ، ولا يبعد أن يكون المراد : استقلال مكثهم في النار بالنسبة إلى سائر الفرق ترغيبا في تصحيح الاعتقاد) (٢) ـ انتهى ـ فإنه مجرد رمي في الظلام ، أو

__________________

(١) أي ولينظر إلى ما تضمنه هذا الخبر الشريف ...

(٢) عنه في الفرقة الناجية (إبراهيم القطيفي) : ٨.

٣٩٦

غفلة أو تغافل عما روته تلك الأعلام ، فإنه بمقتضى الخبر لا ينجو من النار إلّا تلك الفرقة المتابعة لوصي ذلك النبي ، والباقون لمخالفتهم له وخروجهم عن طاعته لا محالة مستحقون للخلود في النار. وكذلك قوله : (فإن المؤمنين لا يخلدون في النار) لأنه (١) خلاف الإجماع المسلم.

لكن ثبوت الإيمان لما عدا الفرقة الناجية ـ وهي التابعة للوصي ـ محل البحث ، وكيف لا ، وقد عينها صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما سمعت من الحديث المنقول من تفاسيرهم الاثني عشر بما ذكرنا. وفي الخبر المتقدم في صدر المقالة نقلا عن اولئك الأفاضل ، قدس الله أرواحهم؟ ولا ريب أن الكفر بالوصي كفر بالنبي ، واستبعاده [ب] أن معصية الفرقة الناجية مغفورة مردود :

أما أولا ، فلأن ذلك هو ظاهر الخبر المذكور.

ما ورد من أن معصية الفرقة الناجية مغفورة

وأما ثانيا ، فلاستفاضة أخبار أهل البيت عليهم‌السلام بذلك ، بل وأخبار أهل السنّة أيضا. ولا بأس بسرد جملة منها ليتبين ما في كلام هذا الفاضل وأمثاله من الانحراف عن جادة الانصاف والارتكاز لطريق (٢) الضلالة والاعتساف.

ما ورد عن أهل البيت عليهم‌السلام بذلك

فمن ذلك من طريق أهل البيت ـ صلوات الله عليهم ـ ما رواه صاحب كتاب (بشارة المصطفى لشيعة علي المرتضى) وغيره (٣) في غيره أنه دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على علي بن أبي طالب عليه‌السلام مسرورا مستبشرا ، فسلّم عليه فردّ عليه‌السلام وقال : «ما رأيتك أقبلت عليّ مثل هذا اليوم؟» فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «جئت أبشرك. اعلم أن هذه الساعة

__________________

(١) في «ح» : كأنه.

(٢) في «ح» : والارتكاب بطريق.

(٣) المصدر نفسه.

٣٩٧

نزل علي جبرئيل عليه‌السلام وقال : الحقّ يقرئك السلام ويقول : بشّر عليا أن شيعته الطائع والعاصي من أهل الجنة».

فلما سمع مقالته خر ساجدا ورفع يديه إلى السماء ثم قال : «اشهد الله أني قد وهبت لشيعتي نصف حسناتي». فقالت فاطمة : «اشهد الله أني قد وهبت لشيعة علي نصف حسناتي». فقال الحسن عليه‌السلام مثلهما ، وقال الحسين عليه‌السلام كذلك.

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما أنتم بأكرم مني ، اشهد علي يا رب أني قد وهبت لشيعة علي نصف حسناتي».

وقال الله عزوجل : «ما أنتم بأكرم مني ، إني قد غفرت لشيعة علي ومحبيه ذنوبهم جميعا».

ومنها ما رواه أبو محمد الحسن بن علي بن شعبة في كتاب (التمحيص) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «ما أحد من شيعتنا يقارف أمرا نهينا عنه ، فيموت حتى يبتلى ببلية تمحّص (١) بها ذنوبه ؛ إما في مال أو ولد ، وإما في نفسه حتى يلقى الله مخبتا وماله ذنب. ولو بقي عليه شي‌ء من ذنوبه فيشدد عليه عند موته فتمحص ذنوبه» (٢).

ومنها ما رواه فيه أيضا عن السابري قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إني لأرى من أصحابنا من يرتكب الذنوب الموبقة؟ قال : فقال (٣) : «يا عمر ، لا تشنع على أولياء الله ؛

__________________

(١) في مصحّحة «ح» يتمحّص.

(٢) التمحيص (ضمن كتاب المؤمن) : ٣٨ / ٣٤ ، باختلاف. وكتاب (التمحيص) هذا قد كتب عليه : من تأليف أبي علي محمد بن همام الإسكافي ، غير أنه بالرجوع إلى (الذريعة) وغيرها يعلم أن أكثر علمائنا على نسبته للحسن بن شعبة الحراني ، كالحرّ العاملي في (أمل الآمل) وصاحب (رياض العلماء) ، والشيخ إبراهيم القطيفي في كتابه (الوافية في تعيين الفرقة الناجية) حيث أورد في آخرها ثمانية عشر حديثا نقلا عن كتاب (التمحيص) ناسبا إياه للشيخ ابن شعبة. انظر : الفرقة الناجية : ٩١ ، الذريعة ٤ : ٤٣١ ـ ٤٣٢.

(٣) لأبي عبد الله عليه‌السلام ... فقال ، سقط في «ح».

٣٩٨

إن ولينا ليرتكب ذنوبا يستحق بها من الله العذاب ، فيبتليه الله (١) في بدنه بالسقم حتى يمحص عنه الذنوب ؛ فإن عافاه في بدنه ابتلاه في ماله ، فإن عافاه في (٢) ماله ابتلاه في ولده. فإن (٣) عافاه في ولده ابتلاه في أهله ، فإن عافاه في أهله ابتلاه بجار سوء [يؤذيه] (٤) ، فإن عافاه من بوائق الدهر شدّد عليه خروج نفسه حتى يلقى الله حين يلقاه ، وهو عنه راض قد أوجب له الجنة» (٥).

ومنها ما رواه فرات بن أحنف قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام إذ دخل عليه [رجل] من هؤلاء الملاعين فقال : والله لأسوءنه في شيعته ، فقال : يا أبا عبد الله ، أقبل إلي. فلم يقبل ، فأعادها فلم يقبل عليه ، ثم أعاد الثالثة ، فقال : «ها أنا مقبل ، فقل ولن تقول خيرا». فقال : إن شيعتك يشربون النبيذ. فقال : «[و] ما بأس بالنبيذ؟

أخبرني أبي عن جابر بن عبد الله أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يشربون النبيذ». قال : ليس أعنيك النبيذ ، وإنما أعنيك المسكر. فقال : «إن شيعتنا أزكى وأطهر من أن تجري للشيطان في أمعائهم رسيس المسكر (٦) ، فإن فعل ذلك المخذول منهم فيجد ربّا رءوفا ، ونبيّا بالاستغفار عطوفا ، ووليا عند الحوض ولوفا».

ثم قال الصادق عليه‌السلام : «أخبرني أبي عن علي بن الحسين أبيه عن أبيه عن (٧) علي بن أبي طالب عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن جبرئيل عن الله عزوجل أنه قال : يا محمد ، إني حرّمت الفردوس على جميع النبيين حتى تدخلها أنت وعلي وشيعتكما ، إلّا من اقترف منهم كبيرة ، فإني أبلوه في ماله ، أو خوف من سلطانه ، حتى ألقاه بالرّوح

__________________

(١) سقط في «ح».

(٢) قوله عليه‌السلام : فإن عافاه في بدنه ابتلاه في ماله ، سقط في «ح».

(٣) في «ح» : وان.

(٤) من المصدر ، وفي النسختين : يمحّص ذنوبه.

(٥) التمحيص (ضمن كتاب المؤمن) : ٣٩ / ٣٨.

(٦) ليست في المصدر.

(٧) أبيه عن ، سقط في «ح».

٣٩٩

والريحان ، وأنا عليه غير غضبان ، فيكون ذلك جزاء لما كان منه. فهل عند أصحابك شي‌ء من هذا؟ فلم ، أودع» (١).

ومنها ما رواه في كتاب (مكارم الأخلاق) عن أبي الحسن علي بن موسى عليهما‌السلام قال : «رفع القلم عن شيعتنا». فقلت : يا سيدي ، كيف ذلك؟ قال : «لأنهم اخذ عليهم العهد بالتقية في دولة الباطل ، يأمن الناس ويخافون ، ويكفّرون فينا ولا نكفّر فيهم ، ويقتلون بنا ولا نقتل بهم. ما من أحد من شيعتنا ارتكب ذنبا عمدا أو خطأ إلّا ناله في ذلك غم يمحص عنه ذنوبه ، ولو أنه أتى بذنوب بعدد قطر المطر ، وبعدد الحصى والرمل ، وبعدد الشوك والشجر ، فإن لم ينله في نفسه ففي أهله وماله ، فإن لم ينله في أمر دنياه ما يغتم له تخيل إليه في منامه ما يغتم به ، فيكون ذلك تمحيصا لذنوبه» (٢).

إلى غير ذلك من الأخبار الواضحة المنار ، تركنا نقلها روما للاختصار.

ما ورد عن أهل السنّة بذلك

وممّا ورد من طريق أهل السنّة ما رواه الفقيه ابن المغازلي الشافعي في كتاب (المناقب) بسنده إلى أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يدخل من أمّتي الجنة سبعون ألفا لا حساب عليهم».

ثم التفت إلى علي عليه‌السلام فقال : «هم من شيعتك وأنت إمامهم» (٣).

وما رواه أخطب خطباء خوارزم موفق بن أحمد المكي الخوارزمي في كتاب وقفت عليه في (مقتل الحسين عليه‌السلام) ، وذكر جملة من فضائل أهل البيت عليهم‌السلام ، ورواه أيضا في (الصواعق المحرقة) (٤) لابن حجر عنه أيضا بسنده فيه إلى بلال

__________________

(١) التمحيص (ضمن كتاب المؤمن) : ٣٩ / ٤٠ ، باختلاف.

(٢) لم نعثر عليه في (مكارم الأخلاق) ، انظر : عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٣٦ / ب ٢٣ ، ح ٨ ، بحار الأنوار ٦٥ : ١٩٩ / ٢.

(٣) مناقب علي بن أبي طالب : ٢٩٣ / ٢٣٥.

(٤) الصواعق المحرقة : ١٧٣ ، وليس فيه ذكر للسند ، انظر ينابيع المودّة ٢ : ٤٥٩ ـ ٤٦٠ / ٢٧٨.

٤٠٠