الدّرر النجفيّة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

«ابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه» (١) ، وأنه قال حين ضربه ابن ملجم (٢) لعنه الله : «فزت ورب الكعبة» (٣).

وقد أجاب عنه شيخنا الشهيد في (الذكرى) فقال : (إن حب لقاء الله غير مقيد بوقت ، فيحمل على حال الاحتضار ومعاينته ما يحب (٤) كما روينا عن الصادق عليه‌السلام ، ورووه في الصحاح (٥) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه». قيل : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إنا نكره الموت.

فقال : «ليس ذلك ، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته ، فليس شي‌ء أحب إليه مما أمامه. فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه ، وإن الكافر إذا حضره الموت بشر بعذاب الله فليس شي‌ء أكره إليه مما أمامه ، كره لقاء الله فكره الله لقاءه» (٦) (٧) انتهى.

وقد يقال : إن الموت ليس نفس لقاء الله ، فكراهته من حيث الألم الحاصل منه لا يستلزم كراهة لقاء الله ، وهذا ظاهر. وأيضا فحب الله سبحانه ، يوجب الاستعداد التام للقائه وكثرة الأعمال الصالحة ، وهو يستلزم كراهة الموت القاطع لها) (٨) انتهى كلام شيخنا المذكور ، توجّه الله تعالى بتاج من النور.

أقول : ويمكن أيضا أن يقال : إن كراهة المؤمن الموت إنما هو من حيث خوف المؤاخذة بما صدر منه من الذنوب والمعاصي ، كما يشعر به بعض الأخبار ، وهو لا ينافي حب لقاء الله من حيث إنه لقاؤه. ولهذا أن المعصومين الذين لم يقارفوا

__________________

(١) نهج البلاغة : ٣٤ / الخطبة : ٥.

(٢) في «ح» : بعدها : ملتجم بلجام أهل جهنم.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٥٧.

(٤) في «ح» : بالحب.

(٥) سنن الدارمي ٢ : ٣١٢ ، باب في حب لقاء الله ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٤٢٥ / ٤٢٦٤.

(٦) الكافي ٣ : ١٣٤ / ١٢ ، باب ما يعاين المؤمن والكافر ، معاني الأخبار : ٢٣٦ / ١ ، باب معنى ما روي أن من أحب لقاء الله ...

(٧) ذكرى الشيعة ١ : ٣٨٩.

(٨) الأربعون حديثا : ٤١٧ ـ ٤١٨ / شرح الحديث : ٣٥ ، باختلاف يسير.

٣٦١

الذنوب ولم يتدنسوا بالعيوب يشتاقون إلى الموت ويفرحون به ؛ لما يعلمونه يقينا من علوّ المنزلة لهم والدرجات ، والتنعّم بنعيم الجنّات ، والسلامة من سجن الدنيا المملوءة بالآفات والمخافات ، كما نقله قدس‌سره عن الأمير ـ صلوات الله عليه ـ من الخبرين المتقدّمين. ومثلهما ما روي عنه عليه‌السلام أنه قال لابنه الحسن عليه‌السلام : «يا بني ، لا يبالي أبوك أعلى الموت وقع أو وقع الموت عليه» (١).

ومن ثم إن اليهود لما ادّعوا أنهم أحباء الله خاطبهم بقوله (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢) فإن الحبيب (٣) يتمنى لقاء حبيبه ويفرح به. فعلى هذا يفرق في هذا المقام بين المعصومين ومن الحق بهم ، وبين غيرهم من الأنام.

وبالجملة ، فكراهة المؤمن الموت (٤) من حيث ذلك لا ينافي حب لقاء الله من حيث إنه لقاؤه (٥) ، والله العالم.

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ١٣٦.

(٢) البقرة : ٩٤.

(٣) في «ح» : المحب.

(٤) ليست في «ح».

(٥) وهو ما رواه شيخنا الصدوق رحمه‌الله (١) بسنده إلى العسكري عليه‌السلام (٢) قال : قال الإمام عليه‌السلام : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا يزال المؤمن خائفا من سوء العاقبة لا يتيقّن الوصول إلى رضوان الله حتّى يكون وقت نزع روحه وظهور ملك الموت ...» الحديث.

ثم ساق الحديث بما يدلّ على بشارة ملك الموت له ، وأنه يريد منزله المعدّ له في الجنّة ، ويرى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»)

__________________

١ ـ لم نعثر عليه في كتبه ، حتى إن المجلسي قدس‌سره ينقله في عدة مواضع عن (تفسير العسكري) مباشرة دون أن يذكر واحدا من كتب الصدوق. انظر بحار الأنوار ٦ : ١٧٤ / ٢ ، و ٢٤ :٢٦ / ٤ ، ٦٨ : ٣٦٦ / ١٣.

٢ ـ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢٣٩ / ١١٧.

٣٦٢

(١٥)

درّة نجفيّة

في العبادة المقبولة والمجزئة

قال شيخنا البهائي ـ عطر الله مرقده ـ في كتاب (الأربعون) في شرح الحديث الثلاثين المتضمن لعدم قبول صلاة شارب الخمر أربعين يوما (١) ما صورته : (لعل المراد بعدم قبول صلاة شارب الخمر أربعين يوما ، عدم ترتب الثواب عليها في تلك المدة ، لا عدم إجزائها فإنها مجزية اتّفاقا ، فهو يؤيد ما يستفاد من كلام السيد المرتضى (٢) علم الهدى ـ أنار الله برهانه ـ من أن قبول العبادة أمر مغاير للإجزاء.

فالعبادة المجزئة : المبرئة للذمّة المخرجة عن عهدة التكليف ، والمقبولة : هي ما يترتّب عليها الثواب ، ولا تلازم بينهما ولا اتّحاد كما يظن.

ومما يدل على ذلك : قوله تعالى (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (٣) مع أن عبادة غير المتّقين مجزئة إجماعا.

وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا) (٤) مع أنهما لا يفعلان غير المجزي.

وقوله تعالى (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) (٥) مع أن كليهما فعل

__________________

(١) الأربعون حديثا : ٣٧٠ / شرح الحديث : ٣٠.

(٢) الانتصار : ١٠٠ / المسألة : ٩.

(٣) المائدة : ٢٧.

(٤) البقرة ١٢٧.

(٥) المائدة : ٢٧.

٣٦٣

ما امر به من القربان.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إن من الصلاة لما يتقبل نصفها وثلثها وربعها ، وإن منها لما تلف كما يلف الثوب فيضرب بها وجه صاحبها» (١).

والتقريب ظاهر.

ولأن الناس لم يزالوا في سائر الأعصار والأمصار يدعون الله تعالى بقبول أعمالهم بعد الفراغ منها ، ولو اتّحد القبول والإجزاء لم يحسن هذا الدعاء إلّا قبل الفعل.

فهذه الوجوه الخمسة تدل على انفكاك الإجزاء عن القبول. وقد يجاب عن الأول : بأن التقوى على ثلاث مراتب :

أولها : التنزه عن الشرك ، وعليه قوله تعالى (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) (٢) ، قال المفسرون : هي لا إله إلّا الله (٣).

وثانيها : التجنب عن المعاصي.

وثالثها : التنزه عما يشغل عن الحق جلّ وعلا.

ولعلّ المراد بالمتّقين : أصحاب المرتبة الاولى ، وعبادة غير المتّقين بهذا المعنى غير مجزئة. وسقوط القضاء ؛ لأن الإسلام يجب ما قبله.

وعن الثاني بأن السؤال قد يكون للواقع ، والغرض منه بسط الكلام مع المحبوب ، وعرض افتقار له ، كما قالوه (٤) في قوله (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) (٥) على بعض الوجوه.

__________________

(١) بحار الأنوار ٨١ : ٣١٦ / ذيل الحديث : ١.

(٢) الفتح : ٢٦.

(٣) التبيان في تفسير القرآن ٩ : ٣٣٤ ، مجمع البيان ٩ : ١٦١ ، التفسير الصافي ٥ : ٤٤ ، التفسير الكبير ٢٨ : ٨٩.

(٤) انظر مجمع البيان ٢ : ٥١٩.

(٥) البقرة : ٢٨٦.

٣٦٤

وعن الثالث : بأنه يعبر بعدم القبول عن عدم الإجزاء (١) ، ولعله لخلل في الفعل.

وعن الرابع : أنه كناية عن نقص الثواب وفوات معظمه.

وعن الخامس : أن الدعاء لعله لزيادة الثواب وتضعيفه.

وفي النفس من هذه الأجوبة شي‌ء. وعلى ما قيل في الجواب الرابع نزل عدم قبول صلاة شارب الخمر عند غير السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه) (٢) انتهى كلامه ، زيد إكرامه ، وعلا في الفردوس مقامه.

ويظهر منه الميل إلى ما ذهب إليه السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه في هذه المسألة حيث استدل بهذه الأدلة الخمسة ، وطعن فيما ذكره من الأجوبة عنها بأن في النفس منها شيئا.

أقول : ومظهر الخلاف في هذه المسألة (٣) يقع في مواضع منها صلاة شارب الخمر كما صرّح به في الخبر المذكور ، ومنها صلاة من لم يقبل (٤) بقلبه على صلاته كما صرّحت به جملة من الأخبار من أنه لا (٥) يقبل منها إلّا ما أقبل عليه بقلبه (٦) ، ومنها عبادة غير المتقي كما يعطيه ظاهر الآية المتقدمة (٧).

وأما عد صلاة المرائي من ذلك القبيل كما ذكره السيد قدس‌سره ، بل جعلها لهذه المسألة كالأصل الأصيل حتى فرّعوا عليها هذه الأفراد المذكورة ، وجعلوها من جملة جزئياتها المشهورة ، فسيتّضح لك ما فيه مما يكشف عن باطنه وخافيه. هذا والذي يظهر لي هو القول باستلزام الإجزاء للقبول كما هو المرتضى عند جلّ

__________________

(١) في «ح» بعدها : له.

(٢) الأربعون حديثا : ٣٧٥ ـ ٣٧٧ / شرح الحديث : ٣٠.

(٣) حيث استدلّ بهذه الأدلّة الخمسة ... في هذه المسألة ، سقط في «ح».

(٤) في «ح» : لا يقبله.

(٥) سقط في «ح».

(٦) انظر وسائل الشيعة ٤ : ٩٩ ، أبواب أعداد الفرائض ، ب ٣٠ ، ح ٦.

(٧) قوله تعالى (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ). المائدة : ٢٧.

٣٦٥

أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ والمقبول. ولنا عليه وجوه ، منها أن الصحة المعبّر هنا بالإجزاء إما أن تفسّر بما هو المشهور ـ وهو الظاهر المنصور ـ من أنها عبارة عن موافقة الأمر وامتثاله ، وحينئذ فلا ريب أن ذلك يوجب الثواب ؛ وعلى هذا فالصحة مستلزمة للقبول أو تفسّر بمعنى ما أسقط القضاء ، كما هو المرتضى عند المرتضى (١).

وفيه أنه يلزم القول بترتّب القضاء على الأداء ، وهو خلاف ما يستفاد من الأخبار (٢) ، وما صرّح به غير واحد من علمائنا الأبرار من أن القضاء بأمر جديد ، ولا ترتّب له على الأداء (٣).

ومنها أن الظاهر أنه لا خلاف بين كافة العقلاء في أن السيد إذا أمر عبده أمرا إيجابيا بعمل من الأعمال ، ووعده الأجر على ذلك العمل فامتثل العبد ما أمره به مولاه ، فإنه يجب على السيّد قبوله منه ، والوفاء بما وعده. فلو أنه رده عليه ولم يقبله (٤) ومنعه الأجر الذي وعده مع أنه لم يخالف شيئا مما أمره به ، فإنهم لا يختلفون في لومه ونسبته إلى خلاف العدل سيما إذا كان السيد ممن يصف

__________________

(١) وذلك لأنه قدس‌سره [...] (١) عند القول بالفرق بين الإجزاء والقبول. ذكر ذلك في مسألة صلاة المرائي ، فقال بصحتها وإجزائها وإن كانت غير مقبولة ولا ثواب عليها وجملة من الأصحاب قد اعترضوا على هذا المحقق في جملة من الأفراد ، وعدوّا من ذلك مواضع هي أظهر مما ذكره بالتعداد كما سيظهر لك في آخر البحث إن شاء الله تعالى. منه ، رحمة الله عليه ، (هامش «ح»).

(٢) عوالي اللآلي ١ : ٢٠١ / ١٧ ، وسائل الشيعة ٤ : ٢٥٣ ـ ٢٥٦ ، أبواب قضاء الصلاة ، ب ١ ، وانظر الوافية في اصول الفقه : ٨٤ ـ ٨٥.

(٣) الذريعة إلى اصول الشريعة ١ : ١١٦ ، العدة في اصول الفقه ١ : ٢١٠ ، مبادئ الوصول إلى علم الاصول : ١١٢ ـ ١١٣.

(٤) في «ح» بعدها : منه.

__________________

١ ـ كلمات غير مقروءة.

٣٦٦

نفسه بالعدل والإكرام ، ويتمدّح بالفضل والإنعام.

وما نحن فيه كذلك ؛ إذ الفرض أن المكلف لم يخلّ بشي‌ء يوجب الإبطال ، ولم يأت بمناف يوجب الإخلال.

فإن قيل : إنه قد أخل فيها بالإقبال الذي هو روح العبادة ، كما ورد من أنه لا يقبل منها إلّا ما أقبل عليه بقلبه ، فربما قبل نصفها أو ربعها أو نحو ذلك.

قلنا : لا ريب أن الأمر بالإقبال والتوجه والخشوع إنما هو أمر استحبابي ، وكلامنا الذي عليه بني الاستدلال إنما هو في الأمر الإيجابي ؛ فلا منافاة. وأما الأخبار المذكورة فيجب تأويلها بما سنذكره إن شاء الله تعالى.

ومنها أنا نقول : إن عدم القبول مستلزم لعدم الصحة ، وذلك (١) فإنه لا يخلو إما أن يراد بعدم القبول : الرد بالكلية ، وعود العمل إلى مصدره كما كان قبل الفعل ، ويكون كأنه لم يفعل شيئا بالمرة. ولا ريب أن هذا مناف للصحة ، إذ هي نوع من القبول لإسقاطها التكليف الثابت في الذمة بيقين ، فكيف يعود العمل إلى مصدره كما كان أولا؟ وإما بأن يراد به : إيقاف العمل على المشيئة واحتباسه حتى يحصل له مكمل فيقبل ، أو محبّط فيرد ؛ نظرا إلى ما ورد من احتباس صلاة مانع الزكاة حتّى يزكّي (٢) ونحوه (٣). فهو مناف للصحة (٤) عند التحقيق والتأمل بالنظر الصائب الدقيق ؛ لأن الاحتباس والإيقاف لا يكون إلّا لوجود مانع من القبول بالفعل أو فقد شرط ، وعندهما تنتفي الصحة لما عرفت من أنها نوع من القبول ، وقد فرضنا انتفاءه ، هذا خلف.

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) الخصال ١ : ١٥٦ / ١٩٦ ، باب الثلاثة ، وسائل الشيعة ٩ : ٢٥ ، أبواب ما تجب فيه الزكاة وما تستحبّ فيه ، ب ٣ ، ح ١٠.

(٣) الخصال ١ : ٢٤٢ / ٩٤ ، باب الأربعة ، وسائل الشيعة ٨ : ٣٤٩ ، أبواب صلاة الجماعة ، ب ٢٧ / ح ٣.

(٤) في «ح» بعدها : أيضا.

٣٦٧

أما لو فرض القبول بعد الإيقاف والاحتباس ، فإنما هو تفضل ابتدائي غير مستند إلى صحّة العمل ، وإلّا لم يكن للإيقاف والاحتباس فإنما هو تفضل ابتدائي غير مستند إلى صحة العمل وإلّا لم يكن للإيقاف والاحتباس معنى. وهذا كما جاء في كثير من الأخبار (١) [من] قبول أعمال الناصب بعد رجوعه إلى القول بالولاية.

وحينئذ ، فيجب حمل عدم القبول الوارد في صلاة من لم يقبل على صلاته كلا أو بعضا ، والوارد في صلاة شارب الخمر ، وكذا في صلاة غير المتقي على عدم القبول الكامل ، بمعنى : عدم ترتّب الثواب الموعود به من أقبل على صلاته ، ومن ترك شرب الخمر ، ومن اتقى الله تعالى أو السالم عن معارضة المعاصي التي توجب من العذاب ، مثل ما يوجبه قبول العمل من الثواب ، حتى يصير العمل عند الموازنة كأنه لم يفعل. ثم إنه يحتمل أيضا حمل حديث شارب الخمر على أنه لا يوفق ـ مع عدم الإتيان بالتوبة النصوح ـ إلى الإتيان بصلاته كاملة الشرائط خالية من الموانع في تلك المدة.

ونقل بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين بالنسبة إلى قوله سبحانه (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أنه قد ورد الخبر بطرق عديدة عن أهل البيت عليهم‌السلام ، أن المراد بالمتقين في الآية : هم «الموحدون من الشيعة». وحينئذ ، فالمعنى أن غير الموحدين من الشيعة لا يجب على الله تعالى القبول منهم ؛ لعدم إتيانهم بشرائط الصحة والقبول من العقائد الحقة ، وأنه إن قبلت أعمالهم بعد الإنابة والتوبة فإنما هو تفضّل منه سبحانه. وربما ورد جزاؤهم على الأعمال ،

__________________

(١) انظر وسائل الشيعة ١ : ١٢٥ ـ ١٢٧ ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب ٣١ ، وفيه استثناء عبادتي الزكاة مع دفعها لغير المستحق ، والحج مع ترك ركن منه.

٣٦٨

وهو محمول على الجزاء المنقطع العاجل دون الثواب المتّصل الآجل.

ومنها أنه لا خلاف بين أصحاب القولين المذكورين في أن العبادة المتصفة بالصحة والإجزاء مسقطة للعقاب الموعود به تارك العبادة. ولا ريب أن إسقاطها العقاب مستلزم للقبول ؛ إذ لو لم يقبل لكان صاحبها باقيا تحت العهدة ، وكان مستحقا للعقاب بلا ارتياب ؛ إذ المفروض أن سقوط العقاب إنما استند إليها لا إلى التفضّل منه تعالى.

فإن قيل : إن القبول إنما هو عبارة عن الجزاء عليها بالثواب.

قلنا : متى ثبت استلزام سقوط العقاب للقبول ـ بمعنى أن الشارع إنما أسقط عن المكلف العقاب والمؤاخذة ؛ لقبوله لها ـ ترتب عليها الثواب البتة.

هذا ، وأما ما ذكره قدس‌سره من الوجوه الخمسة ، فقد عرفت الجواب عن أكثرها بما ذكرناه في الوجه الثالث.

بقي الكلام في الدليل الثالث من أدلته ، وهو قوله (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ).

والجواب عنه هو ما ذكره ـ طاب ثراه ـ وهو جواب عار عن وصمة النقض والإيراد مؤيدا بأخبار السادة (١) الأمجاد ـ عليهم صلوات رب العباد ـ فإنها قد تضمنت أن هابيل كان صاحب ماشية فعمد إلى أسمن كبش (٢) في ضأنه فقربه ، وقابيل كان صاحب زرع فقرب من شرّ زرعه ضغثا من سنبل (٣).

قال المحدث الكاشاني ـ عطر الله مرقده ـ في تفسيره (الصافي) بعد ذكر قوله سبحانه (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما) ما لفظه : (لأنه رضي بحكم الله ، وأخلص النية له ،

__________________

(١) في «ح» بعدها : الأبرار.

(٢) في «ح» بعدها : كان.

(٣) تفسير العياشي ١ : ٣٣٨ / ٧٨ ، مجمع البيان ٣ : ٢٢٩.

٣٦٩

وعمد إلى أحسن ما عنده ، وهو هابيل).

وقال بعد قوله (وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) ما لفظه : (لأنه سخط أمر الله ، ولم يخلص النية في قربانه ، وقصد إلى أخسّ ما عنده ، وهو قابيل) (١) انتهى.

وبذلك يتضح لك أن الجواب المذكور عار عن وصمة القصور.

وحينئذ ، فيحتمل ـ والله سبحانه أعلم ـ أن المراد بقوله (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) يعني المخلصين في ذلك العمل ، القاصدين به وجهه سبحانه. وعلى هذا فلا دلالة في الآية على ما ادّعاه قدس‌سره ؛ إذ العمل متى كان غير خالص لوجهه تعالى فهو غير مجز ولا صحيح ، فضلا عن أن يكون مقبولا كما سيتضح لك في آخر هذه المقالة بأوضح دلالة. ولو أريد بالمتقين في الآية : هو من لم يكن فاسقا مطلقا للزم منه بطلان عبادة الفاسق وإن اشتملت على شرائط الصحة والقبول ما عدا التقوى. وحينئذ ، فلا تقبل إلّا عبادة المعصوم أو من قرب من درجته ، وهم أقل قليل ؛ إذ قلّما ينفك من عداهم عن الذنوب.

قال شيخنا أبو علي الطبرسي قدس‌سره في تفسيره (مجمع البيان) بعد ذكر الآية المذكورة : (واستدل بهذا على أن طاعة الفاسق غير متقبلة ، لكنها تسقط عقاب تركها. وهذا لا يصحّ ؛ لأن المعنى أن الثواب إنما يستحقه من يوقع الطاعة لكونها طاعة ، فإذا فعلها لغير ذلك لا يستحق عليها ثوابا ، ولا يمتنع على هذا أن يقع من الفاسق طاعة يوقعها على الوجه الذي يستحق عليها الثواب فيستحقه) (٢) انتهى.

وهو صريح فيما قلناه ، ومؤيّد لما ادّعيناه.

هذا ، والذي ما زال يختلج بالخاطر الفاتر ، ويدور في الفكر القاصر ـ وإن لم يسبق إليه سابق في المقام ، ولم يسنح لأحد من علمائنا الأعلام ـ هو أن الخلاف

__________________

(١) التفسير الصافي ٢ : ٢٧.

(٢) مجمع البيان ٣ : ٢٢٩.

٣٧٠

في هذا المجال ، والإشكال فيما اورد من الاستدلال المحوج إلى ارتكاب جادة التأويل والاحتمال إنما يجري على تقدير كون الثواب منه تعالى ، والجزاء على الأعمال استحقاقيّا للعبد ، كما هو ظاهر المشهور بين أصحابنا ، رضوان الله عليهم. بمعنى أن العبد يستحق منه سبحانه ثواب ما عمله من العبادة ، لكن هل يترتب ذلك على مجرد الصحة كما هو القول المشهور وإن تفاوت قلة وكثرة باعتبار الإقبال وعدمه والتقوى مثلا [وعدمهما] (١) ، أو لا يترتب إلّا على ما اقترن بالإقبال والتقوى مثلا ونحوهما كما هو القول الآخر لا على تقدير كونه تفضلا منه سبحانه كما هو ظاهر جمع منهم أيضا؟ فإنه على هذا (٢) القول يضمحل الإشكال ، ويزول عن وجوه تلك الأدلة غبار الاختلال ، ولا يحتاج إلى ارتكاب التأويل فيها والاحتمال.

وحينئذ ، فما ورد من أن صلاة شارب الخمر لا تقبل أربعين يوما يعني : لا يكون أهلا للتفضل منه سبحانه عليه بالثواب ضمن هذه المدة ، وكذا من لم يقبل على عبادته كلّا أو بعضا ؛ فإنه لا يكون أهلا للتفضل فيما أخلّ فيه بالإقبال.

ومثلهما عبادة غير المتقي.

ويتوجه حينئذ صحة الدعاء بالقبول بعد الفراغ من العبادة ؛ فإنه لما كان القبول والجزاء بالثواب غير واجب عليه سبحانه ، بل إن شاء أعطى وإن شاء منع ، حسن الدعاء منه بالقبول ، وحصول الثواب ، واتّجه التبتّل إليه والرغبة في هذا الباب.

وعلى هذا القول يدلّ كثير من أدعية (الصحيفة السجادية) ـ على من وردت عنه أفضل صلاة وتحية ـ منها : قوله عليه‌السلام في دعاء الاعتراف وطلب التوبة : «إذ جميع

__________________

(١) في النسختين : عدمه.

(٢) سقط في «ح».

٣٧١

إحسانك تفضّل ، وإذ كل نعمك ابتداء» (١).

قال العلّامة الحبر العماد المير محمد باقر الداماد ـ طيب الله مرقده ـ في شرح هذا الكلام ، على ما نقله عنه الفاضل المحدث السيد نعمة الله قدس‌سره في (شرح الصحيفة) ما صورته : (إذ قاطبة (٢) ما سواك مستند إليك بالذات أبد الآباد مرّة واحدة دهرية خارجة عن إدراك الأوهام لا على شاكلات (٣) المرّات الزمانية المألوفة للقرائح الوهمانية. فطباع الإمكان الذاتي ملاك الافتقار إلى جدتك ومناط الاستناد إلى هبتك ، فكما أن النعم والمواهب فيوض جودك ورحمتك ، فكذلك الاستحقاقات والاستعدادات المترتّبة في سلسلة الأسباب والمسببات مستندة جميعا إليك وفائضة بأسرها من تلقاء فياضتك (٤)) (٥) انتهى.

ثم قال ذلك الفاضل المحدث بعد نقله : (وهو كلام حسن رشيق).

ثم نقل عن الفاضل المحقق الآقا حسين الخونساري قدس‌سره أنه قال أيضا في هذا المقام : (الحكم بأن الإحسان والنعم كلّها تفضّل ؛ إما بناء على أن المراد منها : الأكثر ، وإما على أن المراد منها : ما يكون في الدنيا ؛ لأن بعض النعم الاخرويّة الاستحقاق ، وإما بناء على أن استحقاق بعض النعم لمّا كان متوقفا على الأعمال الحسنة ، وهي متوقفة على الوجود والقدرة وسائر الآلات ، وهي منه تعالى ، فكأن النعم والإحسان كله تفضل) انتهى.

أقول : هذا الكلام منه قدس‌سره بناء على القول المشهور ؛ فلذا ارتكب في العبارة التأويل المذكور.

ثم قال ذلك الفاضل المحدث بعد نقل هذا الكلام : (والظاهر من ممارسة

__________________

(١) الصحيفة السجادية الكاملة : ٧٦.

(٢) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : قابليّة.

(٣) في المصدر : شاكلة.

(٤) كذا في المخطوط والمصدر.

(٥) شرح الصحيفة الكاملة السجاديّة : ١٥٢ ـ ١٥٣.

٣٧٢

الأخبار والأدعية المأثورة عنهم عليهم‌السلام أن الإحسان الدنيويّ والاخرويّ وسائر المثوبات كلها تفضل منه تعالى.

نعم ، قد تفضل سبحانه بأن جعل شيئا من الثواب في مقابلة الأعمال ، ولو كافأنا حقيقة لذهبت أعمالنا كلّها بالصغرى من أياديه (١). روي أن عابدا من بني إسرائيل عبد الله تعالى خمسمائة سنة صائما قائما ، وقد أنبت الله له شجرة رمان على باب الغار يأكل منها كل يوم رمانة واحدة. فإذا كان يوم القيامة وضعت تلك العبادة كلّها في كفة من الميزان ، ووضعت في الكفة الاخرى رمانة واحدة فترجح تلك الرمانة على سائر تلك الأعمال.

ولو لم يكن في استظهار هذا الكلام إلّا مكافأته الحسنة بعشر أمثالها ، لكفى في صحته ما ادعيناه) انتهى كلامه ، علا في الفردوس مقامه.

وحينئذ ، فغاية ما توجبه العبادات إذا خلت من المبطلات هو سقوط القضاء والمؤاخذة عن فاعلها ، وهو معنى الصحة والإجزاء فيها. وأما القبول بمعنى ترتب الثواب عليها ، فهو تفضل منه سبحانه ، إلّا إنه ـ بمقتضى تلك الأدلّة التي استند إليها ذلك القائل ـ قد ناط سبحانه التفضل ببعض الشروط ، مثل الإقبال ، والتقوى ، وترك شرب الخمر ، ونحو ذلك مما وردت به الأخبار. وظني أن تلك الأخبار إنما خرجت عنهم عليهم‌السلام ، بناء على هذا القول المذكور ، وإلّا فلو كان الثواب أو القبول استحقاقيا كما هو القول المشهور للزم الإشكال فيها والمحذور ، واحتيج إلى التأويل فيها كما عليه الجمهور ؛ لمعارضتها بما ذكرنا من الأدلة الواضحة الظهور.

هذا وما ذكره علم الهدى (٢) قدس‌سره من القول بصحّة عبادة المرائي وإسقاطها القضاء ، وإن كانت غير مقبولة بناء على الفرق بين الصحة والقبول كما نقله عنه جمع من

__________________

(١) كذا في جميع النسخ.

(٢) الانتصار : ١٠٠ / المسألة : ٩.

٣٧٣

الفحول ، فهو ليس بمسموع (١) ولا مقبول ، كما لا يخفى على من لاحظ الآيات القرآنية المتعلقة بالمقام ، والأخبار الواردة في ذلك عن أهل العصمة عليهم‌السلام ؛ فإن كثيرا من الآيات القرآنية والمحكمات السبحانية قد تضمنت وجوب الإخلاص في العبادة كقوله سبحانه :

(فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (٢).

(قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) (٣).

(وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (٤).

(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) (٥).

إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وجوب الإخلاص والتنزّه عن الشرك في العبادة والإخلاص.

ومن الأخبار الواردة في المقام قول الصادق عليه‌السلام في خبر ابن القداح لعباد بن كثير البصري : «ويلك يا عباد ، إياك والرياء ، فإنه من عمل لغير الله وكّله الله إلى من عمل له» (٦).

ومثله خبر محمد بن عرفة عن الرضا عليه‌السلام في خبر يزيد بن خليفة عن الصادق عليه‌السلام أن «كل رياء شرك» (٧).

إلى غير ذلك من الأخبار التي طويناها على غيرها ، وأعرضنا ـ خوف التطويل ـ عن نشرها.

وحينئذ ، فكيف يتّجه القول بصحة عبادة المرائي وإسقاطها القضاء؟ وكيف

__________________

(١) في «ح» : بممنوع.

(٢) غافر : ١٤.

(٣) الزمر : ١٤.

(٤) البينة : ٥.

(٥) الزمر : ١١.

(٦) الكافي ٢ : ٢٩٣ / ١ ، باب الرياء.

(٧) الكافي ٢ : ٢٩٣ / ٣ ، باب الرياء.

٣٧٤

تسقط العبادة الثابتة في الذمة يقينا بغير جنسها وإن تحلى بصورتها ، أو تتأدّى الطاعة بجعلها لباسا وقالبا لضرّتها؟ وبذلك يظهر لك أن هذا الفرد لا يكون من جزئيات هذه المسألة ، كما أشرنا إليه في صدر المقالة ، وأوضحنا ذلك هنا بأوضح دلالة وإن غفل عن ذلك الكثير من الأصحاب ، فعدّوا هذا الفرد المذكور من هذا الباب ، والله سبحانه الهادي إلى جادّة الصواب.

٣٧٥
٣٧٦

(١٦)

درّة نجفيّة

في تحقيق مسألة وحدانية العدد

قال زين العبّاد (١) ـ عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه المعصومين صلوات ربّ العباد ـ في (الصحيفة السجّادية) في دعاء التضرع : «لك يا إلهي وحدانية العدد» (٢) ، وهذه الفقرة من مشكلات (الصحيفة السجّادية) ؛ لما علم عقلا ونقلا من نفي الوحدة العددية عنه تعالى ؛ لأن حقيقتها العدد ، ومعروضها هويات عالم الإمكان. فهي قصارى الممكن بالذات ، وإنما يطلق عليه تعالى الوحدة الحقيقية.

وممّا يدل على ذلك قول أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبته : «الواحد (٣) بلا تأويل عدد» (٤).

وفي خطبة اخرى : «واحد لا بعدد ، قائم لا بأمد» (٥).

ومن ذلك ما رواه الصدوق قدس‌سره في كتابي (التوحيد) (٦) و (الخصال) (٧) بسنديه فيهما عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إن أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال :

__________________

(١) في «ح» : العابدين.

(٢) الصحيفة السجّادية الكاملة : ٣٥ / دعاؤه في التفزع إلى الله عزوجل.

(٣) في المصدر : الأحد.

(٤) نهج البلاغة : ٢٧٨ / الخطبة : ١٥٢.

(٥) نهج البلاغة : ٣٦٠ / الخطبة : ١٨٥ ، وفيه : ودائم ، بدل : قائم.

(٦) التوحيد : ٨٣ / ٣.

(٧) الخصال ١ : ٢ / ١ ، باب الواحد.

٣٧٧

يا أمير المؤمنين ، أتقول : إن الله واحد؟

قال : فحمل الناس عليه وقالوا : يا إعرابي ، ما ترى ما فيه أمير المؤمنين عليه‌السلام من تقسم القلب؟ فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : دعوه فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم. ثم قال : يا أعرابي ، إن القول في أن الله واحد على أربعة أقسام : فوجهان منها لا يجوزان على الله عزوجل ، ووجهان يثبتان فيه :

فأمّا اللذان لا يجوزان عليه ، فقول القائل : واحد يقصد به باب الأعداد ، فهذا ما لا يجوز ؛ لأن ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد. أما ترى أنه كفر من قال (ثالِثُ ثَلاثَةٍ) (١)؟ وقول القائل : هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس ، فهذا ما لا يجوز (٢) ؛ لأنه تشبيه ، وجل ربنا تعالى عن ذلك.

وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه ، فقول القائل : هو واحد ليس له في الأشياء شبيه ، وكذلك ربنا ، وقول القائل : إنه عزوجل أحديّ المعنى ، يعني به : أنه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم ، كذلك ربنا عزوجل».

ولنتكلم أولا فيما تضمّنه هذا الخبر الشريف ، ونوضّح ما اشتمل عليه من المعنى المنيف ، فنقول : اعلم أنهم قد ذكروا أن الواحد يطلق على معان :

أحدها ـ وهو المشهور المتعارف بين الناس ـ : كون الشي‌ء مبدأ لكثرة (٣) عادا لها. والمتصور لأكثر أهل العلم صدق هذا الاعتبار على الله ، بل لا يتصور بعضهم كونه تعالى واحدا إلّا بهذا المعنى.

وثانيها : أن يكون بمعنى جزء من الشي‌ء ، كما يقال : الرجل واحد من القوم ، أي فرد من أفرادهم.

__________________

(١) المائدة : ٧٣.

(٢) في المصدر بعده : عليه.

(٣) في «ح» بعدها : يكون.

٣٧٨

وعلى هذين المعنيين اقتصر أهل اللغة.

وثالثها : أن يقال لما يشاركه في حقيقته الخاصة به غيره.

ورابعها : أن يقال لما لا تركيب في حقيقته ولا تألف من معان متعددة لا أجزاء (١) قوام ولا أجزاء حدّ.

وخامسها : أن يقال لما [لم] (٢) يفته من كماله شي‌ء ، بل كل كمال ينبغي أن يكون له ، فهو حاصل له بالفعل.

وهذه المعاني الثلاثة نقلها العالم الرباني كمال الدين ميثم البحراني قدس‌سره في (شرح نهج البلاغة) (٣). ولا ريب أنه تعالى واحد بهذه الثلاثة دون الأوّلين.

أمّا أوّلهما : فلأنه لا يتأتّى و (٤) لا يطلق إلّا في مقام يكون هناك ثان أو أزيد.

وأما ثانيهما : فإنه لا يطلق إلّا في مقام يكون له ثمّة مشارك يندرج معه تحت كلّيّ ، ويلزم من كونه واحدا من ذلك الجنس مشابهته لغيره من الأفراد التي اندرج معها. فمن أجل ذلك نفى عليه‌السلام عنه المعنى الأوّل ؛ لاستلزامه وجودا ثانيا له ، وهو سبحانه لا ثاني له ؛ ولهذا قال عليه‌السلام : «لأن ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد». وأثبت كفر من قال (ثالِثُ ثَلاثَةٍ) ؛ لكونه جعله واحدا عدديا باعتبار ما ضم إليه من الآخرين.

ونفى عليه‌السلام أيضا المعنى الثاني ؛ لاستزام وجود شبيه له من تلك الأفراد المندرجة معه ، كما إذا قيل : «هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس» ، فإنه يستلزم مشابهته لبقية أفراد الناس.

وقوله ـ صلوات الله عليه ـ : «يريد به النوع من الجنس» يحتمل وجهين :

__________________

(١) في المصدر : الأجزاء ، بدل : لا أجزاء.

(٢) من المصدر ، وفي النسختين : لا.

(٣) شرح نهج البلاغة ١ : ١٢٥.

(٤) لا يتأتى و، ليس في المصدر.

٣٧٩

أحدهما : أنه أراد بالنوع : الصنف ، وبالجنس : فإن النوع يطلق لغة على الصنف ، كما يطلق الجنس على النوع أيضا ، فيكون المراد : أنه يريد به صنفا من النوع ، فإذا قيل لرومي مثلا : هذا واحد من الناس بهذا المعنى ، يراد : أنه صنف من أصناف الناس ، أو صنف هذا من أصناف الناس.

ويحتمل أن يراد بكل من النوع والجنس : معناه المتبادر ، ويكون الضمير في «به» من قوله : «يريد به» راجعا إلى «الناس» ، والمعنى : أنه يريد بالناس : أنه نوع لهذا الشخص. ولعل الأوّل أقرب.

والمعنى الأوّل من الثلاثة الأخيرة هو أول المعنيين اللذين أثبتهما عليه‌السلام له سبحانه ، والمعنى الثاني منها ما هو أثبته عليه‌السلام ثانيا. ولعل تركه عليه‌السلام الثالث وعدم ذكره له في الأقسام للزومه لسابقيه.

وكيف كان ، فقد دلّ هذا الخبر كما عرفت على نفي الوحدة العددية عنه سبحانه على أبلغ وجه ، مع أن عبارة (الصحيفة) الشريفة تدل بظاهرها على ثبوتها له ، بل انحصارها فيه كما يدل عليه تقديم المسند المؤذن بقصر (١) ذلك عليه تعالى لا يتجاوزه إلى غيره.

وحينئذ ، فلا بدّ من بيان معنى المراد منها على وجه ينطبق به مع تلك الأخبار الواردة في هذا المضمار ، فنقول : قد ذكر أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ في معنى هذه العبارة الشريفة وجوها من الاحتمالات حيث إنها في الحقيقة من المتشابهات :

أحدها : أن المراد بهذا الكلام : (نفي الوحدة العددية ، لا إثباتها) (٢). وأنت خبير بما فيه ؛ إذ وجهه غير ظاهر.

__________________

(١) القصر : تخصيص شي‌ء بشي‌ء بطريق مخصوص. وله أشكال وصور منها تقديم المسند. انظر شرح المختصر ١ : ١٨.

(٢) انظر رياض السالكين ٤ : ٢٩٥.

٣٨٠