الدّرر النجفيّة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

القعدة ، تردّه الأخبار الواردة بقراءة أمير المؤمنين عليه‌السلام آيات (براءة) في الموسم تلك السنة ، فإنها صريحة في كون الحج تلك السنة كان في ذي الحجة ، ففي حديث عن الصادق عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) (١) : «فهذه أشهر السياحة : عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من ربيع الآخر» (٢).

وفي حديث آخر عنه عليه‌السلام : «فلما قدم علي عليه‌السلام ، وكان يوم النحر بعد الظهر ، وهو يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ، قام ثم قال : إني رسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إليكم فقرأها عليهم : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) (٣) : عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول ، وعشرا من شهر ربيع الآخر» (٤).

إلى غير ذلك من الأخبار.

فقد اتّضح بذلك أن الأظهر في رفع التناقض فيما ذكره شيخنا ثقة الإسلام هو ما قدمنا ذكره في المقام ، وهو أن الحمل به صلى‌الله‌عليه‌وآله كان في شهر جمادي [الآخرة] (٥) ، وحجهم ـ بناء على النسي‌ء ـ كان في ذلك الشهر.

ومما يؤيده أيضا ما وجدته في حاشية الفاضل الشيخ علي ابن الشيخ محمد ابن الشيخ حسن ابن شيخنا الشهيد الثاني ـ قدس تعالى أرواحهم ـ على (شرح اللمعة) قال : (ورأيت في كتاب (اصول الأخبار) للشيخ حسين بن عبد الصمد قال : (ذكر علي بن طاوس في كتاب (الإقبال على الأعمال) (٦) أن ابتداء الحمل

__________________

(١) التوبة : ٢.

(٢) الكافي ٤ : ٢٩٠ / ٣ ، باب الحج الأكبر والأصغر.

(٣) التوبة : ١ ـ ٢.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ٧٩ ـ ٨٠ / ٤.

(٥) في النسختين : الثانية.

(٦) كذا عنوانه في المصدر ، والنسختين.

٣٤١

بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في تسع عشرة من جمادى الآخرة. وذكر الشيخ محمد بن علي بن بابويه رحمه‌الله في الجزء الرابع من كتاب (النبوة) أن الحمل به ـ صلوات الله عليه وآله ـ [كان] ليلة الجمعة لاثنتي عشرة ليلة ذهبت من جمادى الآخرة) (١).

هذه عبارته بعينها ، ثم قال : (وهاتان الروايتان توافقان الشرع ويضعف معهما الاعتماد على ما عليه الأكثر) (٢) انتهى.

وربما حمل ذلك على النسي‌ء) انتهى ما ذكره في الحاشية المشار إليها ، وعلى هذا يكون مدة الحمل تسعة أشهر. وعلى تقدير صحة كلام مجاهد فالذي يلزم منه أيضا كون مدّة الحمل عشرة أشهر كما عرفت ، لا ما توهمه ذلك الفاضل (٣) من كونه سنة ، وبذلك يظهر لك ما في كلام شيخنا الشهيد الثاني ـ نوّر الله تعالى مرقده ـ في (شرح اللمعة) ، حيث قال بعد نقل الأقوال في أقصى مدة الحمل : (واتفق الأصحاب على أنه لا يزيد على السنة ، مع أنهم رووا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حملت به امّه أيام التشريق ، واتفقوا على أنه ولد في شهر ربيع الأول ، فأقل ما يكون لبثه في بطن امّه سنة وثلاثة أشهر ، وما نقل أحد من العلماء أن ذلك من خصائصه صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٤) انتهى.

فانه ناشئ عن عدم إعطاء التأمل حقه في هذا المجال ، والغفلة عما أجيب به عن هذا الإشكال.

وقال شيخنا المجلسي ـ طيب الله مرقده ـ في كتاب (الأربعون الحديث) ، بعد نقل كلام الكليني ـ نوّر الله تعالى ضريحه ـ وإيراد الإشكال عليه ، ثم إيراد كلام

__________________

(١) الإقبال بالأعمال الحسنة ٣ : ١٦٢.

(٢) وصول الأخيار إلى اصول الأخبار : ٤١ ـ ٤١ / الهامش : ٢ ، وهو من المصنّف.

(٣) من «ح».

(٤) الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة ٥ : ٤٣٣ ـ ٤٣٤.

٣٤٢

مجاهد ما صورته : (إذا عرفت هذا فقيل على هذا : إنه يلزم أن مولده صلى‌الله‌عليه‌وآله في جمادى الأولى ؛ لأنه عليه‌السلام توفي وهو ابن ثلاث وستين سنة ، ودورة النسي‌ء أربعة وعشرون : ضعف عدة الشهور. فإذا أخذنا من الثانية والستين ورجعنا ، تصير السنة الخامسة عشرة ابتداء الدورة ؛ لأنه إذا نقص من اثنتين وستين ثمانية وأربعون تبقى أربعة عشر ؛ الاثنتان الأخيرتان منها لذي القعدة ، واثنتان قبلها لشوال ، وهكذا فتكون الأوليان منهما لجمادى الاولى ، وكان الحج عام مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو عام الفيل في جمادى الاولى. فإذا فرض أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله حملت به أمه في الثاني عشر منه ووضعت في الثاني عشر من ربيع الأوّل (١) تكون مدة الحمل عشرة أشهر لا مزيد (٢) ولا نقيصة.

أقول : ويرد عليه أنه [أخطأ] (٣) في حساب الدورة أربعة وعشرين سنة ؛ إذ الدورة على ما ذكر إنما تتم في خمس وعشرين سنة ؛ إذ في كلّ سنتين يسقط شهر من شهور السنة باعتبار النسي‌ء ، ففي كلّ خمس وعشرين سنة يحصل أربع وعشرون حجة تمام الدورة.

وأيضا على ما ذكره يكون مدة الحمل أربعة عشر شهرا ؛ إذ لو كان عام مولده أول حجّ في جمادى الأولى يكون عام الحمل الحج في ربيع الثاني. فالصواب أن يقال : [كان] في عام حمله صلى‌الله‌عليه‌وآله الحج في جمادى الاولى (٤) ، وفي عام مولده في جمادى [الآخرة] (٥) ... ، ويكون في حجة الوداع [والتي قبلها الحج في ذي الحجة ولا يخالف شيئا إلّا ما مرّ عن مجاهد أن حجة الوداع] كانت مسبوقة

__________________

(١) في «ح» : الاولى.

(٢) كذا في النسختين والمصدر.

(٣) من المصدر ، وفي النسختين : اختار.

(٤) في النسختين : الثانية.

(٥) في النسختين والمصدر : الثانية.

٣٤٣

بالحج في ذي القعدة. وقوله غير معتمد في مقابلة الخبر إن ثبت أنه رواه خبرا ، ويكون مدة الحمل على هذا تسعة أشهر إلّا يوما فيوافق ما هو المشهور في حمله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند المخالفين) (١) انتهى كلامه زيد مقامه.

__________________

(١) الأربعون حديثا : ٦١ ـ ٦٢ ، ونقله بنصه في بحار الأنوار ١٥ : ٢٥٣ ـ ٢٥٤.

٣٤٤

(١٤)

درّة نجفيّة

في معنى (التردّد) و «كنت سمعه ...» في حديث الإسراء

روى ثقة الإسلام قدس‌سره في (الكافي) بسنده عن الباقر عليه‌السلام (١) قال : «لما اسري بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : يا رب ما حال المؤمن عندك؟ قال : يا محمد من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ، وأنا أسرع شي‌ء إلى نصرة أوليائي ، وما ترددت في شي‌ء أنا فاعله كترددي في (٢) وفاة المؤمن ، يكره الموت وأكره مساءته. وإن من عبادي (٣) من لا يصلحه إلّا الغنى ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك ، وإن من عبادي من لا يصلحه إلّا الفقر ولو صرفته إلى

__________________

(١) في الحديث القدسي : «ما ترددت في شي‌ء أنا فاعله كترددي في قبض روح المؤمن ، إني احب لقاءه ويكره الموت فأصرفه عنه» (١). وحيث إن التردّد في الأمر من الله محال ؛ لأنه من صفات المخلوقين ، احتيج في الحديث إلى التأويل. وأحسن ما قيل فيه هو : إن التردّد وسائر صفات المخلوقين كالغضب والحياء والمكر إن اسندت إليه تعالى يراد منها : الغايات لا المبادئ ، فيكون المراد من فعل التردّد في هذا الحديث : إزالة كراهة الموت عنه. وهذا كما لو يتقدمه أحوال كثيرة من مرض وسرقة وزمانة وفاقة ، وشدّة بلاء تهوّن على العبد مفارقة الدنيا ، ويقطع عنها علاقته ؛ حتى إذا خلّي منها تحقق رجاؤه بما عند الله فاشتاق إلى دار الكرامة. فأخذ المؤمن يتشبث في حب الدنيا شيئا فشيئا بالأسباب التي أشرنا إليها [...] (٢) المتردد من حيث الصفة [...] (٣). اللهم اغفر لنا ولوالدينا. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

(٢) في المصدر : عن.

(٣) في المصدر بعدها : المؤمنين.

__________________

١ ـ الكافي ٢ : ٣٥٤ / ١١ ، باب من آذى المسلمين واحتقرهم.

٢ و ٣ ـ كلمات غير مقروءة.

٣٤٥

غير ذلك لهلك. وما يتقرب إليّ عبدي (١) بشي‌ء أحب مما افترضت عليه ، وإنه ليتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه. فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها ؛ إن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته» (٢).

تقرير الإشكال

أقول : والإشكال في هذا الخبر الشريف في موضعين :

أحدهما : في نسبة التردّد إليه تعالى ، فإن التردّد في الامور إنما يكون للجهل بعواقبها ، أو لعدم الثقة بالتمكن منها لمانع ونحوه ، والله سبحانه يجل عن ذلك. وهذا المضمون قد ورد أيضا في جملة من أخبارنا غير الخبر المذكور ، كما رواه في (الكافي) (٣).

وقد ورد أيضا في روايات العامّة كما نقله بعض مشايخنا عن (جامع الاصول) (٤) ، و (الفتوحات) (٥) ، و (المشكاة) (٦) ، وغيرها (٧).

وثانيهما : في قوله : «كنت سمعه الذي يسمع به» ـ إلى آخره ـ لاستلزامه الاتّحاد ، وهو ممتنع عقلا ونقلا ؛ لأن هذه الأعضاء مختلفة الحقائق والآثار ، واستحالة اتّحاد شي‌ء من الأشياء معها أمر ضروري لا يقبل الإنكار (٨) ، إلّا من أعمى الله بصر بصيرته ، فقابل بالعناد والاستكبار.

__________________

(١) في المصدر : عبد من عبادي ، بدل : عبدي.

(٢) الكافي ٢ : ٣٥٢ / ٨ ، باب من آذى المسلمين واحتقرهم.

(٣) الكافي ٢ : ٣٥٢ / ٧ ، باب من آذى المسلمين واحتقرهم.

(٤) جامع الاصول ٩ : ٥٤٢ / ٧٢٨٢.

(٥) الفتوحات المكيّة ٢ : ٣٢٢ ، وفيه ذيل الحديث.

(٦) مشكاة المصابيح ٢ : ١٢ / ٢٢٦٦.

(٧) كنز العمال ٧ : ٧٧٠ / ٢١٣٢٧.

(٨) من «ح» ، وفي «ق» : الإمكان.

٣٤٦

الجواب عن إشكال التردّد المنسوب إليه تعالى

وحينئذ ، فالكلام يقع هنا في مقامين :

الأوّل : في الجواب عن الإشكال الأوّل. وقد اجيب عنه بوجوه :

أحدها : ما نقل عن العلّامة الفيلسوف والعماد المير محمد باقر الداماد ـ طيب الله تعالى مرقده ـ حيث قال : (اعلم أن التردّد في أمر يكون سببه تعارض الأمر الداعي المرجّح في الطرفين ، وأطلق المسبب هناك وأريد : السبب. ومعنى الكلام : أن قبض المؤمن بالموت خير بالقياس إلى نظام الوجود ، وشر من حيث مساءته ، فهذه الشرّيّة العرضية الاضافية روح أقوى ضروب الشريات بالعرض وأشد أفرادها ، [في] الأفاعيل الإلهية [التي] خيراتها الجزيلة كثيرة ، وشرّيتها الإضافية قليلة لشرف المؤمن وكرامته عند الله سبحانه وتعالى.

وبعبارة اخرى وقوع الفعل بين طرفي [الخيريّة] (١) بالذات ولزومه الخيرات الكثيرة ، والشرّية بالعرض وبالإضافة إلى طائفة من الموجودات هو المعبر عنه بالتردّد ؛ إذ الخيرية تدعو إلى فعل الفعل ، والشرية إلى تركه ففي ذلك انسياق إلى تردّد ما.

فإذن المعنى : ما وجدت شرية من الشرور اللازمة لخيرات كثيرة في أفاعيلي ، مثل شرية مساءة عبدي المؤمن من جهة الموت ، وهو من الخيرات الواجبة في الحكمة البالغة الإلهية ، فما في الشرور بالعرض اللازمة للخيرات الكثيرة أقوى شرية ، وأعظم من الشر بالعرض ، ولكن الخير الكثير والحكمة البالغة في ذلك أحكم وأقوم وأقوى وأعظم) (٢) انتهى.

__________________

(١) من المصدر ، وفي «ح» و «ق» : الخيرات.

(٢) القبسات : ٤٧٠.

٣٤٧

وثانيها : ما ذكره (١) المحدّث المحسن الكاشاني في اصول (الوافي) في أبواب معرفة المخلوقات حيث قال في شرح الخبر المذكور وبعد نقله في باب البداء : (ومعنى نسبة التردّد إلى الله سبحانه قد مضى تحقيقه في أبواب معرفة المخلوقات والأفعال من الجزء الأوّل) (٢). وأشار بذلك إلى ما صرح به ثمة ، حيث قال : (فإن قيل : كيف يصح نسبة البداء إلى الله تعالى مع إحاطة علمه بكل شي‌ء ؛ أزلا وأبدأ على ما هو عليه في نفس الأمر وتقدسه عما يوجب التغير والسنوح ونحوهما؟

فاعلم أن القوى المنطبعة الفلكية لم تحط بتفاصيل ما سيقع من الامور دفعة واحدة ؛ لعدم تناهي تلك الامور ، بل إنما تنتقش فيها الحوادث شيئا فشيئا ، وجملة فجملة مع أسبابها وعللها على نهج مستمر ونظام مستقر ، فإن ما يحدث في عالم الكون والفساد إنما هو من لوازم حركات الأفلاك المسخّرة لله تعالى ونتائج بركاتها ؛ فهي تعلم أنه كلما كان كذا كان كذا. فمهما حصل لها العلم بأسباب حدوث أمر ما في هذا العالم حكمت بوقوعه فيه ، فينتقش فيها ذلك الحكم ، وربما تأخّر بعض الأسباب الموجبة لوقوع الحادث على خلاف ما يوجبه بقيّة الأسباب لو لا ذلك السبب ولم يحصل لها العلم بذلك بعد ؛ لعدم اطلاعها على سبب ذلك السبب ، ثم لما جاء أوانه واطّلعت عليه حكمت بخلاف الحكم الأوّل ، فيمحى عنها نقش الحكم السابق ، ويثبت الحكم الآخر. مثلا ، لمّا حصل لها العلم بموت زيد بمرض كذا في ليلة كذا لأسباب تقتضي ذلك ، ولم يحصل لها العلم بتصدقه الذي سيأتي قبيل ذلك الوقت ؛ لعدم اطلاعها على

__________________

(١) في «ح» بعدها : المحقق.

(٢) الوافي ٥ : ٧٣٥ / ذيل الحديث ٢٩٥١ ـ ٦.

٣٤٨

أسباب التصدق بعد (١) ، ثم علمت به ، وكان موته بتلك الأسباب مشروطا بألا يتصدق فتحكم أولا بالموت ، وثانيا بالبرء.

وإن (٢) كانت الأسباب لوقوع أمر أو لا وقوعه متكافئة ولم يحصل لها العلم برجحان أحدهما بعد ؛ لعدم مجي‌ء أوان سبب ذلك الرجحان بعد ؛ كان لها التردّد في وقوع ذلك الأمر ولا وقوعه ، فينتقش فيها الوقوع (٣) تارة واللاوقوع اخرى. فهذا هو السبب في البداء والمحو والإثبات والتردّد ، وأمثال ذلك في امور العالم.

وأما نسبة ذلك إلى الله تعالى ؛ فلأن كل ما يجري في العالم الملكوتي إنما يجري بإرادة الله تعالى ، بل فعلهم بعينه فعل الله سبحانه ، حيث لا يعصون ما يأمر الله (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) ؛ إذ لا داعي لهم في الفعل إلّا إرادة الله عزوجل لاستهلاك إرادتهم في إرادته تعالى. ومثلهم كمثل الحواسّ للإنسان ؛ كلّما همّ بأمر محسوس امتثلت الحاسة لما هم به وأرادته دفعة ، فكل كتابة تكون في هذه الألواح والصحف ، فهو أيضا مكتوب الله عزوجل بعد قضائه السابق المكتوب بقلمه الأوّل. فيصح أن يوصف الله عزوجل بأمثال ذلك بهذا الاعتبار وإن كان مثل هذه الأمور تشعر بالتغير والسنوح ، وهو سبحانه منزّه عنه ؛ فإن كل ما وجد أو سيوجد ، فهو غير خارج عن عالم ربوبيته) (٤) انتهى.

واعترضه بعض الأفاضل المحدثين على ذلك ـ ووافقه آخرون ـ بأن (فيه :

أولا : أن قوله سبحانه (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) (٥) وكذا الروايات صريحة في أن الماحي والمثبت هو الله سبحانه ، لا النفوس الفلكية كما زعمه.

وثانيا : أنه لم يقم دليل على ثبوت النفوس للأفلاك.

__________________

(١) من «ح» والمصدر.

(٢) في «ح» والمصدر : وإذا.

(٣) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : الرجوع.

(٤) الوافي ١ : ٥٠٧ ـ ٥٠٩.

(٥) الرعد : ٣٩.

٣٤٩

وثالثا : أنه على تقدير تسليم ذلك ، فكيف تكون جاهلة جهلا مركبا حاكمة بما ليس عليه دليل مع أنه زعم أن جميع الامور الحادثة في عالم الكون والفساد إنما هو من لوازم حركاتها ونتائج بركاتها؟ وكيف يسلط الله هذه النفوس الجاهلة على كافة الحوادث الكائنة في عالم الكون ، فربما يحدث منها لجهلها ما يكون قبيحا مستقبحا مخلّا بالنظام؟

ورابعا : أن نسبة وجود جميع حوادث عالم الكون إلى الأفلاك مخالف لما عليه الإمامية ـ رضوان الله عليهم ـ فإن ما يحدث فيها من أفعال العباد مخلوقة لهم وما يحدث من غير ذلك فهي مخلوقة لله سبحانه) انتهى.

أقول : ولو أجيب عن الوجه الأوّل والرابع بما ذكره من قوله : بل فعلهم بعينه فعل الله ـ إلى آخره ـ ففيه أنه يلزم أن يكون التردّد الحاصل لتلك النفوس في وقوع شي‌ء أو لا وقوعه فعل الله سبحانه ، وأنه هو المتردد على الحقيقة كما يشعر به تنظره بحواسّ الإنسان ، مع أن سبب التردّد المذكور كما ذكره إنما هو للجهل وعدم العلم برجحان أسباب الوقوع أو اللاوقوع. وحينئذ ، فيلزم حصول ذلك له تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

وكذا يلزم مثله في البداء أيضا فإنه يأتي بناء على ما ذكره أن حكم تلك النفوس بوقوع أمر ـ باعتبار حصول العلم بأسباب حدوثه والمقايسة فيها مع جهلها بتأخر بعض الأسباب الموجب لوقوع (١) الحادث على خلاف ما توجبه بقية الأسباب لو لا ذلك السبب ـ هو حكم الله تعالى بعينه ؛ إذ فعلهم بعينه فعل الله سبحانه ، مع أن هذا الحكم إنما نشأ حقيقة من الجهل بذلك السبب المتأخّر ، والله سبحانه يجلّ عن ذلك.

__________________

(١) في «ح» : وقوع.

٣٥٠

وبالجملة ، فما ذكره ـ طاب ثراه ـ في هذا المقام بناء على قواعد المتصوفة والفلاسفة وفسّر به أخبار أهل الذكر عليهم‌السلام كلام مختل النظام ، منحل الزمام ، كما لا يخفى على المنصف من ذوي الأفهام. وهؤلاء ـ لو لعهم باصول الفلاسفة والحكماء التي جرت عليها الصوفية ـ يزعمون تطبيق أخبار أهل البيت عليهم‌السلام عليها ، كما وقع من هذا المحدّث في غير موضع من كتبه ، وهو جمع بين النقيضين وتأليف بين المتباغضين ، ومن أين إلى أين؟

وثالثها : ما ذكره شيخنا البهائي ـ عطر الله مرقده ـ في كتاب (الأربعون) من (أن في الكلام إضمارا ، والتقدير : لو جاز علي التردّد : ما تردّدت في شي‌ء كتردّدي في وفاة المؤمن) (١).

وتنظّر فيه بعض مشايخنا (٢) بما فيه من الإضمار مع المندوحة عنه.

ورابعها : ما ذكره أيضا في كتاب (الأربعون) من أنه لما جرت العادة بأن يتردّد الشخص في مساءة من يحترمه ويوقره ، كالصديق الوفي والخلّ الصفي ، وألّا يتردّد في مساءة من ليس له عنده قدر ولا حرمة ، كالعدو والحية والعقرب ، بل إذا خطر بالبال مساءته أوقعها من غير تردّد ولا تأمّل ، صحّ أن يعبّر بالتأمّل والتردّد في مساءة الشخص عن توقيره واحترامه ، وبعدمهما عن إذلاله واحتقاره. فقوله سبحانه : «ما ترددت في شي‌ء ... كترددي في وفاة المؤمن» المراد به ـ والله أعلم ـ : ليس لشي‌ء من مخلوقاتي عندي قدر حرمة كقدر عبدي المؤمن وحرمته ، فالكلام من قبيل الاستعارة التمثيلية) (٣).

__________________

(١) الأربعون حديثا : ٤١٧ / شرح الحديث : ٣٥ ، عنه في شرح الكافي (المازندراني) ٩ :١٨٢.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) الأربعون حديثا : ٤١٧ / شرح الحديث : ٣٥.

٣٥١

وقد تقدمه في هذا الكلام شيخنا الشهيد رحمه‌الله في قواعده (١).

وخامسها : ما ذكره أيضا في الكتاب المذكور من أنه قد ورد من طريق الخاصة (٢) والعامّة (٣) أن الله سبحانه يظهر للعبد عند الاحتضار من اللطف والكرامة والبشارة بالجنة ما يزيل عنه كراهة الموت ، ويوجب رغبته في الانتقال إلى دار القرار ، فيقل تأذيه ويصير راضيا بنزوله ، راغبا في حصوله. وأشبهت هذه المعاملة من يريد أن يؤلم حبيبه ألما يتعقّبه نفع عظيم ، فهو يتردّد في أنه كيف يوصل ذلك الألم إليه على وجه يقل تأذّيه ، فلا يزال يظهر له ما يرغبه فيما يتعقبه من اللذة الجسيمة والراحة العظيمة إلى أن يتلقاه بالقبول ، ويعده من الغنائم المؤدّية إلى إدراك المأمول (٤). انتهى.

أقول : ويؤيد هذا الوجه ما رواه في (الكافي) بسنده عن معلى بن خنيس عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قال الله عزوجل : من استذلّ عبدي المؤمن فقد بارزني بالمحاربة ، وما ترددت في شي‌ء أنا فاعله كترددي في عبدي المؤمن ، إني احب لقاءه فيكره الموت فأصرفه عنه» (٥) ، بناء على إرجاع الضمير في «أصرفه» إلى كره الموت ، بمعنى أن أظهر له من اللطف والكرامة والبشارة بالجنة ما يزيل عنه كراهة الموت ويرغب في لقائي.

وسادسها : ما نقله شيخنا الشهيد رحمه‌الله في قواعده عن بعض الفضلاء ، وهو (أن

__________________

(١) القواعد والفوائد ٢ : ١٨١ ـ ١٨٣ / القاعدة : ٢١٢.

(٢) انظر : الكافي ٣ : ١٢٨ ـ ١٣٥ ، باب ما يعاين المؤمن والكافر ، بحار الأنوار ٦ : ١٧٣ ـ ٢٠٢ / باب ما يعاين المؤمن والكافر عند الموت ...

(٣) صحيح البخاري ٥ : ٢٣٨٦ / ٦١٤٢ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٤٢٥ / ٤٢٦٤.

(٤) الأربعون حديثا : ٤١٧ / شرح الحديث : ٣٥ ، عنه في شرح الكافي (المازندراني) ٩ :١٨٣.

(٥) الكافي ٢ : ٣٥٤ / ١١ ، باب من آذى المسلمين واحتقرهم.

٣٥٢

التردّد إنما هو في الأسباب ، بمعنى أن الله سبحانه يظهر للمؤمن أسبابا تغلب على ظنه دنوّ الوفاة ، ليصير إلى الاستعداد إلى الآخرة استعدادا تاما ، وينشط للعمل ، ثم يظهر له أسبابا توجب البسط في الأمل ، فيرجع إلى عمارة دنياه بما لا بدّ منه ، ولما كان ذلك بصورة التردد أطلق عليها ذلك استعارة ، إذا كان العبد المتعلق بتلك الأسباب بصورة المتردّد ، واسند التردّد إليه تعالى من حيث إنه فاعل للتردّد في العبد. وهو مأخوذ من كلام بعض القدماء الباحثين عن أسرار كلام الله تعالى (١) ، فالتردّد في اختلاف الأحوال لا في مقدار الآجال) (٢) انتهى.

ولا يخفى ما فيه من البعد والتكلف.

وسابعها : ما نقله أيضا في الكتاب المذكور وهو أن الله تعالى لا يزال يورد على المؤمن أسباب حبّ الموت حالا بعد حال ، حتّى (٣) ليؤثر المؤمن الموت ، فيقبضه مريدا له. وإيراد تلك الأحوال ـ المراد بها : غاياتها من غير تعجيل بالغايات من القادر ـ على التعجيل يكون (٤) تردّدا بالنسبة إلى قادرية المخلوقين. فهو بصورة تردد وإن لم يكن ثمة تردّد.

ويؤيده الخبر المروي أن إبراهيم عليه‌السلام لما أتاه ملك الموت ليقبض روحه وكره ذلك ، أخّره الله تعالى إلى أن رأى شيخا يأكل ولعابه يسيل على لحيته ، فاستفظع ذلك وأحب الموت. وكذا موسى عليه‌السلام) (٥).

أقول : وهذا الوجه مع سابقيه إنما تضمّن بيان التردّد في قبض روح العبد

__________________

(١) نقله البيهقي عن أبي سليمان الخطابي ، انظر الأسماء والصفات : ٦٦٤.

(٢) القواعد والفوائد ٢ : ١٨٢ ـ ١٨٣ / القاعدة : ٢١٢.

(٣) ليست في «ح».

(٤) في «ق» بعدها : إما ، وما أثبتناه موافق للنسخة «ح».

(٥) القواعد والفوائد ٢ : ١٨٢ ـ ١٨٣ / القاعدة : ٢١٣.

٣٥٣

المؤمن خاصة ، والخبر قد تضمن حصول التردّد في سائر أفعاله تعالى لكن لا كالتردّد في قبض روح المؤمن ؛ فإنه أكثر. وحينئذ ، فيبقى الإشكال بحاله فيما عدا هذا الفرد.

وثامنها : ما نقله بعض علمائنا الأعلام (١) عن بعض علماء العامّة ، وهو أن معناه : (ما تردّد عبدي المؤمن في شي‌ء أنا فاعله كتردده في قبض روحه ، فإنه متردّد بين إرادته للبقاء وإرادتي للموت ، فأنا ألطّفه وابشّره حتى أصرفه عن كراهة الموت. فأضاف سبحانه نفس تردد وليه إلى ذاته المقدسة كرامة وتعظيما له ، كما يقول غدا يوم القيامة لبعض من يعاتبه من المؤمنين في تقصيره عن تعهد ولي من أوليائه : «عبدي مرضت فلم تزرني!». فيقول : كيف تمرض وأنت رب العالمين؟ فيقول : «مرض عبدي فلان فلم تعده ، ولو عدته لوجدتني عنده».

فكما أضاف مرض وليه وسقمه إلى ذاته المقدّسة عن نعوت خلقه ؛ إعظاما لقدر عبده وتنويها لكرامة منزلته ، كذلك أضاف التردّد إلى ذاته كذلك) انتهى.

أقول : ومن قبيل ما نقله من الحديث المشتهر به ورد قوله تعالى (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) (٢) الآية ؛ فإن في جملة من الأخبار الواردة في تفسير الآية المذكورة أن المراد بسبّ الله إنما هو سبّ وليّ الله ، ومثله في الأخبار (٣) غير عزيز.

وتاسعها : ما ذكره بعض الأعلام وهو أن فعل الله تعالى لمّا كان غير مسبوق بمادة ومدة ، وليس بتدريجي الحصول ، بل آني الوجود كما قال الله عز شأنه : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤) ، أشار بقوله : «ما ترددت في

__________________

(١) انظر بحار الأنوار ٦٤ : ١٥٦ / ذيل الحديث : ١٥.

(٢) الأنعام : ١٠٨.

(٣) تفسير العياشي ١ : ٤٠٣ / ٧٩.

(٤) يس : ٨٢.

٣٥٤

شي‌ء أنا فاعله كتردّدي» ـ الحديث ـ إلى أن أفعاله جل شأنه ليس فيها تردد ، بمعنى أن يفعله الحال ، أو سيفعل الملزوم للتراخي في الفعل ، مثل هذا الفعل الذي هو قبض روح عبده المؤمن ، فإن فيه التراخي ، وليس مثل سائر الافعال التي كان حصولها (١) بمجرد أمر (كن) ، فكأن هذا الفعل مستثنى من سائر الأفعال ، أي ليس في كل أفعاله تردّد ملزوم للتراخي في الفعل إلّا في قبض روح عبدي المؤمن ، إذ فيه التراخي ، فقد ذكر الملزوم وأراد اللازم.

ومعنى التشبيه راجع إلى الاستثناء ، فقد شبه عدم التراخي في الأفعال بالتراخي في (٢) قبض روح عبده المؤمن ، وليس المعنى أن التراخي في سائر الأفعال ليس مثل هذا التراخي ، بل التراخي فيه أقوى.

وعلل جلّ شأنه التراخي في قبض روح عبده المؤمن بكراهة الموت وكراهته تعالى مساءته بحصول موته دفعة.

ويؤيد ما ذكرناه ما رواه شيخنا الطوسي في أماليه بإسناده عن الحسن بن ضوء عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال علي بن الحسين عليه‌السلام : قال الله عزوجل : ما من شي‌ء أتردّد عنده (٣) [مثل] تردّدي عند قبض روح المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ، فإذا حضر أجله الذي لا [تأخير] (٤) فيه بعثت إليه ريحانتين من الجنة ؛ تسمى أحدهما المسخية ، والاخرى المنسية ، فأما المسخية فتسخيه من ماله ، وأما المنسية فتنسيه أمر الدنيا» (٥) فتأمل. انتهى.

أقول : ظاهر الحديث أن له سبحانه ترددا في سائر أفعاله ، ولكنه سبحانه لا يبلغ تردّده في قبض روح عبده المؤمن ؛ لما ذكره تعالى من كراهة عبده

__________________

(١) في «ح» بعدها : آنيا.

(٢) الأفعال بالتراخي في ، سقط في «ح».

(٣) في المصدر : فيه.

(٤) من المصدر ، وفي النسختين : تأخر.

(٥) الأمالي : ٤١٤ / ٩٣٢.

٣٥٥

المؤمن للموت ، وكراهته سبحانه لإساءته. وبناء على ما ذكره هذا المجيب المذكور ، أنه لا تردّد له في شي‌ء من أفعاله إلّا في هذا الفرد ، وهو خلاف ظاهر الخبر كما ترى. وقوله : (ومعنى التشبيه راجع إلى الاستثناء ، فقد شبه عدم التراخي في الأفعال بالتراخي في قبض روح عبده المؤمن) غير ظاهر ؛ لعدم الجامع بين المشبه والمشبه به في المقام. وحينئذ ، فالمنفي في قوله : «ما ترددت» إنما تعلق بالقيد ، أعني التشبيه لا المقيد خاصة. ألا ترى أن المتبادر من قول القائل : ما أكرمت أحدا مثل إكرامي لزيد ، هو أن المنفي إنما هو الإكرام المشبه به ، يعني ما أكرمت أحدا إكراما زائدا ، مثل إكرام زيد؟ فهو يقتضي حصول الإكرام منه لغير زيد ، لكن لا كإكرامه لزيد.

وبالجملة ، فإني لا أعرف لما ذكره وجه صحة ، فقوله : (وليس المعنى) ـ إلى آخره ـ ليس في محله ، بل هو المعنى المتبادر من اللفظ.

وعاشرها : ما ذكره بعض علماء العامّة ، وهو : (أن (تردّدت) في اللغة ، بمعنى : (رددت) مثل قولهم : (ذكرت وتذكرت) ، و (دبرت وتدبرت) ، فكأنه يقول : ما رددت ملائكتي ورسلي في أمر حكمت بفعله [مثل] ما رددتهم في قبض روح عبدي المؤمن ، فأردّدهم في إعلامي بقبضي له وتبشيره بلقائي ، وما أعددت له عندي ، كما رددت ملك الموت إلى إبراهيم وموسى عليهما‌السلام في القضيتين المشهورتين إلى أن اختارا الموت فقبضهما. كذلك خواص المؤمنين من الأولياء يردّدهم إليهم ؛ ليصلوا إلى الموت ، ويحبوا لقاء المولى) (١) انتهى.

وحادي عشرها : ما ذكره بعض علمائهم أيضا ، وهو (أن المعنى : ما رددت الأعلال والأمراض ، والبر واللطف والرفق ، حتّى يرى بالبر عطفي وكرمي ، فيميل

__________________

(١) انظر : بحار الأنوار ٦٤ : ١٥٦ / ذيل الحديث : ١٥ ، شرح الكافي (المازندراني) ٩ : ١٨٣.

٣٥٦

إلى لقائي طمعا ، وبالبلاء والعلل فيتبرّم بالدنيا ولا يكره الخروج منها) (١) انتهى.

وثاني عشرها : ما خطر بالبال العليل والفكر الكليل ، وهو أنه يحتمل أن يراد بذلك الإشارة إلى ما في لوح المحو والإثبات من المعلومات المنوطة بالأسباب والشروط نفيا وإثباتا ؛ فإنه أشبه شي‌ء بالتردّد ؛ فإنه متى كتب فيه : إن عمر زيد مثلا خمسون سنة إن وصل رحمه ، وثلاثون سنة إن قطعه ، فهو في معنى التردّد في قبض روحه بعد الخمسين أو الثلاثين. وهكذا سائر المعلومات المكتوبة فيه المعلقة على الشروط نفيا وإثباتا. فيكون المعنى : أنه لم يقع مني في لوح المحو والإثبات محو وإثبات أزيد مما وقع بالنسبة إلى قبض روح عبدي المؤمن.

المقام الثاني : في الجواب عن الإشكال الثاني. وقد ذكر مشايخنا ـ عطر الله مراقدهم ـ في الجواب عنه وجوها (٢) منها ما أفاده شيخنا بهاء الملة والحق والدين ـ طيب الله تعالى مضجعه ـ في كتاب (الأربعون) حيث قال في شرح الخبر المذكور ما صورته : (لأصحاب القلوب في هذا المقام كلمات سنية ، وإشارات سرية ، وتلويحات ذوقية ، تعطر مشامّ الأرواح وتحيي رميم الأشباح ، ولا يهتدي إلى معناها ولا يطلع على مغزاها إلّا الذي تعب في الرياضات وعنّى نفسه بالمجاهدات ، حتى ذاق مشربهم ، وعرف مطلبهم. وأما من لم يفهم تلك الرموز ، ولم يهتد إلى تلك الكنوز ؛ لعكوفه على الحظوظ الدنية ، وانهماكه في اللذات البدنية (٣) ، فهو عند سماع تلك الكلمات على خطر عظيم من التردي في غياهب الإلحاد ، والوقوع في مهاوي الحلول والاتحاد ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ونحن نتكلم في هذا المقام بما يسهل تناوله على الأفهام ، فنقول : هذا

__________________

(١) انظر المصدر نفسه.

(٢) في «ح» : بوجوه.

(٣) من «ح» ، وفي «ق» : المنونيّة.

٣٥٧

مبالغة في القرب ، وبيان لاستيلاء سلطان المحبة على ظاهر العبد وباطنه ، وسره وعلانيته. فالمراد ـ والله أعلم ـ : أني إذا أحببت عبدي جذبته إلى محل الانس ، وصرفته إلى عالم القدس ، وصيرت فكره مستغرقا في أسرار الملكوت ، وحواسّه مقصورة على اجتلاء أنوار الجبروت ، فتثبت حينئذ قدمه ويمتزج بالمحبّة لحمه ودمه ، إلى أن يغيب عن نفسه ويذهل عن حسه ، فتتلاشى الأغيار في نظره حتى أكون [له] بمنزلة سمعه وبصره ، كما قال من قال :

جنوني فيك لا يخفى

وناري فيك لا تخبو

فأنت السمع والأبصا

ر والأركان والقلب) (١)

انتهى كلامه ، علا في الفردوس مقامه.

قال بعض الأفاضل الأعلام بعد نقل هذا الكلام : (أقول : هذا قريب مما نقل عن صاحب (الشجرة الإلهية) أنه قال : كما أن النفس في حال التعلق بالبدن يتوهم أنها هو وأنها فيه وإن لم تكن هو ولا فيه ، فكذلك النفس إذا فارقت البدن وقطعت تعلقها من شدة قوتها ونوريتها وعلاقتها العشقية مع نور الأنوار والأنوار العقلية تتوهم أنها هي فتصير الأنوار مظاهر النفوس المفارقة ، كما كانت الأبدان أيضا. فهذا هو معنى الاتّحاد لا صيرورة الشيئين شيئا واحدا ؛ فإنه باطل) (٢) انتهى.

ومنها ما ذكره الفاضل المحقق الملّا محمد صالح المازندراني في (شرح اصول الكافي) ، حيث قال : (والذي يخطر بالبال على سبيل الاحتمال أني إذا أحببته كنت كسمعه الذي يسمع به وكبصره إلى آخره في سرعة الإجابة ، وقوله : «إن دعاني أجبته» إشارة إلى وجه التشبيه ، يعني : أني أجيبه سريعا إن دعاني إلى مقاصده ، كما يجيبه سمعه عند إرادته سماع المسموعات ، وبصره عند إرادته

__________________

(١) البيتان من الهزج. الأربعون حديثا : ٤١٥ ـ ٤١٦ / شرح الحديث : ٣٥.

(٢) شرح الكافي (المازندراني) ٩ : ٤٠٠ ـ ٤٠١.

٣٥٨

إبصار المبصرات وهكذا. وهكذا قول الناس المعروف بينهم : (فلان نور عيني) و : (نور بصري) و : (يدي وعضدي) ، وإنما يريدون التشبيه في معنى من المعاني المناسبة للمقام ، ويسمون هذا تشبيها بليغا بحذف الأداة ، مثل (زيد أسد). ويمكن أن يكون فيه تنبيه على أنه عزوجل هو المطلوب لهذا العبد المحبوب عند سمعه المسموعات وبصره المبصرات وهكذا ، يعني منّي يسمع المسموعات وبها يرجع إليّ ، والمقصود أنه يبتدئ بي في سماع المسموعات ، وينتهي إلي فلا يصرف شيئا من جوارحه فيما ليس فيه رضاي. وإليه أشار بعض الأولياء بقوله : ما رأيت شيئا وإلّا ورأيت الله قبله) (١) انتهى.

ومنها ما نقل من المحدث الكاشاني في بعض تعليقاته حيث قال : (والذي يخطر ببالي (٢) القاصر أن معنى «كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها» إلى آخره : أن العبد إذا ائتمر بالأوامر وانزجر بالنواهي ، كان بمنزلة من لا يسمع شيئا إلّا ما أمر ربه بالسماع ، ولا يبصر ببصره شيئا إلّا ما أمر ربه بالرؤية ، ولا تأخذ يده شيئا إلّا ما أمر ربه بالأخذ ، فكان العبد كالشخص المقرب عند ملك عظيم الشأن يكون فعله فعل الملك من غاية قربه وإطاعته ، والله عزّ شانه منزه عن السمع والبصر واليد والحلول والاتحاد تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. فإذا كان العبد راسخا في الإطاعة لله سبحانه يكون سمع العبد كأنه (٣) سمع الله ، وما رأى كأنه رؤية الله ، وما بطش كأنه بطش الله لغاية امتثاله وانزجاره ، فمثله كمثل الملك يأمر بضرب أحد وإهانته ، أو إعطاء أحد وكرامته ، والذي يضرب ويهين غير الملك ، وكذا من يعطي ويكرم غيره.

ويقال في العرف : إن الملك ضرب فلانا وأهانه ، وأعطى فلانا وأكرمه ، فكأن

__________________

(١) شرح الكافي (المازندراني) ٩ : ٤٠٠.

(٢) في «ح» : بالبال.

(٣) من «ح».

٣٥٩

فعل الضارب والمعطي فعله) انتهى.

أقول : ويشبه أن يكون هذا النقل عن المحدث الكاشاني وقع اشتباها وسهوا ، فإنه لا يشبه مشربه في أمثال هذه المقامات ، كما لا يخفى على من لاحظ كلامه في جلّ (١) الأخبار المجملات والمتشابهات الواردة من هذا القبيل ، كيف وقد قال في كتاب (اصول الوافي) في ذيل هذا الخبر ما صورته : (وأما معنى التقرب إلى الله ومحبة الله للعبد وكون الله سمع المؤمن وبصره ولسانه ويده ، ففيه (٢) غموض لا تناله أفهام الجمهور ، قد أودعناه في كتابنا الموسوم ب (الكلمات المكنونة) (٣) ـ وإنما يرزق فهمه من كان من أهله) (٤) انتهى.

ومنها ما نقله بعض الافاضل من أن المعنى لا يسمع إلّا بحق ولا ينظر إلّا بحق (٥) وإلى حق ، ولا يبطش إلّا بإذن الحق ، ولا يمشي إلّا إلى ما يرضى به الحقّ ، وهو الحق الموالي والمؤمن حقا الذي راح عنه كل باطل وصار مع الحق واقفا.

تتمّة مهمّة : في الجمع بين حديث الباب و: حبّ الله حبّ لقائه

قال شيخنا البهائي ـ نوّر الله تربته ـ في كتاب (الأربعون الحديث) : (قد يتوهم المنافاة بين ما دلّ عليه هذا الحديث وأمثاله من أن المؤمن الخالص يكره الموت ويرغب في الحياة ، وبين ما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» (٦) ، فإنه يدل بظاهره على أن المؤمن الحقيقي لا يكره الموت ، بل يرغب فيه ، كما نقل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه كان يقول : إن

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) في «ح» : وفيه.

(٣) كلمات مكنونة من علوم أهل الحكمة : ١١٣ ـ ١٢٩.

(٤) الوافي ٥ : ٧٣٥ ـ ٧٣٦.

(٥) قوله : ولا ينظر إلّا بحق ، سقط في «ح».

(٦) صحيح مسلم ٤ : ١٦٤٠ ـ ١٦٤١ / ٢٦٨٣ ـ ٢٦٨٦.

٣٦٠