الدّرر النجفيّة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

متفاوتة ودرجات متكاثرة قوة وضعفا (١). ألا ترى أنه ربما يستفاد من أخبار الأطفال فضلا عن عدول الرجال بانضمام بعض قرائن الأحوال؟ ويدل على هذا المعنى جملة من الأخبار كما أوضحناه في محل أليق.

وحينئذ ، فعمل الكل على هذه الطريقة وإن اختلفوا في التسمية ، فلا يتوجه إذن طعن الأخباريين على المجتهدين بالعمل بالمظنون (٢) الذي منعت منه الآيات (٣) والروايات (٤) ؛ فإن الاختلاف ـ كما عرفت ـ ليس إلّا في مجرد التسمية.

__________________

(١) أقول : وممّا يؤيّد هذا الوجه ما تكرر في ديباجة كتاب (الكافي) (١) من أنه لا بدّ في البناء في أحكام الدين من العلم واليقين ؛ لأنه لم يرد به إلّا الاستناد في ذلك إلى الأدلّة الشرعيّة من (الكتاب) والسنّة والرجوع إلى أهل البيت عليهم‌السلام دون البناء على الأقيسة والآراء كما يفصح به آخر كلامه من قوله : ولهذه العلّة (انبثقت على أهل دهرنا). إلى أن قال : فمن أراد الله توفيقه وأن يكون إيمانه ثابتا سبّب له الأسباب إلى التي تؤدي به إلى أن يأخذ دينه من كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعلم وبصيرة ، فذلك أثبت في دينه من الجبال الرواسي ، ومن أراد الله خذلانه ، وأن يكون دينه مستعارا (٢) مستودعا سبب له أسباب الاستحسان والتقليد والتأويل من غير علم وبصيرة ، إلى آخر كلامه.

ومما يؤيّد ذلك أيضا كلام جملة من متقدّمي أصحابنا ـ رضي‌الله‌عنهم ـ ولا سيّما شيخنا المفيد (٣) والمرتضى (٤) ـ رضوان الله عليهما ـ في تخصيص [...] (٥) أخبار الآحاد بأنها توجب الظن ، والمطلوب في الأحكام العلم واليقين ، فإن مرجعه كما زعم إنما هو إلى معلوميّة الدليل ، وثبوت صدقه وحقيقته كما هو شأن الخبر المتواتر ، وعدم ذلك الذي غاية ما يفيده الظن كما في أخبار الآحاد من غير نظر ولا بحث بالنسبة إلى الدلالات من كل منهما هل هو على وجه قطعي أو ظني. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

(٢) في «ح» : بالظنون.

(٣) كما في يونس : ٣٦.

(٤) انظر وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٠ ـ ٣١ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٤.

__________________

١ ـ الكافي ١ : ٧ ـ ٨.

٢ ـ في المصدر : معارا.

٣ ـ التذكرة (ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد) ٩ : ٤٤ ـ ٤٥.

٤ ـ رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الاولى) : ٢٤ ، ٥٠.

٥ ـ عبارة غير مقروءة.

٣٢١

نعم ، لو كان ما أخذه المجتهد من الأحكام إنّما استند فيه إلى دليل خارج عن (الكتاب) والسنّة ، فلا ريب في توجه الطعن عليه.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : الظاهر ـ والله سبحانه وأولياؤه عليهم‌السلام أعلم ـ أن المراد بمعلومية الحكم من الدليلين المذكورين ، الذي يكون ما عداه داخلا في الشبهات : ما هو أعم من أن يكون بالمعنى الذي ذكره المجتهدون في معنى العلم ، فإنه مما يحصل في كثير من الأحكام ، كما لا يخفى على من تدبرها من ذوي الافهام أو المعنى الآخر الذي ذكره الأخباريون فإنه أكثر [من] كثير في الأخبار ، أو يكون باعتبار معلومية الدليل عنهم عليهم‌السلام وإن كان حصول الحكم (١) بطريق الظن الغالب.

ولعل هذا أظهر ؛ وذلك فإنه حيث جعل الشارع (الكتاب) والسنّة مناطا للأحكام ، ومرجعا في الحلال والحرام على الوجه المتقدم ذكره آنفا. فكل ما أخذ منهما واستند فيه إليهما ، فهو معلوم ومتيقن عنه ، حيث إنه مأخوذ من دليليه اللذين امر بالأخذ منهما والتمسك بهما.

والظن حينئذ ليس هو مناط العمل ، بل العلم بأنا مأمورون بالعمل بهما ، والأخذ بما فيهما ، وقيام الاحتمال الضعيف في مقابلة الظن الغالب لا يقدح فيه ولا ينافيه. وما اشتهر من أنه إذا قام الاحتمال بطل الاستدلال ، فكلام شعري وإلزام جدلي ؛ إذ لو تم ذلك ، لانسدّ باب الاستدلال ؛ إذ لا قول إلّا وللقائل فيه مجال ، ولا دليل إلّا وهو قابل للاحتمال ، ولقام العذر لمنكري النبوات فيما يقابلون به أدلة المسلمين من الاحتمالات ، وكذا منكري التوحيد وجميع أصحاب المقالات.

وأمّا حمل العلم في هذا المقام على الحكم الجازم المطابق للواقع ، فهو بعيد

__________________

(١) في «ح» بعدها : منه.

٣٢٢

غاية البعد ، بل متعذر ؛ فإنه سبحانه لم يكلف (١) بذلك ، لا في نفس الأحكام الشرعية ، ولا في متعلقاتها ؛ لما قدمناه في غير موضع. ألا ترى إلى يقين الحلية ويقين الطهارة المتكرر في الأخبار (٢) ، فإنه ليس إلّا عبارة عن عدم العلم بالتحريم وعدم العلم بالنجاسة لا عن العلم بالعدم؟ وعدم العلم كما ترى أعم من العلم بالعدم ، مع أن الشارع سماه علما ويقينا ، ومنع ألّا ينقض بالشك ؛ لأنه علم ويقين ولا ينقضه إلّا يقين مثله.

بقي الكلام في الأخبار المانعة من العمل بالظن في الأحكام ، والظاهر أن المراد بذلك الظن الممنوع من العمل عليه هو ما كان مستندا إلى الأخذ بالرأي والهوى ، والقياس والاستحسان ، ونحو ذلك مما خرج عن دليلي (الكتاب) والسنّة ، كما عليه العامة.

وإلى ذلك تشير جملة من الأخبار لا بأس بإيراد جملة منها في المقام ـ وإن طال به زمام الكلام ـ ليندفع به الطعن عن العلماء الأعلام ، كما ارتكبه جملة من متحذلقي الأخباريين وملؤوا به مصنفاتهم الممزوج فيها الغث بالسمين. ففي كتاب (الاحتجاج) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «إياكم وأصحاب الرأي ؛ فإنهم أعداء السنن ، تفلتت منهم الأحاديث أن يحفظوها ، وأعيتهم السنن أن يعوها».

__________________

(١) في «ح» بعدها : في الشريعة.

(٢) انظر : المحاسن ٢ : ٢٩٦ / ١٩٧٦ ، الكافي ٣ : ١ / ٣ ، باب طهور الماء ، و ٣ : ٥٤ / ٤ ، باب المني والمذي يصيبان الثوب والجسد ، و ٥ : ٣١٣ / ٤٠ ، باب نوادر كتاب المعيشة ، و ٦ : ٣٣٩ / ٢ ، باب الجبن ، الفقيه ١ : ٦ / ١ ، تهذيب الأحكام ١ : ٢١٥ / ٦١٩ ، و ١ : ٢٥٢ / ٧٢٨ ، و ١ : ٤١٨ / ١٣٢٢ ، و ٢ : ٣٦١ / ١٤٩٥ ، وسائل الشيعة ١ : ١٣٤ ، أبواب الماء المطلق ، ب ١ ، ح ٥ ، و ١ : ١٤٢ ـ ١٤٣ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٤ ، و ٣ : ٤٢٤ ، أبواب النجاسات ، ب ١٦ ، ح ٤ ، و ٣ : ٥٢١ ، أبواب النجاسات ، ب ٧٤ ، ح ١ ، و ٢٥ : ١١٩ ، أبواب الأطعمة المباحة ب ٦١ ، ح ٥.

٣٢٣

إلى أن قال : «فعارضوا الدين بآرائهم ، فضلّوا وأضلّوا» (١).

وفي حديث عن الصادق عليه‌السلام أنه قال لبعض أصحابه : «ما أحد أحبّ إلي منكم ، إن الناس سلكوا سبلا شتّى ، فمنهم من أخذ بهواه ، ومنهم من أخذ برأيه ، وإنكم أخذتم بما (٢) له أصل» (٣) ، يعنى : (الكتاب) والسنّة.

وفي خبر عنه عليه‌السلام : «من أخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله زالت الجبال قبل أن يزول ، ومن أخذ دينه من أفواه الرجال ردّته الرجال» (٤).

وفي خبر (٥) عن علي بن الحسين عليه‌السلام : «إن دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة والمقاييس الفاسدة ، ولا يصاب إلّا بالتسليم. فمن سلّم لنا سلم ، ومن اهتدى بنا هدي ، ومن دان بالقياس والرأي هلك» (٦).

وعن الصادق عليه‌السلام قال : «تزاوروا ؛ فإن في زيارتكم إحياء لقلوبكم وذكرا لأحاديثنا ، وأحاديثنا تعطف بعضكم على بعض ، فإن أخذتم بها (٧) رشدتم ونجوتم ، وإن تركتموها ضللتم وهلكتم فخذوا بها ، وأنا بنجاتكم زعيم» (٨).

وفي حديث أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام المروي في كتاب (المحاسن) قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب ولا سنّة ، فننظر

__________________

(١) لم نعثر عليه في الاحتجاج ، وما في عوالي اللآلي ٤ : ٦٥ / ٢١ ، والبحار ٢ : ٣٠٨ / ٦٩ عن (العوالي) ما نصّه : إياكم وأصحاب الرأي ؛ فإنهم أعيتهم السنن أن يحفظوها ، فقالوا بالحلال والحرام برأيهم ، فأحلّوا ما حرّم الله ، وحرّموا ما أحلّه الله ، فضلّوا وأضلّوا.

(٢) في المصدر : بأمر.

(٣) المحاسن ١ : ٢٥٤ ـ ٢٥٥ / ٤٨٣ ، بحار الأنوار ٦٥ : ٩٠ / ٢٣.

(٤) الكافي ١ : ٧.

(٥) في «ح» بعدها : آخر.

(٦) كمال الدين : ٣٢٤ / ٩.

(٧) من «ح» والمصدر.

(٨) الكافي ٢ : ١٨٦ / ٢ ، باب تذاكر الاخوان ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٨٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٨ ، ح ٣٨.

٣٢٤

فيها؟ فقال : «لا» (١) ، أمّا إنك إن أصبت لم تؤجر ، وإن كان خطأ (٢) كذبت على الله» (٣).

وفي حديث سماعة عن العبد الصالح عليه‌السلام ، وقد سأله بما هو في معنى هذا السؤال ، فقال عليه‌السلام : «إنّما هلك من كان قبلكم بالقياس». فقلت له : لم تقول ذلك؟ فقال : «إنه ليس شي‌ء إلّا وقد جاء في الكتاب والسنّة» (٤).

وفي رسالة الصادق عليه‌السلام إلى أصحابه المرويّة في (روضة الكافي) بأسانيد ثلاثة ما صورته : «أيها العصابة المرحومة المفلحة ، إن الله عزوجل أتمّ لكم ما آتاكم من الخير ، واعلموا أنّه ليس من علم الله ولا من أمره أن يأخذ أحد من خلق الله في دينه بهوى ولا برأي ولا مقائيس ، قد أنزل الله القرآن وجعل فيه تبيان كلّ شي‌ء ، وجعل للقرآن وتعلم القرآن أهلا لا يسع أهل علم القرآن الذين أتاهم الله علمه أن يأخذوا فيه بهوى ولا رأي ولا مقاييس ، أغناهم الله عن ذلك بما آتاهم من علمه وخصهم به ، ووضعه عندهم كرامة من الله أكرمهم بها ، وهم الذين لا يرغب عنهم وعن مسألتهم وعن علمهم الذي أكرمهم الله به وجعله عندهم ، إلّا من سبق عليه في علم الله الشقاء في أصل الخلق تحت الأظلّة ، فأولئك الذين يرغبون عن سؤال أهل الذكر والذين أتاهم الله علم القرآن ، واولئك الذين يأخذون بأهوائهم وآرائهم ومقاييسهم ، حتى دخلهم الشيطان» (٥) الحديث.

إلى غير ذلك من الأخبار المتكاثرة.

__________________

(١) ليست في المصدر.

(٢) في المصدر : وإن خطأت ، بدل : وإن كان خطأ.

(٣) المحاسن ١ : ٣٣٩ ـ ٣٤٠ / ٩٩٦.

(٤) الكافي ١ : ٥٧ / ١٣ ، باب البدع والرأي والمقاييس ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٨ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٦ ، ح ٣ ، وليس فيهما : إنه ليس شي‌ء إلّا وقد جاء في الكتاب والسنّة ، بل فيهما : وما يحتاجون إليه إلى يوم القيامة ، يعني به ما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٥) الكافي ٨ : ٤ ـ ٥.

٣٢٥

ووجه التقريب فيها أنها قد اشتملت على الذم بالنسبة إلى من استند في حكمه إلى الآراء والأهوية والقياسات والاستحسانات ، والأمر بالأخذ بما في (الكتاب) العزيز والسنّة المطهرة حسب ما قلناه ، ونهج ما ادّعيناه بطريق ظنّيّ غالب أو قطعي جازم. هذا ما خطر بالبال في دفع هذا الإشكال ، والله سبحانه وأولياؤه أعلم بحقيقة الحال.

الفائدة السادسة عشرة : في أن المتشابه يرد حكمه إلى الله

قد دل الخبر المذكور على أن الحكم في المتشابه ، هو التوقف والرد إلى الله عزوجل وإلى أئمة الهدى ، صلوات الله عليهم. وقد استفاضت بذلك الأخبار ، ففي كتاب (الأمالي) لشيخنا الصدوق رحمه‌الله بسنده إلى جميل بن صالح عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الامور ثلاثة : أمر تبيّن لك رشده فاتبعه ، وأمر تبيّن لك غيّه فاجتنبه ، وأمر اختلف فيه (١) فردّه إلى الله عزوجل» (٢) الخبر.

وروى في كتاب (الخصال) بسنده إلى أبي شعيب يرفعه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «أورع الناس من وقف عند الشبهة» (٣).

وروى الشيخ قدس‌سره في كتاب (الأمالي) في وصيّة أمير المؤمنين لابنه الحسن عليهما‌السلام عند وفاته : «أوصيك يا بني بالصلاة عند وقتها».

إلى أن قال : «والصمت عند الشبهة» (٤).

وروى في كتاب (المحاسن) بسنده عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، وتركك حديثا لم تروه خير من روايتك حديثا لم تحصه» (٥).

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) الأمالي : ٣٨١ ـ ٣٨٢ / ٤٨٦.

(٣) الخصال ١ : ١٦ / ٥٦ ، باب الواحد.

(٤) الأمالي ٧ : ٨.

(٥) المحاسن ١ : ٣٤٠ / ٦٩٩.

٣٢٦

إلى غير ذلك من الأخبار المتكاثرة وسيأتي شطر منها في المقام.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أن الذي يظهر لي ـ والله سبحانه أعلم ـ أن المراد بالشبهة في هذه الأخبار : هو ما أشبه الحكم فيه ولم يتضح على وجه يدخل به في أحد الفردين المذكورين من الحلال البين والحرام البين. وذلك يقع بأحد أمور :

الأول : كون الدليل الوارد فيه ليس بنص ولا ظاهر في الحكم. وهذا الفرد مما لا ريب في دخوله في الشبهة ، ووجوب التوقف فيه ؛ لقوله سبحانه (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) (١) الآية.

وحينئذ ، فنسبة الاشتباه إلى الحكم ناشئ من ثبوته في دليله.

الثاني : أنه لم يرد فيه نص بالكلية. ويدل على هذا الفرد ما رواه الصدوق ـ عطر الله مرقده ـ في (الفقيه) من خطبة أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال : «إن الله حد حدودا فلا تعتدوها ، وفرض فرائض فلا تنقصوها ، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلّفوها رحمة لكم من الله فاقبلوها» ثم قال : «حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له أترك ، والمعاصي حمى الله عزوجل ، فمن رتع حولها يوشك أن يدخلها» (٢).

وهذا القسم من الشبهة ربما عبر عنه بالمبهمات المعضلات ، كما في الخطبة المرويّة عنه عليه‌السلام في وصف أبغض الخلق إلى الله : وإن نزلت به إحدى المبهمات المعضلات هيأ لها حشوا من رأيه ، فهو من لبس الشبهات في مثل غزل

__________________

(١) آل عمران : ٧.

(٢) الفقيه ٤ : ٥٣ / ١٩٣.

٣٢٧

العنكبوت ، فهو خبّاط عشوات ركّاب شبهات (١).

الثالث : تعارض الأخبار فيه مع تساوي طرق الترجيح ، كما تضمنته المقبولة المذكورة. ويدل على هذا الفرد رواية جميل بن صالح المتقدّمة (٢). والحكم في جميع ذلك كما عرفت هو الردّ إليهم عليهم‌السلام في الحكم ، والوقوف على جادة الاحتياط في العمل ، فيكون الاحتياط في جميع ذلك واجبا ؛ إذ هو الحكم الشرعي في هذا الموضع.

فإن قلت : إن مقتضى الجمع بين خبري (٣) الإرجاء والتخيير هو التخيير في العمل بالنسبة إلى الفرد الأخير.

قلت : قد عرفت اختلاف الأخبار في المقام ، واختلاف كلام أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ في وجه الجمع بينها ، حتى انتهى إلى ثمانية وجوه كما قدمنا ذكره ، وبه يعود الإشكال ويبقى الحكم في قالب الاشتباه والخفاء.

ولا ريب أن الاحتياط طريق السلامة ، والفوز بالأمن من أهوال القيامة وإن كان أقرب تلك الوجوه ـ كما قدمنا الإشارة إليه ـ حمل أخبار الإرجاء على الحكم ، وحمل خبر التخيير على العمل. ومما يحتمل أيضا دخوله في الشبهة التي تضمنتها هذه الأخبار ما وقع الاشتباه في اندراجه تحت أمرين متنافيين مع معلومية حكم كلّ (٤) منهما ، كالسجود على الخزف مثلا ، للشك في استحالته بالطبخ وعدمها ، ومثل بعض الأصوات المشكوك في كونها غناء أم لا.

واحتمل بعض مشايخنا المحققين من متأخّري المتأخّرين دخول ما احتمل الحرمة ـ وإن كان بحسب ظاهر الشرع حلالا ـ في أفراد الشبهة المعدودة في

__________________

(١) مقاطع متفرقة من خطبته عليه‌السلام ، انظر نهج البلاغة : ١٣٩ ـ ١٤٠ / الخطبة : ٨٧.

(٢) انظر الدرر ١ : ٣٢٦ / الهامش : ٢.

(٣) في «ح» : خبر.

(٤) من «ح» ، وفي «ق» : كل حكم.

٣٢٨

هذه الأخبار ، وبعضهم (١) عدّه منها جازما بدخوله في أفرادها ، وانتظامه في عدادها ، وجعل من ذلك أيضا اختلاط الحلال والحرام الغير المحصور ، وجوائز الظالم ، والأكل من ماله. وجعل منها أيضا ما اختلفت فيه الأخبار وإن ترجح أحد طرفيها في نظر الفقيه ، كمسألة نجاسة البئر ، قال : (فإنه وإن اختار عدم نجاستها بالملاقاة لرجحان أخبار الطهارة إلّا إنه ينبغي الاحتياط ، والأمر بالنزح ، ونحوها مما اختلفت فيه الأخبار ، وترجح أحد طرفيها) انتهى.

أقول : وربما يستدل على ذلك أيضا برواية مسعدة بن زياد عن جعفر عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «لا تجامعوا على الشبهة وقفوا عند الشبهة ، يقول : إذا بلغك أنك قد رضعت من لبنها فإنها لك محرم وما أشبه ذلك فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (٢).

وجه الاستدلال ـ بناء على كون «يقول» وما في حيزه من كلام الإمام عليه‌السلام لا من كلام الراوي ، وإلّا لسقط البحث ـ هو حمل بلوغ إرضاعه من لبنها على (٣) عدم الثبوت شرعا ، وإلّا لكانت محرما بتعين وليس من الشبهة في شي‌ء. ولا ريب أنه بمجرّد بلوغ الخبر من غير ثبوته شرعا لا تصير محرما بالنسبة إليه ، فيجوز له تزوّجها بحسب ظاهر الشرع مع أنه عد ذلك شبهة في الخبر المذكور موجبة للوقوع في الهلكة.

__________________

(١) البعض الآخر هو شيخنا المجلسي في رسالة [...] (١) والثاني هو المحدّث الفاضل السيّد نعمة الله الجزائري رحمه‌الله في شرحه على كتاب (عوالي اللآلي). منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

(٢) تهذيب الأحكام ٧ : ٤٧٤ / ١٩٠٤ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٢٥٨ ـ ٢٥٩ ، أبواب مقدمات النكاح ، ب ١٥٧ ، ح ٢ ، وليس فيهما : وقفوا عند الشبهة.

(٣) من «ح».

__________________

١ ـ كلمتان غير مقروءتين.

٣٢٩

إلّا إن عندي أن ما ذكره قدس‌سره من ذلك لا يخلو من الإشكال ؛ لعدم اندراجه تحت الأخبار الواردة في هذا المجال :

أمّا أولا ، فلان جملة منها قد خصّصت الشبهة بأفراد ليست هذه منها ، وبعضا منها وإن كان مجملا إلّا إن طريق الجمع يقتضي حمله على المفصّل.

وأمّا ثانيا ، فلان عدّ (١) هذا الفرد من جملة أفراد الشبهة التي هي قسيم للحلال البين ، يقتضي حمل الحلال البيّن على ما كان كذلك في نفس الأمر ، وما ثبت حله في الواقع. ومن الظاهر أن هذا ليس ببيّن ، بل هو في نهاية الخفاء ؛ إذ وجود الحلال بهذا المعنى مما يكاد يقطع بعدمه ، حتى إن هذا القائل قدس‌سره صرّح (٢) في بعض فوائده بأن الحلال الواقعي لا يكاد يوجد إلّا في تناول ماء المطر حال تساقطه في أرض مباحة. والظاهر المتبادر من هذا اللفظ هو أن المراد : ما تبين حله من الأدلّة الشرعية أو حرمته.

فالوصف في الخبر كاشف كما يعطيه قوله عليه‌السلام في المقبولة : «أمر تبين رشده ... وأمر تبين غيّه» ، وكما في رواية جميل بن صالح المتقدّمة ، لا وصف احترازي كما يؤذن به كلامه من جملة ما ذكره من الأفراد المعدودة على الحلال الغير البين ، فإنه يرد عليه لزوم ذلك في جانب الحرام أيضا ، فيلزم إمّا اتصاف هذه الأفراد التي ذكرها بالحلال الغير البين والحرام الغير البين معا ؛ وإمّا وجود فرد آخر خارج عن الأفراد الثلاثة المذكورة ، ولا ريب في بطلان الأمرين المذكورين.

وأمّا ثالثا ، فإن المفهوم من الأخبار الدالة على التثليث وكذا غيرها ، هو أنه كما أن الحكم في الحلال والحرام هو الإباحة في الأوّل ، والمنع مع المؤاخذة في الثاني ، كذلك الحكم في الثالث هو الكف والتوقّف عن الحكم ، والرد إلى الله تعالى وإليهم عليهم‌السلام كما دريته من الأخبار المتقدّمة. ومنها زيادة على ما تقدم قول أبي

__________________

(١) في «ح» : حدّ.

(٢) من «ح».

٣٣٠

جعفر عليه‌السلام في حديث طويل : «وما اشتبه عليكم فقفوا عنده ، وردوه إلينا نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا» (١).

ولا ريب أن ما ذكره قدس‌سره من الأفراد مما علمت حليّته من الشريعة ، ودلت الأخبار على إباحته لا يكون من هذا في شي‌ء ؛ أمّا جوائز الظالم ، فلقوله عليه‌السلام في بعض تلك الأخبار : «خذ وكل فلك المهنّأ وعليه الوزر» (٢) ، ومثله غيره (٣).

وأمّا الحلال المختلط بالحرام ، فلقوله عليه‌السلام في جملة من الأخبار : «كلّ شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه».

ومثل ذلك ما ترجح في نظر الفقيه من الدليل ؛ فإنه الذي يجب عليه (٤) العمل به شرعا. وحينئذ كيف (٥) يكون هذا من الشبهة التي هي قسيم للحلال البيّن والحرام البيّن؟

والذي يقتضيه النظر في المقام أن يقال : إنه لا ريب ـ بمعونة ما ذكرنا ـ أن المراد بالشبهة ـ في مقام التقسيم إلى الأقسام الثلاثة المذكورة في تلك الأخبار ، ومثلها في أخبار أخر غير مشتملة على التقسيم ـ هو ما ذكرناه آنفا ، ولا مجال لدخول ما ذكره قدس‌سره في ذلك. إلّا إن معاني الشبهة مطلقا وأفرادها لا تنحصر في الأفراد التي أسلفناها ؛ لوجود بعض الأفراد لها مما يستحب اجتنابه والتورّع عنه ، وعلى هذا فتدخل هذه الأفراد التي ذكرها في الشبهة التي يستحب اجتنابها ، كما أوضحنا ذلك في مقدمات كتابنا (الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة) في المقدمة الموضوعة في بيان معنى الاحتياط وتحقيقه (٦) ، وعسى ننقلها في هذا

__________________

(١) الأمالي (الطوسي) : ٢٣٢ / ٤١٠ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٠ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٣٧.

(٢) الفقيه ٣ : ١٠٨ / ٤٤٩.

(٣) الكافي ٥ : ١١٠ ـ ١١٢ / ٣ ـ ٧ ، باب شرط من اذن له في أعمالهم.

(٤) ليست في «ح».

(٥) في «ح» : وكيف.

(٦) انظر الحدائق الناضرة ١ : ٦٥ ـ ٦٧.

٣٣١

الكتاب (١) لما فيها من مزيد النفع لذوي الألباب من الطلاب.

وملخص ذلك أن من جملة ما يستحب التنزه عنه ما إذا حصل الشكّ باحتمال النقيض لما قام عليه الدليل الشرعي من الأفراد احتمالا مستندا إلى بعض الأسباب المجوّزة ، كما إذا كان مقتضى الدليل إباحة شي‌ء وحليته على الإطلاق ، لكن يحتمل قريبا بواسطة بعض الأسباب الظاهرة أن بعض أفراد ذلك المطلق مما حرمه الشارع ولم يعلم به المكلف ، فإن مقتضى الورع والتقوى في هذا الباب هو الكف عنه والاجتناب ، ومنه جوائز الظالم ونحوها. وعلى هذا يحمل خبر مسعدة المتقدم آنفا.

أمّا إذا لم يحصل للمكلف ما يوجب الشكّ والريب فإنه يعمل على ما ظهر له من الدليل وإن احتمل النقيض في الواقع ، ولا يستحب له الاحتياط هنا ، ولا يكون ذلك في شي‌ء من الشبهة بفرديها ، بل ربما كان الاحتياط هنا مرجوحا. وهذا كالحلال المختلط بالحرام إذا كان غير محصور كما تدل عليه بعض أخباره ، حيث تضمّن بعض منها المنع عن السؤال عما يشترى من سوق المسلمين أخذا بالحنفية السمحة ، كصحيحة البزنطي ، وبعض أخبار الجبن (٢) ، والتجنب في القسم المذكور من فردي الشبهة على جهة الورع ، والتقوى في الدين دون الوجوب كما في الفرد المتقدم كما هو واضح مستبين ، والله سبحانه وتعالى أعلم بحقائق أحكامه.

ختام به إتمام في ذم تصدي غير العالم للفتيا والقضاء

يشتمل على جملة من الأخبار المانعة عن التهجم والقدوم على الحكم بين الناس والفتوى إلّا لمن تردّى برداء العلم والعمل والتقوى زيادة على ما قدّمنا من

__________________

(١) انظر الدرر ٢ : ١١٣ ـ ١٢٧ / الدرّة : ٢٤.

(٢) وسائل الشيعة ٢٥ : ١١٧ ـ ١١٩ ، أبواب الأطعمة المباحة ، ب ٦١ ، ح ١ ، ٢ ، ٥ ، ٧.

٣٣٢

الأخبار فمن ذلك ما ورد عنهم عليهم‌السلام بطرق عديدة ومتون متقاربة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) : «من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماوات والأرض ، ولحقه وزر من عمل بفتياه» (٢).

وفي أخبار اخر أيضا كذلك : «إياك وخصلتين مهلكتين : أن تفتي الناس برأيك ، أو تقول ما لا تعلم» (٣).

وفي وصية الصادق عليه‌السلام لعنوان (٤) البصري : «اسأل (٥) العلماء ما جهلت ؛ وإياك أن تسأل تعنتا وتجربة ، وإياك أن تعمل برأيك شيئا ، وخذ بالاحتياط فيما تجد إليه سبيلا ، واهرب من الفتيا هربك من الأسد ، ولا تجعل رقبتك للناس جسرا» (٦).

وفي كتاب (مصباح الشريعة) : قال الصادق عليه‌السلام : «لا تحل الفتيا لمن لا يستفتي (٧) من الله عزوجل بصفاء سره وإخلاص عمله وعلانيته وبرهان من ربه في كلّ حال ؛ لأن من أفتى فقد حكم ، والحكم لا يصحّ إلّا بإذن من الله وبرهان.

قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أجرأكم على الفتيا أجرأكم على الله ، أو لا يعلم المفتي أنه هو الذي يدخل بين الله تعالى وبين عباده ، وهو الحائر بين الجنة والنار؟

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام لقاض : هل تعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال : لا. قال : فهل أشرفت على مراد الله عزوجل في أمثال القرآن؟ قال : لا. قال : إذن هلكت وأهلكت ، والمفتي يحتاج إلى معرفة معاني القرآن وحقائق السنن ، وبواطن الإشارات ، والآداب ،

__________________

(١) في «ح» بعدها : قال.

(٢) الكافي ٧ : ٤٠٩ / ٢ ، باب أن المفتي ضامن ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٠ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٤ ، ح ١.

(٣) المحاسن ١ : ٣٢٤ ـ ٣٢٥ / ٦٥٣ ، بحار الأنوار ٢ : ١١٨ / ٢١.

(٤) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : لصفوان.

(٥) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» قبلها : إياك.

(٦) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٧٢ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ١٦.

(٧) في المصدر : يصطفي.

٣٣٣

والإجماع ، والاختلاف ، والاطلاع على اصول ما اجتمعوا عليه وما اختلفوا فيه ، ثم إلى حسن الاختيار ، ثم العمل الصالح ، ثم الحكمة ثم التقوى ، ثم حينئذ إن قدر» (١) انتهى.

وروى في كتاب (منية المريد) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أجرأكم على الفتيا (٢) أجرأكم على النار» (٣).

وروي في (الكافي) بسند حسن عن عبد الرحمن بن الحجاج ، قال : كان أبو عبد الله عليه‌السلام قاعدا في حلقة ربيعة الرأي ، فجاء أعرابي فسأل (٤) ربيعة عن مسألة فأجابه ، فلما سكت ، قال له الأعرابي : أهو في عنقك؟ فسكت عنه ربيعة ، ولم يرد عليه شيئا ، فأعاد عليه المسألة فأجابه بمثل ذلك ، فقال له الأعرابي : أهو في عنقك؟ فسكت ربيعة ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «هو في عنقه». قال : «أو لم يقل : كلّ مفت ضامن» (٥).

وفي حديث الصادق عليه‌السلام مع ابن أبي ليلى القاضي حيث قال له : «فما تقول إذا جي‌ء بأرض من فضة (٦) وسماء من فضة (٧) ، ثم أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بيدك فقال : يا رب إن هذا قضى بغير ما قضيت؟». قال : فاصفر وجه ابن أبي ليلى حتى عاد مثل الزعفران (٨).

وفي عدة أخبار عن الصادق عليه‌السلام : «من حكم في درهمين بغير ما أنزل الله فهو كافر بالله العظيم» (٩).

__________________

(١) مصباح الشريعة : ١٦ ـ ١٧.

(٢) في المصدر : الفتوى.

(٣) منية المريد : ٢٨١.

(٤) في «ح» : قال.

(٥) الكافي ٧ : ٤٠٩ / ١ ، باب أن المفتي ضامن.

(٦) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : قصبة.

(٧) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : قصبة.

(٨) تهذيب الأحكام ٦ : ٢٢٠ / ٥٢١.

(٩) الكافي ٧ : ٤٠٨ / ٢ ، باب من حكم بغير ما أنزل الله ، تهذيب الأحكام ٦ : ٢٢١ / ٥٢٣ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٣١ ـ ٣٢ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٥ ، ح ٢.

٣٣٤

وفي رواية معاوية بن وهب عنه عليه‌السلام : «أي قاض قضى بين اثنين فأخطأ سقط أبعد من السماء» (١).

وفي آخر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لسان القاضي بين جمرتين من نار حتى يقضي بين الناس ؛ فإمّا إلى الجنة ، وإمّا إلى النار» (٢).

وروى في (الفقيه) : «إن النواويس شكت إلى الله تعالى شدة حرها ، فقال لها عزوجل : اسكتي ؛ فإن مواضع القضاة أشدّ حرا منك» (٣).

وفي حديث الثمالي المروي في (الكافي) (٤) وغيره (٥) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «كان في بني إسرائيل قاض كان يقضي بالحق ، فلما حضره الموت قال لزوجته : إذا أنا مت فغسليني وكفنيني وضعيني على سريري وغطي وجهي ، فإنك لا ترين سوءا. قال : فلما مات فعلت ذلك ، ثم مكثت بذلك حينا ، ثم إنها كشفت عن وجهه لتنظر إليه ؛ فإذا هي بدودة تقرض منخره ، ففزعت من ذلك ، فلما كان الليل أتاها في منامها ، فقال لها :أفزعك ما رأيت؟ قالت : أجل. فقال لها : أمّا لئن كنت فزعت ، فما كان الذي رأيت إلّا لهواي في أخيك فلان ، أتاني ومعه خصم له (٦) ، فلما جلسا إلي قلت : اللهم اجعل الحق له ، ووجه القضاء على خصمه. فلما [اختصما إليّ كان الحق له] (٧) ورأيت ذلك بينا في

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤٠٨ / ٤ ، باب من حكم بغير ما أنزل الله ، الفقيه ٣ : ٥ / ١٥ ، تهذيب الأحكام ٦ : ٢٢١ / ٥٢٢.

(٢) تهذيب الأحكام ٦ : ٢٩٢ / ٨٠٨ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٢٨ ، أبواب آداب القاضي ، ب ١٢ ، ح ٢.

(٣) الفقيه ٣ : ٤ / ١١.

(٤) الكافي ٧ : ٤١٠ / ٢ ، باب من حاف في الحكم.

(٥) دعائم الإسلام ٢ : ٤٥٤ / ١٨٩٤ ، تهذيب الأحكام ٦ : ٢٢٢ / ٥٢٩ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٢٥ ، أبواب آداب القاضي ، ب ٩ ، ح ٢ ، مجموعة ورام ٢ : ١٨١.

(٦) شطب عنها في «ح».

(٧) من المصدر ، وفي النسختين : اختصموا.

٣٣٥

القضاء فوجهت له القضاء على خصمه فأصابني ما رأيت لموضع هواي كان مع موافقة الحق (١)».

إلى غير ذلك من الأخبار التي يضيق عن الإتيان عليها المقام (٢).

ولله در المحقق ـ طاب ثراه ـ في كتاب (المعتبر) حيث قال : (إنك مخبر في حال فتواك عن ربك وناطق بلسان شرعه ، فما أسعدك إن أخذت بالجزم! وما أخيبك إن بنيت على الوهم! فاجعل فهمك تلقاء قوله تعالى (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣). وانظر إلى قوله تعالى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (٤).

وتفطن كيف قسّم مستند الحكم إلى القسمين ، فما لم يتحقق الإذن فأنت (٥) مفتر) (٦) انتهى كلامه زيد مقامه.

__________________

(١) فأصابني ما رأيت ... مع موافقة الحق ، سقط من «ح».

(٢) من «ح».

(٣) البقرة : ١٦٩.

(٤) يونس : ٥٩.

(٥) في «ح» : فإنه.

(٦) المعتبر ١ : ٢٢.

٣٣٦

(١٣)

درة نجفية

في الاختلاف في تاريخ ولادة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله

قال ثقة الإسلام وعلم الاعلام في جامعه (الكافي) في باب تاريخ مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (ولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول في عام الفيل يوم الجمعة مع الزوال ، قال : وروي أيضا عند طلوع الفجر قبل أن يبعث بأربعين سنة ، وحملت به أمه في أيام التشريق عند الجمرة الوسطى) (١) انتهى.

وما ذكره قدس‌سره من تاريخ الولادة مخالف لما عليه الشيعة سلفا وخلفا من أنه كان ليلة الجمعة في السابع عشر من شهر ربيع الأول عام الفيل عند طلوع الفجر ، وموافق لمذهب العامة (٢) ؛ إمّا اعتقادا أو تقية. وفي كلامه قدس‌سره إشكال مشهور قد ذكره غير واحد من أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ وهو أنه يلزم من (٣) كون الحمل في أيام التشريق ، والولادة في شهر ربيع الأول أن مدة حمله ـ صلوات عليه وآله ـ إما ثلاثة أشهر ، أو سنة وثلاثة أشهر ، ولم يذكر أحد من العلماء أن ذلك من خصائصه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

واجيب عن ذلك بأن ما ذكره قدس‌سره مبني على النسي‌ء المتعارف في (٤) الجاهلية

__________________

(١) الكافي ١ : ٤٣٩ ، باب مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ووفاته.

(٢) انظر : تاريخ الطبري ١ : ٤٥٣ ، البداية والنهاية ٢ : ٣٢٠.

(٣) شطب عنها في «ح».

(٤) في «ح» بعدها : زمن.

٣٣٧

المنسوخ بالإسلام ، وهو المشار إليه بقوله تعالى (إِنَّمَا النَّسِي‌ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) (١) الآية ؛ لأنهم كانوا يحرمون الحلال من الأشهر ، ويحلون الحرام منها ، لمطالبهم ومصالحهم ، فقد يحلون بعض الأشهر الحرم لإرادة القتل والغارة ، ويعوّضون عنه شهرا آخر من الأشهر المحللة ، فيحرّمون فيه ما أحلوه ثمّة. فعلى هذا يجوز أن يكون حجّهم حين حملت به امّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في أيام التشريق كان في شهر جمادى [الآخرة] (٢) ، ويكون مدة حمله صلى‌الله‌عليه‌وآله حينئذ تسعة أشهر كما هو القول المشهور والمتعارف الغير المنكور.

قال أمين الإسلام الطبرسي قدس‌سره في كتابه (٣) (مجمع البيان) في تفسير الآية المتقدّمة نقلا عن مجاهد : (كان المشركون يحجّون في كلّ شهر عامين ، فحجوا في ذي الحجة عامين ، ثم حجوا في المحرم عامين ... وكذلك في الشهور حتى وافقت الحجة التي قبل حجة الوداع في ذي القعدة ، ثم حج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في العام القابل حجة الوداع ، فوافقت ذي الحجة ، فقال في خطبته : «ألا وإن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السماوات والأرض اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم : ثلاثة متواليات : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرّم ، ورجب منفرد بين جمادى وشعبان». أراد بذلك صلى‌الله‌عليه‌وآله أن الأشهر الحرم قد رجعت إلى مواضعها ، وعاد الحج إلى ذي الحجة ، وبطل النسي‌ء) (٤).

واستنبط بعض أفاضل السادات من هذا الكلام أن مدة حمله صلى‌الله‌عليه‌وآله على هذا الحساب تكون أحد عشر شهرا ، ويكون ذلك دليلا على حقّيّة مذهب من قال : إن أقصى مدة الحمل سنة ، قال : (لأن عمره صلى‌الله‌عليه‌وآله كان ثلاثا وستين سنة ، وقد وافق

__________________

(١) التوبة : ٣٧.

(٢) في النسختين : الثانية.

(٣) ليست في «ح».

(٤) مجمع البيان ٥ : ٤١.

٣٣٨

حجهم في آخر عمره صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذي الحجة بناء على قوله ، فإذا رجعنا من آخر عمره صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أوله معطين لكل شهر من شهور السنة حجّتين ، يكون وقوع وضع حمله صلى‌الله‌عليه‌وآله في شهر ربيع الأوّل الذي اتّفق حجّهم في تلك السنة في جمادى الاولى أول حجّهم فيه بعد وضع حمله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيكون (١) حمله في العام السابق في شهر ربيع الأول أيام التشريق ، فيكون مدة الحمل أحد عشر شهرا كما لا يخفى).

ونقل عن الفاضل الأسترآبادي في الحاشية على هذا الموضع من (الكافي) أنه نقل هذا الاستنباط وارتضاه وصححه ، وقد اعترضه بعض الأفاضل بأنه يلزم على هذا بأن يكون سنّه الشريف خمسا وستين سنة ؛ إذ في كلّ دورة كاملة يزيد عمره على عدد حجهم في تلك الدورة بسنة ، فإذا كان الابتداء من جمادى الاولى ، والانتهاء إلى ذي الحجة في الدورة الثالثة يرتقي عدد حجهم في تلك الشهور إلى ثلاث وستين سنة ، فيجب أن يكون عمره (٢) خمسا وستين سنة.

وتوضيح ذلك على تقدير الابتداء من جمادى الاولى ، ووصول الدورة إلى شهر ربيع الأول وإتمام حجهم فيه يكون عدد حجّاتهم (٣) اثنتين وعشرين ، كما أن عمره صلى‌الله‌عليه‌وآله كذلك. فإذا زاد في عمره سنة وانتهى إلى هذا الشهر ، ولم يحضر بعد زمان حجّهم ، يكون عمره ثلاثا وعشرين سنة بلا زيادة ولا نقصان ، وعدد حجّهم كما كان. وكذلك الحال في الدورة الاخرى بعينها ، فيجب أن يكون ابتداء حجّهم بعد وضع حمله صلى‌الله‌عليه‌وآله في شهر جمادى [الآخرة] (٤) ، حتى يكون عدد حجّهم حين الانتهاء إلى حجّة الوداع إحدى وستين ، ويوافق حينئذ (٥) ثلاثا وستين من عمره.

وعلى هذا يكون حمل امه به صلى‌الله‌عليه‌وآله في العام السابق في شهر جمادى الاولى ،

__________________

(١) في «ح» : ويكون.

(٢) في «ح» بعدها : حينئذ.

(٣) في «ح» : حجتهم.

(٤) في النسختين : الثانية.

(٥) ليست في «ح».

٣٣٩

فيكون مدة حمله عشرة أشهر ، ويكون منطبقا على المذهب المشهور.

وأنت خبير بأن هذا كله على تقدير صحة ما نقله مجاهد كما حكاه الطبرسي رحمه‌الله تعالى عنه. وهو منظور فيه في من وجهين :

أحدهما : أن الذي صرّح به جملة المفسرين في معنى النسي‌ء لا ينطبق على ما ذكره ؛ إذ معناه كما ذكروه هو ما قدمنا ذكره من تحليل بعض الأشهر الحرم لأجل استباحة الغارة فيه والقتال ، وتعويض غيره من الأشهر المحللة عنه ، فيحرمون فيه القتال ، ويحجون فيه لا ما ذكره ، فإنه لا ينطبق على الآية الشريفة ، وهو قوله سبحانه (يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ) (١).

ويزيده بيانا ما ذكره الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي قدس‌سره في تفسيره من أنه كان سبب نزول الآية المذكورة أنه كان رجل من كنانة يقف في الموسم ، فيقول : قد أحللت دماء المحلين من (٢) طيّئ وخثعم في شهر المحرم وأنسأته ، وحرمت بدله صفرا ، فإذا كان العام القابل يقول : قد أحللت صفرا وأنسأته ، وحرمت بدله شهر المحرم ، فأنزل الله (إِنَّمَا النَّسِي‌ءُ زِيادَةٌ) (٣).

وقيل : (إن أول من أحدث ذلك جنادة بن عوف الكناني ، كان يقوم على جبل في الموسم فينادي : إن آلهتكم قد أحلّت لكم المحرم [فأحلّوه]. ثم ينادي في القابل : إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه) (٤).

وثانيهما (٥) : أن ما ذكره من أن الحجة التي كانت قبل الوداع كانت في ذي

__________________

(١) التوبة : ٣٧.

(٢) من المصدر.

(٣) التوبة : ٣٧.

(٤) تفسير البيضاوي ١ : ٤٠٤ ، وفيه القبائل ، بدل : القابل.

(٥) في «ح» : ثانيا.

٣٤٠