الدّرر النجفيّة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

العمل (١) بكل منهما مما لا سبيل إليه كما تقتضيه قضية التناقض ، بل لا بدّ من وقوع أحدهما فلا معنى لتعلق الإرجاء بالعمل بل متعلقه هو الحكم.

هذا وعندي أن مرجع كلّ من الوجه الأول والثاني عند التأمل والتحقيق بالنظر الدقيق إلى أمر واحد ، وذلك فإن حمل الإرجاء على الفتوى والتخيير على العمل ـ كما هو الوجه الأول ـ لا يكون إلّا مع غيبة الإمام عليه‌السلام ، أو عدم إمكان الوصول إليه ؛ إذ الظاهر أنه متى أمكن الوصول إليه واستعلام الحكم منه ، فإنه يتحتم الإرجاء في الفتوى والعمل تحصيلا للحكم بطريق العلم واليقين ، وتنكبا عن طريق الظن في أحكامه سبحانه والتخمين ـ كما هو من آيات (الكتاب) المبين ، وأخبار السنّة المطهرة واضح مستبين ـ وحملا لتلك الأخبار على الرخصة في العمل وحمل الإرجاء على زمن وجوده عليه‌السلام ، وإمكان الردّ إليه والتخيير على ما عدا ذلك ـ كما هو الوجه الثاني ـ مراد به : الإرجاء في الفتوى والعمل لما عرفت.

فالتخيير على الوجه المذكور مراد به : التخيير في الفعل خاصة ؛ إذ لا مجال لاعتبار التخيير في الحكم والفتوى به لاستفاضة الآيات والروايات بالمنع من الفتوى بغير علم ، وإن الحكم الشرعي في كلّ مسألة واحد ـ يصيبه من يصيبه ، ويخطئه من يخطئه ـ لا تعدد فيه ، فكيف يصحّ التخيير في الإفتاء بأي الحكمين شاء؟ وحينئذ ، فيرجع إلى التخيير في العمل خاصة ؛ وبذلك يجتمع الوجهان المذكوران على أحسن التئام وانتظام وإن غفلت عنه جملة مشايخنا العظام. ولعل هذا الوجه أقرب الوجوه المذكورة ، إلّا إنه كيف كان.

فتعدد هذه الاحتمالات مما يوجب دخول الحكم في المتشابهات التي يجب

__________________

(١) في «ح» : فالإرجاء بترك العمل ، بدل : فإرجاء العمل.

٣٠١

الوقوف فيها على جادّة الاحتياط ، فإنه أحد مواضعه كما حقّقناه في محل آخر.

بقي هنا شي‌ء ينبغي التنبيه عليه ، وهو أن الإرجاء الذي دلت عليه المقبولة (١) المذكورة والتخيير الذي دلّت عليه مرفوعة زرارة (٢) إنّما أمروا به عليهم‌السلام بعد تعذّر الترجيح بتلك الطرق المذكورة في الروايتين المشار إليهما ، مع أن جملة من الأخبار قد اشتمل بعضها على الإرجاء ، وبعض على التخيير من غير تقدم شي‌ء من تلك الطرق ، كموثقة سماعة المتقدّمة في الوجه الثامن نقلا من (الكافي) ؛ فإنها قد اشتملت على الإرجاء ، والمرسلة التي بعدها على التخيير ، ورواية حسن ابن الجهم ، والحارث بن المغيرة المتقدمتين في الوجه الثاني (٣) قد اشتملتا على التخيير ، ورواية سماعة المتقدّمة ـ ثمّة أيضا ـ قد دلّت على الإرجاء. ولعل الوجه في الجمع بين هذه الأخبار حمل ما تقدّم فيه الترجيح بتلك الطرق على عدم إمكان الوصول إليه عليه‌السلام ، واستعلام الحال منه في ذلك مع إمكان الترجيح بتلك المرجّحات ، وما لم يتقدم فيه شي‌ء من تلك الطرق فبعضه محمول على عدم إمكان الترجيح بشي‌ء من تلك الطرق. وإلّا فالأخبار مستفيضة بالأمر بالعرض على الكتاب وإن لم يكن ثمة معارض في ذلك الباب.

ولعل من الظاهر في ذلك خبر الحسن بن الجهم ، فإنه في صدر الخبر أمر عليه‌السلام بالعرض على (الكتاب) ، وفي عجزه خيّره ووسع عليه بأيهما أخذ. فلعل معنى قول السائل في المرة الثانية : (فلا نعلم أيهما الحق) ، أي لا يمكن استعلام الحقّ بشي‌ء من الطرق المرجّحة.

وبعض آخر محمول على إمكان الوصول ، واستعلام الحال من الإمام عليه‌السلام ، فإنه

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٧ / ١٠ ، باب اختلاف الحديث.

(٢) عوالي اللآلي ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩.

(٣) انظر الدرر ١ : ٢٩٥ ـ ٢٩٦ الهامش : ١ ، ٢٩٦ / الهامش : ٢.

٣٠٢

لا يسوغ حينئذ العمل بالمرجّحات كما تقدم بيانه.

ولعل من الظاهر في ذلك موثقة سماعة المتقدّمة في الوجه الثاني نقلا من كتاب (الاحتجاج) (١) ، حيث إنه عليه‌السلام نهى عن العمل بواحد منهما حتى يلقى صاحبه ـ يعني الإمام عليه‌السلام ـ فلما قال له السائل : إنه (لا بدّ من العمل بأحدهما) ، ولا يمكنه التأخير ، أمره بما فيه خلاف العامة. وظاهره أنه مع إمكان الرجوع فلا يرجح بمخالفة مذهب العامة ولا غيره ؛ إذ لعل الحكم يومئذ هو العمل بما عليه العامة.

الفائدة التاسعة : في أن من طرق الترجيح الأخذ بالمتأخر

روى ثقة الإسلام قدس‌سره في (الكافي) بسنده عن الحسين بن المختار ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «أرأيتك لو حدثتك بحديث العام ، ثم جئتني من قابل فحدثتك بخلافه ، فبأيّهما كنت تأخذ؟». قال : كنت آخذ بالأخير. فقال لي : «يرحمك الله» (٢).

وروى فيه أيضا بسنده عن المعلى بن خنيس عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إذا جاء حديث عن أوّلكم وحديث عن آخركم [ف] بأيهما نأخذ (٣)؟ قال : «خذوا به حتى يبلغكم عن الحي ... خذوا بقوله».

قال : ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «انا والله لا ندخلكم إلّا فيما يسعكم» (٤).

قال في (الكافي) بعد نقل هذا الخبر : (وفي حديث آخر : «خذوا بالأحدث») (٥).

ويستفاد من هذين الخبرين أن من جملة الطرق المرجّحة عند التعارض

__________________

(١) انظر الدرر ١ : ٢٩٦ / الهامش : ٣.

(٢) الكافي ١ : ٦٧ / ٨ ، باب اختلاف الحديث.

(٣) في «ح» : اخذ.

(٤) الكافي ١ : ٦٧ / ذيل الحديث : ٩ ، باب اختلاف الحديث.

(٥) المصدر نفسه.

٣٠٣

الأخذ بالأخير ، ولم أقف على من عدّ ذلك في طرق الترجيح من الأخبار ، فضلا عن العمل عليه في ذلك المضمار سوى شيخنا الصدوق ـ عطر الله مرقده ـ في (الفقيه) في باب الرجل يوصي للرجلين ، حيث نقل فيه خبرين (١) توهم أنهما مختلفان ، ثم قال : (ولو صح الخبران جميعا لكان الواجب الأخذ بقول الأخير ، كما أمر به الصادق عليه‌السلام ، وذلك لأن الأخبار لها وجوه ومعان ، وكلّ إمام أعلم بزمانه وأحكامه من غيره من الناس) (٢) انتهى.

أقول : لا يخفى أن العمل بهذا الوجه في زمانهم عليهم‌السلام لا إشكال فيه ؛ وذلك لأن الاختلاف المذكور ناشئ عن التقية ، لقصد الدفع عن الشيعة ، كما يشير إليه قوله عليه‌السلام في الخبر الثاني : «إنا والله لا ندخلكم إلّا فيما يسعكم».

وحينئذ ، فالوجه في الأمر بالأخذ بالأخير ، أنه لو كان التقيّة في الأول فالأخير رافع لها ، فيجب الأخذ به (٣) لكونه هو الحكم الواقعي ولا صارف عنه ثمة ، وإن كان التقية في الثاني وجب الأخذ به لدفع الضرر. وأمّا بالنسبة إلى مثل زماننا هذا ، فالظاهر أنه لا يتجه العمل بذلك على الإطلاق ؛ لجواز أن يحصل العلم بأن الثاني إنّما ورد على سبيل التقية ، والحال أن المكلف يومئذ ليس في تقية ، فإنه يتحتّم عليه العمل بالأوّل. ولو لم يعلم كون الثاني بخصوصه تقيّة ، بل صار احتمال التقية قائما بالنسبة إليهما ، فالواجب حينئذ هو التخيير أو الوقف بناء على ظواهر الأخبار أو الاحتياط ، كما قدمنا الإشارة إليه في الفائدة السابعة (٤).

الفائدة العاشرة : في تقرير مذهب الكليني في اختلاف الأخبار

المستفاد من كلام ثقة الإسلام وعلم الأعلام محمد بن يعقوب الكليني ـ عطر

__________________

(١) الفقيه ٤ : ١٥١ / ٥٢٣ ـ ٥٢٤.

(٢) الفقيه ٤ : ١٥١ / ذيل الحديث : ٥٢٤.

(٣) ليست في «ح».

(٤) في «ح» : السابقة.

٣٠٤

الله مرقده ـ في ديباجة كتابه (الكافي) أن مذهبه فيما اختلفت فيه الأخبار ، هو القول بالتخيير ، ولم أعثر على من نقل ذلك مذهبا له ، مع أن عبارته ـ طاب ثراه ـ بذلك ظاهرة الدلالة ، طافحة المقالة. وشراح كلامه قد زيفوا عبارته ، وأغفلوا مقالته.

قال قدس‌سره : (فاعلم يا أخي ـ أرشدك الله ـ أنه لا يسع أحدا تمييز شي‌ء مما اختلفت فيه الرواية عن العلماء عليهم‌السلام برأيه إلّا على ما أطلقه العالم بقوله : «اعرضوها (١) على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله عزوجل فخذوا به ، وما خالف كتاب الله فردوه».

وقوله عليه‌السلام : «دعوا ما وافق القوم ، فإن الرشد في خلافهم».

وقوله عليه‌السلام : «خذوا بالمجمع عليه ، فإن المجمع عليه لا ريب فيه».

ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلّا أقله ، ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من ردّ ذلك إلى العالم ، وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله : «بأيما أخذتم من باب التسليم وسعكم» ...) (٢) انتهى كلامه ، علا في الخلد مقامه.

وقوله قدس‌سره : (ونحن لا نعرف) ـ إلى آخره ـ الظاهر أن معناه : أنا لا نعرف من كلّ من الضوابط الثلاثة إلّا الأقلّ ، ويمكن توجيهه بأن يقال : أما بالنسبة إلى (الكتاب) العزيز فلاستفاضة الأخبار ، بأنه لا يعلمه على التحقيق إلّا أهل البيت عليهم‌السلام. والقدر الذي ربما يمكن الاستناد إليه في الأحكام الشرعية مع قطع النظر عن تفسيرهم ـ صلوات الله عليهم ـ أقل قليل ؛ ففي جملة من الأخبار الواردة في تفسير قوله تعالى (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) (٣)

__________________

(١) من المصدر ، وفي «ح» و «ق» : اعرضوهما.

(٢) الكافي ١ : ٩.

(٣) فاطر : ٣٢.

٣٠٥

الآية ، دلالة على اختصاص ميراث (الكتاب) بهم (١) عليهم‌السلام. ومثله في جملة اخرى وردت في تفسير (٢) قوله سبحانه (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) (٣) ، ومثل ذلك في تفسير (٤) (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (٥).

وفي بعض الأخبار : «إنّما القرآن أمثال لقوم دون غيرهم ، ولقوم يتلونه حق تلاوته ، وهم الذين يؤمنون به ، ويعرفونه. وأمّا غيرهم ، فما أشد إشكاله عليهم ، وبعده عن مذاهب قلوبهم!».

إلى أن قال عليه‌السلام : «وإنّما أراد الله بتعميته في ذلك إلى أن ينتهوا إلى بابه وصراطه ، ويعبدوه وينتهوا في قوله إلى طاعة القوام بكتابه ، والناطقين عن أمره ، وأن يستنبطوا ما احتاجوا إليه من ذلك عنهم لا عن أنفسهم» (٦) الحديث.

ولا يخفى ما فيه من الصراحة التي لا يزاحمها الاحتمال في تلك الساحة ، وأمّا بالنسبة إلى مذهب العامة ، فإنه لا يخفى على من وقف على كتب السير والآثار ، وتتبّع القصص والأخبار ما عليه مذهب العامة في الصدر الأول من التعدد والانتشار. واستقرار مذاهبهم على هذه الأربعة المشهورة ، إنّما وقع في حدود سنة خمس وستين وسبعمائة ، كما نبه على جميع ذلك جملة من علمائنا (٧) وعلمائهم.

وحينئذ ، فإذا كانت مذاهبهم غير منحصرة في عد ، ولا واقفة على حد ، فكيف

__________________

(١) انظر البرهان ٤ : ٥٤٦ ـ ٥٤٧.

(٢) انظر البرهان ٤ : ٣٢٥ ـ ٣٢٨.

(٣) العنكبوت : ٤٩.

(٤) انظر البرهان ١ : ٥٩٧ ـ ٥٩٨.

(٥) آل عمران : ٧.

(٦) المحاسن ١ : ٤١٧ ـ ٤١٨ / ٩٦٠ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٩٠ ـ ١٩١ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٣ ، ح ٣٨.

(٧) انظر الفوائد المدنيّة : ٢٧ ، العشرة الكاملة : ١٨٥.

٣٠٦

يتيسر لنا الآن العرض عليها لنأخذ بخلافها؟ على أن المستفاد من جملة من الأخبار أيضا وقوع التقية في فتواهم عليهم‌السلام وإن لم يكن على وفق شي‌ء من أقوال العامّة كما حققناه في محل آخر.

وأمّا بالنسبة إلى المجمع عليه ؛ فإن اريد بالنسبة إلى الفتوى ، فهو ظاهر التعسّر ؛ لأن كتب المتقدمين كلها مقصورة على نقل الأخبار كما لا يخفى على من راجع الموجود منها الآن ككتاب (قرب الإسناد) و (كتاب علي بن جعفر) وكتاب (المحاسن) وكتاب (بصائر الدرجات) ولتفرق الأصحاب وانزوائهم في زوايا التقية في أكثر البلدان.

وإن أريد في الرواية بمعنى أن يكون مجمعا عليه في الاصول المرويّة المكتوبة عنهم عليهم‌السلام ، ففيه أنها قد اشتملت على الأخبار المتخالفة ، والأحاديث المتنافية ، فهي مشتركة في الوصف المذكور. وحينئذ ، فمتى تعذّر معرفة هذه الضوابط الثلاث المذكورة على الحقيقة ، فكيف يتيسر العرض عليها والرجوع إليها؟ فالمعتمد عليها ربما يقع في المخالفة من حيث لا يشعر ، وتزلّ قدمه من حيث لا يبصر ، والحال أنهم رخصوا لنا في الأخذ من باب الرد إليهم ـ صلوات الله عليهم ـ والتسليم لأمرهم ، فلا شي‌ء أسلم من الأخذ بما وسّعوا فيه ؛ فإن فيه تحرّزا (١) عن (٢) القول على الله سبحانه بغير علم ، وتخلصا من التهجم على الأحكام بغير بصيرة وفهم.

وما ذكره شيخنا أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني قدس‌سره في بعض فوائده ، اعتراضا على ذلك من أنه ليس الأمر كذلك ـ قال : (فإن الحق لا يشتبه بالباطل ، والطوق ليس كالعاطل ، والشمس لا تستر بالنقاب ، والشراب لا يلتبس

__________________

(١) في «ح» : تجوزا.

(٢) من «ح» ، وفي «ق» : على.

٣٠٧

بالسراب ، وما ورد من التقية لا يكاد يخفى) انتهى ـ فعبارات قشرية ، ومن التحقيق عرية كما لا يخفى على من عض على العلم بالأخبار بضرس قاطع ، وأعطى التأمل حقه في تلك المواضع. كيف ، وهو قدس‌سره في جملة مصنّفاته وفتاويه كان يدور مدار الاحتياط خوفا من الوقوع في مهاوي الاختباط ، قائلا في بعض مصنّفاته : (إن مناط أكثر الأحكام لا يخلو عن شوب وريب وتردد ؛ لكثرة الاختلافات في تعارض الأدلّة وتدافع الأمارات ، فلا ينبغي ترك الاحتياط للمجتهد فضلا عمن دونه) انتهى.

وبما شرحناه من معنى كلام ثقة الإسلام قدس‌سره يظهر لك ما في كلام المحدث الأمين الأسترابادي ـ طاب ثراه ـ في كتاب (الفوائد المدنية) من الغفلة الظاهرة الجلية ، حيث قال رحمه‌الله بعد ذكر ما قدمنا نقله عنه في الوجه الثالث من وجوه الجمع بين حديث الإرجاء والتخيير (١) ما صورته : (والإمام ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني قدس‌سره ذكر في كتاب (الكافي) ما يدل على العمل بالحديث الدال على التخيير ، وكان قصده قدس‌سره ذلك ، عند عدم ظهور شي‌ء من المرجّحات المذكورة في تلك الأحاديث. وينبغي أن يحمل اطلاق (٢) كلامه على ما إذا كان مورد الروايتين العبادات المحضة بقرينة أنه قدس‌سره ذكر بعد ذلك في باب اختلاف الحديث مقبولة عمر ابن حنظلة الواردة في المتخاصمين في دين أو ميراث الناطقة بأنه مع عدم ظهور شي‌ء من المرجّحات المذكورة يجب الإرجاء إلى لقاء الإمام عليه‌السلام) (٣) انتهى.

فإن فيه :

أولا : أن صاحب (الكافي) قد ذكر المرجّحات المذكورة في صدر عبارته ، ثم

__________________

(١) انظر الدرر ١ : ٢٩٩ / الهامش : ٤ ، ٥.

(٢) من «م».

(٣) الفوائد المدنيّة : ١٩٢.

٣٠٨

أعرض عن العمل بها ، معتذرا بأنه (لا تعرف من جميع ذلك إلّا أقله) (١) ، وتخطاها ، واعتمد على القول بالتخيير مطلقا ؛ لأنه الأحوط والأسلم كما قدمنا إيضاحه. فكيف يصحّ حمل كلامه على أنه يوجب العمل بالمرجّحات المذكورة في الأخبار ، وأنه (٢) لا يصير إلى التخيير إلّا عند عدم ظهور شي‌ء منها كما توهمه؟

وثانيا : أن صدر عبارته ـ إلى آخرها ـ ينادي بأن ما ذكره قاعدة كلية في مختلفات الأخبار ، حيث صرّح بأنه لا يسع أحد تمييز شي‌ء مما اختلفت فيه الرواية إلّا بأحد الطرق الثلاث ، ثم تخطاها لما ذكره من العذر وصار إلى التخيير.

فكيف يصحّ حمل كلامه على خصوص الأخبار المختلفة في العبادات المحضة؟

ولو تم ما توهمه للزم أن يبقى حكم الأخبار المختلفة في سائر الامور والأحكام حينئذ مغفلا في كلامه عليه‌السلام ، غير منبّه عليه ولا مبينا حكمه. وما استند إليه من قرينة ذكر مقبولة عمر بن حنظلة بعد ذلك في الباب المذكور ، ففيه أنه قد ذكر أيضا جملة من الروايات الدالة على طرق الترجيح غيرها ، ولكنه قدس‌سره قد نبه هنا على العذر عن إمكان العلم بها والبناء عليها. فمجرد ذكره لها أخيرا لا يقتضي تخصيص كلامه هنا بها مع تصريحه بالعذر المذكور ، وظهور كلامه في العموم كالنور على الطور.

الفائدة الحادية عشرة : في الجمع بحمل بعض الروايات على المجاز

قد اشتهر بين كثير من أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ سيما أكثر المتأخرين ، عدّ الاستحباب والكراهة من وجوه الجمع بين الأخبار ، بل الاقتصار عليه في الجمع دون تلك القواعد المنصوصة والضوابط المخصوصة ، كما لا يخفى على من

__________________

(١) الكافي ١ : ٨.

(٢) في «ح» : بأنه.

٣٠٩

لاحظ كتب المتأخرين ومتأخريهم حتّى تحذلق بعض متأخري المتأخرين ـ كما نقله عنه بعض مشايخنا المعاصرين ـ فقال : (إذا أمكن التوفيق بين الأخبار بحمل بعضها على المجاز ، كحمل النهي على الكراهة ، والأمر على الاستحباب ، وغير ذلك من ضروب التأويلات ، فهو أولى من حمل بعضها على التقية وإن اتفق المخالفون على موافقته) انتهى.

ولعمري إنه محض اجتهاد ، بل عناد في مقابلة نصوص سادات العباد ، وجرأة على رد كلامهم الصريح في المراد! وذلك فإنه قد استفاضت الأخبار وتكاثرت الآثار على وجه لا ينكره إلّا من لم يسرح بريد نظره في ذلك المضمار بالعرض على مذهب العامة ، والأخذ بخلافه ، بل المستفاد منها أن جل الاختلاف الواقع في الأحكام إنّما نشأ من التقية كما حققناه في المقدمة الاولى من كتابنا (١) (الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة) (٢).

وأيضا ، فإنه متى كان الأمر حقيقة في الوجوب ، والنهي في التحريم ، كما هو القول المشهور ، والمؤيد بالآيات القرآنية ، والأخبار المعصومية ، والمتصور ـ كما أوضحناه ـ بما لا مزيد عليه في مقدمات كتابنا المذكور ـ ولعل ذلك سيأتي في بعض درر (٣) هذا الكتاب ـ فالحمل (٤) على المجاز في كلّ منهما يحتاج إلى قرينة واضحة وحجة بيّنة مفصحة. ومجرد وجود المعارض ليس بقرينة في المقام ؛ لاحتمال ذلك في جانب المعارض الآخر أيضا. فتخصيص هذا دون ذاك ترجيح بلا مرجح ، ولاحتمال خروج هذا أيضا عنهم عليهم‌السلام على سبيل التقية ونحوها.

__________________

(١) في «ح» : كتاب.

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ٥ / المقدّمة الاولى ، وانظر ١ : ١١٢ ـ ١١٨ / المقدّمة السابعة.

(٣) انظر الدرر ٢ : ١٨٧ ـ ١٩٥ / الدرّة : ٣٠.

(٤) في «ح» : فالكلّ.

٣١٠

وبالجملة ، فإنه إن ترجّح أحد الخبرين بقرينة حالية أو مقالية أو شي‌ء من المرجّحات الشرعية عمل عليه وأرجئ الآخر. وحينئذ ، فإن أمكن حمل ذلك الخبر الآخر على شي‌ء من المحامل التي لا تقتضي طرحه وردّه بالكلية من تقية ونحوها ، وإلّا وكل أمره إلى قائله من غير مقابلة بالردّ والتكذيب ، كما لا يخفى على الموفق المصيب ، ومن أخذ من تتبع الأخبار بأوفر حظ ونصيب.

الفائدة الثانية عشرة : في أن اولى مراتب الترجيح العرض على القرآن

الذي ظهر لي من تتبع الأخبار الواردة في هذا المضمار ، مما تقدم نقله وغيره ، وعليه أعتمد وإليه أستند أنه متى تعارض الخبران على وجه لا يمكن رد أحدهما إلى الآخر ، فالواجب أولا هو العرض على (الكتاب) العزيز ، وذلك لاستفاضة النصوص بالعرض عليه وإن لم يكن في مقام الاختلاف ، وأنّ ما خالفه فهو زخرف (١) ، ولعدم جواز مخالفة أحكامهم الواقعية ل (الكتاب) العزيز ؛ لأنه آيتهم ، وحجتهم ، وأخبارهم تابعة له ، ومقتبسة منه ، وللخبر المتّفق عليه بين الفريقين : «إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» (٢) ، فهو لا يفارقهم بأن تؤخذ معانيه من غيرهم ، وهم لا يفارقونه بأن يخرجوا في شي‌ء من أحكامهم (٣) وأفعالهم الواقعية عنه.

وأمّا ما ورد من الأخبار مخصصا له أو مقيدا لمطلقه ، فليس من المخالفة في

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٩ / ٣ ـ ٤ ، باب الأخذ بالسنة وظواهر الكتاب ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٠ ـ ١١١ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١٢ ، ١٤.

(٢) المصنف (ابن أبي شيبة) ٦ : ٣١٣ ـ ٣١٤ / ٣١٦٧٠ ـ ٣١٦٧٧ ، و ٧ : ٤١١ / ٣٦٩٤٢.

(٣) مناقب علي بن أبي طالب (ابن المغازلي) : ٢٣٤ / ٢٨١ ، عنه في عمدة عيون صحاح الأخبار : ٧١ ـ ٧٢ / ٨٨ ، و: ٧١ / ٨٧ نقلا عن تفسير الثعلبي ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٣ ـ ٣٤ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٥ ، ح ٩ ، مسند أحمد بن حنبل ٣ : ١٤ ، باختلاف يسير في الجميع.

٣١١

شي‌ء ، كما ربما يتوهم في بادئ النظر ؛ فإن التقييد والتخصيص بيان لا مخالفة كما أوضحناه في محل أليق.

ومما يدلّ على تقديم مرتبة العرض على (الكتاب) على مرتبة العرض على (١) مذهب العامة صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن الصادق عليه‌السلام قال : «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فذروه. فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة ، فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه» (٢).

وأيضا فإن الغرض من العرض على (الكتاب) ومذهب العامة ، هو تمييز الحكم الواقعي عن الكذب والتقية. ومعلوميّة ذلك بالعرض على (الكتاب) العزيز أوضح وأظهر ؛ لكون أحكامه غير محتملة لشي‌ء من الأمرين المذكورين (٣).

والمراد بالعرض على (الكتاب) : العرض على نصوصه ومحكماته ، دون مجملاته ومتشابهاته إلّا مع ورود النصوص ببيان تلك المجملات وتفسير تلك المتشابهات ، فيعمل (٤) على ما ورد به النص في ذلك ولا بدّ أولا من معرفة الناسخ من المنسوخ. وحينئذ ، فإن ظهر الحكم من (الكتاب) ، وإلّا فالتوقف عن هذه القاعدة والعرض على مذهب العامة ، والأخذ بخلافهم ؛ لاستفاضة الأخبار بالأمر بالأخذ بخلافهم وإن لم يكن في مقام التعارض بين الأخبار والاختلاف فيها.

ففي رواية علي بن أسباط المرويّة في (التهذيب) (٥) و (عيون الأخبار) (٦) :

__________________

(١) قوله : الكتاب على مرتبة العرض على ، سقط في «ح».

(٢) هداية الأبرار إلى طريق الأئمَّة الأطهار : ١٧٣ ، بحار الأنوار ٢ : ٢٣٥ / ٢٠.

(٣) في «ح» : أمرين ، بدل : الأمرين المذكورين.

(٤) في «ح» : فيعلم.

(٥) تهذيب الأحكام ٦ : ٢٩٣ ـ ٢٩٥ / ٨٢٠.

(٦) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٧٥ / ب ٢٨ ، ح ١٠.

٣١٢

أنهم متى أفتوا بشي‌ء فالحق في خلافه.

وفي صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا عليه‌السلام : «إذا رأيت الناس يقبلون على شي‌ء فاجتنبه» (١).

وفي صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله : «ما (٢) أنتم والله على شي‌ء مما هم عليه ، ولا هم على شي‌ء مما أنتم عليه ، فخالفوهم فما هم من (٣) الحنيفيّة على شي‌ء» (٤).

وفي بعض الأخبار : «والله لم يبق في أيديهم إلّا استقبال القبلة» (٥).

وحينئذ ، ففي مقام التعارض بطريق أولى. ثم مع عدم إمكان العرض على مذهبهم فالأخذ بالمجمع عليه ؛ لما دلّت عليه المقبولة المذكورة ، ومرفوعة زرارة المتقدّمة ، والخبر المرسل الذي تضمنه كلام ثقة الإسلام من قوله عليه‌السلام : «خذ بالمجمع عليه ؛ فإن المجمع عليه لا ريب فيه» (٦) ، إلّا إن في تيسر الإجماع لنا في مثل هذه الأزمان نوع إشكال ؛ لما عرفت آنفا.

وكيف كان ، فهذه القواعد الثلاث متى تيسر حصولها ، فلا يمكن اختلافها. ومع عدم إمكان الترجيح بشي‌ء من القواعد الثلاث المذكورة فالأرجح الوقوف على ساحل الاحتياط والمشي على سواء ذلك الصراط وإن كانت الأخبار ـ كما عرفت ـ قد دلّت تارة على التخيير وتارة على الإرجاء ، إلّا إنها بما عرفت في وجوه الجمع بينها من الاختلاف والاحتمالات مما تكاد تلحق الحكم بالمتشابهات كما تقدمت الإشارة إليه.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٥ : ١٤٢ / ٤٧٠ ، وسائل الشيعة ١٣ : ٤٣٦ ، أبواب الطواف ، ب ٧٦ ، ح ١٠.

(٢) ليست في «ح».

(٣) في «ح» : لهم ، بدل : هم من.

(٤) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٩ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٣٢.

(٥) المحاسن ١ : ٢٥٦ / ٤٨٦ ، وفيه : لا والله ما هم على شي‌ء مما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا استقبال الكعبة فقط ، بحار الأنوار ٨١ : ٥٨ / ١٠.

(٦) الكافي ١ : ٨ ـ ٩.

٣١٣

وأمّا ما ذكره شيخنا ثقة الإسلام من التخيير وعدم الترجيح بتلك الطرق ، فهو وإن كان لا يخلو من قوّة ؛ لما عرفت آنفا ، إلّا إن الظاهر أنه مبنيّ على عدم إمكان (١) الترجيح بتلك القواعد المذكورة كما قدمنا بيانه ، ومع إمكان الترجيح بها ينبغي أن يقدم ثم يصار بعد عدم إمكان ذلك إلى الاحتياط دون التخيير ، حيث إن أخبار الاحتياط (٢) عموما وخصوصا أكثر عددا وأوضح سندا وأظهر دلالة.

وأمّا الترجيح بالأوثقيّة والأعدليّة ، فالظاهر أنه لا ثمرة له بعد الحكم بصحة أخبارنا الّتي عليها مدار ديننا ومنها مأخذ شريعتنا. ولعل ما ورد في المقبولة المذكورة محمول على الحكم والفتوى كما هو موردها ، أو يقال باختصاص ذلك بزمانهم عليهم‌السلام ، قبل وقوع التقية في الأخبار وتصفيتها من شوب الأكدار ، والله تعالى وأولياؤه أعلم.

الفائدة الثالثة عشرة : في إطلاق المشهور على المجمع عليه

قد عبر في المقبولة المذكورة عن المجمع عليه بالمشهور ، وهو لا يخلو بحسب الظاهر من نوع تدافع وقصور. ويمكن الجواب عن ذلك إما بتجوز إطلاق المجمع عليه على المشهور.

أو بأن يقال : يمكن أن يكون الراوي لما هو خلاف المجمع عليه ؛ قد روى ما هو المجمع (٣) عليه أيضا ، فأحد الخبرين مجمع عليه بلا إشكال ، وما تفرد بروايته شاذّ غير مجمع عليه. وحينئذ ، فيصير التجوز في جانب الشهرة.

أو بأن يقال بمرادفة المشهور للمجمع عليه ، فإن تخصيص المشهور بهذا

__________________

(١) في «ح» بعدها : ذلك.

(٢) انظر وسائل الشيعة ٢٧ : ١٥٤ ـ ١٧٥ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢.

(٣) في «ح» : مجمع.

٣١٤

المعنى المشهور ـ وهو ما قال به الأكثر والجمهور ـ لعله اصطلاح حادث. ولعل هذا أقرب الاحتمالات في المقام ، كما يعطيه سياق الخبر.

أو يقال بحمل الشاذّ المخالف على ما وافق روايات العامة وأخبارهم وإن رواه أصحابنا ، بمعنى (١) طرح الخبر الموافق لهم إذا عارضه خبر مشهور معروف بين الأصحاب. وذلك لا ريب فيه كما تدلّ عليه الأخبار الدالة على حكم الترجيح بين الأخبار. والظاهر بعد هذا الوجه بما اشتملت عليه الرواية من العرض على مذهب العامة وأخبارهم.

الفائدة الرابعة عشرة : في الردّ على من قال بالتثنية في الأحكام

قد دلّ هذا الخبر (٢) على التثليث في الأحكام الشرعية ، ومثله أخبار اخر أيضا تقدّم نقل شطر منها في الدرة (٣) الموضوعة في البراءة الأصليّة ، وبذلك قال جل أصحابنا الأخباريين (٤) ، وجملة من الاصوليين منهم شيخ الطائفة في (العدة) (٥) وشيخه المفيد قدس‌سرهما (٦) كما تقدم نقله في الدرّة المشار إليها.

وفي الخبر المذكور مع تلك الأخبار المشار إليها ردّ على من ذهب إلى التثنية من أصحابنا الاصوليين ، وأنه ليس إلّا الحلال والحرام عملا بالبراءة الأصليّة. وفيها ردّ أيضا عليهم من حيث عملهم على البراءة الأصليّة وجعلهم لها من المرجّحات الشرعية ، حتى إنهم يطّرحون في مقابلتها الأخبار الضعيفة بزعمهم ، بل الموثّقة كما لا يخفى على من لاحظ كتبهم الاستدلالية. فإن فيه :

__________________

(١) في «ح» بعدها : وجوب.

(٢) الكافي ١ : ٦٧ / ١٠ ، باب اختلاف الحديث ، تهذيب الأحكام ٦ : ٣٠١ / ٨٤٥.

(٣) انظر الدرر ١ : ١٥٥ ـ ١٨٦ / الدرّة : ٦.

(٤) الفوائد المدنيّة : ١٤١.

(٥) العدة في اصول الفقه ٢ : ٧٤١ ـ ٧٤٢.

(٦) التذكرة بأصول الفقه (ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد) ٩ : ٤٣.

٣١٥

أولا : أنه لو كانت البراءة الأصليّة من المرجّحات الشرعية لذكرها الأئمَّة عليهم‌السلام في جملة تلك الطرق.

وثانيا : أنهم عليهم‌السلام (١) أمروا بالإرجاء والتوقف بعد تساوي الخبرين في جملة طرق الترجيح ـ كما في المقبولة المذكورة ، ومرفوعة زرارة ، أو من غير تقديم شي‌ء منها ، كما في موثقة سماعة وروايته ، ورواية الحسن بن جهم ، ورواية الحارث بن المغيرة المتقدم جميع ذلك ـ وجعلوا الحكم حينئذ من المتشابهات المأمور باجتنابها ، وأن الوقوع فيها موجب للهلكات. وحينئذ ، فأي ترجيح بالبراءة الأصليّة؟ ولو كانت دليلا شرعيا كما يدعونه ، لكانت موجبة لترجيح ما اعتضد بها من أحد الطرفين.

وأمّا ما أجاب به بعض متأخري المتأخرين من أن التوقف الذي أمر به عليه‌السلام في المقبولة المذكورة ، مخصوص بالمنازعة في الاموال والفرائض كما يدلّ عليه صدر الخبر ، فهو أوهن من بيت العنكبوت ، وأنه لأوهن البيوت :

أمّا أولا ، فلمخالفته للقاعدة المسلمة بينهم من أن خصوص السؤال لا يخصّص عموم الجواب.

وثانيا : أن هذه المرجّحات التي ذكرها عليه‌السلام في هذه الرواية لم يخصصها أحد من (٢) الأصحاب بالتعارض في خصوص هذه الأشياء ، بل أجروها في كلّ حكم تعارضت فيه الأخبار.

وثالثا : أن القائلين بالبراءة الأصليّة كما يرجحون بها ويستندون إليها في سائر الأحكام يرجحون بها أيضا في الأموال والفرائض. ولم يصرّح أحد فيها باستثناء حكم من الأحكام كما لا يخفى.

__________________

(١) في «ح» بعدها : قد.

(٢) ليست في «ح».

٣١٦

ورابعا : أنه لو تم له ما ذكره في المقبولة المذكورة ، فلا يتم له في غيرها من الأخبار المتقدم ذكرها ، والله العالم.

الفائدة الخامسة عشرة : في أن الأحكام غير المتيقنة من الشبهات

المفهوم من المقبولة المذكورة وكذا من غيرها من الأخبار الدالة على التثليث في الأحكام ، وقولهم فيها : «حلال بيّن وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك» (١) ، وقولهم عليهم‌السلام : «أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل فيرد حكمه إلى الله وإلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٢) أن ما ليس من الأحكام بمتيقّن ولا بمجزوم به عنهم عليهم‌السلام فهو داخل في الشبهات وإن كان مظنونا ؛ [فـ] (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (٣) كما ورد في كلام الملك العلام.

ويعضد ذلك ما ورد من الآيات (٤) والروايات (٥) الدالة على النهي عن القول بغير علم في الأحكام. وهو مشكل أي إشكال ، والداء فيه عضال وأي عضال ، إذ ادّعاء الجزم والقطع في جلّ الأحكام لا يخلو عن مجازفة وإن ادعاه أقوام :

أمّا أولا ، فلما عليه الأخبار من الاختلاف والتناقض في جل الموارد ، مع تعسر الجمع بينها غالبا إلّا على وجه ظنّيّ غايته الغلبة على بعض الأفهام. والاعتماد على المرجّحات الشرعية المرويّة (٦) عن الأئمّة عليهم‌السلام قد عرفت ما فيه في الفائدة العاشرة. على أنه وإن حصل الترجيح بأحدها فالظاهر أنه لا يزيد على غلبة الظن في ذلك المقام ، ولا يوصل إلى حدّ الجزم بتلك الأحكام ، بعد ما عرفت من النقض والإبرام.

__________________

(١) الفقيه ٤ : ٥٣ / ١٩٣.

(٢) الكافي ١ : ٦٧ / ١٠ ، باب اختلاف الحديث.

(٣) يونس : ٣٦.

(٤) انظر الهامش السابق.

(٥) انظر وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٠ ـ ٣١ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٤.

(٦) انظر الروايات الواردة في الفائدة العاشرة.

٣١٧

وأمّا ثانيا ، فلأن جملة من الأخبار قد دلت على أن كلامهم عليهم‌السلام ينصرف على وجوه (١) لهم في كلّ واحد منها المخرج ، وأنه لا يكون الرجل فقيها حتى يعرف معاريض كلامهم (٢). وستأتيك جملة من الأخبار إن شاء الله تعالى في الدرة (٣) الموضوعة في البحث مع صاحب (الفوائد المدنية) في هذا المقام.

وأمّا ثالثا ، فلما ورد في جملة من الأخبار أنهم عليهم‌السلام كانوا يكلّمون الناس على قدر عقولهم (٤) ، ويجيبون على الزيادة والنقصان (٥).

وأمّا رابعا ، فلأن دلالة الألفاظ ظنيّة ، وقيام الاحتمالات وشيوع المجازات ـ بل غلبتها على الحقائق ـ امور ظاهرة للممارس ، وقصارى ما يحصل بمعونة القرائن الحالية أو المقالية إن وجدت ؛ هو الظن ، ويتفاوت قربا وبعدا وشدة وضعفا باعتبارها ظهورا وخفاء وكثرة وقلة كما لا يخفى ذلك كله على من جاس خلال الديار ، وتدبر فيما جرت عليه العلماء الأبرار من وقت الغيبة الكبرى إلى هذه الأعصار وإن تحذلق متحذلق من متأخّري المتأخرين فادّعى حصول القطع له في الأحكام واليقين ، وشنع على من خالفه في ذلك من المجتهدين ، كما بسطنا الكلام معه في بعض درر هذا الكتاب ، وأوضحنا ما في كلامه من الخلل والاضطراب.

ويمكن الجواب عن ذلك بعد تقديم مقدمة في المقام بأن يقال : إنه لا ريب في اختلاف العقول والأفهام المفاضة من الملك العلام على كافة الأنام ، كما استفاضت به أخبار أهل الذكر عليهم‌السلام ، فإن منها ما هو كالبرق الخاطف ، ومنها ما هو

__________________

(١) معاني الأخبار : ١ / ١ ، بحار الأنوار ٢ : ١٨٣ ـ ١٨٤ / ٣.

(٢) معاني الأخبار : ٢ / ٣ ، بحار الأنوار ٢ : ١٨٤ / ٥.

(٣) انظر الدرر ٢ : ٧ ـ ٣٢ ، الدرّة : ١٩.

(٤) الكافي ١ : ٢٣ / ١٥.

(٥) الكافي ١ : ٦٥ / ٣ ، باب اختلاف الحديث.

٣١٨

كالراكد الواقف ، وبينهما (١) مراتب لا تخفى على الفطن العارف ، وبذلك تتفاوت المعرفة للأحكام والإدراك لما فيها من نقض وإبرام ، وقد اشير إلى هذه المعرفة في الأخبار بالدراية التي تتفاوت الناس في أفرادها.

وفي حديث الرزاز عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال للصادق عليه‌السلام : «يا بني اعرف منازل الشيعة على قدر روايتهم ومعرفتهم ؛ فإن المعرفة هي الدراية للرواية ، وبالدرايات يعلو المؤمن إلى أقصى درجات الايمان. إني نظرت في كتاب علي عليه‌السلام فوجدت في الكتاب أن : قيمة كلّ امرئ وقدره معرفته (٢). إن الله يحاسب الناس على قدر ما آتاهم من العقول في دار الدنيا» (٣) الحديث.

ومن ذلك يعلم أيضا أنه لا ريب أن التكليف الوارد في السنّة و (الكتاب) إنّما وقع على حسب ما رزقه الله من العقول والألباب. وحينئذ ، فكل ما أدّى إليه الفهم بعد بذل الوسع فيما يتعلق بذلك الحكم من أدلّته ، وتحصيلها من مظانها وطلب مناقض أو مؤيد أو قرينة أو ناسخ أو مخصص أو مقيد ، أو نحو ذلك وجب على الناظر الأخذ به والعمل عليه وإن فرض خطؤه واقعا ؛ فالظاهر أنه غير مؤاخذ بعد بذل الوسع كما قلنا ؛ لأن هذا أقصى تكليفه المأمور به ، وهذا ما أدى إليه فهمه الذي رزقه.

نعم ، لو كان خطؤه إنّما نشأ من عدم بذل الوسع في الدليل ، أو في تحصيل تلك الامور التي تنضاف إليه ، فلا يبعد المؤاخذة لتقصيره في السعي والفحص كما لا يخفى.

ولا يخفى أن ما ذكرناه لا خصوصية له ببعض دون بعض من المجتهدين

__________________

(١) في «ح» : بينها.

(٢) انظر نهج البلاغة : ٦٦٧ / الحكمة : ٨١.

(٣) معاني الأخبار : ١ ـ ٢ / ٢ ، بحار الأنوار ٢ : ١٨٤ / ٤.

٣١٩

والأخباريين ، كما زعمه جملة من متأخّري الأخباريين ، حيث صرّح بعضهم بحصر الاختلاف بينهم في العمل بأخبار التقية خاصة ، بمعنى أن اختلافهم إنّما نشأ من عملهم بالأخبار المختلفة التي بعضها قد ورد مورد التقية دون اختلاف الانظار والافهام. فإنه لا يخفى على المتتبع المنصف ما وقع بينهم من الاختلاف في فهم معاني الأخبار من الصدوق فما دونه كما فصلنا جملة من ذلك في الدرة الموضوعة للبحث مع صاحب (الفوائد المدنية) ، سامحه الله تعالى برحمته المرضية.

وحينئذ ، فلو كان ما يدّعونه من الجزم والقطع في الأحكام مطابقا لما زعموه ، لم يجز أن يجري الخلاف فيما بينهم ؛ لأن المعلوم من حيث هو معلوم لا يصحّ أن يكون محلا للاختلاف ، وإنّما يقع الاختلاف في الامور المظنونة من حيث اختلاف الأفهام في قوة الإدراك وضعفه كما ذكرنا. وعلى ما ذكرنا ـ من الأخذ بما أدى إليه الفهم ، ووصل إليه الذهن ـ عمل كلّ من الأخباريين والمجتهدين الآخذين الأحكام من (الكتاب) العزيز والسنّة المطهرة وإن اختلفوا في التسمية وإطلاق العلم على ما تؤدي إليه أفهامهم ، أو الظن. فالأخباريون يسمون ذلك علما ، والمجتهدون يسمونه ظنا ، فإنا نراهم في أكثر المواضع مشتركين في استنباط الأحكام من الدليلين المذكورين وإن اختلفوا في التسمية بذينك الاسمين.

والظاهر أن من أطلق عليه الظن من المجتهدين أراد بالعلم هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع الغير القابل للنقيض ، ومن أطلق عليه العلم من الأخباريين أراد به : ما هو أعم ، وهو ما تسكن النفس إليه وتطمئن به ؛ فإن العمل له مراتب

٣٢٠