الدّرر النجفيّة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

فلا جرم أنه لا بدّ من معرفة علم اللغة التي تبيت عليها الأحكام ، وبها ورد الخطاب من الملك العلّام ، وتتبّع ما هو المعروف في عرفهم وزمنهم عليهم‌السلام ، فإنه مقدم على اللغة عند علمائنا الأعلام. ولا بدّ من معرفة القدر الضروري من علم العربية التي يتوقف عليها فهم الأحكام ما عدا ذلك من العلوم التي ذكروها ، فلا ضرورة تلجئ إليها وإن كانت مما لها مزيد دخل في الفهم والاستعداد ، إلّا إنها ليس مما يتوقف عليها أصل المقصود والمراد.

قال بعض المحدثين من متأخّري المتأخرين ـ ونعم ما قال ـ : (وأمّا الاصطلاحات المنطقية فليس إلى تعلمها مزيد حاجة ، ولذلك لم يذكرها القدماء ؛ وذلك لأن الفكر والاستدلال غريزيّان (١) للإنسان ، إذ لا شك أن كلّ مكلف عاقل له قوة فكرية يرتّب بها المعلمات ، وينتقل بها إلى المجهولات وإن لم يعلم كيفية الترتيب والانتقالات ، كما يشاهد في بدء الحال من الأطفال فكما أن صاحب الباصرة يدرك المحسوسات وإن لم يعلم كيفية الإحساس ، هل هو خروج الشعاع (٢) أو انطباع الصورة في الجليدية (٣) أو غير ذلك (٤)؟ كذلك صاحب القوة

__________________

(١) في «ح» : عزيزتان.

(٢) هي مقولة الرياضيين التي تقول : إن الإبصار يكون بخروج الشعاع من العين على هيئة مخروط رأسه عند العين وقاعدته عند المرئي. الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ٨ : ١٧٩.

(٣) الجليديّة : رطوبة وسطية من رطوبات العين ، سميت كذلك لجمودها وصفائها ، وهي تشبه البرد والجمد. ويقول الطبيعيون : إن الإبصار يكون بانطباع شبح المرئي في جزء منها. الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ٨ : ١٧٨ ، كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم ١ : ٨٦٦.

(٤) كالقول بأن الشعاع الذي في العين يكيّف الهواء بكيفيّته ، يصير الكل آلة في الإبصار. أو القول بأنه لا شعاع ولا انطباع وإنّما هو بمقابلة المستنير للعضو الباصر الذي فيه رطوبة صقليّة. وهو المنسوب للسهروردي. انظر الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة ٨ : ١٧٩.

٢٨١

الفكرية يتفكر ويستدلّ وإن لم يعلم كيفية التفكّر (١) والاستدلال.

وبالجملة ، نسبة علم المنطق إلى الفكر كنسبة العروض إلى الشعر بعينه ، فكما أن الإنسان إذا كانت له قوة شعرية وطبيعة موزونة ينشد الشعر ويميز بين صحيحه وفاسده وإن لم يتعلم العروض ، فكذلك من له قوة فكرية يتفكر ويستدل ويميز بين صحيحه وفاسده وإن لم يتعلم المنطق. واحتمال الخطأ مشترك بين العالم والجاهل ، وكذا سببه الذي هو الغفلة ، وعدم بذل الطاقة.

وكما يحصل التمييز من المنطق كذلك قد يحصل من المعلّم والمنبه ؛ فإنه كثيرا ما يغلط الإنسان في فكره ، فإذا عرضه على غيره ينبّهه ويشير عليه بموضع (٢) خطئه (٣). ولو نفع المنطق في العصمة عن (٤) الخطأ لكان أهله أعلم الناس وأصوبهم في المذهب ، ولم يقع الخطأ منهم أصلا ، وليس كذلك كما هو معلوم) (٥) انتهى كلامه زيد مقامه.

ثم لا بد ، في العمل ب (القرآن) بعد ما ذكرنا من معرفة الناسخ من المنسوخ ، والاقتصار على ما كان نصّا محكما ، والرجوع فيما عداه إلى تفسير أهل البيت ـ صلوات الله عليهم ـ وإلّا فالتوقف. ولا بدّ في معرفة الحكم من الأخبار من بذل الوسع حسب الإمكان في الاطّلاع عليها من مظانها من الكتب الأربعة وغيرها من الاصول ، ومن قصرت يده عن ذلك فالواجب عليه التوقّف والإحجام عن الخوض في هذا المقام الذي هو من مزالّ الأقدام ومداحض الأفهام. ولا بدّ من الجمع بين مختلفاتها بما صرحت به القواعد المأثورة مما سنتلوه عليك إن شاء

__________________

(١) في «ح» : الفكر.

(٢) في «ح» : موضع.

(٣) من «ح» ، وفي «ق» : خطابه.

(٤) العصمة عن. من «ح» ، وفي «ق» : الوصول في.

(٥) الاصول الأصيلة : ١٥٦ ـ ١٥٧.

٢٨٢

الله تعالى في شرح هذا الحديث.

والنظر بالذهن الثاقب والفهم الصائب في خبايا تلك الدلالات وما اشتملت عليه من الاحتمالات والاستعانة بالنظر في مطوّلات الأصحاب الاستدلالية ، للاطلاع على ما فيها ، ولا سيما خلاف تلك الامة الغويّة.

ولا ريب أن من تقدمنا من مشايخنا ـ شكر الله جهدهم ، وأجزل رفدهم ـ بما دوّنوه لنا من الأخبار وبوبوه ورتبوه وهذبوه وحققوه وشرحوه وبينوه وأوضحوه ، وقد قربوا لنا البعيد وهو نوالنا الشديد ، إلّا إنه ليس مجرد الوقوف على كلامهم ، والاطّلاع على نقضهم وإبرامهم كافيا في المطلوب ، والفوز بالمحبوب ؛ لما يعلم من الاختلاف في كلامهم في كلّ مقام ، وردّ كلّ متأخر منهم غالبا على من تقدمه وإن كان من أجل الأعلام. بل لا بدّ مع ما قدّمناه من حصول تلك القوة القدسية والملكة الأصليّة التي هي المعيار ، وعليها المدار في الإيراد والإصدار ، وبها يحصل التمييز بين الغث والسمين والعاطل الثمين والغوص على لآلى تلك البحار ، والاقتطاف من جني تلك الثمار ، واستنباط ما يصل إليه عمله ويدركه فهمه من خبايا الأسرار ، فكم ترك الأول للآخر! كما هو في المثل السائر ، وتلك القوة بيده سبحانه يؤتيها من يشاء.

ولرب رجل يكون في الغاية من جودة الفهم وحدة الذهن في سائر تلك العلوم ؛ لكثرة ممارسته لها ، وليس له ربط بكلام الأئمَّة الأطهار ، ولا سليقة في فهم الأخبار. وكم من متبحر في سائر العلوم تفكر في الحديث فأخرجه عما هو المراد به والمرام ، وحمله على معان لا يخفى بعدها على سائر الأنام! وكم رجل له ربط بالأخبار ، جيّد الفهم فيها وإن لم يكن له ذلك الفضل ولا قوة مجادلة ذلك الفاضل! وكثيرا ما يفهم الإنسان حكم المسألة من أدلتها وإن لم يتمكن من إثباته على خصمه ؛ وذلك باهتدائه إلى الحقّ من ربه ، حيث توجه إلى تحصيله بقصد

٢٨٣

القربة إليه سبحانه ، لا لغرض من الأغراض الباطلة. وفي الخبر : «ليس العلم بكثرة التعلم ، وإنّما هو نور يقذفه الله في قلب من يريد» (١).

وقد أشرنا آنفا إلى ما تحصل به الملكة المذكورة إن ساعد التوفيق.

وأمّا المجتهد المطلق الذي ذكره ، فمن الظاهر لذوي الأذهان أنه لا وجود له في الأعيان ؛ وذلك لما علم من الآيات القرآنية والأخبار المعصومية من أنه لا واقعة إلّا وفيها خطاب شرعي ، ولا قضية إلّا ولها حكم قطعي ، وأن كثيرا من ذلك في زوايا الخفاء عند أهل العباء ، وأن الخطابات الخارجة عنهم عليهم‌السلام فيها المتشابه والمحكم ، والمجمل والمبين ك (القرآن) ، وأنه يجب التوقف والرد اليهم في كلّ واقعة لا يعلم حكمها ، مع ما عرفت في درتي الاستصحاب (٢) والبراءة الأصليّة (٣) من أنه لا اعتماد عليهما في الأحكام الشرعية ، وعمومات (الكتاب) والسنّة (٤) ، ومع تسليم جواز العمل بها لا تفي بجميع الأحكام ، فأين تيسّر المجتهد المطلق ، والباب كما ترى دونه مغلق؟ على أن جملة من المجتهدين قد توقّفوا في كثير من المسائل.

وقد ذهب جمع من علماء العامة إلى تعذّر وجود المجتهد المطلق ، كالآمدي (٥) من الشافعية ، وصدر الشريعة من الحنفية ، على ما نقله بعض الأصحاب (٦) عنهما مع كثرة طرق الاستنباط عندهم ، فكيف لا يكون عندنا والحال كما ذكرنا متعذّر (٧)؟ وأمّا المتجزئ في بعض الأحكام فهو غير عزيز المرام في سابق هذه

__________________

(١) مشكاة الأنوار : ٥٦٣ / ١٩٠١ ، منية المريد : ١٤٩ ، بحار الأنوار ١ : ٢٢٥.

(٢) انظر الدرر ١ : ٢٠١ ـ ٢٢٢ / الدرّة : ٩.

(٣) انظر الدرر ١ : ١٥٥ ـ ١٨٦ / الدرة : ٦.

(٤) في «ح» : السنة والكتاب.

(٥) الإحكام في اصول الأحكام ٤ : ٢٩٨.

(٦) عنهما في الفوائد المدنيّة : ١٣٢ ، الاصول الأصيلة : ١٥٨.

(٧) انظر : الفوائد المدنيّة : ١٣١ ، الأصول الأصيلة : ١٥٦ ـ ١٥٨.

٢٨٤

الأيام وإن عزّ الآن ، كما سيظهر لك مما يأتي في المقام.

تتميم نفعه عميم ) في بيان ما يستعلم به أهلية المجتهد

المرجع في استعلام من له أهلية الحكم والفتوى ـ وهو من اتّصف بما قدمنا من العلوم والملكة مع تسربله بسربال الورع والتقوى ـ إمّا إلى المعاشرة التامة من مثله في العلم والعمل ، أو شهادة عدلين بذلك ، أو عرض فتاويه مع فتاوى من تكون له تلك القوة القدسية والملكة العلمية ، أو عمل أهل العلم بأقواله وفتواه.

ولا فرق في العمل بقوله بين كونه حيا أو ميتا.

وما ذكره بعض الأصحاب من الاكتفاء برؤيته متصدّرا ، ناصبا نفسه للفتوى والحكم ، وإقبال الناس عليه ، فلا يخفى ما فيه من عظم المحنة والبلوى ، سيما في مثل هذا الزمان الذي عزّ فيه الورع والتقوى.

قال بعض فضلاء متأخّري المتأخرين ـ ونعم ما قال ـ بعد ذكر ما يدخل في هذا المجال ما صورته : (ولا عبرة بإجماع (٢) العوام عليه ، ولا بسؤالهم منه ؛ فإن مدارهم الاعتماد على الامور الظاهرية ؛ من ذلاقة اللسان ، وعظم الجثمان ، وإقبال السلطان ، وكونه ابن فلان ، أو أخا فلان ، وغير ذلك من الأسباب والاعتبارات الدنيوية. وعسى لا يعتقد عامي في عالم ورع ساكت غير متبحر بالفتاوى كونه عالما أصلا ، ويجزم بكون رجل جاهل مدع للعلم مفت بكل ما يسأل عنه أنه أعلم أهل زمانه ، خصوصا إن انضمّ إليه رجحان من الجهات الدنيوية. وذلك ظاهر مما يشاهد في كلّ الأزمنة وجميع الأمكنة) انتهى.

أقول : لقد تقاعدت الهمم في هذا الزمان عن نصرة الدين المبين ، والسعي في

__________________

(١) تتميم نفعه عميم ، من «ح» وفي «ق» تتميم يعقبه غنم.

(٢) في «ح» : باجتماع.

٢٨٥

إحياء شريعة سيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتحصيل الأحكام على الوجه الذي ذكرناه في المقام ، أو ذكره من تقدمنا من علمائنا الأعلام ، وقنعوا بما قنعت به منهم الجهّال في ذلك المجال ، فتصدّروا لهذا المنصب النبويّ وأكثروا فيه من الفتيا في الأحكام ، وخبطوا خبط عشواء في موارد الحلال والحرام ، من غير معرفة لهم في ذلك بدليل ولا وقوف على نهج السبيل ، فتصدّر للحكومة بين الناس من لم يبن على أصل ولا أساس (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) (١).

فصاروا إذا وردت على أحدهم القضية هيّأ لها حشوا من المقال ، وأردف الجواب عاجلا بالسؤال ، من غير معرفة بصواب أو ضلال.

والمتورع الفاضل المجتهد (٢) بين العباد إذا وردت عليه المسألة هيأ لها (شرح اللمعة) و (المسالك) ، وبعض شروح (الإرشاد) ، وأصدر الجواب منها من غير علم له بابتنائه على صحة أو فساد (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (٣).

هذا مع أن أصحاب تلك الكتب متفقون على المنع من تقليد الأموات ، كما صرّحوا به في كتبهم الاصولية (٤) من مختصرات ومطوّلات.

على أنه أيضا لا خلاف بين العلماء الأعلام في أنه لا يجوز بناء القضاء والفتوى في الأحكام على التقليد لحيّ كان أو ميت كما عرفت آنفا قبيل هذا الكلام ، بل لا بدّ من أخذ ذلك من الدليل المقرّر عن أهل الذكر عليهم‌السلام ، وبذلك استفاضت الآيات القرآنية والأخبار المعصومية (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً

__________________

(١) النحل : ٤٥.

(٢) في «ح» : بزعمه.

(٣) يونس : ٥٩.

(٤) مبادئ الوصول إلى علم الاصول : ٢٤٨ ، إرشاد الأذهان ١ : ٣٥٣ ، مسالك الأفهام ٣ : ١٠٩.

٢٨٦

وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (١).

(أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ) (٢).

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٣).

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ) (٤).

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (٥).

(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (٦).

إلى غير ذلك من الآيات البينات.

وقد تقدم لك في ذلك شطر من الروايات ، ولا تجد ذلك في مكان أكثر منه في بلاد العجم التي قد آل أمرها بسبب ذلك إلى الاضمحلال والعدم. ومن أعظم البلاء الظاهر الذي قد أوجب لها الانعدام بناء دينهم وشريعتهم على من نصبه لهم حكام الجور من قاض وشيخ إسلام ، وجعل بيده أزمة الأحكام في الحلال والحرام ، جريا على طريقة العامة في هذا المقام ، مع ما شاع وذاع وملأ الاصقاع والأسماع من تكالب جلهم على أخذ الرشا على الأحكام ، مضافا إلى ما هم عليه من الجهل بشريعة الملك العلّام. والحامل لهم على ذلك هو حبّ الرئاسة الذي هو رأس كلّ خطيئة ، ومفتاح كلّ بلية والطمع في زخارف هذه الدنيا الدنية. وقد أصبحوا تضج منهم الأموال والفروج والدماء ، وتشكو منهم الشريعة النبوية إلى بارئ الأرض والسماء.

ومع هذا ترى الجهّال عاكفين عليهم عكوفا ، وواقفين حولهم وبين أيديهم صفوفا ، مع أنه لو عزل أحدهم من هذا المنصب المشؤوم ، بل قبل نصبه فيه كما

__________________

(١) الأعراف : ٣٣.

(٢) الأعراف : ١٦٩.

(٣) المائدة : ٤٧.

(٤) المائدة : ٤٥.

(٥) المائدة : ٤٤.

(٦) الإسراء : ٣٦.

٢٨٧

هو ظاهر معلوم ، لا ترى له ذكرا بين الأنام ، ولا ترى من يقلّده في أظهر الظواهر من الأحكام ، فيا ويلهم (١) كأنهم لم تقرع أسماعهم تلك التقريعات القرآنية والإنذارات (٢) المعصومية ، ولم تسع أفهامهم تلك التحذيرات القاصمة الظهور ، بلى إنها (لا تَعْمَى الْأَبْصارُ ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٣).

وقد روى ثقة الإسلام في (الكافي) بسنده عن داود بن فرقد قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إن أبي كان يقول : إن الله لا يقبض العلم بعد ما يهبطه ، ولكن يموت العالم فيليهم الجفاة ، فيضلون ويضلّون» (٤).

وروى العامة في [صحاحهم] (٥) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ، لكن يقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق علم اتخذ الناس رؤساء جهّالا ، وأفتوا الناس بغير علم ، فضلوا وأضلوا» (٦).

الفائدة الخامسة : في طرق الترجيح بين الأخبار

قد اشتملت هذه الرواية على طرق الترجيح بين الأخبار بما لم يرد في غيرها من الأخبار الواردة في هذا المضمار ، سوى مرفوعة زرارة المرويّة في كتاب (عوالي اللآلي) عن العلّامة مرفوعا إلى زرارة بن أعين قال : سألت الباقر عليه‌السلام فقلت : جعلت فداك ، يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ؟

فقال : «يا زرارة ، خذ بما اشتهر بين أصحابك ، ودع الشاذ النادر».

__________________

(١) في «ح» : فينادي لهم.

(٢) في «ح» : الإنذار.

(٣) إشارة إلى الآية : ٤٦ من سورة الحجّ.

(٤) الكافي ١ : ٣٨ / ٥ ، باب فقه العلماء.

(٥) في النسختين : أصحتهم.

(٦) مسند أحمد بن حنبل ٢ : ١٦٢ ، صحيح البخاري ١ : ٥٠ / ١٠٠ ، صحيح مسلم ٤ : ١٦٣٤ / ٢٦٧٣ ، وفيها : إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتّى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهّالا ، فسئلوا ، فأفتوا بغير علم ، فضلّوا وأضلّوا.

٢٨٨

فقلت : يا سيدي ، إنهما معا مشهوران مرويان مأثوران عنكم؟ فقال : «خذ بقول أعدلهما عندك ، وأوثقهما في نفسك».

فقلت : إنهما معا عدلان مرضيّان وموافقان؟ فقال : «انظر ما وافق منهما العامة فاتركه ، وخذ ما خالفه فإنّ الحق فيما خالفهم».

فقلت : ربما كانا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع؟ فقال : «إذن ، فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك الآخر».

فقلت : إنهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له ، فكيف أصنع؟ فقال : «إذن ، فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر» (١).

قال في الكتاب المذكور بعد نقل هذه الرواية : (وفي رواية أنه عليه‌السلام قال : «إذن ، فأرجه حتى تلقى إمامك فتسأله» (٢).

ولم أقف في الأخبار على ما اشتمل على تعداد الطرق المرجّحة غير هذين الخبرين ، إلّا إنهما قد اختلفا في الترتيب بين تلك الطرق.

فاشتملت المقبولة المتقدّمة على الترجيح بالأعدلية والأفقهية ، ثم بالمجمع عليه ، ثم بموافقة (الكتاب) ، ثم بمخالفة العامة. ومرفوعة زرارة المذكورة قد اشتملت على الترجيح بالشهرة أولا ، ثم بالاعدلية والأوثقية ، ثم بمخالفة العامة ، ثم بالأحوطية. ولم يذكر فيها الترجيح بموافقة (القرآن) كما لم يذكر في الاولى الترجيح بالاحوطية.

ويمكن الجواب :

أولا بأن يقال : إن الترتيب غير منظور فيهما ، لأنه في الحقيقة إنّما وقع في كلام السائل لا في كلامه عليه‌السلام ، وغاية ما يفهم من كلامه عليه‌السلام ، هو الترتيب الذكري ، وهو

__________________

(١) عوالي اللآلي ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩.

(٢) عوالي اللآلي ٤ : ١٣٣ / ٢٣٠.

٢٨٩

لا يستدعي الترتيب في وقوع الترجيح بتلك المرجّحات ، وحينئذ (١) فأي طريق اتفق من هذه الطرق عمل عليه.

لا يقال : يلزم الإشكال لو تعارضت الطرق المذكورة بأن كان أحد الخبرين مجمعا عليه مع موافقته للعامة ، والآخر غير مجمع عليه مع مخالفته لهم ، أو أحدهما موافقا ل (الكتاب) مع موافقته للعامة ، والآخر مخالفا ل (الكتاب) والعامة.

لأنا نقول : غاية ما يلزم من ذلك خلوّ الروايتين المذكورتين عن حكم ذلك.

والمدّعى إنما هو دلالتهما على الترتيب في هذه الطرق ، لا الدلالة على عدم الترتيب واقعا ، أو الدلالة عليه.

على أنا نقول : انه مع القول بعدم المخالفة بين الأخبار و (القرآن) (٢) إذا كانت الأخبار مخصصة له كما حققناه في مواضع اخر ، فلا نسلم وجود هذه الفروض المذكورة في أخبارنا المعوّل عليها عندنا ، كما لا يخفى على من جاس خلال (٣) الديار ، وتصفح الأخبار بعين الاعتبار. ومع (٤) وجود ذلك فيمكن القول بأنه متى تعارض طريقان من الطرق المذكورة يصار إلى الترجيح بغيرهما إن أمكن ، أو بهما مع اعتضاد أحدهما بمرجّح آخر من تلك الطرق إن وجد ، وإلّا صير إلى التوقف والإرجاء أو التخيير.

وثانيا بأنه لا يبعد ترجيح العمل بما تضمنته المقبولة المذكورة ، لاعتضادها بنقل الأئمّة الثلاثة (٥) ـ رضوان الله عليهم ـ لها ، بل وغيرهم (٦) أيضا ، وتلقّي

__________________

(١) في «ح» : فحينئذ.

(٢) في «ح» : القرائن.

(٣) في «ح» بعدها : تلك.

(٤) في «ح» بعدها : إمكان.

(٥) الكافي ١ : ٦٧ ـ ٦٨ / ١٠ ، باب اختلاف الحديث ، الفقيه ٣ : ٥ ـ ٦ / ١٨ ، تهذيب الأحكام ٦ : ٣٠١ ـ ٣٠٢ / ٨٤٥.

(٦) الاحتجاج ٢ : ٢٦٠ ـ ٢٦٣ / ٢٣٢ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١.

٢٩٠

الأصحاب لها بالقبول ، حتى قد اتّفقت كلمتهم على التعبير (١) عنها بمقبولة عمر بن حنظلة ، واتّفقوا على العمل بما تضمنته من الأحكام ، بخلاف تلك ؛ فإنها ليس لها ما لهذه من المزية في المقام ، كما لا يخفى على ذوي الافهام.

الفائدة السادسة : في صفات الحاكم

قال المحقق المحدث الملّا محمّد صالح المازندراني قدس‌سره في (شرح اصول الكافي) ـ بعد قوله عليه‌السلام في الحديث المزبور : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما» إلى آخره ـ ما صورته : (لا بد للحاكم من أن يتصف بالعدالة والفقاهة والصدق والورع ، فمن اتّصف بهذه الصفات الأربع فهو أهل للحكومة ومنصوب من قبلهم عليهم‌السلام ، ومن لم يتصف بشي‌ء منها أو بعضها لا يجوز له الحكم بين الناس وإن تعدّد المتصف بها. ووقع الاختلاف بينهما في الحكم والمستند.

فظاهر هذا الحديث يفيد تقديم من اتّصف بالزيادة في جميعها ، وتقديم من اتّصف بالزيادة في بعضها على من اتّصف بالنقصان في ذلك البعض بعينه ، مع تساويهما في الباقي ؛ لأن مناط الحكم هو غلبة الظن به ، وهي في المتصف بالزيادة أقوى. وأمّا إذا اتّصف أحدهما بالزيادة في بعض والآخر بالزيادة في بعض آخر ، ففيه إشكال ؛ لتعارض الرجحان ، وتقابل الزيادة والنقصان ، ولا دلالة فيه على تقديم أحدهما على الآخر. واعتبار الترتيب الذكري بناء على أولويّة المتقدّم على المتأخر لا يفيد ؛ لعدم ثبوت الأولوية.

وقال بعض الأصحاب : يقدم الأفقه على الأعدل ؛ لاشتراكهما في أصل العدالة المانعة من التهجم على المحارم ، وتبقى زيادة الفقاهة الموجبة لزيادة غلبة الظن

__________________

(١) على التعبير ، من «ح» ، وفي «ق» : بالتعبير.

٢٩١

خالية من المعارض ، ومع تساويهما في الفقاهة يقدم الأعدل لثبوت الرجحان له.

ثم الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب أن الزيادة بهذه الصفات تقتضي رجحان تقدم المتّصف بها ، وأمّا أنها هل توجب تقديمه بحيث لا يجوز تقديم المتّصف بالنقصان عليه أم لا؟ ففيه قولان :

أحدهما : أنه لا يجب تقديمه لاشتراك الجميع في الأهلية : وردّ (١) ذلك بأن اشتراكهم في أصل الأهلية بالنظر إلى أنفسهم لا يقتضي تساويهم بالنظر إلى الغير ، وهل ذلك إلّا عين المتنازع فيه؟

والثاني ـ وهو الأشهر ـ : أنه يجب تقديمه ؛ لأن الظن بقوله أقوى ، ولدلالة ظاهر هذا الحديث ونظيره عليه) (٢) انتهى كلامه ، زيد مقامه.

الفائدة السابعة : في الترجيح بالأعدليّة والأفقهيّة

قد اشتملت هذه الرواية على الترجيح بأعدلية الراوي وأفقهيته ، ومثلها مرفوعة زرارة المتقدّمة. وهذا الطريق من طرق الترجيح لم يتعرّض له ثقة الإسلام قدس‌سره في ديباجة كتاب (الكافي) عند نقل طرق الترجيحات ، وإنّما ذكر الترجيح بموافقة (الكتاب) ومخالفة العامة ، والأخذ بالمجمع عليه (٣). ولعل الوجه فيه ما ذكره بعض مشايخنا ـ رضوان الله عليهم ـ من أنه لما كانت أحاديث كتابه كلها صحيحة عنده ـ كما صرّح به في غير موضع من ديباجة الكتاب المذكور ـ فلا وجه حينئذ للترجيح بأعدلية الراوي. ويحتمل أيضا أن يقال : إن في الترجيح بأحد تلك (٤) الوجوه غنية عن الترجيح بعدالة الراوي ، كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) سقط من «ح».

(٢) شرح الكافي ٢ : ٤١٢ ـ ٤١٣.

(٣) انظر الكافي ١ : ٨ ـ ٩.

(٤) من «ح».

٢٩٢

ويؤيد ذلك خلو ما عدا الخبرين المذكورين من الأخبار الواردة في هذا المضمار عن عد ذلك في جملة المرجحات ، ويزيده (١) تأييدا ما رواه في (الكافي) عن ابن أبي يعفور قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم لا نثق به ، قال : «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله ، أو من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإلّا فالذي (٢) جاءكم به أولى به» ، فإنه عليه‌السلام لم يرجح بالوثاقة ، ولم يقل : اعمل بما تثق به دون ما لا تثق به ، مع كون السؤال عن الاختلاف الناشئ من رواية الثقة وغير الثقة ، وإن احتمل الخبر معنى آخر ، وهو كون السؤال عن اختلاف الحديث يرويه الثقة تارة ، وتارة يرويه غير الثقة ، والظاهر بعده.

الفائدة الثامنة : في الجمع بين روايتي عمر بن حنظلة وزرارة

قد دلت هذه الرواية (٣) على الإرجاء والتوقف بعد التساوي في طرق الترجيح المذكورة فيها ، ومرفوعة زرارة المتقدّمة (٤) قد دلت على التخيير في العمل بأيهما شاء بعد ذلك ، وقد اختلفت كلمة أصحابنا ـ نوّر الله تعالى مراقدهم ، وأعلى في الخلد مقاعدهم ـ في الجمع بينهما على وجوه :

أحدها : حمل خبر الإرجاء على الفتوى ، وحمل خبر التخيير على العمل ، بمعنى أنه لا يجوز للفقيه ـ والحال هذه ـ الفتوى والحكم وإن جاز له العمل بأيهما شاء من باب التسليم. وبهذا (٥) الوجه صرّح جملة من علمائنا المحققين من متأخري المتأخرين ، واستدل شيخنا العلامة أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد

__________________

(١) في «ح» : يزيد.

(٢) في «ح» : الذي.

(٣) رواية الباب.

(٤) الواردة في الفائدة الخامسة.

(٥) في «ح» : بهذه.

٢٩٣

الله البحراني طيب الله تعالى مضجعه في كتابه (العشرة الكاملة) على ذلك بصحيحة علي بن مهزيار ، قال : (قرأت في كتاب عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن عليه‌السلام : اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله عليه‌السلام في ركعتي الفجر في السفر ، فروى بعضهم أن صلها في المحمل (١) ، وروى بعضهم أن لا تصلّها إلّا على الأرض ، فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك في ذلك؟ فوقع عليه‌السلام : «موسّع عليك بأيها عملت» (٢).

وما رواه في كتاب (الاحتجاج) في جواب مكاتبة محمد بن عبد الله الحميري إلى صاحب الزمان عليه‌السلام : يسألني بعض الفقهاء عن المصلي إذا قام من التشهد الأوّل إلى الركعة الثالثة ، هل يجب عليه أن يكبر ، فإن بعض أصحابنا قال :

لا يجب عليه تكبير فيجزيه أن يقول : بحول الله وقوته أقوم وأقعد. «الجواب في ذلك حديثان :

أمّا أحدهما : فإنه إذا انتقل من حالة إلى حالة (٣) اخرى فعليه التكبير.

وأمّا الحديث الآخر فإنه روي [أنه] إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبر ثم جلس ، [ثم قام] فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ، وكذلك التشهد الأول يجري هذا المجرى ، وبأيهما أخذت من باب التسليم كان صوابا» (٤).

وظني أن ما ذكره قدس‌سره من الاستدلال ليس مما يدخل في هذا المجال وإن توهم في بادئ الحال ؛ وذلك لأن الظاهر من الأخبار أن التخيير في العمل من باب الرد والتسليم ، إنّما هو مع تعذّر الرجوع إليهم ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ واستعلام

__________________

(١) في المحمل ، من «ح».

(٢) تهذيب الأحكام ٣ : ٢٢٨ / ٥٨٣ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٢ ـ ١٢٣ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٤٤.

(٣) ليست في «ح» والمصدر.

(٤) الاحتجاج : ٥٦٨ ـ ٥٦٩ / ٣٥٥.

٢٩٤

الحكم منهم عند تساوي الخبرين المختلفين في طرق الترجيح ، فإنه يكون الحكم حينئذ هو التخيير في العمل ، خروجا من الحيرة ودفعا للحرج والضرورة ، كما ينادي به كلام ثقة الإسلام الآتي نقله إن شاء الله تعالى ، فهو حينئذ من قبيل الرخص الواردة عنهم عليهم‌السلام في مقام الضرورة ، كالعمل بالتقية ونحوه.

وأمّا مع رد الحكم إلى الإمام عليه‌السلام وأمره بالتخيير ، فالظاهر أن الحكم الشرعي حينئذ هو التخيير ، وهو أحد الوجوه التي يجمع بها بين الأخبار إذا ظهر له مستند منها. والأمر هنا كذلك ، ولهذا فإن الحاكم الشرعي يفتي هنا بالتخيير ؛ لأن الحكم الشرعي الذي دل عليه الدليل عنهم : بخلاف ما نحن فيه ، فإنه لا يجوز له الحكم والفتوى به ، وإنّما رخص له في العمل به خاصة.

وثانيهما : حمل الإرجاء على زمن وجود الإمام عليه‌السلام ، وإمكان الرد إليه ، وحمل التخيير على زمان الغيبة ، أو عدم إمكان الوصول إليه.

وبهذا الوجه صرّح الثقة الجليل أحمد بن أبي طالب الطبرسي في كتاب (الاحتجاج) ، قال قدس‌سره في الكتاب المذكور : (وأمّا قوله عليه‌السلام للسائل : «أرجه وقف عنده حتى تلقى إمامك» أمره بذلك عند تمكنه من الوصول إلى الإمام ، فأما إذا كان غائبا ولا يمكن الوصول إليه والأصحاب كلهم مجمعون على الخبرين ، ولم يكن هنالك رجحان لرواة أحدهما على الآخر بالكثرة والعدالة ، كان الحكم بها من باب التخيير.

يدل على ما قلناه ما روي عن الحسن بن الجهم عن الرضا عليه‌السلام أنه قال : قلت للرضا عليه‌السلام تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة. قال : «ما جاءك عنا فقسه على كتاب الله عزوجل ، وأحاديثنا فإن كان يشبهها فهو منا وإن لم يشبهها فليس منا».

قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ، فلا نعلم أيهما الحق.

٢٩٥

فقال : «إذا لم تعلم ، فموسع عليك بأيهما أخذت» (١).

وما رواه الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة ، فموسع عليك حتى ترى القائم فتردّه إليه» (٢).

وروى سماعة بن مهران قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، قلت : يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالأخذ به ، والآخر ينهانا عنه. قال : «لا تعمل بواحد منهما ، حتى تلقى صاحبك ، فتسأله». قلت : لا بدّ أن نعمل بأحدهما؟ قال : «خذ بما فيه خلاف العامة» (٣) انتهى.

وفيه أن هذا إنّما يتم بالنسبة إلى بعض الأخبار المشتملة على الإرجاء أو التخيير من غير تقدم شي‌ء من طرق الترجيح عليها ، كروايتي الحسن بن الجهم ، والحارث بن المغيرة المنقولتين في كلامه.

أمّا الأخبار المشتملة على الطرق المذكورة ، المذكور فيها الإرجاء أو التخيير عند تعذّر الترجيح بتلك الطرق ، فيشكل ما ذكره قدس‌سره فيها بأن الظاهر أن الترجيح بتلك الطرق فيها إنّما يصار إليه عند تعذّر الوصول إليه عليه‌السلام ، فكيف يحمل الإرجاء فيما اشتمل منها على الإرجاء على إمكان الوصول؟ اللهم إلّا أن يحمل على ذوي الأطراف البعيدة المستلزم الوصول فيها المشقة ، فيعمل على تلك المرجّحات. ومع عدم إمكان الترجيح بها ، يقف عن الحكم والعمل حتى يصل له عليه‌السلام.

__________________

(١) الاحتجاج ٢ : ٢٦٣ ـ ٢٦٤ / ٢٣٢ ـ ٢٣٣ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢١ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٤٠.

(٢) الاحتجاج ٢ : ٢٦٤ / ٢٣٤ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٢ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٤١.

(٣) الاحتجاج ٢ : ٢٦٥ / ٢٣٥ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٢ ، أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به ، ب ٩ ، ح ٤٢.

٢٩٦

وربما يفهم ذلك من مرفوعة زرارة ، لأمره عليه‌السلام له بذلك ، فإنه دال بإطلاقه على ما هنالك.

وثالثها : حمل أخبار التخيير على العبادات المحضة كالصلاة ، وحمل أخبار الإرجاء على غيرها من حقوق الآدميين من دين أو ميراث على جماعة مخصوصين أو فوج أو زكاة أو خمس ، فيجب التوقّف عن الأفعال الوجودية المبنية على تعيين أحد الطرفين بعينه. ذهب إليه المحدث الأمين الأسترابادي قدس‌سره في كتاب (الفوائد المدنية) (١). والظاهر أن وجهه اشتمال المقبولة المذكورة الدالة على الإرجاء ، على كون متعلق الاختلاف حقوق الناس.

وفيه أن تقييد إطلاق جملة الأخبار الواردة بهذه الرواية لا يخلو من إشكال ؛ فإنها ليست نصّا في التخصيص ، بل ولا ظاهرة فيه حتى يمكن ارتكاب التخصيص بها ، وخصوص السؤال لا يخصّص الجواب كما صرّح به غير واحد من الأصحاب. وجملة الأصحاب إنّما فهموا من الرواية المذكورة العموم ؛ ولذلك استنتجوا منها قاعدة كلية في المقام. على أن الرواية في (الفقيه) (٢) غير مشتملة على السؤال عن الدين والميراث ، بل السؤال فيها عن رجلين اختار كلّ منهما رجلا ، كما أسلفنا نقله.

ورابعها : حمل خبر الإرجاء على ما لم (٣) يضطر إلى العمل بأحدهما ، والتخيير على حال الاضطرار والحاجة إلى العمل بأحدهما. ذهب إليه الفاضل المتكلم ابن أبي جمهور في كتاب (عوالي اللآلي) (٤) ، وظاهره حمل كلّ من خبري الإرجاء والتخيير على العمل خاصة ، أعم من أن يكون (٥) في زمن الغيبة أو عدم إمكان

__________________

(١) الفوائد المدنيّة : ١٩٢.

(٢) الفقيه ٣ : ٥ ـ ٦ / ١٨.

(٣) من «ح» ، وفي «ق» : يعلم.

(٤) عوالي اللآلي ٤ : ١٣٧.

(٥) أن يكون ، من «ح».

٢٩٧

الوصول أولا. وهذا الإطلاق مشكل ؛ إذ الظاهر أنه مع الحضور وإمكان الوصول لا يسوغ التخيير ، بل يجب الإرجاء حتى يسأل.

وخامسها : حمل خبر الإرجاء على (١) الاستحباب ، والتخيير على الجواز. ونقله المحدث السيد نعمة الله الجزائري ، عن شيخه المجلسي قدس‌سرهما. والذي وقفت عليه من كلامه قدس‌سره في كتاب (البحار) (٢) يعطي أنه ذكر الوجه المذكور احتمالا ، لا اختيارا كما يشعر به كلام السيد المشار إليه. والذي اختاره في كتاب (البحار) (٣) هو الوجه المنقول عن كتاب (الاحتجاج) (٤).

وسادسها : ما يفهم من خبر الميثمي المروي في كتاب (عيون أخبار الرضا عليه‌السلام) ، وهو ما رواه الصدوق ـ عطر الله مرقده ـ بسنده فيه عن أحمد بن الحسن الميثمي أنه سأل الرضا عليه‌السلام ، وقد اجتمع عنده قوم من أصحابه ، وكانوا يتنازعون في الحديثين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الشي‌ء الواحد ، فقال عليه‌السلام : «ما ورد عليكم من حديثين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله ، فما كان في كتاب الله موجودا حلالا أو حراما ، فاتبعوا ما وافق الكتاب ، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاتبعوا ما وافق نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما كان في السنّة نهي إعافة أو كراهة ثم كان الخبر الآخر خلافه فذلك رخصة فيما عافه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكرهه ولم يحرمه ، فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعا أو بأيهما شئت ويسعك الاختيار من باب التسليم والاتباع والرد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وما لم تجدوه في شي‌ء من هذه الوجوه فردوا إلينا علمه ، ولا تقولوا فيه بآرائكم ، وعليكم بالكف والتثبت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا» (٥).

__________________

(١) الارجاء على ، من و «ح».

(٢) بحار الأنوار ٢ : ٢٢٤ ـ ٢٢٥.

(٣) بحار الأنوار ٢ : ٢٢٤.

(٤) انظر الدرر ١ : ٢٩٤ / الهامش : ٤.

(٥) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢١ / ب ٣٠ ، ح ٤٥.

٢٩٨

أقول : والخبر طويل قد اختصرنا منه موضع الحاجة ، ولعل ما اشتمل عليه مخصوص بالأخبار الواردة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما هو منطوق الخبر ؛ إذ تقييد ما عدا هذا الخبر من تلك الأخبار المتعددة على ما هي عليه من الظهور في الإطلاق بهذا الخبر لا يخلو من إشكال.

ويوضح ذلك أن الغرض من الترجيح بالطرق المذكورة إنّما هو لإخراج ما احتمل كونه كذبا أو تقيّة ؛ والأول يخرج بالعرض على الكتاب ، كما هو مصرّح به في الخبر المذكور ، والثاني غير واقع في أخباره صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والله العالم.

وسابعها : حمل الإرجاء على النهي عن الترجيح ، والعمل بالرأي والتخيير على الأخذ من باب التسليم والرد اليهم عليهم‌السلام لا إلى الرأي والترجيح بما يوافق الهوى ، كما هو رأي (١) أبي حنيفة وأضرابه ، وهذا الوجه نقله بعض مشايخنا احتمالا والظاهر بعده.

وثامنها : حمل أخبار الإرجاء على حكم غير المتناقضين ، وحمل خبر التخيير على المتناقضين ، نقله بعض شراح اصول (الكافي) (٢) عن بعض الأفاضل. وفيه أنه قد روى ثقة الإسلام في (الكافي) في الموثّق عن سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه ، أحدهما يأمره بأخذه ، والآخر ينهاه [عنه] ، كيف يصنع؟ قال : «يرجئه حتى يلقى من يخبره ، فهو في سعة حتى يلقاه» (٣).

قال في (الكافي) ـ بعد هذه الرواية ـ : وفي رواية : «بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك» (٤).

__________________

(١) في «ح» : قول.

(٢) انظر شرح الكافي (المازندراني) ٢ : ٤٠٣.

(٣) الكافي ١ : ٦٦ / ٧ ، باب اختلاف الحديث.

(٤) المصدر نفسه.

٢٩٩

ومورد هذه الرواية : المتناقضان ، مع أنه حكم فيهما بالإرجاء ، وحكم في الرواية المرسلة بعدها بالتخيير ، والمورد واحد ، وكذلك رواية سماعة المتقدّمة في الوجه الثاني نقلا من كتاب (الاحتجاج) ، فإن موردها المتناقضان ، مع أنه حكم فيها بالإرجاء.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنه يمكن ترجيح الوجه الأول بقوله عليه‌السلام ـ في حديث الميثمي المتقدم ـ : «ردوا علمه إلينا ولا تقولوا فيه بآرائكم» ، فإن ظاهره (١) فيه النهي عن الإفتاء والحكم خاصة ، ولا ينافيه التخيير في الفعل تسليما لهم عليهم‌السلام. وعليه يدل ظاهر رواية الحارث بن المغيرة المتقدّمة في الوجه الثاني (٢) ، فإن ظاهرها أنه متى كان نقلة الحديث كلّهم ثقات ، فموسع عليك في العمل بقول كلّ منهم ، حتى ترى الإمام القائم (٣) ، أي الموجود في ذلك العصر ، القائم بالأحكام الشرعية ، فترد إليه الحكم والفتوى في ذلك ، وإلّا فلا معنى للسعة المذكورة ، سيما لو كان الغرض إلجاء الحاجة إلى العمل بأحدهما ، بل هو ضيق حينئذ. وكذا موثقة سماعة المتقدّمة نقلا عن (الكافي) ؛ فإن ظاهر قوله فيها : «فهو في سعة حتى يلقاه» مفرّعا له على الإرجاء المشعر ذلك باختلاف متعلقها أن السعة إنّما هي باعتبار التخيير بين الفعل وعدمه ، والإرجاء باعتبار الحكم خاصة. وذلك أن المفروض في الخبر كون الخبرين متناقضين ، أحدهما يأمر والآخر ينهى في شي‌ء واحد (٤). فإرجاء

__________________

(١) من «ح» ، وفي «ق» : ظاهر.

(٢) انظر الدرر ١ : ٢٩٦ / الهامش : ٢.

(٣) الاحتجاج ٢ : ٢٦٤ / ٢٣٤ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٢ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٤١.

(٤) أقول ويحتمل في موثقة سماعة المذكورة معنى ما ذكرنا في المتن وهو أن الأصلح إنما هو بترك الفعل لا بترك العمل بالخبرين ؛ بناء على أن المستفاد من بعض الأخبار ـ كما حققناه أنه تردد بين الوجوب والتحريم ـ وجهان ؛ أحدهما على التعيّن كأن الاحتياط في الترك ، والثاني كأن الواجب واقعا هو الفعل. ورواية سماعة المتقدّم نصها من (الاحتجاج) ظاهره في ذلك ، والله العالم. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

٣٠٠