الدّرر النجفيّة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

يستفاد من رواية عمر بن حنظلة المذكورة أن من روى حديث أهل البيت عليهم‌السلام ، ونظر في حلالهم وحرامهم وعرفها حاكم وإن لم يكن مجتهدا في الكل. وفيه نظر ؛ لأن ظاهر قوله عليه‌السلام : «وعرف أحكامنا» العموم [١] فلا يكفي معرفة بعض الأحكام) (١) انتهى.

والظاهر أنه أشار بذلك البعض إلى المولى المحقق الأردبيليّ ـ طيب الله مرقده ـ فإنه قد صرّح في (شرح الإرشاد) بما اخترناه ، ورجّح ما رجحناه. وما أورده رحمه‌الله من إفادة الإضافة العموم مسلم ، لكن رواية جميع أحكامهم والإحاطة بها يتعذّر غالبا ، ولا سيّما في هذه الأوقات المتأخّرة ، لذهاب كثير من الاصول المعتبرة. وظن الاكتفاء في ذلك برواية الكتب الأربعة المشهورة غلط محض ؛ لأن كثيرا من مدارك الأحكام الشرعية التي ظن جملة من المتأخرين عدم وجودها ـ وطعنوا على من قال بتلك الأحكام من المتقدّمين ، بعدم وجود المستند ـ موجود في غير هذه الكتب الأربعة ، من كتب الصدوق و

نحوها ؛ ولهذا تصدى شيخنا صاحب (البحار) ، والمحدث الحرّ العاملي في كتاب (الوسائل) إلى تدوين ما اشتملت عليه الاصول الزائدة على الأربعة المذكورة.

على أن الإحاطة بما في الكتب الأربعة أيضا ممّا قصرت عنه أنظار جملة من أجلة فقهاء المتأخرين ، حتى طعنوا في بعض المسائل بعدم وجود المستند ، مع

__________________

(١) وممّن مال أيضا إلى التخصيص بالدين شيخنا العلّامة الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني قدس‌سره في كتاب (العشرة الكاملة) حيث قال : (ثم ظاهر الخبر حرمة المأخوذ بحكم الطاغوت مطلقا ، سواء كان عينا أو دينا ، والظاهر التخصيص بالدين ، أما العين إذا كانت حقّا للمدّعي في الواقع ، فلا يحرمها التحاكم إلى الطاغوت) (٢) انتهى. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

__________________

(١) كفاية الأحكام ٢٦١.

(٢) العشرة الكاملة : ٨٣.

٢٦١

كونه موجودا في الكتب الأربعة ، كمسألة وضع التربة الحسينية ـ على مشرفها أفضل التحية ـ مع الميت في القبر (١) مع كون مستندها في كتاب المزار من (التهذيب) (٢) ، ومسألة استحباب المتابعة في الأذان على الخلاء (٣) مع كون حديثها في (الفقيه) (٤) ، وأمثال ذلك مما يقف عليه المتتبع.

وقد نبّهنا في جملة من مصنّفاتنا على كثير من ذلك ، وحينئذ فلو حمل الخبر على ما يدّعيه هذا الفاضل انسدّ الباب على جملة من الطلاب ، كما هو ظاهر بلا ارتياب.

الفائدة الرابعة : في شروط النائب عن الإمام عليه‌السلام

قد استدل الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ بهذا الخبر وأمثاله ، على أنه لا بد في النائب عنهم عليهم‌السلام من كونه فقيها جامعا للشرائط المقرّرة في موضعها ، حيث إنه لا بد من معرفته بأحكامهم عليهم‌السلام ، ومعرفته ب (الكتاب) العزيز ، وما فيه من الأحكام. ومعرفتها تتوقف على معرفة العلوم المعتبرة في الاجتهاد ـ على تفصيل يأتي بيانه إن شاء الله تعالى ـ ومعرفة مذاهب العامة ، بل والخاصة أيضا ، كما ذكره. واعترضه المولى المحقق الأردبيليّ ـ عطر الله مرقده ـ بأن (٥) ظاهر الأخبار بأنه يكفي فيه مجرد الرواية ، وأن فهمها كاف ، قال : (وكأنهم يدّعون فيه الاجماع ، فتأمل فيه) (٦) انتهى.

أقول : والتحقيق في ذلك هو التفصيل ، والفرق بين وقتهم ـ صلوات الله عليهم ـ وبين مثل زماننا هذا. فإن الأول يكفي فيه مجرّد سماع الرواية منهم عليهم‌السلام مشافهة

__________________

(١) ذكرى الشيعة ٢ : ٢١.

(٢) تهذيب الأحكام ٦ : ٧٦ / ١٤٩.

(٣) انظر الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ١ : ٨٨.

(٤) الفقيه ١ : ١٨٩ / ٩٠٤.

(٥) كذا في النسختين.

(٦) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ١٩.

٢٦٢

أو بواسطة ، وعلى هذا كان عمل أصحابهم في زمانهم ، كما لا يخفى على المتتبّع.

وأما في مثل زماننا من حيث اختلاف الأخبار الواصلة إلينا ، واشتباه الدلالات بقيام الاحتمالات ، وفقد قرائن المقامات ، فلا بدّ من معرفة ما يتوقف عليه فهم المعنى من العلوم المقررة ، ومعرفة ما يتوقف عليه من (الكتاب) العزيز ، ومعرفة القواعد المقررة ، والضوابط المعتبرة المأثورة عنهم عليهم‌السلام ، سيما في الجمع بين مختلفات الأخبار ونحو ذلك ، كما لا يخفى على من جاس خلال تلك الديار.

ولا بد مع جميع ذلك من القوة القدسية التي بها يتمكّن من استنباط الأحكام ؛ وهي المعبر (١) عنها بالملكة بين علمائنا الأعلام ؛ وهي العمدة في الباب. وإلّا فما عداها مما ذكرنا ربما صار سهل المأخذ لما حقّقه الأصحاب ، وتلك القوة بيد الله سبحانه يؤتيها من يشاء من عباده على وفق حكمته ومراده ، ولكثرة الممارسة لأهلها مدخل عظيم في تحصيلها. وكذا للتدرّب في أخبارهم ، والتصفح لآثارهم ، وتفريغ القلب ، وتصفية الباطن ، وتحليته بالفضائل ، وتخليته من الرذائل ، والرياضة بالملازمة على الطاعات والعبادات ، واجتناب المنهيّات (٢) ، بل وسائر المباحات ، ومجاهدة النفس الأمّارة ، بالزهد في الدنيا ، والورع في الدين ، أثر عظيم في حصولها (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٣).

وقال سبحانه (٤) (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ) (٥).

وقال (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (٦).

وفي الحديث النبوي : «ليس العلم بكثرة التعلم ، إنّما هو نور يقذفه الله (٧) في

__________________

(١) من «ح».

(٢) كذا في النسختين.

(٣) العنكبوت : ٦٩.

(٤) ليست في «ح».

(٥) البقرة : ٢٨٢.

(٦) الأنفال : ٢٩.

(٧) في المصدر : يقع ، بدل : يقذفه الله.

٢٦٣

قلب من يريد الله أن يهديه» (١).

وفيه أيضا : «العلم نور وضياء يقذفه الله في قلوب أوليائه» (٢).

وفيه : «العلم علم الله لا يؤتيه إلّا لأوليائه» (٣).

وجميع ما ذكرناه مما يتوقف عليه تصفية الباطن من الرذائل وتحليته بالفضائل شرط في النائب عنهم عليهم‌السلام ، فلا بدّ من اتّصافه بالورع والتقوى ، والزهد في الدنيا ، وتجنّب الكبر والحسد ، وحب الرئاسة ، وخفق النعال خلفه ، والحميّة ، والعصبية ، والغضب ، وأمثال ذلك مما هو مذكور في مظانّه. وإلى ما ذكرنا يشير قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الرواية المذكورة : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما» (٤) ، فإنه يعطي أنه لا بد في النائب من جهتهم ـ صلوات الله عليهم ـ أن يكون مستكملا لهذه الأوصاف.

وحينئذ ، فلا يكفي مجرد فهم هذه العلوم الشرعيّة (٥) وإن كان من المحققين فيها والمدققين ، مع خلوه من العلوم الموجبة لتصفية الباطن ، فلا تغترّ (٦) بمن تصدر على الناس ، وهو عار عن هذا اللباس ، فإنه وإن كان الجسم جسم إنسان إلّا إن القلب قلب شيطان. وهذا منصب النبوة والرسالة وبيت الحكم والإيالة ، الذي قال فيه أمير المؤمنين عليه‌السلام لشريح القاضي : «يا شريح ، جلست مجلسا لا يجلسه إلّا نبي أو وصي نبي ، أو شقي» (٧).

__________________

(١) منية المريد : ١٤٩ ، وقريب منه ما في مشكاة الأنوار : ٥٦٣ / ١٩٠١ ، بحار الأنوار ١ : ٢٢٥ / ١٧.

(٢) الاصول الأصيلة : ١٦٥.

(٣) الاصول الأصيلة : ١٦٥ ، باختلاف.

(٤) الكافي ١ : ٦٨ / ١٠ ، باب اختلاف الحديث ، تهذيب الأحكام ٦ : ٣٠٢ / ٨٤٥.

(٥) في «ح» : الرسميّة.

(٦) في «ح» : يعتنى.

(٧) الكافي ٧ : ٤٠٦ / ٢ ، باب أن الحكومة إنما هي للإمام عليه‌السلام ، الفقيه ٣ : ٤ / ٨ ، تهذيب الأحكام ٦ : ٢١٧ / ٥٠٩ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٣ ، ح ٢.

٢٦٤

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنه لا خلاف بين الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في أنه مع وجود الفقيه المتّصف بما ذكرنا لا (١) يجوز لغيره ممن نقص عن المرتبة المذكورة تولّي شي‌ء من الامور الحسبية ، فضلا عن الحكم والفتوى وإن كان عدلا مطّلعا على فتاوى الفقهاء ، وأما مع فقد الفقيه المذكور ، فقد صرح جملة منهم بجواز تولي العدل من العلماء لبعض الامور الحسبية ، كما ستأتي حكايته.

أمّا الحكم والفتوى ، فقد نقل جملة منهم الإجماع على أنه لا يجوز تولّي ذلك إلّا لمن بلغ تلك المرتبة القصوى. وممن نقل الإجماع المذكور المحدث الكاشاني قدس‌سره حيث قال في كتاب (المفاتيح) ـ بعد أن ذكر الشروط المعتبرة في القاضي ، التي من جملتها الفقه عن بصيرة ، وأنه لا يجوز لمن اختل منه شرط من تلك الشروط ، تولي القضاء ـ ما صورته : (ولا فرق فيمن نقص عن مرتبة البصير بين المطّلع على فتوى الفقهاء وغيره ، ولا بين حالة الاختيار والاضطرار بإجماعنا فيهما) (٢) انتهى.

والفاضل (٣) المحقق الملّا محمد المازندراني في (شرح اصول الكافي) حيث قال في شرح قوله : «ونظر في حلالنا وحرامنا» (٤) : (وهذا هو المعبر عنه بالفقيه الجامع لشرائط الفتوى ، والحكومة بين الناس ، ولا يجوز لمن نزل عن مرتبتة تصدي الحكومة وإن اطلع على فتوى الفقهاء بلا خلاف عند أصحابنا) (٥) انتهى.

وقال شيخنا الشهيد ـ نوّر الله تربته ـ في قواعده : (يجوز للآحاد مع تعذّر الحكام تولية آحاد التصرّفات الحكمية على الأصح ، كدفع ضرورة اليتيم لعموم (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) (٦).

__________________

(١) في «ح» ذكرناه فلا ، بدل : ذكرنا لا.

(٢) مفاتيح الشرائع ٣ : ٢٤٧ / المفتاح : ١١٥٠.

(٣) معطوف على المحدث الكاشاني.

(٤) الكافي ١ : ٦٧ / ١٠ ، باب اختلاف الحديث.

(٥) شرح الكافي ٢ : ٤١١.

(٦) المائدة : ٢.

٢٦٥

وقوله عليه‌السلام : «والله في عون العبد ما كان العبد في عون الله» (١).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كلّ معروف صدقة» (٢).

وهل يجوز قبض الزكوات والأخماس من الممتنع ، وتفريقها في أربابها ، وكذا وظائف الحكام غير ما يتعلق بالدعاوى؟ وجهان ؛ ووجه الجواز ما (٣) ذكرنا ، وأنه لو منع من ذلك لفاتت مصالح صرف تلك الأموال ، وهي مطلوبة لله تعالى) (٤) انتهى.

وقال المحقق المدقق نور الدين الشيخ علي بن عبد العال ـ نوّر الله تعالى مضجعه ـ في حاشية (الشرائع) : (لا كلام في أن غير المتصف بالأوصاف المذكورة ـ التي من جملتها الاجتهاد (٥) ـ لا يجوز له الحكم بين الناس ، ولو حكم كان حكمه لاغيا ولا يعتد به ... وكذا لا يجوز له الفتوى ، بحيث يسند الفتوى إلى نفسه ، أو يطلق بحيث لا يتميز ، وأمّا إذا حكاها عن المجتهد الذي يجوز العمل بفتواه فإنه جائز. ويجوز التمسك به مع عدالته ، ولا تعدّ الحكاية فتوى إنّما هي حكاية لها ، ولو اطلقت عليها الفتوى فإنما هي بالمجاز).

ثم بالغ في عدم جواز تقليد الميت ، فأكثر الكلام في ذلك ، ثم قال : (فإن قيل) : فعلى هذا فما يصنع المكلفون إذا خلا العصر من المجتهد؟

قلنا : حينئذ يجب على جميع المكلفين الاجتهاد ؛ لأنه واجب على الكفاية ، فإذا لم يقم به أحد من أهل العصر تعلق التكليف بجميعهم ، ويجب عليهم جميعا استفراغ الوسع في تحصيل هذا الغرض).

__________________

(١) سنن ابن ماجة ١ : ٨٢ / ٢٢٥.

(٢) صحيح مسلم ٢ : ٥٧٨ / ١٠٠٥.

(٣) من المصدر ، وفي النسختين : لما.

(٤) القواعد والفوائد ١ : ٤٠٦ ـ ٤٠٧ / القاعدة : ١٤٨.

(٥) التي من جملتها الاجتهاد ، ليست في المصدر ، والظاهر أنها من كلام المصنّف.

٢٦٦

ثم قال : (فإن قيل : فما يصنعون في تكاليفهم وقت السعي والاكتساب للاجتهاد؟ قلنا : عند ضيق وقت الصلاة ـ مثلا ـ يأتي المكلف بها على حسب الممكن ، كما يقال فيمن لا يحسن القراءة ولا الذكر عند الضيق : إنه (١) يقف بقدر زمان القراءة ثم يركع. وعلى هذا النهج حكم سائر التكاليف. وليس ببعيد في هذه الحال الاستعانة بكتب المتقدمين على معرفة بعض الأحكام).

ثم قال : (فان قيل : فما تقول فيما نقل عن الشيخ السعيد فخر الدين أنه نقل عن والده جواز التقليد للموتى في هذه الحالة (٢)؟

قلت : هذا بعيد جدا ؛ لأنه رحمه‌الله صرّح في كتبه الاصوليّة (٣) والفقهية (٤) بأن الميت لا قول له. وإذا كان بحسب الواقع لا قول له لا يتفاوت (٥) عدم الرجوع إليه (٦) في حال الضرورة والاختيار. ولعله رحمه‌الله أراد : الاستعانة بقول المتقدمين في معرفة صور المسائل والأحكام مع انتفاء الترجيح ليأتي بالعبادة على وجه الضرورة ؛ لا أنه أراد جواز تقليدهم حينئذ ، فحصل من ذلك توهّم غير المراد) انتهى (٧).

وممن بالغ في ذلك أيضا على وجه حكم بضمان من يتولّى الحكم من هؤلاء للأموال والدماء الشيخ الفاضل المتكلم محمد بن علي بن إبراهيم بن أبي جمهور الأحسائي قدس‌سره في كتاب (قدس الاهتداء في آداب الإفتاء) ، ونقله عن شيخيه

__________________

(١) ليست في المصدر.

(٢) عنه في الوافية في اصول الفقه : ٣٠٠ ، وقد اشير في الهامش : ٦ من المصدر إلى أن ذلك في كتاب (إرشاد المسترشدين وهداية الطالبين) ، الصفحة الأخيرة. وهو من مخطوطات مكتبة السيد المرعشي برقم (٤٥٤) في قم.

(٣) مبادئ الوصول إلى علم الاصول : ٢٤٨.

(٤) إرشاد الأذهان ١ : ٣٥٣ ، قواعد الأحكام ١ : ٥٢٦ ، وفيه صرّح بأن الميت لا قول له.

(٥) في «ح» بعدها : في معرفة.

(٦) ليست في المصدر.

(٧) حاشية الشرائع : ٣٢٣ ـ ٣٢٤ ، ٣٢٦ ، باختلاف يسير.

٢٦٧

الجليلين المتبحرين الشيخ حسن بن عبد الكريم الفتّال النجفي ، والشيخ زين الدين علي بن هلال الجزائري ، روّح الله روحيهما.

وقال شيخنا الشهيد الثاني ـ رفع الله درجته ـ في رسالته المعمولة في المنع من تقليد الميت بعد أن نقل جواز الحكم كذلك عن كثير من أهل عصره : (إنه مبني على تقليد الميت ، وهو على تقدير جوازه وتحقّق طريقه ، إنّما يكون في آحاد المسائل الجزئية التي تتعلق بالمكلف في صلاته وباقي عباداته ، فكيف سوّغه أهل زماننا في كلّ شي‌ء ، حتى جوّزوا به الحكم والقضاء ، وتحليف المنكر وما ماثله ، وتفريق مال الغائب ، ونحو ذلك من وظائف المجتهدين؟ فإن ذلك غير جائز ، ولا هو محل الوهم ؛ لتصريح الفقهاء بمنعه. بل الأغلب منهم ذكره مرتين في كتابه : الاولى منهما في كتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) (١) ، والاخرى في كتاب (القضاء) (٢) ، ولا يحتاج لتفصيل عباراتهم المصرحة بذلك ، فإنها في الموضعين شهيرة واضحة الدلالة جازمة الفتوى بغير خلاف في ذلك بينهم ، بل صرحوا بأن ذلك إجماعي.

وممن ذكر الإجماع على عدم جواز الحكم لغير المجتهد العلّامة في (المختلف) في كتاب القضاء في مسألة استحباب إحضار القاضي من أهل العلم من يفهمه ، قال في آخرها : (إنا أجمعنا على أنه لا يجوز القضاء للمقلد) (٣) ، بل هذا إجماع المسلمين قاطبة ، فإن العامة أيضا يشترطون في الحكم (٤) الاجتهاد ، وإنّما يجوّزون قضاء غيره بشرط أن يوليه ذو الشوكة ، وهو السلطان المتغلب ، وجعلوا ذلك ضرورة. فالقول بجواز القضاء لمن قصر عن هذه الدرجة من غير تولية ذي

__________________

(١) انظر مختلف الشيعة ٤ : ٤٧٧ ـ ٤٧٩ / المسألة : ٨٨ ـ ٨٩.

(٢) انظر مختلف الشيعة ٨ : ٤٣١ / المسألة : ٣٣.

(٣) مختلف الشيعة ٨ : ٤٣١ / المسألة : ٣٣.

(٤) في «ح» : حكم.

٢٦٨

الشوكة ـ كما هو الواقع ـ مخالف لإجماع المسلمين.

وحينئذ ، فالقول في هذه المسألة الإجماعية بالحكم لأهل التقليد ، حكم واقع بغير ما أنزل الله سبحانه ، وعين عنوان الجرأة عليه ، فكيف يعملون بفتواهم مرة ويخالفونها (١) اخرى ، والكل موجود في كتاب واحد؟ (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) (٢).

بل قد ذكر الأصحاب في كتبهم ما هو أغرب من ذلك وأعجب ، وهو أنه لا يتصور حكم المقلد بوجه ولا تولية المجتهد الحي له في حكم ، وذكروا في باب الوكالة (٣) أن مما لا يقبل النيابة القضاء ؛ لأن النائب إن كان مجتهدا في حال الغيبة لم يتوقف حكمه على نيابته ، وإلّا لم تجز استنابته. ومن هاهنا يعم على الطبقات السالفة التي بين الناقل وبين المجتهدين ؛ فإنكم تعلمون علما يقينيّا بأن كلّهم أو جلّهم أو من شاهدته منهم أنهم كانوا يتحاشون عن الأحكام ، وتقع منهم مرارا ، وكفى جرحا في فعل ما خالف الإجماع المصرّح به من مثل العلّامة جمال الدين رحمه‌الله وغيره ، بل يترتب على هذا ضمانهم الأموال التي حكموا بها واحتبسوها من مال الغائب وغيره. واستقرارها في ذمتهم كما هو معلوم مفرد في بابه مقطوع به في فتواهم بأن من هو قاصر عن درجة الفتوى يضمن ما أخطأ فيه من الأحكام في ماله ، ويضمن ما تصرّف فيه من مال الغائب) (٤) انتهى كلامه علت في الخلد أقدامه.

وإنّما نقلناه في المقام بطوله ؛ لجودته وكثرة محصوله ، وأنت خبير بما عليه اتّفاق كلمة هؤلاء الأجلّاء ، ومن نقلوا عنهم فيما ذكرنا.

__________________

(١) في «ح» : ويخالفوهم.

(٢) البقرة : ٨٥.

(٣) مسالك الأفهام ٥ : ٢٥٦.

(٤) عنه في العشرة الكاملة : ١٥١ ـ ١٥٢ (باختصار).

٢٦٩

إلّا إني قد وقفت على كلام لجملة منهم (١) أيضا مما يشعر بالخلاف في ذلك ، وجواز تولية غير الفقيه مع فقد الفقيه المذكور ، فإنه قد نقل شيخنا العلّامة أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني قدس‌سره في كتاب (الفوائد النجفية) عن الشيخ الصالح الشيخ حسين بن مفلح الصيمري أنه اختار الجواز في رسالة عملها في المسألة ، ونقل فيها ذلك عن الشيخ حسين بن منصور صاحب (الحاوي) ، قال : (فإنه قال فيه : (لو لم يوجد جامع الشرائط جاز نصب فاقد بعضها مع عدالته ؛ للحاجة إليه ، بل يجب من جهة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فيقتصر على الحكم بما يتحققه. أمّا غيره من المسائل الاجتهادية ، فيعتمد فيها الصلح فإن تعذّر تركه ، ولا يعمل بما في كتب الفقهاء ولو المشهورين بالتحقيق. نعم ، لو أفتى جامع الشرائط وجب أن يعمل بقوله (...) انتهى.

ثم نقل أيضا في الرسالة المذكورة عن محرر العامة من كتب الشافعية (٢) ما هذا لفظه : (وإذا تعذّرت هذه الشروط ، وولى سلطان ذو شوكة فاسدا أو مقلدا ، نفذ قضاؤه للضرورة) انتهى.

ثم قال له صاحب الرسالة : (فقد ثبت على المذهبين جواز القضاء للمقلد للضرورة (٣) ، والحاجة إليه ، لكن يجب أن يعتمد ما قال صاحب (الحاوي) ؛ لأنه أحوط) انتهى.

أقول : وقد وجدت في ظهر بعض الكتب بخط بعض الفضلاء ، ما هذه صورته :

__________________

(١) منهم الكركي في جامع المقاصد ٨ : ٢١٧.

(٢) هو كتاب المحرر في فروع الشافعيّة للإمام أبي القاسم عبد الكريم بن محمّد الرافعي القزويني المتوفى في حدود (٦٢٣) هـ. وهو كتاب معتبر مشهور بينهم ، وعليه شروح عدّة. كشف الظنون ٢ : ١٦١٢ ـ ١٦١٣.

(٣) انتهى ثم قال ... للضرورة ، من «ح».

٢٧٠

(صورة ما نقل من خط الشيخ علي بن هلال جواب (١) الشيخ علي بن قاسم هكذا : أنه هل للعدل الإمامي وإن لم يكن بشرائط الاجتهاد الحكم بين الناس ، ويجب العمل بما يقوله من صحة أو إبطال ، وكذا حكم البينة واليمين ، وإلزام الحقّ وعدمه في حال الغيبة ، وعدم المجتهد؟

الجواب : نعم ، الأمر كذلك ، له تنفيذ الأحكام ، وليس هذا من باب الحكم بل من باب الحسبة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وما ذكر عن الشيخ أحمد بن فهد قدس‌سره فهو كما ذكره) انتهى.

وفي ذيله مكتوب في بيان ما نسب للشيخ أحمد بن فهد رحمه‌الله ما صورته : (للفقيه العدل الإمامي ـ وإن لم يجمع شرائط الاجتهاد ـ الحكم بين الناس ، ويجب العمل بقوله من صحة أو إبطال. وكذا حكم البينة واليمين ، وإلزام الحق وعدمه في حال الغيبة ، وعدم المجتهد. ابن فهد) انتهى.

أقول : وما نقل عن الشيخ ابن فهد هنا قد نقله أيضا عنه المولى المحقق الأردبيليّ رحمه‌الله في (شرح الإرشاد) حيث قال بعد بيان اشتراط كون الحاكم مجتهدا ما صورته : (ولا شك في ذلك مع وجود المجتهد ، وأمّا مع عدمه فالمشهور ، بل نقل الاجماع على عدم جواز الحكم حينئذ. ولكن رأيت في حاشيته على (الدروس) ما هذا لفظه : قال : (للفقيه العدل الإمامي وإن لم يجمع شرائط الاجتهاد الحكم بين الناس) ...).

إلى آخر ما نقلناه من قول ابن فهد رحمه‌الله ، ثم قال : (وكتب بعدها هذه الحاشية منقولة من الشيخ حسين بن الحسام دام فضله (٢) انتهى ما ذكره المولى المذكور ، أفاض الله تعالى عليه رواشح النور.

__________________

(١) كذا في النسختين.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ١٤.

٢٧١

وأنت خبير بأن المنقول عن الشيخ علي بن هلال الجزائري رحمه‌الله فيما تقدم من كلام ابن أبي جمهور هو القول بالمنع ، وهو يخالف ما نقل عنه هنا ، والظاهر ترجيح النقل الأول ؛ فإن الشيخ عليا المذكور من جملة مشايخ ابن أبي جمهور المعاصرين فهو أعرف بمذهبه ، مع احتمال العدول عن أحد القولين إلى الآخر ، فيصح نسبة القولين له معا وإن كان باعتبار وقتين.

أقول : وكيف كان ، فالظاهر هو ما ذكره جلّ الأصحاب ؛ فإنه هو المعتمد في الباب ، والمؤيد بالسنّة و (الكتاب) ، ولكن جملة منهم ـ رضوان الله عليهم ـ إنّما أخلدوا في ذلك إلى دعوى الإجماع ، مع أن أخبار أهل الذكر ـ سلام الله عليهم ـ صريحة الدلالة في ذلك ، مكشوفة القناع ، وهي أولى وأحقّ بالاتّباع ، لكن لا بالنسبة إلى ما يدّعونه ـ رضوان الله عليهم ـ من الاختصاص بالمجتهد الذي ربما ابتنى حكمه وفتواه في بعض الأحكام الشرعية ، على مجرد وجوه مخترعة : ظنيّة أو وهمية ، بل الذي تضمنته تلك الأخبار هو الرجوع إلى من تمسك بذيل (الكتاب) العزيز والسنّة النبوية ، على الصادع بها أشرف سلام وتحية.

فمن الأخبار في ذلك المقبولة المذكورة ، وروايتا أبي خديجة المتقدمتان (١) ، وما رواه الصدوق ـ نوّر الله مرقده ـ في (الفقيه) قال (٢) : قال علي عليه‌السلام : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللهم ارحم خلفائي ـ ثلاثا ـ قيل : يا رسول الله ، ومن خلفاؤك؟ قال : الذين يأتون بعدي ، يروون حديثي وسنّتي» (٣).

وما رواه أيضا قدس‌سره في كتاب (إكمال الدين وإتمام النعمة) ، عن إسحاق بن يعقوب قال : سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل إليّ كتابا قد سألت فيه

__________________

(١) انظر الدرر ١ : ٢٥٨ / الهامش : ٦ ، ٢٥٩ / الهامش : ٢.

(٢) ليست في «ح».

(٣) الفقيه ٤ : ٣٠٢ / ٩١٥ ، وفيه : من بعدي ، بدل : بعدي.

٢٧٢

عن مسائل أشكلت علي فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان عليه‌السلام : «أمّا ما سألت عنه أرشدك الله وثبتك».

إلى أن قال : «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ؛ فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم (١)» (٢).

وقد بينا في صدر هذه الفائدة أن الرواية لأخبارهم ، والمعرفة بأحكامهم المستلزمة للنيابة عنهم ، والقيام مقامهم مخصوص بفرد خاص ، وهو المعبر عنه في لسان الفقهاء بالفقيه الجامع الشرائط ، فغيره لا يجوز له حينئذ الدخول في هذا الباب بمقتضى صريح (٣) الخطاب.

ومما يؤكده ، ويدلّ على خطر الحكومة ووزرها والتحذير منها والتشديد في أمرها إلّا لمن استكمل تلك الشروط المقرّرة ، وفاز بتلك القوة القدسية المنوّرة ما رواه ثقة الإسلام في (الكافي) بسنده عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام لشريح : يا شريح ، قد جلست مجلسا لا يجلسه إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ أو شقيّ» (٤).

وما رواه فيه أيضا عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «اتقوا الحكومة ؛ فإن الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء ، العادل في المسلمين لنبي أو وصي نبي» (٥).

لا يقال : الحصر في النبي والوصي ، يدل على عدم تعدي ذلك إلى غيرهما.

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) كمال الدين : ٤٨٣ ـ ٤٨٤ / ٤.

(٣) في «ح» بعدها : هذا.

(٤) الكافي ٧ : ٤٠٦ / ٢ ، باب أن الحكومة إنما هي للإمام عليه‌السلام ، الفقيه ٣ : ٤ / ٨ ، تهذيب الأحكام ٦ : ٢١٧ / ٥٠٩ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٣ ، ح ٢.

(٥) الكافي ٧ : ٤٠٦ / ١ ، باب أن الحكومة إنما هي للإمام عليه‌السلام ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٣ ، ح ٣.

٢٧٣

لأنا نقول : قضية الجمع بين هذين الخبرين ، وما تقدم من الأخبار الدالّة على نيابة الفقيه الراوي لأخبارهم ، المتتبع لآثارهم ، هو حمل هذين الخبرين على أن النائب من جهتهم ، والمنصوب عنهم يرجع بالآخرة إليهم. ويدل عليه قوله عليه‌السلام في الرواية المذكورة : «ينظران من كان منكم قد روى حديثنا ـ إلى قوله ـ وهو على حد الشرك بالله» فإنه جعل الرادّ على نائبهم رادّا عليهم ورادّا على الله تعالى ، «وأنه على حدّ الشرك بالله» ، وهو صريح فيما ذكرناه.

وما رواه فيه أيضا في الصحيح عن أبي عبيدة قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : «من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة والعذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتياه» (١).

وما رواه فيه عن أحمد عن أبيه ، رفعه إلى أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «القضاة أربعة ؛ ثلاثة في النار ، وواحد في الجنة : رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة» (٢).

والأخبار (٣) في هذا الباب مستفيضة متكاثرة ، فتخصيصها يحتاج إلى دليل قاطع وبرهان ساطع.

وإخلال الناس بطلب العلم وتحصيل هذه المرتبة لا يكون عذرا مسوّغا لدخول غير صاحب هذه المرتبة فيها ، والجنوح إلى أنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ممنوع ، بل لو قيل : إنه من باب فعل المنكر لكان أظهر بالنسبة إلى الخبر.

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤٠٩ / ٢ ، باب أن المفتي ضامن ، وفيه : وملائكة العذاب.

(٢) الكافي ٧ : ٤٠٧ / ١ ، باب أصناف القضاة.

(٣) انظر وسائل الشيعة ٢٧ : ١٦ ـ ٣١ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٣ ، ح ٤.

٢٧٤

ومما يدل على المنع من تقليد غير من فاز بتلك المرتبة السامية ، وحاز تلك المنزلة النامية ما رواه في (الكافي) في الصحيح عن أبي بصير ليث المرادي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) (١). فقال : «أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ، ولو دعوهم ما أجابوهم ، ولكنهم أحلّوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا ، فعبدوهم من حيث لا يشعرون» (٢).

وما رواه فيه أيضا عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «من أصغى إلى ناطق فقد عبده ؛ فإن كان الناطق يؤدي عن الله فقد عبد الله ، وإن كان الناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان» (٣).

فائدة في كون القاضي منصوبا من الإمام حال حضوره

ظاهر (١) كلام الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ أنه مع حضور الإمام عليه‌السلام فلا بد في متولي القضاء أن يكون منصوبا منه عليه‌السلام على الخصوص ، فلا ينفذ قضاء الفقيه الجامع الشرائط من غير تنصيص عليه بخصوصه ، وإنّما ينفذ في زمان الغيبة ، وزاد بعضهم : عدم تمكن الإمام من إجراء الأحكام. واستندوا في ذلك إلى رواية سليمان بن خالد المتقدّمة ، وحديث الأمير عليه‌السلام مع شريح السابق ، لحملهما (٤) على

__________________

(١) التوبة : ٣١.

(٢) الكافي ١ : ٥٣ / ١ ، باب التقليد.

(٣) الكافي ٦ : ٤٣٤ / ٢٤ ، باب نوادر كتاب الأشربة.

(٤) وجه الأظهريّة أنه عليه‌السلام قد أمر الشيعة الذين في زمانه بأنه متى وقعت بينهم منازعة أو خصومة أن يتحاكموا إلى من كان [متّصفا] بالصفات التي ذكرها عليه‌السلام لهم ، سيّما رواية أبي خديجة المتضمّنة أن أبا عبد الله عليه‌السلام بعث إلى أصحابه من الشيعة فقال : «قل لهم» (١) إلى آخره ، فإنه صريح كما ترى في كون ذلك النائب مع الحضور كما لا يخفى. منه رحمه‌الله. (هامش «ح»).

(٥) من «ح» ، وفي «ق» : بحملها.

__________________

١ ـ تهذيب الأحكام ٦ : ٣٠٣ / ٨٤٦ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣٩ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١١ ، ح ٦.

٢٧٥

زمان الحضور ، وحمل أخبار النيابة من غير تنصيص على زمن الغيبة.

وأنت خبير بأن المفهوم من الأخبار السابقة ـ الدالة على الأمر بالرجوع إلى من عرف أحكامهم وروى أخبارهم ، وأنهم قاض من جهتهم ـ هو العموم ، بل ربما كانت في الدلالة على زمن الحضور أظهر. وأمّا الأخبار التي استندوا إليها ، فغاية ما تدلّ عليه أن الحكومة لا تصلح إلّا لهم ـ صلوات الله عليهم ـ لأنهم العارفون واقعا بأحكام الملك العلام ، وهو أعمّ من أن يباشروا ذلك بأنفسهم ، أو يعينوا شخصا من جهتهم قد عرف أحكامهم خصوصا كما يدّعونه ـ طاب ثراهم ـ أو عموما كما هو منطوق تلك الأخبار التي ذكرناها. ولم أر من تنبّه لما ذكرناه ، سوى المحقق المولى الأردبيليّ قدس‌سره في (شرح الإرشاد) ، حيث قال : (واعلم أن المستفاد من عباراتهم أنه لا بدّ في القاضي مطلقا في حال الحضور من نصب الإمام ، أو من نصبه له بخصوصه ؛ فلا يجوز للمتّصف بالشرائط الحكم بغير نصبه ، والدليل عليه غير ظاهر إلّا أن يكون إجماعيا. وظاهر الأخبار المتقدّمة (١) تدلّ على أن كلّ من اتّصف بالشرائط فهو منصوب من قبله عليه‌السلام وله الحكم مثله ، وأنه ليس مخصوصا بحال الغيبة ، بل ظاهره في حال الحضور ؛ إذ الصادق عليه‌السلام جعله حاكما ، وذلك زمان الحضور. إلّا أن يخصّص بوقت عدم إمكان الوصول إليه أو إلى نائبه ، وعدم إمكان نصبه بخصوصه ، وهو بعيد.

نعم ، لا بدّ من ارتكابه إن قام الدليل عليه) (٢) انتهى.

وإني كنت قبل الوقوف على كلام هذا المحقق ، مذ عرض هذا العارض في خاطري كنت أقضي العجب من عدم تنبّه أحد من محقّقي أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ لذلك ، مع ظهور الأخبار التي قدمناها فيما هنالك حتى يسّر الله سبحانه

__________________

(١) مرّ أغلبها في هذه الدرّة الشريفة.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ١٦ ـ ١٧.

٢٧٦

ـ وله المنة ـ الوقوف على هذا الكلام الواضح المرام.

هذا ، وتخصيص الأخبار المذكورة بوقت عدم إمكان الوصول إليه ، أو عدم إمكان نصبه لخصوصه ـ كما ذكره المولى المذكور ـ أو عدم تمكن الإمام من إجراء الأحكام ، كما لحظه من قدمنا نقله عنه تخصيص من غير دليل ، ولا معارض واضح السبيل.

تكملة في كلام بعض علمائنا في تسهيل أمر الاجتهاد

قد بالغ شيخنا الشهيد الثاني ـ نوّر الله تعالى مضجعه ـ في رسالته المعمولة في مسألة المنع من تقليد الميت في تسهيل (١) أمر الاجتهاد وفي هذه الأعصار فقال مشنّعا على من قال بجواز تقليد الميت : (إن الذي أوجب لمعتقدي جواز ذلك هذه الحيرة ، ونزول هذه البليّة ، إنّما هو تقاعدهم عن تحصيل الحقّ ، وفتور عزيمتهم ، وانحطاط نفوسهم ، عن الغيرة على صلاح الدين ، وتحصيل مدارك اليقين ، حتى آل الحال إلى انتقاض هذا البناء ، وفساد هذا الطريق السويّ ، واندرست معالم هذا الشأن بين أهل الإيمان ، وصار من قرأ (٢) الشرائع أو بعضها أو ما زاد عليها يجلس في زماننا ، ويتصدّر ويفتي الناس في الأحكام والأموال والفروج والمواريث والدماء ، ولا يعلم بأن ذلك غير معروف في مذهبنا ، ولا يذهب إليه أحد من علمائنا) (٣).

ثم قال ـ بعد كلام طويل طويناه ـ : (وما أقعدهم عن ذلك إلّا ضعف هممهم ، واعتقادهم أنه لا يتحقّق المجتهد إلّا إذا كان مثل العلّامة جمال الدين ، أو الشيخ نجم الدين ، أو الشهيد رحمهم‌الله ، ومن ضارعهم ، ولم يدروا أنه على مراتب لا

__________________

(١) من «ح» ، وفي «ق» : تسجيل.

(٢) في «ح» : كل من قرأ.

(٣) عنه في العشرة الكاملة : ١٤٠ ـ ١٤١.

٢٧٧

تتناهى ولا تقف على حد ، وأن أقل مراتبه يمكن تحصيلها لخلق كثير. فأين القلوب المستيقظة والألباب المتهيّئة والنفوس المتوجهة ؛ لتنوح على هذه المصيبة ، وتكثر العويل على هذه الرزية التي لا يلحظها إلّا المتقون؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون. فمن هذا اندرست الشريعة.

وإنّما أوجب [هذه] (١) البلوى قلة التقوى ، فكيف لا تتوجّه المؤاخذة ، ونستحق نزول البلية إن لم يتداركنا الله بفضله ورحمته؟

وأعظم من هذا محنة ما يتداوله كثير من المتسمّين بالعلم ، حيث يصرفون عمرهم ، ويقضون دهرهم [في] (٢) تحصيل علوم الحكمة ؛ كالمنطق ، والفلسفة ، وغيرهما مما يحرم ؛ لذاته ، أو لمنافاته الواجب (٣) على وجه لو صرفوا منه جزءا على تحصيل العلم الذي يسألهم الله عنه سؤالا حثيثا ، لحصّلوا ما يجب عليهم من علم الدين ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) (٤) انتهى ملخصا.

وقال الشهيد ـ عطر الله مرقده ـ في بعض فوائده : (الاجتهاد في هذا الوقت أسهل منه فيما قبله من الأوقات ؛ لأن السلف ـ رحمهم‌الله ـ قد كفونا مئونته بكدهم وكدحهم وجمعهم السنّة والأخبار وتعديلهم الرجال وغير ذلك) (٥).

وقال بعض المحقّقين ممّن تأخر عنه : (لا شك أنه في زماننا أسهل منه في زمان الشهيد رحمه‌الله ؛ لزيادة سعيه وسعي من بعده في تنقيح المباحث ، وتهذيب المطالب ، وإيضاح القواعد ، وذكر الاحتمالات ، ورد الشّبه ، وإيراد الجوابات ،

__________________

(١) في النسختين : هذا.

(٢) في النسختين : على.

(٣) في النسختين : الواجبة ، وما أثبتناه وفق المصدر ، والنسخة «ق» ، النسخة غير المعتمدة في التحقيق.

(٤) عنه في العشرة الكاملة : ١٤١ ـ ١٤٢.

(٥) ذكرى الشيعة ١ : ٤٩ ، بالمعنى. ونقله عنه بنصّه في سفينة النجاة (ضمن الاصول الأصيلة) : ٣١.

٢٧٨

وكثرة البحث عن الأسانيد ووجوه الدلالات ، وتحرير ما يتعلق بها من أنواع العلوم المحتاج إليها ، والاستنباطات).

ومن ثم قال بعض المحققين : (لم يبق لمن تأخر عنهم من البحث والتفتيش إلّا الاطلاع على ما قرروه ، والفكر فيما ألّفوه) (١).

وآخرون قد عظّموا الخطب حتى جعلوه كالصعود إلى السماء ، أو كنقط المصحف بيد الأعمى ، وهو وهم فاسد ، وخيال كاسد ، منشؤه عدم المعاشرة لأهل الكمال ، وسوء التدرّب في مجامع الاستدلال ، وقلة الممارسة للأحكام الشرعية ، وعدم الوقوف على (٢) ما قرره العلماء الأعلام في المسائل الشرعية) (٣).

قال شيخنا العلّامة أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني ـ طيب الله مرقده ـ في كتاب (العشرة الكاملة) ـ بعد نقل القولين المذكورين ـ : (والإنصاف أن القولين المذكورين على طرفي نقيض في الإفراط والتفريط ، وأن الاجتهاد المطلق نادر الوقوع قليل التحقق يحتاج حصوله إلى استغراق (٤) أكثر العمر غالبا في الطلب (٥) ، وليس هو من السهولة التي ذكره الشهيد الثاني في شي‌ء ، والتعلق بأن السلف كفونا مؤنته ضعيف ؛ فإنهم مختلفون في الفتاوى جدا ؛ بسبب اختلاف أفهامهم وأنظارهم. وهذا قد يوجب صعوبة الأمر ؛ لكثرة الشبهات التي يوردها كلّ على خصمه ، وانتشار الأدلّة والأخبار والأقوال على وجه يعسر ضبطه.

ومع هذا فهم غير منكوري الفضل على من تأخّر عنهم ، فقد قربوا البعيد ، ويسّروا القريب ، وجمعوا الشتات ، وألفوا الروايات ، شكر الله سعيهم ووالى من حياض الكوثر سقيهم.

__________________

(١) عنه في سفينة النجاة (ضمن الاصول الأصيلة) : ٣١.

(٢) الوقوف على ، من «ح».

(٣) انظر العشرة الكاملة : ١٤٢ ـ ١٤٤.

(٤) في «ح» : استفراغ.

(٥) في الطلب ، ليس في «ح».

٢٧٩

وأمّا التجزّي ، فهو كثير الأفراد ، منتشر الأعداد ، وهو على مراتب غير متناهية ، كما أشار إليه شيخنا الشهيد الثاني ، متفاوتة في القرب من المطلق والبعد منه على قدر تفاوت القوى الاستدلالية شدّة وضعفا ، وزيادة ونقصانا) (١) انتهى كلامه ، علت في الفردوس أقدامه.

وأنا أقول وإن كنت ممن يقصر عن السباق في مضمار هؤلاء الفحول ، ويكبو جواده عن اللحاق في ميدان تلك العقول : إنه حيث كان الاجتهاد الّذي بني عليه هذا الكلام ممّا لم يقم عليه عندي دليل من أدلاء الملك العلام ، وإنّما الذي دلّت عليه أخبارهم كما تقدّم لك شطر منها هو أن النائب عنهم عليهم‌السلام هو (٢) من روى أخبارهم وعرف أحكامهم وتتبّع آثارهم ، مع ما استفاض عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله : «إني تارك فيكم الثقلين ... كتاب الله وعترتي أهل بيتي» (٣).

فالواجب حينئذ هو التمسّك بهما والأخذ بما فيهما لا غير ، إلّا إنه لما كانت الآيات القرآنية فيها المجمل والمبين ، والمتشابه والمحكم ، والعامّ والخاصّ ، والناسخ والمنسوخ ، ونحو ذلك ، وكذلك الأخبار قد اشتملت على ما عدا الأخير ، وعوضت عنه باشتمالها على التقية التي هي أشدّ محنة وبلية ، وانضاف إلى ذلك تفرقها في الاصول وتشتتها على وجه ربما يعسر (٤) [معه] إليها الوصول. وكان خطابهم ـ صلوات الله عليهم ـ للناس ربما بني على الزيادة والنقصان بما تحتمله عقول المخاطبين في ذلك الزمان ، فبين ظاهر جلي (٥) ودقيق خفي. وقد خفيت علينا أكثر القرائن الحالية التي كانت بها الدلالات واضحة جليّة.

__________________

(١) العشرة الكاملة : ١٤٤ ـ ١٤٥.

(٢) من «م».

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٣ ـ ٣٤ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٥ ، ح ٩ ، مسند أحمد بن حنبل ٣ : ١٤ ، مناقب علي بن أبي طالب (ابن المغازلي) : ٢٣٤ / ٢٨١ ، وانظر : ص ٢٣٥ ـ ٢٣٦ / ٢٨٢ ـ ٢٨٤ ، عمدة عيون صحاح الأخبار : ٦٨ ـ ٧٦ / ٨١ ـ ٩١.

(٤) في «ح» : بعثر.

(٥) في «ح» بعدها : ما بين.

٢٨٠