الدّرر النجفيّة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

لك» (١) ، فإنه حمل الجمع فيها على الجمع في الملك ؛ جمعا بينها ، وبين ما دل على تحريم الجمع في الوطء ، كصحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة ، وموثقة معاوية (٢) ابن عمار. وحمل قوله : «لا أحبه» على الكراهة ، والأظهر حمل صحيحة علي بن يقطين على التقية ، وأن المراد بالجمع فيها هو الجمع في الوطء ، ويكون وجه الجمع بينها وبين تلك الأخبار بالحمل على التقية ؛ لأن ذلك مذهب العامة كما عرفت.

وبالجملة ، فكراهة الجمع في الملك غير ثابت ، وإثباته بهذا الحديث غير ظاهر ؛ لما عرفت.

الثاني : ما رواه الشيخ في الصحيح ، عن عبد الله بن سنان قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل كان تحته أمة فطلقها على السنّة ، فبانت منه ، ثم اشتراها بعد ذلك قبل أن تنكح زوجا غيره؟ قال : «أليس قد قضى علي عليه‌السلام في هذا : أحلتها آية وحرمتها آية؟ وأنا أنهى عنها نفسي وولدي» (٣).

فالظاهر أن المراد بالآية المحللة هي آية الملك المتقدمة ، والآية المحرمة هي قوله تعالى (حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) (٤) ؛ لأن ظاهر الحديث أنه طلقها ثنتين للسنّة ، فحرمت عليه بدون المحلل ، فلو اشتراها ، هل يزول ذلك الحكم ويجوز له وطؤها ، أو يتوقف على المحلل؟ وأكثر الأخبار الواردة عن أئمة الهدى ـ صلوات

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٧ : ٢٨٨ ـ ٢٨٩ / ١٢١٤ ، الاستبصار ٣ : ١٧٢ / ٦٢٧ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٨٣ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ب ٢٩ ، ح ٤.

(٢) انظر : تهذيب الأحكام ٧ : ٢٨٨ / ١٢١٣ ، الاستبصار ٣ : ١٧٢ / ٦٢٦ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٨٢ ـ ٤٨٣ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوه ، ب ٢٩ ، ح ٢.

(٣) تهذيب الأحكام ٨ : ٨٣ ـ ٨٤ / ٢٨٤ ، الاستبصار ٣ : ٣٠٩ / ١٠٩٧ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٦٣ ، أبواب أقسام الطلاق ، ب ٢٦ ، ح ١.

(٤) البقرة : ٢٣٠.

٢٤١

الله عليهم ـ في هذه المسألة دلت على الثاني ، كصحيحة بريد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال في رجل تحته أمة فطلقها تطليقتين ، ثم اشتراها بعد ، قال : «لا يصلح له أن ينكحها ، حتّى تزوج زوجا غيره ، وحتّى تدخل في مثل ما خرجت عنه» (١). ومثلها غيرها (٢).

ومما يدل على الأول رواية أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل كانت تحته أمة فطلقها طلاقا بائنا ، ثم اشتراها بعد. قال : «يحل له فرجها من أجل شرائها ، والحر والعبد في هذه المنزلة سواء» (٣).

وأجاب الشيخ رحمه‌الله (٤) عن هذا الخبر بوجوه لا تخلو من بعد ، وبعض المحققين من متأخري المتأخرين (٥) ، جمع بين الأخبار ، بحمل الأخبار الاولى على الكراهة ، وحمل هذا الخبر على الرخصة ؛ استنادا إلى صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة. وظني بعده.

ولا يحضرني الآن الوقوف على مذهب العامة في المسألة ، إلّا إن الذي يقرب عندي هو المشهور من التوقف على المحلل ؛ إذ الظاهر أن الإجمال الذي في صحيحة عبد الله بن سنان المذكورة ، إنما خرج مخرج التقية ، واقتصار علي عليه‌السلام على نهي نفسه وولده إنّما كان لذلك ، كما صرح به خبر معمّر المتقدم. وكذا الخبر

__________________

(١) الكافي ٦ : ١٧٣ ـ ١٧٤ / ح ٤ ، باب الرجل تكون عنده الأمة فيطلقها ويشتريها ، تهذيب الأحكام ٨ : ٨٥ / ٢٩٠ ، الاستبصار ٣ : ٣١٠ / ١١٠٣ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٦٤ ، أبواب أقسام الطلاق ، ب ٢٦ ، ح ٦.

(٢) تهذيب الأحكام ٨ : ٨٤ / ٢٨٥ ، الاستبصار ٣ : ٣٠٩ / ١٠٩٨ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٦٤ ، أبواب أقسام الطلاق ، ب ٢٦ ، ح ٣.

(٣) تهذيب الأحكام ٨ : ٨٥ / ٢٩١ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٦٤ ، أبواب أقسام الطلاق ، ب ٢٦ ، ح ٤.

(٤) تهذيب الأحكام ٨ : ٨٥ / ذيل الحديث : ٢٩١.

(٥) الوافي ٢٣ : ١٠٨٨ ، انظر الحدائق الناضرة ٢٥ : ٣٤٥.

٢٤٢

المنقول من كتاب علي بن جعفر ، لا من حيث الكراهة. ولتحقيق المسألة محل آخر يطلب منه.

الثالث : ما رواه الشيخ ـ طاب ثراه ـ عن رفاعة بن موسى النخاس ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الأمة الحبلى يشتريها الرجل ، فقال : «سئل عن ذلك أبي عليه‌السلام فقال : أحلتها آية وحرمتها اخرى ، وأنا ناه عنها (١) نفسي وولدي. فقال الرجل : أنا أرجو أن أنتهي إذا نهيت نفسك وولدك (٢)».

والظاهر أن الآية المحلّلة آية الملك ، والمحرمة هي قوله تعالى (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) (٣).

والعجب من عدم وقوف ذينك الشيخين قدس‌سرهما على ذلك وعدم اطلاعهما على ما هنالك ، سيما شيخنا المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح ، فإنه في التوغل والاطلاع على الأخبار بمرتبة عليّة المنار ، ولكن كما قيل في المثل الدائر : كم ترك الأول للآخر!).

هذا ، وأما حديث الجمع بين الفاطميتين (٤) ، فلم أقف بعد التتبع لكتب (٥) جملة من متقدمي الأصحاب ومتأخّريهم على كلام لهم في هذه المسألة بعينها ، والبحث فيها إنّما حدث بين جملة من متأخري المتأخرين. فقول شيخنا المحدث الصالح في الجواب عن المسألة المذكورة : (ذهب أصحابنا إلى جواز الجمع بينهما) ، لا أعرف له وجها إلّا أن يراد : باعتبار عدم تصريحهم بالمنع والتحريم في عدهم محرمات النكاح.

__________________

(١) في «ح» : أنهاه.

(٢) تهذيب الأحكام ٨ : ١٧٦ / ٦١٦.

(٣) الطلاق : ٤.

(٤) تهذيب الأحكام ٢ : ٤٦٣ / ١٨٥٥ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٥٠٣ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ب ٤٠ ، ح ١.

(٥) في «ح» : للكتب.

٢٤٣

وتحقيق الحال في هذا المجال أن يقال : لا ريب أن إطلاق الآيات القرآنية كقوله سبحانه (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) (١) ، وقوله تعالى (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) (٢) ، ونحو ذلك مما يدل على الجواز ، وكذا إطلاق الأخبار.

والخبر المذكور باصطلاح متأخّري أصحابنا المجتهدين ضعيف من وجوه.

أحدها : باشتماله على [سندي بن ربيع] (٣) وهو مجهول الحال لم ينصّ أحد من علماء الرجال على توثيقه ولا مدحه (٤).

وثانيها : بضعف (٥) طريق الشيخ إلى علي بن الحسن بن فضال ، لاشتماله على علي بن محمد بن الزبير ، وأحمد بن عبدون.

وثالثها : بأنه مرسل.

ورابعها : بأنه مضمر.

وحينئذ ، فلا يقوم حجة في تخصيص عمومات (الكتاب) والسنّة ، على أن لفظ «لا يحل» (٦) وإن كان ظاهره التحريم إلّا إنه قد ورد بمعنى الكراهة ، كما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، من قوله : «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تدع عانتها فوق عشرين يوما» (٧) ، وحينئذ فيكون الخبر ضعيفا سندا ودلالة ؛ فلا يقوم حجة.

__________________

(١) النساء : ٣.

(٢) النساء : ٢٤.

(٣) من المصدر ، وفي النسختين : الربيع بن سندي ، انظر الهامش التالي ، والسند المار في الصفحة الثانية من هذه الدرة.

(٤) انظر : رجال النجاشي : ١٨٧ / ٤٩٦ ، رجال الطوسي : ٣٧٨ / ٨ ، فهرست كتب الشيعة واصولهم : ٢٢٩ / ٣٤٣.

(٥) ليست في «ح».

(٦) الوارد في حديث تهذيب الأحكام ٧ : ٤٦٣ / ١٨٥٥.

(٧) الكافي ٨ : ٥٠٦ / ١١ ، باب النورة ، وسائل الشيعة ٢ : ١٣٩ ، أبواب آداب الحمّام ، ب ٨٦ ، ح ١ ، وفيهما : ذلك منها ، بدل : عانتها ؛ إذ تقدم ذكر العانة في أوّل الحديث عند ذكر حكم الرجل في ذلك.

٢٤٤

والجواب أما عن ضعف سند الخبر بما ذكر من الوجوه المعدودة ، فبأنا قد أثبتنا في غير واحد من مؤلفاتنا (١) ضعف هذا الاصطلاح المتأخّر الذي بني عليه (٢) تضعيف الحديث بهذه الوجوه ونحوها ، وإنّما عملنا (٣) اصطلاح أصحابنا المتقدّمين ، كما عليه أيضا جلّ متأخّري المتأخرين ، مع أنه يمكن الجواب عن هذه الوجوه تفصيلا بما يوجب تصحيح الخبر باصطلاحهم أيضا ، كما لا يخفى على من خاض تيار الاستدلال ، وأعطى النظر حقه (٤) في هذا المجال.

على أن الخبر المذكور قد رواه الصدوق ـ عطر الله مرقده ـ في كتاب (علل الشرائع والأحكام) بسند صحيح صورته : محمد بن علي ماجيلويه عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبان بن عثمان عن حماد قال : (سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام) (٥) الحديث.

وحينئذ يندفع الإشكال المذكور بحذافيره.

وأما عن ضعف الدلالة ، فإن المعنى المستفاد من هذا اللفظ لغة وشرعا ، هو التحريم كما لا يخفى على من تتبع موارد اللفظ المذكورة في (الكتاب) والسنّة.

فالواجب هو الحمل على ذلك ، ووروده نادرا فيما ذكر من الخبر المنقول لا يعمل به مطرّدا في مقابلة ما ذكرنا ، فإن الحقائق اللغوية والشرعية كلها من هذا القبيل.

وبالجملة ، فاللفظ لا يعدل به عن حقيقته إلّا بدليل صريح ونصّ صحيح ، سيما مع انضمام لفظ (المشقة) في الخبر إلى ذلك ، المؤدّي إلى الإيذاء غالبا.

وقد رأيت بخط والدي قدس‌سره هذا الحديث بهذا السند الصحيح ، وفي ذيله مكتوب ـ بخطه طاب ثراه ـ ما صورته : (قد نقل هذا الحديث بهذا السند الفقيه النبيه ،

__________________

(١) انظر الحدائق الناضرة ١ : ١٤ ـ ٢٥ / المقدّمة الثانية.

(٢) في «ح» : عليها.

(٣) في «ح» : علمناه.

(٤) من «ح» ، وفي «ق» : حسه.

(٥) علل الشرائع ٢ : ٣١٥ / ب ٣٨٥ ، ح ٣٨.

٢٤٥

الشيخ جعفر بن كمال الدين البحراني ، قال قدس‌سره عقيب ذكره ما صورته : (يقول كاتب هذه الأحرف جعفر بن كمال الدين البحراني : هذا الحديث صحيح ولا معارض له ، فيجوز أن يخصص به عموم (القرآن) ، ويكون الجمع بين الشريفتين من ولد الحسن والحسين عليهما‌السلام بالنكاح حراما ، والله أعلم) انتهى كلامه ، قدس الله روحه.

وهذا الحديث ذكره الشيخ في (التهذيب) (١) أيضا إلّا إن سنده فيه غير صحيح ، وهذا الشيخ ـ كما ترى ـ قد نقله بهذا السند الصحيح على الظاهر. ولا نعلم من أين أخذه قدس‌سره ، ولكن كفى به ناقلا ، وكتب الفقير أحمد بن إبراهيم البحراني) انتهى كلام والدي ، طيب الله تعالى ثراه ، وجعل الجنة مثواه.

وأقول : قد أخذه من كتاب (العلل) ، ولكن الوالد لم يطّلع عليه ، وليته كان حيّا فاهديه إليه. والمفهوم من كلام الشيخ جعفر المذكور القول بمضمون الخبر المذكور.

ووجدت بخطّ بعض الفضلاء الموثوق بهم ، نقلا من خط شيخنا أبي الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني قدس‌سره بعد نقل الخبر المذكور ما صورته : (ومال إلى العمل به بعض مشايخنا ، وهو متّجه ؛ لجواز تخصيص عموم الكتاب بالخبر الواحد الصحيح وإن توقفنا في المسألة الاصولية. ولا كلام في شدة المرجوحيّة وشدّة الكراهة) انتهى.

وظاهر هذا الكلام الميل إلى العمل بالخبر المذكور ، مما نقله شيخنا المحدّث الصالح ، فيما قدّمنا من كلامه في صدر البحث عن شيخه المذكور من أنه لا يعرف منه غير التوقّف دون الجزم بالتحريم لعلّه كان في أول الأمر ، ثمّ مال بعد ذلك إلى التحريم ، كما نقله عنه قدس‌سره سابقا ، وبه يشعر هذا الكلام المنقول عنه هنا أيضا.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٧ : ٤٦٣ / ١٨٥٥.

٢٤٦

ثم العجب أيضا من شيخنا المحدث الصالح في جوابه عن المسألة المذكورة في كتاب (منية الممارسين) (١) ، حيث أطال في بيان وجوه ضعف الخبر المذكور من طرق المجتهدين ، وأطال في الجواب عن ذلك من طرق (٢) الأخباريين (٣) ، ولم يطّلع على ما نقلنا من (٤) هذا السند الصحيح المنقول من كتاب (العلل) ، ولم يتعرّض له ، حتى إنه في آخر البحث بقي واقفا على ساحل التوقّف في المسألة المذكورة.

وكيف كان ، فالظاهر هو القول بالتحريم ، كما عليه هؤلاء الأجلّاء [المتقدّم] (٥) ذكرهم ، والله العالم.

__________________

(١) منية الممارسين : ٥٥٢.

(٢) في «ح» : طرف.

(٣) في «ح» : الاخبار تبيّن.

(٤) ليست في «ح».

(٥) في النسختين : المقدّم.

٢٤٧
٢٤٨

(١٢)

درة نجفية

في التحاكم إلى ولاة الجور

روى ثقة الإسلام في (الكافي) (١) ، وشيخ الطائفة في (التهذيب) (٢) بسنديهما عن عمر بن حنظلة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة ، أيحل ذلك؟

قال عليه‌السلام : «من تحاكم إليهم في حق أو باطل ، فإنما تحاكم إلى الطاغوت (٣). وما يحكم به ، فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقا ثابتا له (٣) ؛ لأنه أخذه بحكم الطاغوت وقد أمر الله أن

__________________

(١) الطاغوت هو كعب بن الأشرف ، كما نقل أنه كان بين شيخين منازعة ، فقال أحدهما : إنا نتحاكم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقال الآخر : إنا نتحاكم إلى كعب. فنزلت (١).

ويطلق على الشيطان والجبت واللات والعزّى وغيرها من الأقسام ، وعلى رءوس الضلال ، وكلّ ما عبد من دون الله. والغالب في أخبارنا الإطلاق على [الثاني] والجبت على الأوّل (٢). منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

(٢) الكافي ١ : ٦٧ ـ ٦٨ / ١٠ ، باب اختلاف الحديث ، باختلاف فيه.

(٣) تهذيب الأحكام ٦ : ٣٠١ ـ ٣٠٢ / ٨٤٥ ، باختلاف فيه.

(٤) في تهذيب الأحكام : حقه ثابتا ، بدل : حقا ثابتا له.

__________________

١ ـ انظر مجمع البيان ٣ : ٨٥.

٢ ـ انظر : تفسير العياشي ١ : ٢٧٣ / ١٥٣ ، بحار الأنوار ٢٣ : ٨٩ / ١٧ ، وفيهما بلفظ : فلان وفلان.

٢٤٩

يكفر به ، قال الله تعالى (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) (١)».

قلت : فكيف يصنعان؟

قال : «ينظران إلى (٢) من كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكما ، فاني قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه ، فإنما استخفّ بحكم الله وعلينا ردّ ، والرادّ علينا الراد على الله ، وهو على حد الشرك بالله».

قلت : فإن كان كل رجل اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما واختلفا فيما حكما ، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟

قال : «الحكم ما حكم به أعدلهما ، وأفقههما ، وأصدقهما في الحديث ، وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر».

قال : قلت : فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل منهما واحد على الآخر.

قال : فقال : «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ، ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ؛ فإن المجمع عليه لا ريب فيه. وإنّما الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ؛ وأمر مشكل فيرد علمه إلى الله وإلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، (٣) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم».

__________________

(١) النساء : ٦٠.

(٢) من «ح» والمصدر.

(٣) في «ح» بعدها : قال.

٢٥٠

قلت : فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟

قال : «ينظر ، فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه (١) حكم الكتاب والسنّة ووافق العامة».

قلت : جعلت فداك ، أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من (الكتاب) والسنّة ، ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم ، بأي الخبرين يؤخذ؟

قال : «ما خالف العامة ففيه الرشاد».

فقلت : جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعا؟

قال : «ينظر إلى ما هم إليه أميل حكامهم وقضاتهم ، فيترك ويؤخذ بالآخر».

قلت : فإن وافق حكمهما الخبرين جميعا؟

قال : «إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى إمامك ؛ فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات»).

ورواه الصدوق قدس‌سره في (الفقيه) بما صورته : (داود بن الحصين عن عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت في رجلين اختار كل واحد منهما رجلا من أصحابنا؟) (٢) الحديث.

أقول : في هذا الخبر الشريف فوائد لطيفة وفوائد منيفة :

الفائدة الاولى : في دلالة السنّة على المنع من التحاكم إلى ولاتهم

قد دلّ هذا الخبر وأمثاله على المنع من التحاكم إلى سلاطين العامّة وقضاتهم ، وأن ما يؤخذ بحكمهم فهو حرام وسحت. وعلى ذلك دلّت الآية الشريفة ، وهي قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) الآية.

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) الفقيه ٣ : ٥ ـ ٦ / ١٨ ، باختلاف فيه.

٢٥١

وقد صرح جملة من الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ بانسحاب الحكم أيضا إلى فسقة الشيعة ممن يأخذ (١) الرشا على الأحكام ونحوه ، بل غير المأذون من جهتهم عليهم‌السلام مطلقا ، كما سيأتي بيانه ؛ لأن المراد من الطاغوت ـ وإن كان هو الشيطان مبالغة من الطغيان ؛ لفرط طغيانه إلّا (٢) إن المراد به هنا ـ هو كل من لم يحكم بالحق إما لشبهة به ؛ أو لأن التحاكم إليه تحاكم إلى الشيطان ؛ حيث إنه الحامل له على الحكم مع عدم أهليته ولياقته لذلك كما تشعر به تتمّة الآية : (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) (٣) ، أو يدل عليه ما ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «كل حاكم حكم بغير قولنا أهل البيت ، فهو طاغوت» (٤) ثم قرأ الآية.

قال الطبرسي قدس‌سره في كتابه (مجمع البيان) : وروى أصحابنا عن السيدين الباقر والصادق عليهما‌السلام : «إن المعني بالطاغوت : كل من يتحاكم إليه ممن يحكم بغير الحق» (٥). ولا ريب أن غير المأذون من جهتهم عليهم‌السلام ، بل المنهيّ عن ذلك ليس حاكما بالحقّ ولا إشكال في الحكم المذكور ، مع إمكان تحصيل الحقّ بحكام العدل. أما لو تعذّر ذلك ، فهل يجوز الترافع إليهم ، ويحل ما يؤخذ بحكمهم؟

إشكال ، وبالجواز صرح جملة من الأصحاب ، منهم شيخنا الشهيد الثاني قدس‌سره في (المسالك) بعد الكلام في الحكم المذكور : (ويستثنى منه ما لو توقف حصول حقّه عليه ، فيجوز كما يجوز الاستعانة على تحصيل الحقّ بغير القاضي. والنهي في هذه الأخبار وغيرها محمول على الترافع إليهم اختيارا مع إمكان تحصيل الغرض بأهل الحق ، وقد صرح به في خبر أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «أيما رجل بينه وبين أخ له مماراة في حق فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه ،

__________________

(١) في «ح» : اخذ.

(٢) في «ح» : طغيانهم ، بدل : طغيانه إلّا.

(٣) النساء : ٦٠.

(٤) دعائم الإسلام ٢ : ٤٥١ / ١٨٨٣.

(٥) مجمع البيان ٣ : ٨٥.

٢٥٢

فأبى إلّا أن يرافعه إلى هؤلاء كان بمنزلة الذين قال الله عزوجل : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)؟ الآية (١)» (٢)) (٣) انتهى.

واقتفاه في ذلك أيضا المحدث الكاشاني ـ طاب ثراه ـ قال : (ولعل في قوله سبحانه (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا) دون قوله [يتحاكمون] (٤) إشارة إلى ذلك أيضا) (٥) انتهى.

أقول : ومثل رواية أبي بصير المذكورة ، روايته الاخرى عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «يا أبا محمد ، لو كان لك على رجل حق ، فدعوته إلى حكام أهل العدل ، فأبى عليك إلّا أن يرافعك إلى حكام أهل الجور ليقضوا له ، لكان ممّن حاكم إلى الطاغوت ، وهو قول الله عزوجل (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا) الآية» (٦).

واستشكل الفاضل الخراساني قدس‌سره في كتاب (الكفاية) ، وقبله المحقق الأردبيلي ـ نوّر الله مضجعيهما (٧) ـ في الحكم المذكور ، فقال في كتاب (الكفاية) ـ بعد نقل كلام (المسالك) المتقدم ـ : (وفيه إشكال ؛ لأن حكم الجائر بينهما فعل محرم ، والترافع إليه يقتضي ذلك ، فيكون إعانة على الإثم ، وهي (٨) منهي عنها (٩)) (١٠) انتهى.

__________________

(١) النساء : ٦٠.

(٢) الكافي ٧ : ٤١١ / ٢ ، باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١١ ـ ١٢ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١ ، ح ٢.

(٣) مسالك الأفهام ١٣ : ٣٣٥ ـ ٣٣٦.

(٤) من المصدر ، وفي «ح» : تحاكموا ، وفي «ق» : يتحاكموا.

(٥) الوافي ١ : ٢٩٠ / ذيل الحديث : ٢٣٠.

(٦) الكافي ٧ : ٤١١ / ٣ ، باب كراهية الارتفاع إلى ولاة الجور.

(٧) في «ح» : مضجعه.

(٨) في «ح» : وهو.

(٩) في قوله تعالى (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ). المائدة : ٢.

(١٠) كفاية الأحكام : ٢٦٢.

٢٥٣

ولا يخفى ما فيه ؛ فإنه محض مصادرة ، فإن الخصم يدّعي تخصيص التحريم بما عدا هذه الصورة ؛ دفعا للحرج والضرورة ، ويجعل ذلك من قبيل التوصّل إلى أخذ الحقّ ممن ينكره ويجحده بسرقة وغيلة ونحو ذلك.

نعم ، لقائل أن يقول : إن عموم الأخبار الواردة في المقام شامل لما استثنوه ، والمخصص المذكور غير صريح في التخصيص ؛ فيجب الحكم بالتحريم مطلقا ، إلّا إن الظاهر أيضا أنه لا يخلو من شوب النظر ؛ فإن خبري أبي بصير المتقدمين قد دلّا على التحريم في من دعاه خصمه إلى حكام العدل فأبى إلّا الترافع إلى حكام الجور. وكذا ظاهر الآية بالنظر إلى سبب (١) نزولها ، وما عدا ذلك من الأخبار وقصاراه أن يكون مطلقا ، فيجب حمله على المقيد.

على أن مقبولة عمر بن حنظلة المذكورة ظاهرة في التقييد ، فإنه لما بين عليه‌السلام تحريم التحاكم إلى العامة ، وجعله من باب التحاكم إلى الطاغوت ، قال له الراوي : (كيف يصنعان إذن؟). فأمره عليه‌السلام بالرجوع إلى حكام العدل.

فظاهره أن محل التحريم ، هو الترافع إليهم ، مع وجود حكّام العدل ؛ إذ لو كان التحريم مطلقا ، لما كان لبيان المخرج في حيرة الراوي وسؤاله بالرجوع إلى حكام العدل وجه (٢) ، وكذلك روايتا (٣) أبي خديجة الآتيتان (٤).

وبالجملة ، فغاية ما تدلّ عليه الآية وأخبار المسألة المنع من التحاكم إليهم مع وجود حكّام العدل ، كما هو المفروض فيها. وحينئذ يبقى هذا الفرد خارجا عن أخبار المنع من التحاكم إلى الطاغوت.

وقال المولى المحقّق الأردبيليّ ـ نوّر الله تعالى مرقده ـ في كتاب (آيات

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) خبر (كان) في قوله : لما كان لبيان المخرج ...

(٣) من و «ح» ، وفي «ق» : رواية.

(٤) انظر الدرر ١ : ٢٥٨ / الهامش : ٦ ، ٢٥٩ / الهامش : ٢.

٢٥٤

الأحكام) بعد ذكر كلام في المقام : (وقد استثنى أكثر الأصحاب من ذلك صورة التعذر بأن يكون الحقّ ثابتا بينه وبين الله ولا يمكن أخذه إلّا بالتحاكم إلى الطاغوت ، وكأنه للشهرة ودليل العقل والرواية. ولكن الاحتياط عدم ذلك ، وعدم حجّيّة الشهرة ، وعدم استقلال العقل وظهور الرواية ، واحتمال اختصاص ذلك بعدم الحاكم ، مع إمكان الإثبات ، لو كان كما يشعر به بعض العبارات ، وأما إذا كان الحاكم موجودا بعيدا ، أو قريبا ولا يمكن الإثبات لعدم البينة ونحو ذلك ، ويكون منكرا فلا ، وإلّا انتفى فائدة التحاكم إلى الحقّ ونصب الحاكم ، فيكون لكل ذي حق أن يأخذ حقه على أي وجه أمكنه بنفسه وبالظالم. وهو مشكل إذا كان المال أمرا كليا.

نعم ، لو كان عينا موجودة ، ويمكن جواز أخذها [ف] له إن أمكن بغير مفسدة ، ويتحرى ما هو الأقل مفسدة.

وبالجملة ، لا يخرج عن ظاهر الآية [المحكمة] (١) إلّا بمثلها في الحجية) (٢) انتهى.

وقال في (شرح الإرشاد) ـ بعد أن صرح بتحريم التحاكم إليهم ، وتحريم ما يؤخذ بحكمهم ، وتقييد ذلك بالدين دون العين ـ ما لفظه : (ويحتمل تقييد ذلك بإمكان الأخذ بغير ذلك فتأمل واحتط (٣)) (٤) انتهى.

ولا يخفى ما في كلامه الأول بعد الإحاطة بما قدّمناه ، وما ذكره من التفصيل لا يخلو من النظر ، إلّا إن الاحتياط فيما ذكره قدس‌سره.

والظاهر عدم الإشكال فيما لو كان الأخذ بحكم الفقيه الجامع الشرائط وإن

__________________

(١) من المصدر ، وفي «ح» : في الحجيّة ، وفي «ق» : الآية.

(٢) زبدة البيان في أحكام القرآن : ٦٨٨ ـ ٦٨٩.

(٣) في «ح» : احفظ.

(٤) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ١١.

٢٥٥

كان بمعونة الجائر ومساعدته ؛ لتوقف الأخذ عليه ، وبذلك صرّح المحدّث الكاشاني ، طاب ثراه. ويظهر من المولى الأردبيليّ قدس‌سره في (آيات الأحكام) المنع هنا أيضا حيث قال : (ولا يبعد كون أخذ الحق أو غيره بمعونة الظالم القادر مثل التحاكم إلى الطاغوت ، ولا يكون مخصوصا بإثبات الحكم ؛ لوجود المعنى وإن كانت الآية مخصوصة به. وله مزيد قبح ؛ فإنه يرى أنه أخذ بأمر نائب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنه حق ، والظاهر أن تلك المبالغة مخصوصة به) (١) انتهى.

ويمكن تخصيص كلامه ـ طاب ثراه ـ بما لو كان الأخذ بمعونة الظالم من غير رجوع إلى حاكم العدل بالكلية ، بمعنى أنه استعان على أخذ حقّه بالظالم من غير حكم ولا إثبات من العدل ولا من الظالم ، وإلّا فالقول بالتحريم فيما فرضناه بعيد جدا ؛ فإن صاحب الحق إنّما أخذ حقه بحكم الحاكم الشرعي.

غاية الأمر أن يد الحاكم الشرعيّ لما كانت قاصرة عن تحصيله استعان بالجائر ، فالجائر (٢) إنّما هو بمنزلة الخادم لحاكم العدل.

ومما يؤيّد الجواز مضيّ السلف وجري الخلف من علمائنا الأبدال على هذا المنوال ، وحينئذ فلا إشكال. على أن ما ذكرناه أيضا من الوجه الذي حملنا عليه كلامه لا يخلو من شوب النظر :

أما أولا ، فلأن غاية ما دلّت عليه الآية (٣) والرواية (٤) الواردة في المسألة هو تحريم التحاكم إليهم ، لا مجرد الاستعانة. والقول بإلحاق الاستعانة بالتحاكم خال من الدليل.

__________________

(١) زبدة البيان في أحكام القرآن : ٦٨٨.

(٢) ليست في «ح».

(٣) النساء : ٦٠.

(٤) انظر : الفقيه ٣ : ٥ ـ ٦ / ١٨ ، الكافي ٧ : ٤١١ / ٢ ، ٣ ، دعائم الإسلام ٢ : ٤٥١ / ١٨٨٣ ، تهذيب الأحكام ٦ : ٣٠١ ـ ٣٠٢ / ٨٤٥ ، مجمع البيان ٣ : ٨٥ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١١ ـ ١٢ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١ ، ح ٢.

٢٥٦

وأما ثانيا ، فلأن مجرد الاستعانة لا قبح فيه ـ كما ادّعاه رحمه‌الله ـ ولا يستلزم ما ذكره من الأخذ بأمر نائب الرسول كما لا يخفى.

والظاهر أيضا قصر الحكم على ما لو كان المتداعيان من الشيعة ، فلو كان من عليه الحق مخالفا فلا يبعد جواز التوصّل إلى أخذ الحق منه بقضاتهم. وأخبار المسألة لا تأباه ؛ لاختصاص المنع فيها بالصورة الاولى ، كقوله في الرواية المذكورة من أصحابنا ، وفي روايتي أبي خديجة الآتيتين : «إياكم». وفي رواية أبي بصير الاولى (١) : «أخ له» وإن كانت الثانية مطلقة ، فتحمل على ذلك. وإلى ذلك يشير : «عاملوهم بما عاملوا به أنفسهم».

إلّا إنه قد ورد في صحيحة علي بن مهزيار عن علي بن محمد عليهما‌السلام (٢) : هل نأخذ في أحكام المخالفين ما يأخذون منا في أحكامهم؟ فكتب عليه‌السلام : «يجوز لكم ذلك إن شاء الله ، إذا كان مذهبكم فيه التقيّة منهم والمداراة لهم» (٣).

فإن الظاهر أن المراد من السؤال المذكور : أنه هل يجوز لنا أن نأخذ حقوقنا بحكم قضاتهم ، كما أنهم يأخذون منا حقوقهم بحكم قضاتنا؟ ولعل المراد من قوله عليه‌السلام : «إذا كان مذهبكم فيه التقية» ـ إلى آخره ـ : أنه يجوز لكم ذلك إذا كان رجوعكم إلى قضاتهم تقية ؛ لعدم إمكان تحصيل الحقّ منهم بوجه آخر من المرافعة إلى حكام العدل أو الأخذ بنوع اخر ، وخوف الضرر والفتنة بذلك ، ومداراة لهم بإظهار الرضا بقضاتهم ، وحل ما يقضون به.

__________________

(١) انظر : الكافي ٧ : ٤١١ / ٢ ، باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور ، دعائم الإسلام ٢ : ٤٥١ / ١٨٨٣ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١١ ـ ١٢ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١ ، ح ٢.

(٢) في «ح» بعدها : قال سألته.

(٣) تهذيب الأحكام ٦ : ٢٢٤ / ٥٣٥ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٢٦ ، أبواب آداب القاضي ، ب ١١ ، ح ١. ومثله رواية أيوب بن نوح ، وسائل الشيعة ٢٦ : ١٥٨ ، أبواب ميراث الإخوة ، ب ٤ ، ح ٣.

٢٥٧

الفائدة الثانية : في تخصيص الأردبيلي المنع بالدين دون العين

ظاهر المولى المحقق (١) الأردبيليّ ـ نوّر الله تربته ـ تخصيص التحريم في الخبر المذكور بالتحاكم في الدين دون العين ، حيث قال في (شرح الإرشاد) بعد نقل الخبر ما صورته : (تحريم التحاكم إليهم ، وتحريم (٢) ما أخذ بحكمهم في الدين ظاهر دون العين) (٣). ونقله سيدنا المحدث السيّد نعمة الله الجزائري قدس‌سره في (شرح التهذيب) عن المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحرّ العاملي ـ طاب ثراه ـ فقال بعد قوله عليه‌السلام في الخبر المذكور : «دين أو ميراث» ما لفظه : (لما نظر الفاضل الأردبيليّ ، وشيخنا صاحب (الوسائل) إلى هذا قيّدا التحريم بأخذ الدين بحكمهم لا العين. ويرد عليه :

أولا : ذكر الميراث وهو أعم منهما.

وثانيا : أن مناط الحكم هو جواب الإمام عليه‌السلام ، وقوله : «في حق أو باطل» ، ظاهر في التعميم. وحينئذ ، فلا معنى لذلك التقييد) انتهى.

وهو جيد ، وعليه تدلّ جملة من أخبار المسألة ، منها : رواية أبي خديجة ، قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : «إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى حكام (٤) الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا (٥) ، فاجعلوه بينكم ، فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه» (٦).

__________________

(١) في «ح» : المحقق المولى.

(٢) في المصدر بعدها : ما اخذ بحكمهم وإن كان الحقّ ثابتا في نفس الأمر وإن ذلك معنى الآية ، وتحريم. والظاهر أنه اشتباه في النقل.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ١١.

(٤) في المصدر : أهل.

(٥) في الفقيه : قضائنا.

(٦) الفقيه ٣ : ٢ / ١ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣ / أبواب صفات القاضي ، ب ١ ، ح ٥.

٢٥٨

وروايته الاخرى قال : بعثني أبو عبد الله عليه‌السلام إلى أصحابنا ، فقال : «قل لهم : إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى (١) بينكم في شي‌ء من الأخذ والعطاء أن تتحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق ، اجعلوا بينكم رجلا ممن قد عرف حلالنا وحرامنا ، فإني قد جعلته قاضيا. وإياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى السلطان الجائر» (٢).

وهما ظاهرتان في العموم ، وربما كان نظر المولى الأردبيليّ رحمه‌الله في التقييد بالدين إلى ما أشار إليه في كلامه المتقدّم نقله من كتاب (آيات الأحكام) (٣) من الفرق بين العين والدين بأن الدين أمر كلي ثابت في الذمة لا يتشخص ولا يتعين في عين مخصوصة إلّا برضا صاحبه ، أو جبر الحاكم الشرعي وتعيينه ، وهما منتفيان في المقام. وأما العين فإنها مستحقّة لصاحبها لا يحتاج في تعيينها إلى من هي بيده ، ولا إلى حاكم شرعي ، فيجوز لصاحبها أخذها متى تمكّن منها. والتوصل إلى أخذها بحكم الجائر من قبيل التوصل إلى أخذها بسرقة أو غيلة.

وفيه :

أولا : أن هذا الفرق اجتهاد في مقابلة نصّ الآية والرواية ، فإنها ـ كما عرفت ـ ظاهرة في العموم على وجه معلوم غير موهوم.

وثانيا : أنه من المحتمل قريبا ، بل هو الظاهر أن العلة في المنع من الترافع إليهم والأخذ بأحكامهم ـ وإن وافق الحكم الشرعي ـ إنّما هو لزوم إعلاء كلمتهم في دعوى الإمامة والخلافة ، وتقمص تلك الخلافة ؛ ولهذا استفاضت الأخبار (٤) بالمنع عن مساعدتهم بالأمور المباحة في نفسها ، بل المستحبة في حدّ ذاتها ، فما بالك

__________________

(١) التدارؤ : التدافع. الصحاح ١ : ٤٨ ـ درأ.

(٢) تهذيب الأحكام ٦ : ٣٠٣ / ٨٤٦ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣٩ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١١ ، ح ٦.

(٣) زبدة البيان في أحكام القرآن : ٦٨٨ ـ ٦٨٩.

(٤) انظر : تحف العقول : ٣٣٢ ، بحار الأنوار ١٠٠ : ٤٥ / ١١.

٢٥٩

بمثل الترافع إليهم والأخذ بحكمهم الذي هو منصب الرسالة وبيت الإيالة ، وإلى ذلك يشير قوله عليه‌السلام : «لأنه أخذه بحكم الطاغوت».

وحينئذ ، فالعلة جارية في كلا الفردين من عين أو دين ، قال المحقق المحدث الشارح المازندراني رحمه‌الله في (شرح اصول الكافي) ـ بعد قوله عليه‌السلام : «وإن كان حقا ثابتا له» ـ : (يفيد بظاهره عدم الفرق بين الدين والعين ، وقد يفرق بينهما بأن المأخوذ عوض الدين مال للمدّعى عليه انتقل إلى المدعي بحكم الطاغوت ، فلا يجوز له أخذه ، ولا التصرف فيه بخلاف العين ، فإنها مال المدعي وحق له وإن لزم عليه أخذها بحكم الطاغوت ، لكن يجوز له التصرف (١) فيها).

ثم قال ـ بعد قوله : «أنه أخذه بحكم الطاغوت وقد أمر الله أن يكفر به» ـ ما صورته : هذا التعليل أيضا يفيد عدم الفرق بينهما) (٢) انتهى.

وهو مؤيد لما قلناه ، ومؤكد لما فهمناه.

الفائدة الثالثة : في أن المستفاد من الإضافة في الحديث هو العموم

ظاهر الإضافة في قوله عليه‌السلام : «روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا» هو العموم ، فيقتضي أن النائب عنهم عليهم‌السلام يجب أن يكون مطلعا على جميع أخبارهم ، عارفا بجميع أحكامهم ، إلّا إنه لما كان ذلك مما يتعذّر غالبا ، فالظاهر أن المراد بما يتيسر ، بحسب الإمكان أو القدر الوافر منهما ، أو ما يتعلق بتلك الواقعة ، ويؤيده ما تقدم في رواية أبي خديجة الاولى ، وقوله فيها : «يعلم شيئا من قضايانا».

قال الفاضل الخراساني قدس‌سره في كتاب (الكفاية) : (وظن بعض المتأخرين أنه

__________________

(١) فيه بخلاف العين ... يجوز له التصرّف ، من «ح» ، والمصدر.

(٢) شرح اصول الكافي ٢ : ٤٠٩ ، ٤١٠.

٢٦٠