الدّرر النجفيّة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

يحدث في الوقت الثاني ما يوجب انتفاء الحكم الأول ، قال : (والعامل (١) بالاستصحاب ينبغي له غاية الملاحظة ـ في هذا الشرط ـ مثلا في مسألة من دخل في الصلاة بالتيمم ، ثم وجد الماء في أثناء الصلاة ينبغي للقائل بالبناء على تيممه وإتمام الصلاة للاستصحاب ـ ملاحظة النص الدال على أن التمكن من استعمال الماء ناقض للتيمم هل هو (٢) مطلق أو عام بحيث يشمل هذه الصورة أولا؟ فإن كان الأول ، فلا يجوز العمل بالاستصحاب ؛ لأنه حينئذ يرجع إلى فقد الشرط الأول حقيقة ، وإلّا فيصح التمسك به) انتهى.

أقول : ومرجع هذا الكلام إلى ما قدمنا عن المحدّث الأمين الأسترابادي قدس‌سره من أن هذه الصورة ليست في الحقيقة من الاستصحاب المتنازع فيه ؛ لأن ما دل على انتقاض التيمم بوجود الماء مطلق لا تقييد فيه بوقت مخصوص (٣) ولا حالة مخصوصة.

ومنها ألّا يكون هناك استصحاب آخر معارض له يوجب نفي الحكم الأول في الثاني ، مثلا في مسألة الجلد المطروح قد استدل جمع على نجاسته باستصحاب عدم الذبح نظرا إلى حال حياته ، ولم يعلم زوال عدم المذبوحية لاحتمال الموت حتف أنفه ، فيكون نجسا ؛ إذ الطهارة لا تكون إلّا مع الذبح. فإن فيه أن هذا الاستصحاب معارض باستصحاب آخر أيضا ، فإن طهارة الجلد في حال الحياة ثابتة إن لم يعلم زوالها ، لتعارض احتمال الذبح وعدمه ، فيتساقطان ويبقى الأصل الأول ثابتا.

واستند بعض آخر ممن قال بالنجاسة هنا إلى (٤) أن للذبح أسبابا حادثة ،

__________________

(١) في «ح» : القائل.

(٢) من «ح» والمصدر.

(٣) سقط في «ح».

(٤) ليست في «ح».

٢٢١

والأصل عدم الحادث ، فيكون نجسا (١).

وفيه ـ كما تقدم في الدرة (٢) الموضوعة للبراءة (٣) الأصلية ـ أن أصالة العدم أيضا مشروطة بشروط منها ألّا تكون مثبتة لحكم شرعي ، مع أنه أيضا معارض بأصالة عدم أسباب الموت (٤) حتف أنفه.

والتحقيق أن الحكم بالنجاسة في الجلد المذكور ـ بناء على ما ذكروا من الاستصحاب غلط محض ؛ وذلك أنه لا معنى للاستصحاب كما عرفت آنفا إلّا بثبوت الحكم بالدليل في وقت ، ثم إجرائه في وقت ثان ؛ لعدم قيام دليل على نفي الحكم المذكور أوّلا (٥) في الوقت الثاني ، مع بقاء الموضوع في الوقتين وعدم تغيره. فثبوت الحكم في الوقت الثاني فرع (٦) على ثبوته في الوقت الأول ، وإلّا فكيف يمكن إثباته في الثاني مع عدم ثبوته أولا. واستصحاب عدم المذبوحية في المسألة المذكورة لا يوجب الحكم بالنجاسة ؛ لأن النجاسة لم تكن ثابتة في الوقت الأول وهو وقت الحياة. ووجهه أن عدم المذبوحية لازم لأمرين : أحدهما الحياة ، وثانيهما الموت حتف أنفه.

والموجب للنجاسة ليس هو هذا اللازم من حيث هو ، بل ملزومه الثاني ، أعني الموت حتف أنفه. فعدم المذبوحية اللازم للحياة مغاير لعدم المذبوحية اللازم للموت حتف أنفه ، والمعلوم ثبوته في الزمن الأول هو الأول لا الثاني. وظاهر أنه غير باق في الوقت الثاني.

__________________

(١) منه في الوافية في اصول الفقه : ٢٠٩.

(٢) انظر الدرر ١ : ١٥٥ ـ ١٨٦ / الدرة : ٦.

(٣) في «ح» : في البراءة.

(٤) عدم أسباب الموت ، ليس في «ح».

(٥) لست في «ح».

(٦) في «ح» : متفرع.

٢٢٢

(١٠)

درة نجفية

في ذم العجب في الأخبار المعصومية

قد استفاض في الأخبار عن الأئمَّة الأطهار ـ صلوات الله عليهم ـ ذم العجب وأنه مهلك ، كما ورد في جملة منها : «ثلاث مهلكات : شح مطاع ، وهوى متّبع ، وإعجاب المرء بنفسه» (١).

والعجب [ممّا] (٢) ما ذكره بعض المحققين [من أنه] عبارة عن (استعظام العمل الصالح واستكثاره والابتهاج به والإدلال به ، وأن يرى نفسه خارجا عن حد التقصير) (٣).

وقيل : إنه عبارة عن (هيئة نفسانية تنشأ من تصور الكمال في النفس والفرح به والركون إليه ، من حيث إنه قائم به وصفة له مع الغفلة عن قياس النفس إلى الغير بكونها أفضل منه.

وبهذا القيد ينفصل عن الكبر ؛ إذ لا بد في الكبر أن يرى الإنسان لنفسه مرتبة ولغيره مرتبة ، ثم زيادة مرتبته على مرتبة الغير. وهذا التعريف أعم من

__________________

(١) المحاسن ١ : ٦٢ / ٣ ، وسائل الشيعة ١ : ١٠٢ ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب ٢٣ ، ح ١٢.

(٢) سقط في «ح» ، وفي «ق» : على.

(٣) شرح الكافي (المازندراني) ٩ : ٢١٣ ، مرآة العقول ١٠ : ٢١٨.

٢٢٣

الأول (١) بحمل الكمال فيه على ما هو أعم من أن يكون كمالا في نفس (٢) الأمر ، أو لم يكن كسوء العمل إذا رآه حسنا فابتهج به) (٣).

وهو الأنسب بأخبار (٤) الباب ، والأول أعم من أن يكون فعله كالأعمال الصالحة أو لا ، كالصورة الحسنة والنسب الرفيع. والمفهوم من الأخبار (٥) أن للعجب مراتب ، منها أن يزيّن الشيطان للإنسان سوء عمله فيراه حسنا ؛ لعدم التفاته إلى مفاسده الظاهرة بأدنى تأمل ، وإخراجه نفسه عن حد التقصير ، فيحسب أنه يحسن صنعا ، وإليه يشير قوله سبحانه وتعالى (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) (٦) ، وقوله سبحانه (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (٧).

قال بعض فضلاء متأخّري المتأخّرين : (أكثر الجهلة على هذه الصفة ، فإنهم يفعلون أفعالا قبيحة عقلا ونقلا ، ويعتادون عليها حتى تصير تلك الأعمال بتسويل أنفسهم وتزيين قرينهم من صفات الكمال عندهم ، فيذكروها ويتفاخروا بها ، ويقولوا : إنا فعلنا كذا وكذا إعجابا بشأنهم وإظهارا لكمالهم) (٨) انتهى.

أقول : ويدخل في هذه المرتبة (٩) أصحاب المقالات المبتدعة والأهواء المخترعة ، المخالفون للشرائع الحقة والنواميس المحقّة (١٠) ، الداخلون في ذلك

__________________

(١) في المصدر : المذكور ، وهو إشارة إلى قوله : هو استعظام العمل الصالح ... ، حيث إنه مذكور ضمن كلام المازندراني أيضا كما اشير له في الهامش : ٣.

(٢) في «ح» : النفس.

(٣) شرح الكافي (المازندراني) ٩ : ٣١٣.

(٤) وسائل الشيعة ١ : ٩٨ ـ ١٠٧ ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب ٢٣ ـ ٢٤.

(٥) الكافي ٢ : ٣١٣ / ٣ ، باب العجب.

(٦) فاطر : ٨.

(٧) الكهف : ١٠٤.

(٨) شرح الكافي (المازندراني) ٩ : ٣١٥.

(٩) في «ح» : الرتبة.

(١٠) في «ح» : المحققة.

٢٢٤

بمجرد العقول الحائرة الفاسدة ، والأوهام البائرة الكاسدة ممّن (١) طبع الشيطان على قلبه ، وأخذ بمجامع عقله ولبه.

ومنها أن يمن على الله تعالى بطاعته مع كونها بإقداره سبحانه وتوفيقه وتمكينه ، وله تعالى المنة فيها وفي غيرها ، وإليه يشير قوله تعالى (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ) (٢) الآية.

وعلى هاتين المرتبتين تدل صحيحة علي بن سويد عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : سألته عن العجب الذي يفسد الأعمال ، فقال : «العجب درجات : منها أن يزيّن للعبد سوء عمله ، فيراه حسنا ؛ فيعجبه ويحسب أنه يحسن صنعا ، ومنها أن يؤمن العبد ، فيمن على الله ، ولله عليه (٣) فيه المن» (٤).

ومنها : استكثار ما يأتي به من الطاعات واستعظامه ، ومنه ما ورد في رواية إسحاق بن عمار عن الصادق عليه‌السلام قال : إني عالم عابد. فقال عليه‌السلام : «كيف صلاتك؟».

فقال : مثلي يسأل عن صلاته ، وأنا أعبد الله منذ كذا وكذا؟ فقال : «كيف بكاؤك؟» : فقال : أبكي حتى تجري دموعي. فقال له العالم عليه‌السلام : «فإن ضحكك وأنت خائف أفضل من بكائك وأنت مدلّ ، إن المدل لا يصعد من عمله شي‌ء» (٥).

وفي مرسلة أحمد بن محمّد عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «يدخل المسجد رجلان أحدهما عابد والآخر فاسق ، فيخرجان من المسجد والفاسق صدّيق والعابد فاسق ؛ وذلك أنه يدخل العابد المسجد مدلا بعبادته يدلّ بها ، فتكون فكرته في ذلك ، ويكون فكرة الفاسق في الندم على فسقه ، ويستغفر الله مما صنع من الذنوب» (٦).

وفي صحيح أبي عبيدة الحذاء عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «قال

__________________

(١) في «ح» : عن.

(٢) الحجرات : ١٧.

(٣) من المصدر.

(٤) الكافي : ٢ : ٣١٣ / ٣ ، باب العجب.

(٥) الكافي ٢ : ٣١٣ / ٥ ، باب العجب.

(٦) الكافي ٢ : ٣١٤ / ٦ ، باب العجب.

٢٢٥

الله تعالى : إن من عبادي المؤمنين لمن يجتهد في عبادتي ، فيقوم من رقاده ولذيذ وساده ، فيجتهد في الليالي ، فيتعب نفسه في عبادتي ، فأضربه بالنعاس الليلة والليلتين نظرا مني له ، وإبقاء عليه ، فينام [حتى] (١) يصبح ، فيقوم وهو ماقت لنفسه زار عليها. ولو اخلّي بينه وبين ما يريد من عبادتي ، لدخله العجب من ذلك ، فيصيره العجب إلى الفتنة بأعماله ، فيأتيه من ذلك ما فيه هلاكه ؛ لعجبه بأعماله ، ورضاه عن نفسه ، حتى يظن أنه قد (٢) فاق العابدين وجاز في عبادته حد التقصير ، فيتباعد بذلك عني ، وهو يظن أنه يتقرب إليّ (٣)» الحديث (٤).

ولا ريب أن العجب بالمعنيين الأوّلين مفسد للعمل ، بل ربما كان نوعا من الكفر مع الاعتقاد الجازم.

أما بالنسبة إلى الأول ، فإن اعتقاد سوء العمل حسنا مع دلالة (الكتاب) والسنّة على قبحه إبداع في الدين وإن غفل عنه صاحبه اعتمادا على مجرد عقله ، وانهماكه فيه تبعا لدواعي نفسه الأمّارة. ويرشد إلى ذلك ظاهر الآيتين خصوصا الثانية ، حيث دلت بأبلغ وجه على أنهم الأخسرون أعمالا ، معقّبا بقوله (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) (٥).

ومن هنا يعلم صحة ما ذكرنا من دخول أصحاب المقالات المبتدعة والأهواء المخترعة ، ويؤيده ما رواه الثقة الجليل علي بن ابراهيم القمي قدس‌سره في تفسيره عن الباقر عليه‌السلام في قوله سبحانه (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) (٦) : «إنهم

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : فيقوم حين.

(٢) من «ح» والمصدر.

(٣) ليست في «ح».

(٤) الكافي ٢ : ٦٠ ـ ٦١ / ٤ باب الرضا بالقضاء ، وسائل الشيعة ١ : ٩٨ ـ ٩٩ ، أبواب مقدمة العبادات ، ب ٢٣ ، ح ١.

(٥) الكهف : ١٠٥.

(٦) الكهف : ١٠٣.

٢٢٦

النصارى ، والقسيسون ، والرهبان ، وأهل الشبهات ، والأهواء من أهل القبلة ، والحرورية ، وأهل البدع» (١).

وأما بالنسبة إلى الثاني ، فلأن الاعتقاد بأن له المنة على الله تعالى بشي‌ء من الأعمال لا ينشأ من قلب مؤمن عارف بالله سبحانه أدنى معرفة ؛ لأن من أدناها معرفة أنه الخالق الرازق ، وهما يستغرقان جميع النعم اصولا وفروعا ، بل إنّما ينشأ من كافر مكذب ل (القرآن) لقوله سبحانه (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) (٢) أو من مبدع مفوض يعتقد أن الله سبحانه لا يقدر على سلب قدرة العبد على الفعل وقت الفعل ، وإن كان هو الذي خوّله [إياها] (٣) أولا.

وقد عرفت كفر أصحاب البدع مما سبق في الآية المتقدمة ، بل استظهر بعض مشايخنا المحققين من متأخّري المتأخّرين أن مطلق تجويز الخلاف فيما علم بدليل قطعي من كتاب أو سنة كفر وإبداع ؛ لأنه لا يتم إلّا باخراج الدليل عن كونه دليلا وهو (٤) معنى التكذيب به ، والتكذيب به تكذيب الرسل أو المرسل (٥) انتهى ، وهو حسن.

وأما العجب بالمعنى الثالث ، فالظاهر أنه لا يخلو عن إجمال.

ووجه التفصيل فيه أنه إن كان استكثار ما يأتي به من الطاعة ، واستعظامه بالنسبة إلى ما يستحقه سبحانه من الطاعة ، أو ما لله سبحانه عليه من النعم ، فهو راجع في التحقيق إلى المعنى الثاني ؛ إذ يلزم منه أن طاعته حينئذ زائدة على مستحقه تعالى ، فيكون منّة منه على الله تعالى. ولا ريب أنه بذلك يمتنع القصد إليها من حيث كونها طاعة له سبحانه مستحقة ، وأنه أهلها.

__________________

(١) تفسير القمّي ٢ : ٤٤.

(٢) النحل : ٥٣.

(٣) في النسختين : إياه.

(٤) ليست في «ح».

(٥) في «ح» : المرسل أو الرسل.

٢٢٧

وإن كان استكثار ذلك في مقابلة معاصيه ، بمعنى أنه يعتقد أن طاعاته زائدة على معاصيه ، أعم من أن يكون ذلك مطابقا للواقع كما ربما يتخيل أولا كما هو المحقق الواقع ، فالظاهر (١) كما اختاره بعض محققي مشايخنا من متأخري المتأخرين أن ذلك لا يقتضي كفرا ولا إبداعا ، بل ولا فساد عمل وإن كان خطأ في الاعتقاد ، ونقصا في كمال الايمان ؛ لكونه الذنب الذي إذا أذنبه الإنسان استحوذ عليه الشيطان.

قال : ويرشد إلى كونه خطأ في الاعتقاد موثقة الفضل بن يونس عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : قال لي : «أكثر من أن تقول (٢) : لا تجعلني من المعارين ، ولا تخرجني من التقصير». قال : قلت : أما المعارون فقد عرفت ، فما معنى «لا تخرجني من التقصير»؟ قال : «كل عمل تعمله تريد به وجه الله ، فكن فيه مقصرا عند نفسك ، فإن الناس كلهم في أعمالهم فيما بينهم وبين الله مقصرون» (٣).

وإلى كونه نقصا في كمال الإيمان ، لكونه ذنبا ، مرسلة يونس عن بعض أصحابنا عن الصادق عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : بينما موسى عليه‌السلام جالس إذ أقبل إبليس ، وعليه برنس ذو ألوان ، فلما دنا من موسى عليه‌السلام سلم عليه».

إلى أن قال : «قال له موسى عليه‌السلام : أخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه؟ فقال : إذا أعجبته نفسه ، واستكثر عمله ، وصغر في عينه ذنبه.

وقال : قال الله عزوجل لداود : يا داود بشر المذنبين ، وأنذر الصديقين. قال : كيف ابشر المذنبين وانذر الصديقين؟ قال : يا داود ، بشر المذنبين أني أقبل التوبة ، وأعفو عن

__________________

(١) في النسختين : والظاهر.

(٢) في «ح» : قول ، بدل : أن تقول.

(٣) الكافي ٢ : ٧٣ / ٤ ، باب الاعتراف بالتقصير ، وسائل الشيعة ١ : ٩٦ ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب ٢٢ ، ح ٢.

٢٢٨

الذنب ، وأنذر الصديقين أن يعجبوا بأعمالهم ، فإنه ليس عبد أنصبه للحساب إلا هلك» (١).

وما ورد في أخبار كثيرة من تفضيل العبد حالة الذنب عليه حالة العجب ، كحسنة (٢) عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إن الرجل ليذنب الذنب فيندم عليه ، ويعمل العمل فيسره فيتراخى عن حاله (٣) تلك ، فلأن يكون على حالة تلك خير له مما دخل فيه» (٤).

وروايته الاخرى قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يعمل العمل وهو خائف مشفق ، ثم يعمل من البر فيدخله شبه العجب به ، فقال : «هو في حاله (٥) الاولى وهو خائف أحسن (٦) منه في حال عجبه» (٧).

وحاصل ما ذكره قدس‌سره أن غاية ما يستفاد من الأخبار بالنسبة إلى هذه المرتبة كونه ذنبا موجبا لنقصان كمال الإيمان ، ولا دلالة فيها على إفساد العمل به ، بمعنى أنه يوجب القضاء وإن أحبطه وأسقط ثوابه ؛ لأن غايته أن من الذنوب المحيطة المهلكة ، لاعتقاده خلاف ما هو الواقع من خروجه من حد التقصير ، فيما يجب عليه ، ولا تعلق له بإخلاص الطاعة له سبحانه والتقرّب (٨) إليه وأداء ما يجب من حقوقه تعالى ، مثل المعاني المتقدمة وإن كان استكثار ذلك بالنسبة إلى أبناء نوعه المشاركين له في تلك الأعمال كاستكثار العالم علمه بالنسبة إلى من يشاركه في العلم ، والعابد عبادته بالنسبة إلى غيره من العباد.

__________________

(١) الكافي ٢ : ٣١٤ / ٨ ، باب العجب.

(٢) في «ح» : لحسنة.

(٣) في «ح» : من حالة ، بدل : عن حاله.

(٤) الكافي ٢ : ٣١٣ / ٤ ، باب العجب ، وسائل الشيعة ١ : ٩٩ ـ ١٠٠ ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب ٢٣ ، ح ٤.

(٥) في «ح» : حال.

(٦) في «ح» : أحسن حال.

(٧) الكافي ٢ : ٣١٤ / ٧ ، باب العجب.

(٨) في «ح» : التعريف.

٢٢٩

وهكذا مع قطع النظر عن أن يرى نفسه بذلك خارجا عن حد التقصير ، فالظاهر أنه بهذا المعنى لا يكون محرّما ولا مهلكا فضلا عن أن يكون مبطلا وإن أخطأ في ظنه.

نعم ، ربما كان ذلك سبيلا إلى الوقوع في سابق هذه المرتبة من العجب الذي يرى به نفسه خارجا عن حد التقصير ، وربما خطر هذا الخاطر للمعصومين عليهم‌السلام كما ورد في رواية خالد الصيقل عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : «إن الله فوض الأمر إلى ملك من الملائكة فخلق سبع سماوات وسبع أرضين ، فلما رأى أن الأشياء قد انقادت إليه قال : من (١) مثلي؟ فأرسل الله إليه نويرة من النار». قلت : وما النويرة؟ قال : «نار مثل الأنملة ، فاستقبلها بجميع ما خلق ، فتخللت حتى وصلت إلى نفسه لمّا دخله العجب» (٢).

ومنه ما روى عن الرضا عليه‌السلام في قضية تسوّر الملكين المحراب (٣) على داود عليه‌السلام (٤) وتخاصمهما عنده ، حيث «ظن أن ما خلق الله عزوجل أعلم منه ، فبعث إليه الملكين ... فعجل داود على المدّعى عليه ، فقال (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) (٥) ، ولم يسأل المدّعي البينة على ذلك ، ولم يقبل على المدّعى عليه فيقول له :ما تقول؟» (٦).

وما روى أيضا في شأن موسى عليه‌السلام في قضية أمره باتباع الخضر عليه‌السلام من أنه «قال في نفسه : ما خلق الله خلقا أعلم مني. فأوحى الله عزوجل إلى جبرئيل أن أدرك

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) المحاسن ١ : ٢١٤ / ٣٩١ ، وسائل الشيعة ١ : ١٠٢ ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب ٢٣ ، ح ١١.

(٣) في النسختين : على المحراب.

(٤) قوله : على داود عليه‌السلام ، ليس في «ح».

(٥) ص : ٢٤.

(٦) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٩٤ / ب ١٤ ، ح ١.

٢٣٠

موسى فقد هلك ، وأعلمه أن عند ملتقى البحرين رجلا أعلم منك ، فصر إليه وتعلّم من علمه ، فنزل جبرئيل على موسى وأخبره ، وذل موسى في نفسه ، وعلم أنه أخطأ ودخله الرعب» (١).

وفي آخر أيضا : «فبينا موسى عليه‌السلام قاعد في ملأ من بني اسرائيل ؛ إذ قال له رجل : ما أرى أحدا أعلم بالله منك! قال موسى : ما أرى ، فأوحى الله إليه : بل عبدى الخضر» (٢) الحديث.

وفي وقوعه من هؤلاء الثابتة عصمتهم بالدليل العقلي والنقلي دلالة على عدم التحريم ، وأنه ليس بذنب وإن سمّي بالنسبة إليهم هلاكا كما في الحديث الأول من حديث موسى ، أو استوجب مؤاخذة ، كما في حديث الملك. فإن المستفاد من الأخبار المأثورة والأدعية المشهورة أن المعصومين ـ صلوات الله عليهم ـ ربما عدّوا المباحات ذنوبا بالنسبة إليهم ، كما حقّق في محل آخر. وقد قيل : إن (حسنات الأبرار سيئات المقربين) (٣).

بقي هنا شيئان :

أحدهما : أنه قد ورد في رواية يونس بن عمار عن الصادق عليه‌السلام قال : قيل له ـ وأنا حاضر : الرجل يكون في صلاته خاليا ، فيدخله العجب؟ فقال : «إذا كان أول صلاته يريد بها ربّه ، فلا يضره ما دخله بعد ذلك ، فليمض في صلاته وليخسأ الشيطان» (٤) ، فإنه ربما أشعر بأن العجب المنافي للإخلاص إنّما هو الواقع في

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٣٦ ، باختلاف يسير.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ٣٦٠ / ٤٨ ، باختلاف يسير.

(٣) انظر كشف الخفاء ١ : ٣٥٧ / ١١٣٧ ، وقد نسبه ـ عن ابن عساكر ـ لأبي سعيد الخراز ، ونسبه ـ عن الزركشي ـ للجنيد.

(٤) الكافي ٣ : ٢٦٨ / ٣ ، باب من حافظ على صلاته أو ضيعها ، وسائل الشيعة ١ : ١٠٧ ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب ٢٥ ، ح ٣.

٢٣١

ابتداء العمل. وأما الواقع في أثنائه بعد (١) افتتاحه على جهة الإخلاص فلا ، وهو خلاف المفهوم من الأخبار ؛ إذ لا فرق في إبطاله العمل ومنافاته الإخلاص إذا وقع على أحد تلك المعاني بين الابتداء والأثناء.

والظاهر أن المراد من العجب هنا : مجرد الوسوسة التي لا صنع للعباد فيها ، المسماة بالنزغ في قوله سبحانه (وَإِمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) (٢) المأمور بالذكر عنده في قوله سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا) (٣).

والمراد من الخبر حينئذ أن الصلاة إذا بنيت على نية صحيحة ، فلا يضره ما دخله بعد ذلك على جهة الوسوسة من الشيطان ، كما يشير إليه قوله عليه‌السلام : «وليخسأ الشيطان».

وثانيهما : أنه ينبغي أن يعلم أنه لا ينبغي أن (٤) يدخل في باب العجب محبة الإنسان ظهور الخير له بين الناس وسروره برؤيتهم له كذلك ، إذا لم يكن ذلك باعثا له على الفعل ، وكذلك مجرد سروره هو بعمله.

أما الأوّل ، فلما ورد في حسنة زرارة عن الباقر عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يعمل الشي‌ء من الخير ، فيراه الناس ، فيسرّه ذلك ، قال عليه‌السلام : «لا بأس ، ما من أحد إلّا وهو يحبّ أن يظهر له في الناس الخير إذا لم يكن يصنع ذلك لذلك» (٥).

وأما الثاني ، فلما في رواية أبي العباس قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «من سرته

__________________

(١) في «ح» بعدها : أن يكون.

(٢) الأعراف : ٢٠٠.

(٣) الأعراف : ٢٠١.

(٤) ينبغي أن ، ليس في «ح».

(٥) الكافي ٢ : ٢٩٧ / ١٨ ، باب في اصول الكفر وأركانه ، وسائل الشيعة ١ : ٧٥ ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب ١٥ ، ح ١.

٢٣٢

حسنة وساءته سيئة ، فهو مؤمن» (١).

وفي رواية اخرى عنه عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حين سئل : من خيار العباد؟ قال : «الذين إذا أحسنوا استبشروا ، وإذا أساءوا استغفروا» (٢) الحديث.

قال بعض المحققين : (لا ريب أن من عمل الأعمال الصالحة من قيام الليل ، وصيام الأيام ، وأمثال ذلك يحصل لنفسه ابتهاج ، فإن كان من حيث كونه عطية من الله له ونعمة عليه ، وكان مع ذلك خائفا من نقصها (٣) مشفقا من زوالها طالبا من الله الازدياد منها ، لم يكن ذلك الابتهاج عجبا وإن كان من حيث كونها صفته وقائمة به ومضافة إليه (٤) ، فاستعظمها وركن إليها ورأى نفسه خارجا من حد التقصير بها ، وصار كأنه يمن على الله بسببها ، فذلك هو العجب المهلك) (٥) انتهى.

ولا ينافي ذلك ما ورد في بعض الأخبار عن الباقر عليه‌السلام من قوله لجابر رضي‌الله‌عنه : «لا تكون مؤمنا حتى تكون بحيث لو اجتمع اهل مصرك على أنك رجل سوء لم يحزنك ذلك ، واجتمعوا على أنك رجل خير لم يسرّك ذلك» (٦) ، فإنه محمول على الفرد الأكمل من الإيمان ، وللناس مراتب ودرجات على حسب مراتب الإيمان ودرجاته ، ولكل خطاب بنسبة ما هو عليه من ذلك ، والله العالم.

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٣٢ / ٦ ، باب المؤمن وعلاماته وصفاته.

(٢) الكافي ٢ : ٢٤٠ / ٣١ ، باب المؤمن وعلاماته وصفاته ، وسائل الشيعة ١ : ١٠٦ ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب ٢٤ ، ح ٢.

(٣) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : نقصهما.

(٤) في «ح» : إليها.

(٥) الأربعون حديثا (البهائي) : ٣٤٠ / شرح الحديث : ٢٦ ، عنه في مرآة العقول ١٠ : ٢١٨ ـ ٢١٩ ، باب العجب.

(٦) تحف العقول : ٢٨٤.

٢٣٣
٢٣٤

(١١)

درة نجفية

في حكم الجمع بين الفاطميتين

روى الثقة الجليل علي ابن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام في كتابه عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : سألته عن الاختلاف في القضاء عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في أشياء من الفروج أنه لم يأمر بها ولم ينه عنها ، إلّا إنه نهى نفسه وولده ، فقلت : فكيف يكون ذلك؟ قال : «أحلّتها آية ، وحرمتها آية». قلت : هل تصلح أن تكون أحدهما منسوخة أم لا ، أم هما محكمتان ينبغي أن يعمل بهما؟ قال : «قد بيّن إذ نهى نفسه وولده». قلت : فما منعه أن يبيّن للناس؟ قال : «خشي ألّا يطاع. ولو أن أمير المؤمنين عليه‌السلام ثبتت قدماه ، أقام كتاب الله كله وصلى حسن وحسين عليهما‌السلام وراء مروان ونحن نصلي معهم» (١).

وروى هذا (٢) الشيخ قدس‌سره في (التهذيب) عن معمر بن يحيى بن بسام هكذا : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عمّا يروي الناس عن أمير المؤمنين عليه‌السلام عن أشياء من الفروج لم يكن يأمر بها ولا ينهى عنها إلّا نفسه وولده ، فقلنا : كيف ذلك؟ قال : «أحلتها آية ، وحرمتها آية (٣)». فقلنا : هل تكون أحدهما نسخت الاخرى ، أم هما محكمتان

__________________

(١) مسائل علي بن جعفر : ١٤٤ / ١٧٣ ، باختلاف

(٢) في «ح» بعدها : المضمون.

(٣) في «ح» والمصدر بعدها : اخرى.

٢٣٥

ينبغي أن يعمل بهما؟ قال : «قد بيّن (١) لهم ؛ إذ نهى نفسه وولده». فقلنا : ما منعه أن يبيّن للناس؟ قال : «خشي ألّا يطاع ، فلو أن أمير المؤمنين عليه‌السلام ثبتت قدماه أقام كتاب الله كله والحق كله» (٢).

قال الشيخ ناصر بن محمد الجارودي ـ نسبة إلى الجارودية إحدى قرى الخط ـ في كتاب ألفه لترتيب أحاديث علي بن جعفر ، ونظمها في أبواب متّسقة وربما تكلم في بعض المواضع منه ـ بعد أن نقل حديث علي بن جعفر المذكور ، وأردفه بحديث (التهذيب) أيضا ـ ما صورته : (أقول : لعلّ المراد (٣) من هذين الحديثين الجمع بين اثنتين من ولد فاطمة عليها‌السلام في النكاح ، يدلّ على ذلك ما رواه الشيخ في (التهذيب) عن علي بن الحسن عن السندي بن الربيع (٤) عن محمّد بن أبي عمير عن رجل من أصحابنا قال : سمعته عليه‌السلام يقول : «لا يحل لأحد أن يجمع بين اثنتين من ولد فاطمة ؛ إن ذلك يبلغها ، فيشق عليها». قلت : يبلغها؟ قال : «إي والله» (٥) انتهى.

والظاهر أن الشيخ المذكور تبع في هذا الحمل الشيخ المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح البحراني قدس‌سرهما ، فإنه كان خصيصا به ، فإن الشيخ عبد الله المزبور قدس‌سره (٦) في كتاب (منية الممارسين في أجوبة الشيخ ياسين) حمل الخبرين المذكورين على ذلك حيث قال ـ بعد سؤال السائل عن الجمع بين فاطميتين : (هل يجوز أم لا؟) ـ ما صورته : (ذهب أصحابنا إلى جواز الجمع بينهما ، ولم

__________________

(١) في «ح» : تبيّن.

(٢) تهذيب الأحكام ٧ : ٤٦٣ / ١٨٥٦ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٣٩٧ ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، ب ٨ ، ح ٨.

(٣) في «ح» : نقل المرادي ، بدل : لعل المراد.

(٤) في «ح» : الرفيع ، وفي المصدر : سندي بن ربيع.

(٥) تهذيب الأحكام ٧ : ٤٦٣ / ١٨٥٥ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٥٠٣ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ب ٤٠ ، ح ١.

(٦) في «ح» : المرقوم.

٢٣٦

أعرف من واحد (١) منهم خلافا ، إلّا من شيخنا العلّامة المحدث الشيخ محمد بن الحسن بن علي الحر العاملي فإنه ذهب إلى التحريم (٢). وكان (٣) شيخنا علامة الزمان يتوقف في هذه المسألة ويأمر بالاحتياط فيها ، حتى إني سمعت من ثقة من أصحابنا أنه أمره بطلاق واحدة من نسائه ؛ لأنه كان تحته فاطميتان. ونقل عنه أنه يرى التحريم ، إلّا إني لم أعرف منه غير التوقف) (٤).

ثم استدل للشيخ محمد بن الحسن الحر بمرسلة ابن أبي عمير المتقدمة ، وقال : (وجه الاحتجاج من وجهين :

الأول : أن نفي التعليل صريح في المنع ؛ ولأن النكرة في سياق النفي تفيد العموم.

الثاني : التعليل بكونه يبلغ فاطمة عليها‌السلام فيشق عليها ، ولا ريب أن الأمر الذي يشق عليها يؤذيها ، وإيذاؤها محرم ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني» (٥).

ولقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) (٦).

فيكون المؤدي إلى إيذائها محرّما ، فيكون الجمع بين الفاطميتين محرما بنص (الكتاب) والسنّة).

ثم أورد موثقة معمر بن يحيى بن بسام المتقدمة وقال : (إن إيراد الشيخ هذا الحديث ـ يعني الموثقة المذكورة ـ بعد هذا الحديث المذكور سابقا بلا فصل ـ يعني مرسلة ابن أبي عمير ـ كأنه فهم أنه في حكمه ، ولعل الجمع بين الفاطميتين كان عند الأئمَّة عليهم‌السلام محرما ، ولم ينهوا عنه شيعتهم إلّا نادرا فلم

__________________

(١) في «ح» والمصدر : أحد.

(٢) انظر بداية الهداية : ١٢٤.

(٣) في «ح» بعدها : من.

(٤) منية الممارسين : ٥٤٨.

(٥) ينابيع المودّة ٢ : ٣٢٢ / ٩٣١.

(٦) الأحزاب : ٥٧.

٢٣٧

يشتهر عند الشيعة لموضع التقية) (١).

وبالجملة ، فصريح الحديث يعطي أن شيئا من الفروج منهي عنه ، وإنّما لم ينه عنه ؛ لعدم المكنة ، ولم نعرف أن شيئا من الفروج منهيّ عنه ولم يشتهر بين الناس غير هذا الحكم ، فيكون فيه تأييد لما قبله) (٢) انتهى كلامه زيد إكرامه.

ولا يخفى عليك ما في حمل هذين الشيخين لما تقدم من الخبرين على الجمع بين الفاطميتين من البعد والتمحّل الظاهر في البين ، فإن منطوق الخبرين المذكورين لذلك (٣) الحكم : «أحلته آية وحرمته آية» ، ولم نعرف أن في (القرآن) العزيز آية تدل على تحريم الجمع بين الفاطميتين ، لا إجمالا ولا تفصيلا. وتكلف إرادة التحريم من آية (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) بمعونة الحديثين المذكورين ـ أعني حديث البلوغ والمشقة ـ وحديث (أن إيذاءها عليها‌السلام إيذاء له صلى‌الله‌عليه‌وآله) لا يخفى ما فيه على ذي مسكة. على أن المعنى المراد من الخبرين المذكورين ممّا قد صرّحت به الأخبار ، وأوضحته الآثار عنهم عليهم‌السلام. والذي وقفت عليه من الأخبار في ذلك ثلاثة :

أحدها : ما رواه الشيخ ـ عطر الله مرقده ـ في (التهذيب) عن البزوفري عن حميد عن الحسن بن محمد بن سماعة عن الحسين بن هاشم عن ابن مسكان عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال محمد بن علي عليه‌السلام في اختين مملوكتين يكونان عند الرجل جميعا ، قال : قال علي عليه‌السلام : أحلتها آية وحرمتها آية ، وأنا أنهى عنهما (٤) نفسي وولدي» (٥).

__________________

(١) منية الممارسين : ٥٥٠.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) في «ح» : ان ذلك.

(٤) من المصدر ، وفي النسختين : عنها.

(٥) تهذيب الأحكام ٧ : ٢٨٩ / ١٢١٥ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٨٣ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ب ٢٩ ، ح ٣.

٢٣٨

والشيخ قدس‌سره بعد أن نقل هذا الحديث في المنافي حمل الآية المحللة على آية الملك (١) ، والآية المحرّمة على آية الوطء (٢) ، قال : (ولا تنافي بين الآيتين ، ولا بين القولين ، وحمل نهي نفسه عليه‌السلام وولده ، إما على التحريم وأراد به : الوطء ، أو على الكراهة وأراد به : الجمع في الملك) (٣) ؛ لأنه صرح قبل هذا الحديث بكراهة الجمع في الملك (٤) ، ثم قال : (ويمكن أن يكون قوله عليه‌السلام : «أحلتها آية» أي عموم آية ، وظاهرها يقتضي ذلك ، وكذلك قوله : «وحرمتها آية» اخرى ، أي عموم الآية يقتضي ذلك ، إلّا إنه إذا تقابل العمومان على هذا الوجه ينبغي أن يخصّ أحدهما بالآخر. ثم بين بقوله : «أنا أنهي نفسي وولدي» ما يقتضي تخصيص إحدى الآيتين وتبقية الاخرى على عمومها.

وقد روي هذا الوجه ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، روى ذلك علي بن الحسن بن فضال ، عن محمد وأحمد ابني الحسن ، عن أبيهما ، عن ثعلبة بن ميمون عن معمر بن يحيى بن بسام) (٥) ، وساق الرواية المتقدمة إلى آخرها.

أقول : لا يخفى أن الوجه الثاني هو الأقرب ؛ لأن ظاهر الحديث أن مورد الحلّ والحرمة أمر واحد ، وليس إلّا الوطء خاصة ؛ إلّا إن إحدى (٦) الآيتين في الملك والاخرى في الوطء. على أن ما ادّعاه قدس‌سره من كراهية الجمع في الملك غير ثابت ؛ لما سنشير إليه إن شاء الله تعالى. وحينئذ ، فالآية المحللة فيما قلناه هي قوله تعالى (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) (٧)

__________________

(١) الآية : ٥ ـ ٦ من سورة (المؤمنون).

(٢) الآية : ٢٣ من سورة النساء.

(٣) تهذيب الأحكام ٧ : ٢٨٩ / ذيل الحديث : ١٢١٥.

(٤) تهذيب الأحكام ٧ : ٢٨٩ / ذيل الحديث : ١٢١٤.

(٥) تهذيب الأحكام ٧ : ٤٦٣ / ١٨٥٦ ، الاستبصار ٣ : ١٧٣ / ٦٢٩ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٣٩٧ ، أبواب ما يحرم بالرضا ، ب ٨ ، ح ٨.

(٦) في «ح» : لأن احدا ، بدل : إلّا إن إحدى.

(٧) المؤمنون : ٥ ـ ٦.

٢٣٩

والآية المحرمة هي قوله تعالى (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) (١) ، ومورد الحل والحرمة فيها هو الوطء.

وروى العيّاشي في تفسيره عن أبي العون عن أبي صالح [الحنفي] (٢) قال : قال علي عليه‌السلام ذات يوم : «سلوني». فقال ابن الكوّاء : أخبرني عن بنت الأخ من الرضاعة ، وعن المملوكتين الاختين.

إلى أن قال : «وأما المملوكتان الاختان ، فأحلّتهما آية وحرّمتهما آية ، ولا احلّه ولا احرّمه ، ولا أفعله أنا ولا أحد من أهل بيتي» (٣).

والذي يظهر من الروايتين المذكورتين أن عدم إفتائه عليه‌السلام بالتحريم صريحا كان تقية من المخالفين ، فاقتصر عليه‌السلام على إظهار نهي نفسه وولده عن ذلك ، ويدل على ذلك تصريح الأخبار الواردة عنهم عليهم‌السلام بالتحريم ، كصحيحة عبد الله بن سنان قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «إذا كانت عند الرجل الاختان المملوكتان ، فنكح إحداهما ، ثم بدا له في الثانية فنكحها ، فليس ينبغي له أن ينكح الاخرى ، حتى تخرج الاولى من ملكه ؛ يهبها أو يبيعها» (٤).

وأما ما استند إليه الشيخ رحمه‌الله في الحكم بكراهة الجمع ، من صحيحة علي بن يقطين قال : سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن اختين مملوكتين وجمعهما؟ قال : «مستقيم (٥) ولا أحبه لك». قال : وسألته عن الام والبنت المملوكتين ، قال : «هو أشدهما ولا أحبّه

__________________

(١) النساء : ٢٣.

(٢) من المصدر ، وفي النسختين : الخثعمي ، ولم نعثر عليه بهذا اللفظ. انظر تهذيب الكمال في أسماء الرجال ٣٣ : ٤١٧.

(٣) تفسير العياشي ١ : ٢٥٨ / ٧٩ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٨٦ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ب ٢٩ ، ح ١٢.

(٤) تهذيب الأحكام ٧ : ٢٨٨ / ٢١٢ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٨٢ ، أبواب ما يلزم بالمصاهرة ونحوها ، ب ٢٩ ، ح ١.

(٥) في «ح» : بياض بمقدارها.

٢٤٠