الدّرر النجفيّة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

(٩)

درة نجفية

في حجيّة الاستصحاب

اعلم أنه قد اختلف الأصحاب ـ نوّر الله تعالى مراقدهم ـ في حجّيّة الاستصحاب ، وحيث كان كثير الدوران في مقام الاستدلال ، ومستندا لجملة من الأعيان في مقام الجدال ، مع كونه متعدد الأقسام التي بعضها يصلح للاحتجاج والإلزام ، وبعضها عار عن الحجية وإن ادعتها أقوام ، أحببت بسط الكلام في بيانه ، وإطلاق عنان القلم ساعة في ميدانه ، وتحقيق ما هو الحقّ في المقام المستفاد من أخبار أهل الذكر ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فنقول : للاستصحاب أقسام :

أحدها : استصحاب نفي الحكم الشرعي إلى أن يرد دليل على ثبوته ، وهو المعبر عنه بالبراءة الأصلية. وهو يشتمل على فردين ؛ لأن الحكم الشرعي المنفي ، إما أن يكون وجوبا أو تحريما ، والفردان قد تقدم إيضاحهما في الدرّة (١) الموضوعة في البراءة الأصليّة (٢).

ومحط النزاع في الحجية وعدمها هو أحد فرديها ، وهو نفي التحريم في فعل وجودي إلى أن يقوم دليله ، وأمّا الأمر ـ وهو نفي الوجوب في فعل وجودي إلى أن يقوم دليله ـ فلا إشكال في حجيته كما أوضحناه ثمة ، فالاستصحاب إن وقع

__________________

(١) في «ح» : إيضاحها في درة ، بدل : إيضاحهما في الدرّة.

(٢) انظر الدرر ١ : ١٥٥ ـ ١٨٦ / الدرة : ٦.

٢٠١

في الفرد الأول فهو باطل بما أبطلناه به هناك ، وإن وقع في الفرد الثاني فلا بأس به ، إلّا إن حجيته هنا في التحقيق ليس من حيث كونه استصحاب الحالة السابقة ، بل من حيث إن الإنسان إذا خلّي ونفسه كانت ذمّته بريئة عن تعلق التكليف ، سواء كانت التخلية في الزمان السابق ، أم اللاحق.

وثانيها : استصحاب حكم العموم إلى أن يرد مخصّص ، وحكم النصّ إلى أن يرد ناسخ. وهذا مما لا خلاف في حجّيّته والعمل به.

وثالثها : استصحاب حكم ما ثبت شرعا ، كالملك بعد وجود سببه ، وشغل الذمة عند اتلاف او التزام إلى أن يثبت رافعه. هكذا عبّر به الأصحاب عن هذا القسم (١).

والأظهر التعبير عنه باستصحاب إطلاق النص إلى أن يثبت المقيد ؛ فإن مرجع هذا القسم إلى العمل بإطلاق النصّ والاستناد إليه ؛ ولأن التعبير بما ثبت شرعا يوهم الشمول للقسم الآتي. وهذا القسم أيضا ممّا لا إشكال [فيه] بل ولا خلاف في الاستناد إليه ، والعمل في الأحكام عليه ، وفروعه في الأحكام الشرعية أكثر من أن يأتي عليها قلم الإحصاء ، أو تدخل في حيّز الاستقصاء ، فمنها استصحاب الحكم بطهارة شي‌ء أو نجاسته ، واستصحاب الحكم بصحّة الطهارة من الحدث ، واستصحاب الحكم بالحلية في المشتبه الغير المحصور ، واستصحاب الملك بعد وقوع سببه والنكاح ، وما يترتب عليه بعد وقوع عقده ورقيّة العبد ولو بعد فقده ، وكون النهار باقيا والليل باقيا والذمّة مشغولة بعبادة ونحوها ، إلى أن يظهر شي‌ء مما جعله الشارع رافعا لهذه الأحكام.

ورابعها : استصحاب حكم شرعي في موضع طرأت فيه حالة لم يعلم شمول الحكم لها ، بمعنى أنه ثبت حكم في وقت ، ثم يجي‌ء (٢) وقت آخر لا يقوم دليل

__________________

(١) انظر القواعد والفوائد : ١٣٣ / القاعدة : ٣٩.

(٢) في «ح» بعدها : في.

٢٠٢

على انتفاء ذلك الحكم فيه ، فيحكم ببقائه على ما كان ؛ استصحابا لتلك الحال الاولى. وبعبارة اخرى : إثبات الحكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه.

وهذا هو محل الخلاف في المقام ، ومنتصل سهام النقض والإبرام.

فجملة من الاصوليين ـ بل قيل : أكثرهم ـ على القول بحجيته. والمشهور بين المحدثين ، وجملة من الاصوليين ، بل نقل البعض (١) أنه مذهب أكثرهم ، ومنهم الشيخ المفيد (٢) ، والسيد المرتضى (٣) ، والمحقق الحلي (٤) ، والمحقق الشيخ حسن ابن شيخنا العالم الرباني الشهيد الثاني (٥) والسيد السند صاحب (المدارك) (٦) ـ قدس الله أرواحهم ـ على عدم حجيته ، ومثلوا له بالمتيمم إذا دخل في الصلاة ثم وجد الماء في أثنائها ، فإن الاتفاق واقع على وجوب المضيّ فيها قبل الرؤية ، فهل يستمر على فعلها والحال كذلك بناء على الاستصحاب ، أم يستأنف؟

وزاد بعض أصحابنا المحقّقين من متأخّري المتأخّرين قسما آخر ، وهو استصحاب حال العقل ، قال : (القسم الثاني : استصحاب حال العقل ، أي الحالة السابقة ، وهي عدم شغل الذمّة عند عدم دليل وأمارة عليه ، والتمسّك به بأن يقال : إن الذمة لم تكن مشغولة بهذا الحكم في الزمن السابق أو الحالة الاولى ، فلا تكون مشغولة في الزمان اللاحق أو الحالة الاخرى ، وهذا إنّما يصحّ إذا لم يتجدّد ما يوجب شغل الذمة في الزمان الثاني. ووجه حجيّته حينئذ ظاهر ؛ إذ التكليف بالشي‌ء مع عدم الإعلام به تكليف (٧) ما لا يطاق) (٨) انتهى.

__________________

(١) معالم الاصول : ٣١٩.

(٢) التذكرة في اصول الفقه (ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد) ٩ : ٤٥.

(٣) الذريعة إلى اصول الشريعة ٢ : ٨٢٩ ـ ٨٣٠.

(٤) معارج الاصول : ٢٠٦.

(٥) معالم الاصول : ٣٢٤.

(٦) مدارك الأحكام ١ : ٤٦ ـ ٤٧.

(٧) في «ح» ، والمصدر بعدها : الغافل وتكليف.

(٨) الوافية في اصول الفقه : ١٧٨.

٢٠٣

وفيه أن مرجع ذلك إلى (١) ما ذكرنا من الفرد الآخر من القسم الأول ـ أعني : نفي الوجوب في فعل وجودي إلى أن يقوم دليله ـ فإنه لمّا اعتبر في هذا القسم الذي ذكره عدم العلم بتجدّد ما يوجب ثبوت الحكم في الزمان اللاحق بعد الفحص المعتبر في الحكم ببراءة الذمة ، اشتركا في العلة الموجبة التي هي لزوم التكليف بما لا يطاق.

نعم ، ربما يظهر وجه الفرق بينهما ، بأن الاستدلال في هذا القسم الذي ذكره ، مبنيّ على انتفاء الحكم في الزمان السابق ، وإجرائه في اللاحق بالاستصحاب ؛ فيرد عليه ما يرد على حجيّة الاستصحاب في نفس الحكم الشرعي. ولهذا اعترضت الشافعية (٢) على الحنفية بأن قولهم بالاستصحاب في نفي الحكم دون نفسه تحكّم ، وبناؤه في القسم الأول على انتفاء الدليل على ثبوت الحكم في الحال ، سواء وجد في السابق أم لا ، إلّا إن فيه :

أولا : أن اعتبار عدم العلم بتجدد ما يوجب ثبوت الحكم في الزمن اللاحق بعد الفحص ، يوجب رجوعه إلى الأول كما عرفت.

وثانيا : أنه لما كان مرجع حجّيّة الأول كما ذكرنا ثمة إلى أن الإنسان إذا خلّي ونفسه كانت ذمته بريئة من تعلق التكليف ، سواء كانت التخلية في الزمن السابق أو اللاحق فلا يظهر لهذا الفرق حينئذ وجه. وبذلك يظهر أيضا سقوط إيراد الشافعية على الحنفية بالقول بحجية الاستصحاب في نفي الحكم دون ثبوته ، فإن ذلك ليس تحكما كما ادعوه.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنه قد استدلّ القائلون بحجية الاستصحاب ، بالمعنى الرابع بوجوه :

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) انظر : الفوائد المدنيّة : ١٤٤ ، الوافية في اصول الفقه : ١٨٣.

٢٠٤

أحدها : أن المقتضي للحكم الأول ثابت ، والمعارض لا يصلح رافعا له ، فيجب الحكم بثبوته في الثاني. أمّا أن المقتضي للحكم الأول ثابت ؛ فلأنا نتكلم على هذا التقدير ؛ وأما أن المعارض لا يصلح رافعا ؛ فلأن المعارض إنّما هو احتمال تجدد ما يوجب زوال الحكم ، لكن احتمال ذلك يعارضه احتمال عدمه ، فيكون كل واحد منهما مدفوعا بمقابله ، فيبقى الحكم الثابت سليما عن المعارض.

وثانيها : أن الثابت أولا ، قابل للثبوت ثانيا ، وإلّا لانقلب من الإمكان الذاتي إلى الاستحالة ، فيجب أن يكون في الزمان الثاني جائز الثبوت كما كان أولا ، فلا ينعدم إلّا لمؤثّر ، لاستحالة خروج الممكن عن أحد طرفيه إلى الآخر إلّا لمؤثر.

فإذا كان التقدير عدم العمل بالمؤثر يكون بقاؤه أرجح من عدمه في اعتقاد المجتهد ، والعمل بالراجح واجب.

وثالثها : أن الفقهاء عملوا باستصحاب الحال في كثير من المسائل ، والموجب للعمل هناك موجود في موضع الخلاف ، وذلك كمسألة من تيقن الطهارة وشك في الحدث فإنه يعمل على يقينه وكذلك العكس ، ومن تيقّن طهارة ثوبه في حالة بنى على ذلك حتى يعلم خلافها ، ومن شهد بشهادة يبني على بقائها حتى يعلم رافعها ، ومن غاب غيبة منقطعة حكم ببقاء أنكحته ولم تقسم أمواله وعزل نصيبه من المواريث. وما ذلك إلّا لاستصحاب حال حياته. وهذه العلة موجودة في موضع الاستصحاب ، فيجب العمل به.

ورابعها : أن العلماء مطبقون على وجوب إبقاء الحكم مع عدم الدلالة الشرعية على ما تقتضيه البراءة الأصليّة ، ولا معنى للاستصحاب إلّا هذا.

وهذه الوجوه الأربعة نقلها المحقق الشيخ حسن قدس‌سره في (المعالم) حجة للقائلين بالاستصحاب ، وسكت في (١) الجواب عنها (٢) ، مع أن المفهوم منه عدم القول بذلك.

__________________

(١) في «ح» : عن.

(٢) معالم الاصول : ٣٢١ ـ ٣٢٣.

٢٠٥

احتج السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه على عدم جواز العمل به بأن في استصحاب الحال جمعا بين حالتين مختلفتين في حكم من غير دلالة. فإنا إذا كنا أثبتنا الحكم في الحالة الاولى بدليل فالواجب أن ننظر إن (١) كان الدليل. إنّما هو للحالة الاولى فقط ، والثانية عارية عن (٢) الدليل ، فلا يجوز إثبات الحكم لها من غير دليل.

وجرت هذه الحالة مع الخلو من الدليل مجرى الاولى لو (٣) خلت من دلالة ، فإذا لم يجز إثبات الحكم للأولى إلّا بدليل ، فكذلك الثانية.

ثم أورد سؤالا حاصله أن ثبوت الحكم في الحالة الاولى يقتضي استمراره إلّا لمانع ؛ إذ لو لم يجب ذلك لم يعلم استمرار الأحكام في موضع ، وحدوث الحوادث لا يمنع من ذلك.

وأجاب بما ملخّصه : أنه لا بدّ من اعتبار الدليل الدالّ على ثبوت الحكم في الحالة الاولى وكيفية إثباته ، وهل ثبت ذلك في حالة واحدة على سبيل الاستمرار؟ وهل تعلق بشرط مراعى أو لم يعلق؟

قال : (وقد علمنا أن الحكم الثابت (٤) في الحالة الاولى وإنّما ثبت بشرط فقد الماء ، فالماء في الحالة الثانية موجود ، واتّفقت الأمة على ثبوته في الاولى ، واختلفت في الثانية ، فالحالتان مختلفتان) إلى آخر كلامه (٥) ، منحه الله تعالى جزيل إكرامه.

ومنه يعلم وجه الجواب عن الوجهين الأوّلين من أدلّة القائلين بالحجية ، وتوضيحه أن الدليل الدال على الحكم في الحالة الاولى إذا كانت دلالته مقصورة على تلك الحالة على وجه لا عموم فيه بحيث يتناول ما عداها ، فكيف يصح أن

__________________

(١) في «ح» : فإن.

(٢) في «ح» : من.

(٣) في «ح» : ولو.

(٤) في «ح» : ثابت.

(٥) الذريعة إلى اصول الشريعة ٢ : ٨٢٩ ـ ٨٣١.

٢٠٦

يقال : العارض (١) لا يصلح أن يكون رافعا له ، وأنه لا ينعدم إلّا بمؤثر ؛ إذ الغرض أنه لا دليل على ذلك الحكم في الحالة الثانية ، فلا حكم فيها (٢) حتى ينازع في رفعه وانعدامه؟

والاحتياج إلى الرافع أو المؤثر إنّما يتم لو اقتضاه الدليل على الدوام ، وأمّا إذا اقتضاه في الحالة الاولى وسكت عن الثانية ، فيكفي في انتفائه فيها عدم الدلالة عليه وإن لم يقم على انتفائه فيها دليل. وظنّ بقاء الحكم ممنوع ، ضرورة أن الممكن إنّما يبقى بحسب ما يقتضيه السبب الموجب له.

وبهذا يظهر الجواب أيضا عما استدل به بعض المحققين على الحجية أيضا من أنه قد تقرّر في الاصول أن البقاء لا يحتاج إلى دليل في نفسه ؛ إذ الأصل أن ما ثبت دام إلى وجود قاطع ، وذلك معنى الاستصحاب. وقد أجيب عنه أيضا أن ما ثبت جاز أن يدوم وألّا يدوم ، فلا بد لدوامه (٣) من دليل سوى دليل (٤) الثبوت.

وأمّا الجواب عن الثالث ، فبأنه قياس مع الفارق ، فإن تلك الأشياء المعدودة من قبيل القسم الثالث أو الثاني ، وأن الأخبار الدالة على تلك المسائل المعدودة ، قد دلت على ثبوت تلك الحالات مستمرة إلى وجود الرافع لها ، كقولهم عليهم‌السلام : «كل شي‌ء طاهر حتى تعلم أنه قذر» (٥) ، و «كل شي‌ء فيه حلال وحرام ، فهو لك حلال حتى تعلم الحرام بعينه فتدعه» (٦) ، و «إياك أن تحدث وضوءا (٧) حتى تستيقن أنك

__________________

(١) في «ح» : العارض.

(٢) في «ح» بعدها : حينئذ.

(٣) في «ح» : من دوامه.

(٤) ليست في «ح».

(٥) تهذيب الأحكام ١ : ٢٨٥ / ٨٣٢ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٦٧ ، أبواب النجاسات ب ٣٧ ، ح ٤ ، وفيهما : كل شي‌ء نظيف.

(٦) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٤٠ ، باب النوادر ، وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ٤ ، وفيهما : هو لك حلال.

(٧) في المصدر بعدها : أبدا.

٢٠٧

أحدثت» (١) ، و: «لا تنقض اليقين بالشك وإنّما تنقضه بيقين آخر» (٢). ونحو ذلك.

وكلها ـ كما ترى ـ صريحة الدلالة في دوام تلك الحال إلى أن يحصل ما يزيلها. وهذا بمعزل عن معنى الاستصحاب الذي يجعلونه دليلا برأسه وقسيما للأخبار إذ هو كما عرفت أن يثبت (٣) حكم في وقت ، ثم يأتي وقت آخر ، ولا يقوم دليل على انتفاء ذلك الحكم فيه ؛ فيحكم ببقائه على ما كان. والحكم في هذه الأخبار قد ثبت مستمرّا إلى تلك الغايات المذكورة فيها.

وأيضا فالنافون له يقولون : إنه لا يكفي في العمل به في الحالة الثانية عدم دليل انتفائه ؛ لأن دليل انتفائه فرع ثبوته ، بل لا بد من دليل الثبوت.

قال المحقق الحلي (٤) ـ عطر الله مرقده ـ على ما نقله عنه في كتاب (المعالم) (٥) : (والذي نختاره نحن أن ننظر في الدليل المقتضي لذلك الحكم ؛ فإن كان يقتضيه مطلقا وجب القضاء باستمرار الحكم كعقد النكاح مثلا فإنه يوجب حل الوطء مطلقا. فإذا وقع الخلاف في الألفاظ التي يقع بها الطلاق ، وكقوله : أنت خليّة أو بريّة ، فإن المستدل على أن الطلاق لا يقع بهما لو قال : حل الوطء ثابت ، قبل النطق بهذه ، فيجب أن يكون ثابتا بعدها لكان استدلاله صحيحا ؛ لأن المقتضي للتحليل ـ وهو العقد ـ اقتضاه مطلقا ، ولا يعلم أن الألفاظ المذكورة رافعة لذلك الاقتضاء ، فيكون الحكم ثابتا ؛ عملا بالمقتضي.

لا يقال : المقتضي هو العقد ، ولم يثبت أنه باق ، فلم يثبت الحكم.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٣ / ١ ، باب الشك في الوضوء ... ، وسائل الشيعة ١ : ٢٤٧ ، أبواب نواقض الوضوء ، ب ١ ، ح ٧.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٨ / ١١ ، وسائل الشيعة ١ : ٢٤٥ ، أبواب نواقض الوضوء ، ب ١ ، ح ١ ، باختلاف فيهما.

(٣) في «ح» : ثبت.

(٤) معارج الاصول : ٢٠٩ ـ ١١٠.

(٥) معالم الاصول : ٣٢٣ ـ ٣٢٤.

٢٠٨

لأنا نقول : وقوع العقد اقتضى حل الوطء لا مقيدا بوقت ، فلزم دوام الحلّ نظرا إلى وقوع المقتضي لا إلى دوامه ، فيثبت الحل حتى يثبت الرافع. فإن كان (١) الخصم يعني بالاستصحاب ما أشرنا إليه ؛ فليس ذلك عملا من غير دليل ، وإن كان يعني أمرا وراء ذلك ؛ فنحن عنه مضربون) (٢) انتهى. وقريب منه كلامه في (المعتبر) (٣) أيضا.

وأمّا الجواب عن الرابع : فبأن الموضع الذي أطبق العلماء على وجوب إبقاء الحكم مع عدم الدلالة الشرعية على ما تقتضيه البراءة الأصلية إنّما هو في أحد فرديها ، وهو نفي الوجوب في فعل وجودي حتّى يقوم (٤) دليله. وقد عرفت آنفا أن الموجب للعمل بالاستصحاب في هذه الصورة إنّما هو الخروج عن لزوم التكليف بما لا يطاق ، مع أن في موضع النزاع قد طرأت حالة بسببها تغير موضوع (٥) المسألة (٦) ؛ فوجه الفرق بين الموضعين ظاهر.

على أنك قد عرفت أيضا أن مقتضى التحقيق ، أن حجية هذا الفرد ليس من

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) معارج الأصول : ٣٢٣ ـ ٣٢٤.

(٣) المعتبر ١ : ٣٢.

(٤) في «ح» : إلى أن.

(٥) في «ح» : قد تغير موضع ، بدل : تغير موضوع.

(٦) لا يقال : عدم العلّة تؤثر في عدم المعلوم.

لأنا نقول : قد تحقق في موضعه أن هذا الكلام مجازي ؛ إذ لا تأثير حينئذ ولا تأثر في الأعدام ؛ لكونها لا شيئا محضا. والمراد من تأثير العدم في العدم : عدم تأثير الوجود في الوجود ، والمراد من احتياج عدم الممكن إلى علة : احتياج إلى عدم تأثير الوجود في الوجود.

وتوضيح الفرق بين ما إذا كانت الحالة السابقة حكما عدميا ، وبين ما إذا كانت حكما شرعيا وجوديّا أنه إذا لم ينعكس ملابسه في الواقع أو في الظاهر بدوام الحكم العدمي ولا بعدم [...] (١) عدم الدوام لقاعدة : عدم العلّة علة العدم كما تقدّم. منه دام ظلّه. (هامش «ح»).

__________________

١ ـ كلمة غير مقروءة.

٢٠٩

حيث استصحاب الحالة السابقة ، كما هو موضع البحث ، بل من حيث إن الإنسان إذا خلّي ونفسه كانت ذمته بريئة عن تعلق التكليف به ، سواء كانت التخلية في الزمان السابق أو اللاحق. فالمرجع حينئذ إلى العمل بالأصل الذي هو بمعنى الحالة الراجحة ، كما في قولهم : (الأصل في الكلام الحقيقة) بمعنى أن الراجح حمل اللفظ على معناه الحقيقي ، مع عدم صارف عنه.

وكما في قولهم : (الأصل العدم) ، فإنه مبني على أن كلّ ممكن إذا خلي ونفسه ترجّح عدمه على وجوده ؛ لأن المراد من التخلية ، عدم تأثير مؤثر.

ولهذا أن جملة من نفى القول بالاستصحاب كالسيد السند في (مدارك الأحكام) اعتمد على البراءة الأصلية بهذا المعنى ، قال قدس‌سره في الكتاب المذكور ـ في مقالة الماء الكثير المتغير بالنجاسة في بيان عدم طهره بزوال التغيير بدون مطهر شرعي بعد نقل الاحتجاج بالاستصحاب ورده ـ ما هذا لفظه : (والحق أن الاستصحاب ليس بحجة إلّا فيما دل الدليل على ثبوته ودوامه ، كاستصحاب الملك عند جريان السبب).

إلى أن قال : (فإن الاستصحاب عبارة عن التمسّك بدليل عقلي كأصالة البراءة ، أو شرعي ، كالأمثلة المتقدمة) (١) انتهى.

ويدل على عدم حجية الاستصحاب بالمعنى المتنازع فيه وجوه :

أحدها : عدم ظهور دلالة شرعية على اعتباره ؛ لما عرفت من القدح في أدلة المثبتين. وهو كاف في المطلوب.

وثانيها : أن مفاده ـ بناء على ما ذكروه ـ إنّما هو الظن ، وقد قامت الأدلة القاطعة من الآيات والروايات ـ كما بسطنا الكلام فيه في كتاب (المسائل) ـ على عدم

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٤٦ ـ ٤٧.

٢١٠

جواز العمل على الظن في أحكامه تعالى ، وهم قد خصّوها بالاصول المطلوب القطع فيها. والمسألة من الاصول عندهم ، فكيف يسوغ البناء فيها على الظن؟! هذا مع أن وجود الظن هنا أيضا ممنوع ؛ لأن موضوع المسألة مقيد بالحالة الطارئة ، وموضوع المسألة الاولى مقيد بنقيض تلك الحالة ، فكيف يظن بقاء الحكم الأول؟

وثالثها : أنه لا يخفى على من تتبع الأخبار (١) ، وغاص في لجج تلك البحار أنه قد ورد من الشارع في بعض الصور حكم يوافق الاستصحاب بالمعنى الذي ذكروه (٢) وفي بعضها ما يخالفه ، وبذلك يعلم (٣) أن الاستصحاب ليس حكما كليا ، ولا قاعدة مطّردة تبنى عليها الأحكام الشرعية. ومن تأمل في أحاديث مسألة التيمّم إذا وجد الماء بعد الدخول في الصلاة التي هي المثال الدائر عندهم للاستصحاب ظهر له صحة ما قلناه ؛ فإن بعضها قد دل على أنه ينصرف من الصلاة ويتوضأ ما لم يركع ؛ وبعضها على أنه يمضي في صلاته مطلقا ركع أو لم يركع ، وبعضها على أنه ينصرف بعد أن صلّى ركعة ويتوضأ ويبني على ما مضى.

وجل الأخبار دالة على الانصراف ، ولكن بعضها : «ما لم يركع» (٤) ، (وبعضها ولو بعد تمام الركعة) (٥) ، ولم يرد بالمضي إلّا رواية محمد بن حمران (٦).

__________________

(١) وسائل الشيعة ٣ : ٣٨١ ـ ٣٨٣ ، أبواب التيمّم ، ب ٢١.

(٢) في «ح» : قد ذكره.

(٣) من «ح».

(٤) تهذيب الأحكام ١ : ٢٠٠ / ٥٨٠ ، وسائل الشيعة ٣ : ٣٨١ ، أبواب التيمّم ، ب ٢١ ، ح ١.

(٥) انظر وسائل الشيعة ٣ : ٣٨٣ ، أبواب التيمم ، ب ٢١ ، ح ٥ ، ٦.

(٦) تهذيب الأحكام ١ : ٢٠٣ / ٥٩٠ ، الاستبصار ١ : ١٦٦ / ٥٧٥ ، وسائل الشيعة ٣ : ٣٨٢ ، أبواب التيمّم ، ب ٢١ ، ح ٤ ، وكذا وردت بالمضي رواية زرارة ومحمّد بن مسلم.

انظر : الفقيه ١ : ٥٨ / ٢١٤ ، تهذيب الأحكام ١ : ٢٠٥ / ٥٩٥ ، الاستبصار ١ : ١٦٧ ـ ١٦٨ / ٥٨٠ ، وسائل الشيعة ٣ : ٣٨٢ ، أبواب التيمّم ، ب ٢١ ، ح ٤.

٢١١

وحينئذ ، فلو كان الاستصحاب الذي اعتمدوه ومثلوا له بهذا المثال دليلا برأسه لوجب على هذا المصلي ـ بمقتضى ذلك ـ المضيّ في صلاته ، ولزم منه طرح هذه الأخبار. وفيه من البطلان ما لا يحتاج إلى حينئذ البيان.

ورابعها : أن هذا الموضع من المواضع الغير المعلوم حكمه تعالى منه ، وقد تواترت الأخبار (١) في مثله ، بوجوب التوقف والعمل بالاحتياط.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أن الذي يظهر من المحدث الأمين الأسترابادي قدس‌سره في تعليقاته على (المدارك) هو استنباط معنى آخر للاستصحاب قد اختاره وذهب إليه ، واعتمد في جملة من المواضع عليه ، قال : (وهو إجراء الحكم السابق الشرعي أو نفيه ، إجراء ظاهريا ما لم يثبت رافعه ، بمعنى أنه إذا ثبت من الشارع حكم من الأحكام وجب العمل به ، فإذا حصلت شبهة توجب التردد في رفع الحكم وعدمه ، وجب الفحص والبحث عن حكم الله سبحانه الواقعي في ذلك ، فإن حصل عمل على مقتضاه ، وإلّا أجرى الحكم الأوّل إجراء ظاهريّا بمعنى أنه لا يجوز القطع بكونه حكم الله تعالى واقعا ، فإنه بعد عروض الشبهة المذكورة لا يدري أن الله سبحانه يديم الحكم أو لا يديمه ، كما لا يعلم أنه ينسخ الحكم الفلاني بعد ثبوته أو لا ينسخه.

فعند عروض شبهة النسخ يجب الفحص هل النسخ واقع أم لا؟ ومع العجز يجب إجراء الحكم السابق إلى ظهور خلافه. وقد علم من الدين ضرورة انقسام الأحكام إلى ظاهري وواقعي ، واعتبار كل واحد منهما ، وأن مناط أكثر الأحكام في نشأة التكليف هو الأول) انتهى كلامه ، زيد مقامه.

وأنت خبير بأن هذا المعنى الذي ذكره شامل لكل من القسم الثالث والرابع ،

__________________

(١) انظر وسائل الشيعة ٢ : ٢٧٢ ـ ٢٧٤ ، أبواب الحيض ، ب ٢ ، ح ١ ، ٢.

٢١٢

ولا فرق بينه وبين القسم المتنازع فيه إلّا باعتبار أن اولئك القائلين بحجية الاستصحاب يستندون في حجيته إلى ما دل على الحالة الاولى ويجرونه في الحالة الثانية بالاستصحاب ، على حسب ما ورد في الحالة الاولى من غير فرق بين الحالين. وهو قدس‌سره يجريه كذلك إلّا إنه يفرق في الدلالة بين الحالين : ففي الحال الاولى الحكم (١) عنده قطعي واقعي بناء على ما يختاره ويذهب إليه من إفادة الأدلة للقطع واليقين.

وفي الحالة الثانية بسبب عروض الشبهة ، واحتمال إدامة الله سبحانه الحكم واقعا ؛ وعدم إدامته مع الفحص والعجز عن الدليل في موضع الشبهة ، يحصل الحكم ظاهريا. ثم إنه قدس‌سره استدلّ على هذا المعنى الذي ذهب إليه بأن العمل على هذه القاعدة مستمر من بدء الإسلام إلى الآن.

قال : (ولو لا ذلك للزم الحرج وعمت الحيرة ؛ لوقوع كثير من الناس في شبهة وجود الرافع مقيسا إلى كثير من الأحكام قديما وحديثا ، مع العجز عن الرجوع إلى صاحب الشريعة في كثير من الأوقات. وكثير من الأقسام المتّفق عليها في الاستصحاب لو تأملت فيه وجدته مبنيّا على ما ذكرنا ؛ إذ شمول النص فيه لجميع الأحوال والأزمان ليس من باب العموم ، بل من باب الإطلاق ، والمطلق لا يدل على أقصى أفراده بشي‌ء من الدلالات الثلاث ؛ لتحقّقه في ضمن أقلها ، والاطلاق مشترك بينه وبين الصور المختلف فيها) انتهى.

وعندي فيما ذكره ـ طاب ثراه ـ نظر من وجوه :

أمّا أولا ، فلأن المفروض في الاستصحاب الذي هو محل النزاع كون محل الدليل هو الحالة الاولى.

__________________

(١) من «ح».

٢١٣

غاية الأمر أنه لم يقم على نفيه في الحالة الثانية دليل. والفرض أن الحالتين متغايرتان كما عرفت من تمثيلهم بالمتيمم ، والاحتجاجات من الطرفين نفيا وإثباتا ؛ فإنه صريح فيما ذكرنا.

وحينئذ ، فمجرد عدم وجود الرافع ، مع تغاير الحالين لا يقتضي إجراء الحكم لا بطريق الواقع ولا الظاهر ؛ إذ لا بد في صحة الحكم من شمول الدليل ولو بطريق الإطلاق صريحا أو مفهوما ، وما نحن فيه ليس كذلك ، على أن وجود الرافع فرع وجود الدليل في الحالة الثانية.

وهو كما عرفت ممنوع ، فقوله في آخر كلامه : (والإطلاق مشترك بينه وبين الصور المختلف فيها) ممنوع ، كيف وهو في غير موضع من مصنفاته (١) قد عدّ أقسام الاستصحاب ، وجعل هذا القسم المختلف فيه قسيما لهذا القسم المدلول عليه بالإطلاق؟! فلو كان مما يمكن إدخاله تحت الإطلاق لما صحّ جعله

__________________

(١) قال قدس‌سره في كتاب (الفوائد المدنيّة) في تعداد الوجوه الدالّة على بطلان الاستصحاب الثالث : (إن هذا الموضع من مواضع عدم العلم بحكمه تعالى ، وقد تواترت الأخبار ، بأنه بعد [إكمال] (١) الشريعة يجب التوقف في تلك المواضع كلها. ويجب الاحتياط في العمل أيضا في بعضها) (٢) انتهى.

ثم نقل جملة من الأخبار المشتملة على صور بعضها يوافق الاستصحاب وبعضها يخالفه ، قال : (ومن تأمّل في هذه الأخبار (٣) يقطع بعدم جواز التمسك بالاستصحاب الذي اعتبروه) (٤) انتهى.

وهذا كله مخالف لما اختاره مبسوطا هنا كما لا يخفى. منه دام ظله ، (هامش «ح»).

__________________

١ ـ في الأصل : الحال.

٢ ـ الفوائد المدنيّة : ١٤٣.

٣ ـ في المصدر : «ومن تأمل الروايات».

٤ ـ الفوائد المدنية : ١٤١ ـ ١٤٣ ، حيث وردت عبارة : «ومن تأمل الروايات» في الصفحة : ١٤١ ، ثم ساق الأخبار مستوعبا بها في الصفحة : ١٤٢ وجزءا من الصفحة : ١٤٣ ، ثم عقبها بقوله : يقطع بعدم جواز التمسك بالاستصحاب.

٢١٤

قسيما ، ولما صح جعله مطرحا للخلاف مع الاتفاق كما عرفت على ذلك القسم المستند إلى الإطلاق ؛ إذ لا خلاف كما عرفت في صحة الاستناد إليه (١) وبناء الأحكام عليه.

وأمّا ثانيا ، فلأن الأدلة الدالة على إبطاله ـ كما قدمنا ذكرها ، مع كونه قائلا بمضمونها ، وقد أورد شطرا منها ـ لا اختصاص لها بصورة إجراء الحكم على جهة كونه واقعيا ، بل هي دالة على عدم صحة الحكم المذكور في الزمن الثاني أعم من أن يكون واقعيا أو ظاهريا.

وبالجملة ، فالمانع مستظهر ؛ إذ عدم الدليل دليل العدم ، وما استند إليه من لزوم (٢) الحرج والحيرة ، مندفع بالرجوع إلى العمل بمقتضى البراءة الأصلية ؛ فإنها في نفي الوجوب في فعل وجودي حجة كما تقدم ، فلا ينحصر دفع الحيرة في العمل بالاستصحاب.

وأمّا ثالثا ، فلأنه قدس‌سره لا يعمل في جميع الأحكام إلّا على ما يفيد القطع ، ويمنع من البناء في الأحكام الشرعية على الظن. وهنا يتستّر عن البناء على الظن بكون إجراء الحكم إنّما هو إجراء ظاهري لا واقعي. والناقد البصير والمتتبع الخبير لا يخفى عليه أن الشارع لم يجعل شيئا من الأحكام منوطا بالواقع ، وإنّما جعل التكليف منوطا بعلم المكلف بالأسباب التي رتب عليها تلك الأحكام ، كما تقدم ذلك في مواضع من درر هذا الكتاب.

وأمّا رابعا ، فلأن الاستصحاب المذكور هنا معارض بالبراءة الأصلية ، فهاهنا تعارض بين معنى الأصل ـ أي الحالة السابقة المستصحبة ـ والحالة التي إذا خلّي الشي‌ء ونفسه كان عليها. وعدم الدليل على الاستصحاب ، بل قيام الدليل

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) ليست في «ح».

٢١٥

على عدمه يرجح العمل بمقتضى البراءة الأصلية.

نعم ، ما ذكره يتم في القسم الثالث من أقسام الاستصحاب ؛ لدلالة الدليل على الحكم مطلقا ، فعند عروض شبهة الرافع يمكن التمسّك بإطلاق الدليل والعمل عليه ، وإن كان ظاهرا كما ذكره.

ثم إنه قدس‌سره ذكر أن من جملة المواضع التي عرضت فيها شبهة الرافع ما ظهرت فيه دلالة على زوال الحكم الأول ، ومنها ما لم يظهر دلالة على ذلك ؛ فيجب الفحص ، ومع العجز عن العلم بالحكم الواقعي يجري على الحكم الظاهري. وعد من الأول المتيمم لفقد الماء.

قال : (فإنه قد ظهرت دلالة على زوال جواز الصلاة بتيمّمه إذا وجد الماء بعد التيمم. وهذه الحالة موجودة قبل الشروع في الصلاة ، ولم يعلم أن الشروع في الصلاة (١) هل هو رافع لهذه الحالة أم لا؟ فيجب التفتيش حينئذ ، ومع العجز عن العلم بما هو واقع الحكم ما مر) انتهى.

وتوضيح مراده أن مقتضى العمل بالاستصحاب في مثال المتيمّم ، هو عدم صحة الصلاة لا صحتها كما هو المشهور ؛ وذلك لأن الدليل كما دل على صحة التيمم مع فقد الماء وصحة الصلاة به ، فقد دل أيضا على انتقاض التيمم بوجود الماء. وهو مطلق غير مقيد بوقت مخصوص ولا حالة مخصوصة ، وهو رافع للحكم الأول ومقيد له ، والداخل في الصلاة بتيمّمه لو وجد الماء في الأثناء ، فقد علم بمقتضى إطلاق الدليل على انتقاض التيمم بوجود الماء انتقاض تيممه هنا ، ولم يعلم أن التلبس بالصلاة هل هو رافع ومقيّد لذلك الإطلاق أم لا؟

فمقتضى الاستصحاب العمل على إطلاق ذلك الدليل ، وهو يقتضي الانتقاض

__________________

(١) ولم يعلم أن الشروع في الصلاة ، من «ح».

٢١٦

وإلغاء موضع الشبهة. وأنت خبير بأنه على هذا (١) التوجيه يصير هذا الاستصحاب هنا من قبيل القسم الثالث من الأقسام المتقدمة.

وقال بعض فضلاء متأخري المتأخّرين ـ بعد البحث في المسألة ، وبيان أن الاستصحاب المختلف فيه لا يكون إلّا في الأحكام الوضعية ، أعني : الأسباب والشرائط والموانع للأحكام الخمسة من حيث إنها كذلك ـ ما لفظه : (والحق ـ مع قطع النظر عن الروايات ـ عدم حجية الاستصحاب ؛ لأن العلم بوجود السبب أو الشرط أو المانع في وقت لا يقتضي العلم ، بل ولا الظن بوجوده في غير ذلك الوقت ، فالذي يقتضيه النظر بدون ملاحظة الروايات ، أنه إذا علم تحقّق العلامة الوضعية تعلق الحكم بالمكلف ، وإذا زال ذلك العلم بعلم وشك (٢) ، بل وظن أيضا ، يتوقف على الحكم الثابت أولا. إلّا إن الظاهر من الأخبار أنه إذا علم وجود شي‌ء فإنه يحكم به حتى يعلم زواله) (٣).

ثم أورد جملة من الأخبار الدالة على عدم انتقاض اليقين إلّا بيقين مثله ، وأنه لا ينتقض بمجرد الشك في الناقض ، بل ولا ظنه ، وأورد أخبارا اخر مقصورة على موارد مخصوصة ، وقال بعد ذلك : (لا يقال : هذه الأخبار الأخيرة إنّما تدل على حجية الاستصحاب في مواضع مخصوصة ، فلا تدل على حجيته على الإطلاق.

لأنا نقول : الحال على ما ذكرت من أن ورودها في موارد مخصوصة ، إلّا إن العقل يحكم من بعض الأخبار الدالة على حجيته مطلقا ، ومن حكم الشارع في موارد مخصوصة كثيرة ـ كحكمه باستصحاب الملك وجواز الشهادة به ، حتى

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) في «ح» والمصدر : بطروء شك ، بدل : بعلم وشك.

(٣) الوافية في اصول الفقه : ٢٠٣.

٢١٧

يعلم الرافع (١) والبناء على الاستصحاب في بقاء الليل والنهار وعدم جواز قسمة تركة الغائب قبل مضيّ زمان يظن فيه عدم بقائه ، وعدم تزويج زوجاته ، وجواز عتق الآبق من الكفارة ، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة ـ [بأن] (٢) الحكم في خصوص هذه المواضع بالبناء على الحالة السابقة ليس لخصوص (٣) هذه المواضع ، بل لأن اليقين لا يرفعه إلّا يقين مثله) (٤) انتهى.

وفيه :

أولا : أنك قد عرفت غير مرة من كلام القوم دعوى واحتجاجا وجوابا أن الحالتين مختلفتان ، وأن الدليل إنّما دل على الحالة الاولى خاصة.

غاية الأمر أنه لم يتجدد له رافع في الحالة الثانية. وقد عرفت أنه لا يكفي في ثبوته عدم الرافع ؛ إذ الرافع فرع وجوده.

والدليل في هذه الأخبار ، قد دل على (العمل على اليقين مستمرّا إلى حصول يقين الرافع) ، مثلا يقين الطهارة ، يجب البناء عليه والحكم به إلى أن يحصل يقين الحدث. والفرق بين الموضعين أن متعلق اليقين في موضع الاستصحاب إنّما هو الحالة الاولى ، فإن يقين صحة التيمم في مثالهم مقصور على حال عدم الماء.

وأمّا في مدلول تلك الأخبار فجميع الحالات إلى ظهور يقين الرافع (٥).

وقوله : (إنه إذا علم وجود شي‌ء فإنه يحكم به ، حتى يعلم زواله) ليس على إطلاقه كما توهمه ـ طاب ثراه ـ فإن علم وجود ذلك الشي‌ء الذي (٦) هو عبارة عن الحكم يناط بما تعلق به من الأمر والدليل ؛ فإن كان دائما إلى غاية تحقق دوامه [كان] كذلك ، وإن كان مخصوصا بوقت أو حالة كان كذلك أيضا. فأمر

__________________

(١) في «ح» : الواقع.

(٢) في النسختين : فان.

(٣) في «ح» : بخصوص.

(٤) الوافية في اصول الفقه : ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

(٥) في «ح» : الواقع.

(٦) سقط في «ح».

٢١٨

الشارع بالبناء على يقين الطهارة متعلق بجميع الأوقات والحالات إلى أن يحصل يقين الرافع ، بخلاف حكمه بصحّة التيمّم ، والدخول به في الصلاة ؛ فإنه مقصور على حال عدم الماء.

والظاهر أن منشأ الشبهة عنده حمل العلم واليقين المستصحب على ما هو في الواقع ونفس الأمر ، بمعنى أنه إذا تطهّر من الحدث ، أو غسل ثوبه من النجاسة ، فقد حصلت الطهارة من الحدث والخبث يقينا ، فيستصحب هذا اليقين إلى يقين وجود الرافع. وهو غفلة ظاهرة ؛ فإن اليقين في هذه المواضع وأشباهها ، إنما هو عبارة عن عدم العلم بالرافع ، وهو أعم من أن يكون مع العلم بعدمه أم لا ، لا عن العلم بعدمه ؛ إذ الشارع لم ينط (١) الأحكام بالواقع ، لتعذره. فالظاهر ـ مثلا ـ ليس إلّا عبارة عما لم يعلم بملاقاة النجاسة له ، لا ما علم عدم الملاقاة له ؛ والحلال ليس إلّا ما لم يعلم تحريمه ، لا ما علم عدم تحريمه ؛ والنجس ليس إلّا ما علم ملاقاة النجاسة له ، لا ما لاقته النجاسة مطلقا.

وحينئذ ، فإذا كان اليقين إنما هو عبارة عن عدم العلم بالرافع ، فهو ثابت لما تعلق به في جميع الأحوال والأزمان إلى أن يحصل العلم بوجود الرافع. هذا فيما وقع فيه النهي عن نقض اليقين إلّا بيقين مثله من تلك الأخبار التي سردها ، وأما في جملة منها ، فالأحكام مقصورة على مواردها ، وقوله : (فإن الحكم في خصوص هذه المواضع) ـ إلى آخره ـ ممنوع.

وبالجملة ، فإن الاستصحاب المتنازع فيه إنما هو عبارة عن إجراء الدليل بعد ثبوته في موضع إلى موضع آخر عار عن الدليل. وهذه الأخبار التي نقلها مما لا

__________________

(١) في «ح» : ينظر.

٢١٩

مجال للمنازعة في استمرار الحكم فيها ، وشموله إلى ظهور الرافع (١).

وثانيا : أن القدر المقطوع به ـ كما نبّه عليه بعض المحققين (٢) من عدم نقض اليقين إلّا بمثله (٣) ، فلا ينقضه الشك حسب ما تضمنته تلك الأخبار ـ هو أن المراد بالشك هو الشك المتعلق بحصول الناقض وعدمه ، بمعنى أنه بعد تحقق النقض لذلك الناقض وثبوته له ، شك في حصوله وعدم حصوله ، كالنوم مثلا ، فإنه ناقض قطعا ، لكن متى شك المتطهر في حصوله وعدم حصوله (٤) ، فإنه لا ينقض يقين الطهارة بهذا الشك ؛ لا أن (٥) المراد بالشك ، ما هو أعم من ذلك ، ومن الشك في ثبوت النقض للناقض مع تحقق حصوله ، كالشك في نقض الخارج من غير الموضع الطبيعي وعدم نقضه مثلا ، والشك في أن وجدان الماء بعد الدخول في الصلاة هل هو ناقض أم لا.

إذا انتقش ذلك على لوح خاطرك وثبت في مكنون ضمائرك ، فاعلم أنه قد ذكر بعض فضلاء متأخري المتأخرين (٦) أن للعمل بالاستصحاب شروطا منها ألّا

__________________

(١) أقول : ومن هذا القبيل ما لو طلّق زوجته الرجعيّة ، ثمّ تزوّجت بعد العدّة بزوج آخر وحملت منه ولم ينقطع بعد لبنها ، والحكم بأن اللبن للزوج الأوّل بالاستصحاب ـ كما نقل عن (الشرائع) وغيره ـ يتوقّف على ملاحظة ما دلّ على أن لبن المرأة من الذي حملت منه : هل [يشمل] (١) هذه الصورة ، أم لا؟ فعلى الأوّل لا يصح الاستصحاب ؛ لأنه إما أن يتعين الحكم بالثاني ، أو يصير من قبيل تعادل الأمارتين فيحتاج إلى الترجيح. وعلى الثاني يصح. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

(٢) انظر الوافية في اصول الفقه : ٢٠٨.

(٣) في «ح» : بيقين مثله.

(٤) كالنوم مثلا ... في حصوله وعدم حصوله ، من «ح».

(٥) في «ح» : لان.

(٦) انظر الوافية في أصول الفقه : ٢٠٨ ـ ٢١٢.

__________________

١ ـ في الأصل : يتمثل.

٢٢٠