الدّرر النجفيّة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

في الشبهات ، ويسيرون في الشهوات ، المعروف فيهم ما عرفوا ، والمنكر عندهم ما أنكروا ، [مفزعهم] (١) في المعضلات إلى أنفسهم ، وتعويلهم في المبهمات على آرائهم ، كأن كل امرئ منهم إمام نفسه ، قد أخذ منها فيما يرى بعرى وثيقات وأسباب محكمات؟» (٢).

وعنه عليه‌السلام : «من ترك [قول] : (لا أدري) اصيبت (٣) مقاتله» (٤).

وروى البرقي في (المحاسن) بإسناده عن محمد بن الطيار قال : قال لي أبو جعفر عليه‌السلام : «تخاصم الناس؟». قلت : نعم. قال : «ولا يسألونك عن شي‌ء إلّا قلت فيه شيئا؟». قلت : نعم. قال : «فأين باب الرد إلينا؟» (٥).

أقول : هذه جملة من الأخبار الواردة في هذا المضمار ، ووجه الاستدلال بها أنّ شطرا منها قد دلّ على تثليث الأحكام. ولا ريب أن ما لم يرد فيه نص ليس من الحلال البيّن ، ولا من الحرام البين ، فيتعيّن أن يكون من الثالث. ولو كان العمل بالبراءة الأصلية ثابتا في الشرع لما كان لهذا الفرد وجود في الأحكام ، كما لا يخفى على ذوي الأفهام.

وشطرا (٦) منها قد دلّ على أنّ بعض الأحكام مما يجب الردّ فيه إليهم عليهم‌السلام ، والتوقف (٧) في حكمه ، وهذا مدافع لمقتضى (٨) العمل بالبراءة الأصلية كما لا يخفى.

وشطرا منها قد دل على النهي عن القول بغير علم. ولا شك أن القول بإباحة

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : مفرّهم.

(٢) نهج البلاغة : ١٤٣ ـ ١٤٤ / الخطبة : ٨٨ ، باختلاف يسير.

(٣) في «ح» : اصبت.

(٤) نهج البلاغة : ٦٦٨ / الحكمة : ٨٥.

(٥) المحاسن ١ : ٣٣٧ ـ ٣٣٨ / ٦٨٩ ، وفيه : فأين باب الرد إذن.

(٦) أي وأن شطرا منها ... ، وكذا ما بعدها.

(٧) من «ح» ، وفي «ق» : والوقف.

(٨) في «ح» : مقتضى.

١٨١

ما لم يرد فيه نصّ وحلّيّة قول بغير علم ، بل ولأظن ؛ لأنّ الإباحة الأصليّة ـ كما عرفت ـ قد ارتفعت بورود (١) الشريعة وتضمنها وقوع الأحكام على جميع الجزئيات وإن لم تصل إلينا. والإباحة الشرعية موقوفة كغيرها من الأحكام على الدليل.

أجاب بعض فضلاء متأخري المتأخرين بتخصيص التثليث في الأحكام ، واختصاص الشبهة بما تعارضت فيه الأخبار ، قال (٢) : (فأما ما لم يرد فيه نصّ ، فليس من الشبهة في شي‌ء ، ثم إنه على تقدير شمول تلك الأخبار له ، وتسليم كونه شبهة يخرج بالأخبار الدالة على أن «كل شي‌ء مطلق حتى يرد فيه نهي» ، ونحوه مما تقدم) انتهى.

والجواب أنّ الحديث المنقول في (٣) (الفقيه) (٤) في خطبة أمير المؤمنين عليه‌السلام صريح في أنّ ما لم يرد فيه نص من (٥) بعض أفراد الشبهة المشار إليها (٦) في تلك الأخبار ، حيث دل على أن الشارع : «سكت عن أشياء ، ولم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلفوها». ومن المعلوم أن ليس السكوت عنها إلّا باعتبار عدم النصّ عليها أمرا أو نهيا ، ثم عقب ذلك بقوله : «حلال بين» إلى آخره.

وأما مقبولة عمر بن حنظلة التي هي منشأ الشبهة عنده (٧) فيما ذكره [فهي] وإن دلّ صدرها باعتبار السؤال عمّا تعارضت فيه الأخبار على ذلك. إلّا إن قوله عليه‌السلام : «وإنما الأمور ثلاثة» ـ إلى آخره ـ ممّا يدلّ على العموم ، فهو بمنزلة الضابط الكلّي والقاعدة المطّردة ، كما دل على ذلك غيرها من الأخبار. على أن

__________________

(١) في «ح» : فورود.

(٢) من «ح».

(٣) من «م» : وفي «ح» و «ق» : عن.

(٤) الفقيه ٤ : ٥٣ / ١٩٣.

(٥) في «ح» : عن.

(٦) في «ح» : إليه.

(٧) في «ح» : عندهم.

١٨٢

خصوص السؤال لا يوجب التخصيص كما تقرر عندهم.

وحينئذ ، فما تعارضت فيه الأخبار أحد أفراد تلك القاعدة ، وقد دل حديث حمزة الطيار المتقدّم وغيره على الكفّ والتثبت والردّ إلى أيمة الهدى فيما لا يعلم.

وبالجملة ، فمن نظر فيما ذكرنا من الأخبار ، ولاحظها بعين الإنصاف والاعتبار لا يخفى عليه الحال ، ولا يقع في لبس الإشكال. وحينئذ ، فلا يتجه ما ذكره من إخراج ما لم يرد فيه نص من حيّز الشبهة على تقدير شمول تلك الأخبار له ؛ فإن الدليل على دخوله في الشبهة ليس منحصرا في عموم تلك الأخبار ، بل يدلّ عليه أيضا خصوص هذه الأخبار المستفيضة الدالة على ذلك ، وعلى الأمر بالتوقّف فيه ، والرد إلى أصحاب العصمة ، صلوات الله عليهم. وأما الأخبار التي ادّعي الاستناد إليها ، فقد عرفت ما فيها مجملا ومفصلا.

تتميم في أقسام المتشابه

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أن المستفاد من الأخبار أن المتشابه على أقسام :

الأوّل : فمنه ما تعارضت فيه الأخبار وتساوت فيه طرق الترجيح. وهذا قد ورد فيه الأمر بالإرجاء في بعض الأخبار ، والأخذ من باب التسليم في بعض آخر. وهذا أيضا موجب للرجوع إلى التعارض كما كان أولا وإن كان الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ قد جمعوا بينها بوجوه. إلّا إنه بسبب احتمال كل منها ، وعدم دليل من كلامهم عليهم‌السلام على ترجيح بعضها مما يقوّي الإشكال ، وعود الحكم إلى تلك الحال يوجب الوقوف في ذلك على جادة الاحتياط ، كما هو مصرّح به في رواية زرارة الواردة في ذلك أيضا على ما نقله في (عوالي اللآلي) (١). وعسى

__________________

(١) عوالي اللآلي ٤ : ٣٣ / ٢٢٩.

١٨٣

يأتي في بعض درر الكتاب إن شاء الله تعالى ما فيه مزيد بيان لهذه المسألة.

الثاني : ومن أقسام المتشابه ما ورد النص به ولكنه غير صريح في المراد ، ومعناه غير ظاهر ولا سالم من الإيراد ، وحكمه أنه (١) يجب الرد فيه إلى أهل الذكر ـ سلام الله عليهم ـ إن أمكن ، وإلّا فالتوقّف عن الحكم ، والعمل بالاحتياط.

ويدلّ على هذا الفرد قوله سبحانه (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (٢).

قال المحدث الكاشاني قدس‌سره : (وأول من أثبت المتشابه في الحكم الشرعي ، هو الله سبحانه) (٣) ، ثم ذكر الآية.

الثالث : ومنه ما لم يرد فيه نصّ كما عرفت ، وحكمه الرجوع إليهم عليهم‌السلام ، وإلّا فالتوقف والاحتياط ، كما في (٤) الأخبار المتقدمة.

الرابع : ومنه ما وقع الشك في اندراجه تحت أمرين متنافيين ، مع معلومية حكم كل منهما ، كالسجود على الخزف مثلا ، للشك في استحالته بالطبخ وعدمها ، ومثل بعض الأصوات المشكوك في اندراجها تحت الغناء المحرم وعدمه ، والحكم فيه ما عرفت.

الخامس : ومنه ما حصل (٥) الاشتباه في كيفية العمل بعد معرفة أصل الحكم ، وهذا هو الذي وردت الرخصة بجواز الاجتهاد فيه ، كاشتباه جهة القبلة ، فإنه يجوز له الاجتهاد بتحصيل الأمارات المثمرة للظن ، ونحو ذلك.

__________________

(١) من «ح» ، وفي «ق» : ان.

(٢) آل عمران : ٧.

(٣) سفينة النجاة (ضمن الاصول الأصيلة) : ٥٣.

(٤) في «ح» : عرفت من.

(٥) من «ح» ، وفي «ق» : جعل.

١٨٤

فإن قيل : إنه قد استفاضت الأخبار بمعذورية الجاهل بالحكم ، وإن كان ذلك خلاف المشهور. وحينئذ ، فما لم يرد فيه نصّ كيف يجب التوقف فيه والاحتياط ، فإنه متى كان الجاهل معذورا فيما ورد فيه النصّ ؛ لعدم وقوفه عليه ، فبطريق الأولى فيما لم يرد فيه نص؟

قلنا : نعم ، الأمر كذلك ، لكن قد قدّمنا في الدرة (١) الموضوعة في حكم الجاهل تفصيلا حاصله اختصاص ذلك بالجاهل الساذج الغير المتصوّر للحكم بالكلية ، وهو الغافل بالمرّة ، دون المتصور للحكم ولو بالشك فيه. وقد أشرنا في طيّ الكلام السابق في هذا المقام إلى أن التوقّف والعمل بالاحتياط هنا إنما يتوجه إلى من علم أنه لا واقعة من (٢) الأحكام الشرعية إلّا وقد ورد فيها خطاب شرعي وحكم الهي ، وأنه مع العلم به يجب التوقف والاحتياط ، وأن الامور ثلاثة : «حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك» ، وأنه منهي عن القول بغير علم ، كما هو مضمون ما سردناه من الأخبار.

وحينئذ ، فالعالم بجميع ذلك متى ورد عليه جزئي من القضايا لم يقف فيه (٣) على نص ، وجب عليه الوقوف والاحتياط. وأما من لم يقف على ذلك ، فهو معذور عندنا ؛ لكونه جاهلا للحكم جهلا ساذجا غير متصور له بالكلية ، لا إجمالا ولا تفصيلا ، كما قدّمنا بيانه هذا.

ولا يخفى عليك أن المستفاد من الأخبار المتقدمة أنه كما تعبّد الله تعالى عبادة في الحلال والحرام البيّنين ، بالأمر والنهي ؛ بإباحة الأول وتحريم الثاني ، تعبّدهم أيضا في الشبهات بالتورع عنها والاحتياط فيها ، مع عدم إمكان الرجوع إلى اولي الأمر ، صلوات الله عليهم. ومن المحتمل أن وجه الحكمة في ذلك هو

__________________

(١) انظر الدرر ١ : ٧٧ ـ ١١٩ / الدرّة : ٢.

(٢) من «ح» ، وفي «ق» : عن.

(٣) في «ح» : عليه.

١٨٥

الابتلاء والاختبار للعباد بالتورّع عن ذلك وعدمه ليتميّز المتّقي الورع باحتياطه في الدين وعدم رتعه حول الحمى ممّن لا يبالي بذلك. وهذا من جملة الفتن التي بني عليها التكليف ، وأشار إليها (القرآن) المجيد في غير مقام. وهذا هو السر في نصب جميع الشبهات ، وإنزال الآيات المتشابهات ، وخلق الشياطين والشهوات.

بل أنت إذا تأمّلت في وجوه التكليفات ، رأيتها كلها من ذلك القبيل ، وإلّا فإن الله سبحانه قادر أن (١) ينزل جميع الأحكام التي تحتاج إليها الأمة في (القرآن) بدلالات واضحة قطعيّة خالية من المعارض ، بحيث لا يختلف فيها من نظر فيه.

وكذا كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قادرا على تأليف كتاب كذلك. بل كل واحد من الأئمَّة عليهم‌السلام ولكن لم يكن ذلك موافقا لحكمة التكليف.

ووجه آخر ، وهو إلزام العباد الرجوع إلى أهل الذكر واولي الأمر ـ صلوات الله عليهم ـ كما أشار إليه تعالى في كتابه المجيد في عدة آيات ، كقوله (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ). (٢)

وقوله (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (٣).

وقوله (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٤).

وقد ورد في بعض النصوص أن ذلك وجه الحكمة في تعمية (القرآن) على أذهان الرعية ، والله سبحانه وأولياؤه ـ عليهم الصلاة والسلام ـ أعلم بحقائق ما أتوا به من الأحكام.

__________________

(١) في «ح» : على ان.

(٢) النساء : ٨٣.

(٣) آل عمران : ٧.

(٤) النحل : ٤٣.

١٨٦

(٧)

درة نجفية

فيمن نذر أن ينفق جميع ماله ثم توفّي قبل الوفاء به

مسألة سأل عنها بعض الإخوان من سكنة بهبهان ، وكان قد اتّفق وقوعها في ذلك الزمان ، وهذه صورة ما كتبه : (رجل نذر إن وفّق للحج أن يتصدّق بجميع ما يملكه على الفقراء في النجف الأشرف ، على مشرفه السلام. فوفق للحج ، ومات بعده ، وانعقد النذر ، وكانت عليه ديون ، فما حكم الديون؟ فهل تخرج من أصل التركة ، وما بقي يصرف في وجه النذر ، أو أن التركة وما خلفه ينتقل إلى الفقراء المنذور لهم ، لتعلق النذر به ، ويبقى الدين في ذمة الميت الناذر إلى يوم القيامة؟ فإن بعض علمائنا يقولون : إن المال ينتقل إلى الفقراء ، والدين يبقى في ذمة الميت! فما كلام الأصحاب في ذلك؟ وما اعتقادكم؟ وما الدليل على ذلك؟

فتفضلوا بإيجاز رد الجواب وإرساله بيد من يقدم عاجلا ؛ لأن الواقعة في الدين (١) ونحن في غاية الاحتياج ، وهل فرق بين الدين والخمس ورد المظالم) انتهى.

فكتبت له ما صورته :

الجواب ـ ومنه سبحانه إفاضة الصواب ـ أنه من المقرّر في كلام جمهور أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ وعليه دلّت أخبارنا ، أنه لا ينعقد من النذر إلّا ما

__________________

(١) في «ح» : البين.

١٨٧

كان طاعة لله سبحانه ؛ لاشتراطه بالقربة نصا (١) وإجماعا ، ولا تقرّب بالمرجوح من مكروه (٢) أو حرام نصا واجماعا ، وكذلك المباح المتساوي الطرفين على الأشهر الأظهر لما ذكرنا ، والمخالف (٣) نادر ، ودليله غير ناهض.

ومما يدلّ على اشتراط القربة في النذر المستلزم لكونه طاعة قوله عليه‌السلام في صحيحة منصور ـ فيمن قال : عليّ المشي إلى بيت الله الحرام (٤) وهو محرم بحجه ـ : «ليس بشي‌ء ، حتى يقول لله عليّ المشي إلى بيته» (٥).

وفي صحيحة الكناني : «ليس النذر بشي‌ء ، حتى يسمي لله شيئا ، صياما أو صدقة أو هديا أو حجّا» (٦).

ومن المقرّر المجمع عليه أيضا أنه يشترط في انعقاد النذر كون ما تنذر به من أفراد الطاعات مشروعا على الوجه الذي نذر قبل النذر ، وإلّا لم ينعقد نذره إلّا ما خرج بدليل ، على خلاف فيه (٧) أيضا.

وحينئذ ، فنقول : إن من نذر التصدّق بجميع ماله وما يملكه ، مع أنه مشغول الذمة يومئذ بديون وحقوق واجبة ، فلا ريب أن نذره هذا مخالف لمقتضى

__________________

(١) انظر وسائل الشيعة ٢٣ : ٢٩٣ ـ ٢٩٥ ، كتاب النذر والعهد ، ب ١ ، و ٢٣ : ٣١٩ كتاب النذر والعهد ، ب ١٧ ، و ٢٣ : ٣٢٤ ـ ٣٢٥ ، كتاب النذر والعهد ، ب ٢٣.

(٢) من مكروه ، سقط في «ح».

(٣) انظر الدروس ٢ : ١٥٠ ، عنه في مسالك الأفهام ١١ : ٣١٨.

(٤) في «ح» : يحرم.

(٥) الكافي ٧ : ٤٥٤ / ١ ، باب النذور ، تهذيب الأحكام ٨ : ٣٠٣ / ١١٢٤ ، وسائل الشيعة ٢٣ : ٢٩٣ ، كتاب النذر والعهد ، ب ١ ، ح ١.

(٦) الكافي ٧ : ٤٥٥ / ٢ ، باب النذور ، وسائل الشيعة ٢٣ : ٢٩٣ ـ ٢٩٤ ، كتاب النذر والعهد ، ب ١ ، ح ٢.

(٧) المبسوط ١ : ٣١١ ، السرائر ١ : ٥٢٦ ـ ٥٢٧ ، الوسيلة إلى نيل الفضيلة : ١٥٩.

١٨٨

القواعد المقررة المبرهن عليها بالأخبار (١) المعتبرة ، فإن هذا التصدق قبل تعلّق النذر به مكروه ، بل الظاهر أنه غير جائز شرعا.

أما أولا ، فلاستلزامه الإخلال بأداء الديون الواجبة يقينا ، سيما مع الفوريّة ، كردّ المظالم والحالّ من الديون.

وأما ثانيا ، فلاستلزامه إدخال الضرر على نفسه ، ولا سيما إذا كان من ذوي الوجاهة والوقار والمحل الأرفع في تلك الديار ، بلبس ثياب الذل والانكسار ، وبذل ماء الوجه المنهيّ عنه في صحاح الأخبار.

وأما ثالثا ، فللأخبار المستفيضة بالنهي في الاتّفاق عن الإسراف ، والأمر بالاقتصاد في ذلك والكفاف [١] ، فمنها رواية حماد اللحام المروية في (الكافي) (٢) و (تفسير العياشي) (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لو أن رجلا أنفق ما في يده في سبيل الله ، ما كان أحسن ولأوفق للخير ، أليس الله تبارك وتعالى يقول (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (٤) بمعنى المقتصدين». وهي صريحة الدلالة على المراد ، منطبقة على السؤال حسب ما يراد.

ورواية هشام بن المثنى عن أبي عبد الله عليه‌السلام الواردة في تفسير قوله تعالى :

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤٥٨ / ٢٣ ، باب النذور ، تهذيب الأحكام ٨ : ٣٠٧ / ١١٤٤ ، وسائل الشيعة ٢٣ : ٣١٤ ـ ٣١٥ ، كتاب النذر والعهد ، ب ١٤ ، ح ١.

(٢) أقول : ومن أوضح الأخبار دلالة على ما ذكرنا حديث دخول الصوفيّة على أبي عبد الله عليه‌السلام المرويّ في (الكافي) (١) فإنه واضح الدلالة غير بعيد عن أصل الوقوف (٢) على ما تضمنه من ذلك. منه وفقه الله. (هامش «ح»).

(٣) الكافي ٤ : ٥٣ / ٧ ، باب فضل القصد.

(٤) تفسير العياشي ١ : ١٠٦ / ٢١٨.

(٥) البقرة : ١٩٥.

__________________

١ ـ الكافي ٥ : ٦٥ ـ ٧٠ / ١ ، باب دخول الصوفية على أبي عبد الله عليه‌السلام.

٢ ـ كذا في الأصل.

١٨٩

(وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (١)؟ فقال : «كان فلان بن فلان الأنصاري ـ سمّاه ـ وكان له حرث ، فكان إذا أخذ يتصدّق به ، يبقى هو وعياله بغير شي‌ء ، فجعل الله ذلك سرفا» (٢).

وفي صحيحة الوليد بن صبيح قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فجاءه سائل فأعطاه ، ثم جاءه آخر فأعطاه ، ثم جاءه آخر فأعطاه ، ثم جاءه آخر (٣) فقال : «يسع الله عليك».

ثم قال : «إن رجلا لو كان له مال يبلغ ثلاثين أو أربعين ألف درهم ، ثم شاء ألّا يبقي منها إلّا وضعها في حق ، فيبقى بلا مال له ، فيكون من الثلاثة الذين يرد دعاؤهم». قلت : من هم؟ قال : «أحدهم (٤) رجل كان له مال فأنفقه في وجهه ثم قال : يا رب ارزقني ، فيقال له : ألم أرزقك؟» (٥).

ومن الظاهر البيّن أنه متى كان مؤاخذا بإنفاقه غير مستجاب لذلك دعاؤه ، فهو دليل على كون إنفاقه ذلك معصية ؛ لأن المعاصي هي التي تحبس الدعاء ، كما ورد في الأدعية (٦) والأخبار (٧) الواردة عن العترة الأطهار.

هذا والآيات الواردة بالنهي عن الإسراف والتبذير ، والأمر بالاقتصاد ، والقوام في الإنفاق والتقدير ، وكذلك الأخبار الواردة بذلك أكثر من أن يسع المقام نشرها ، أو يؤدي حصرها.

__________________

(١) الأنعام : ١٤١.

(٢) الكافي ٤ : ٥٥ / ٥ ، باب كراهية السرف والتقتير. وفيه : «ويبقى» بدل : «يبقى».

(٣) في «ح» ثم جاء آخر ، بدل : ثم جاءه آخر. وقد تكررت العبارة فيها مرتين لا ثلاثا.

(٤) في «ح» : أحد.

(٥) الكافي ٤ : ١٦ / ١ ، كتاب العقل والجهل ، وسائل الشيعة ٩ : ٤٦٠ ، أبواب الصدقة ، ب ٤٢ ، ح ١.

(٦) انظر مصباح المتهجد : ٧٧٥.

(٧) انظر بحار الأنوار ٩٠ : ٣٢١.

١٩٠

فإذا ثبت تحريم هذا التصدق قبل تعلّق النذر به ، فلا إشكال حينئذ ولا خلاف في عدم انعقاد نذره ؛ إذ هو معصية ، فكيف يصح التقرب به؟ ولو نوقش في التحريم فلا أقل من الكراهة المستلزمة للمرجوحيّة ، وهي كافية في عدم انعقاد النذر.

لا يقال : إن الصدقة عبادة ، ومكروه العبادة بمعنى الأقلّ ثوابا ، فلا ينافي انعقاد النذر.

لأنا نقول : الذي ترجّح عندنا من الأخبار هو التحريم ، لكن لو تنزلنا لمنازع (١) ينازع في ذلك (٢) فلا أقل من الكراهة ، وليست الكراهة ـ كما ربما يتوهم ـ كراهة متعلقة بالصدقة ؛ لأن الانفاق على هذا الوجه لا يدخل في باب الصدقة بوجه.

كيف ، وهو داخل في باب الإسراف الذي لا يحب الله صاحبه ، وداخل في باب الإلقاء باليد إلى التهلكة (٣) مسجلا عليه بأن صاحبه ما أحسن ولأوفق للخير (٤) ، وداخل فيما يمنع إجابة الدعاء؟ بل المراد بهذه الكراهة ـ على تقدير تسليمها ـ : إلحاقه بالمباحات المكروهة المرجوحة.

فإن قيل : قد ورد في صحيحة محمد بن يحيى الخثعمي عن الصادق عليه‌السلام فيمن نذر أن يتصدّق بجميع ماله أنه يقوّم ماله من منزل ومتاع وجميع ما يملكه بقيمة عادلة ، ثم يضمنها في ذمّته ويعود إلى ماله ويتصرّف فيه كما كان أوّلا ، ثمّ يتصدق بما ضمنه في ذمّته من القيمة شيئا فشيئا تدريجا على وسعه ، حتى

__________________

(١) في «ح» : المنازع.

(٢) في «ح» : في المنازع ذلك ، بدل : ينازع في ذلك.

(٣) إشارة إلى قوله تعالى (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ). البقرة : ١٩٥.

(٤) الكافي ٤ : ٥٤ ـ ٥٦ / ١ ـ ١١ ، باب كراهة السرف.

١٩١

ينفد (١). فإنه دالّ على انعقاد النذر المذكور.

قلت : لا ريب أنه قد علم ـ مما قدّمنا بيانه ـ كون هذا النذر مخالفا للقواعد المقرّرة المشيّدة بالأخبار الصحيحة الصريحة المشتهرة ، وبموجب ذلك يجب طرح ما عارضها من هذه الرواية وغيرها. لكن حيث كانت الرواية صحيحة الإسناد ، متلقّاة بالقبول بين أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ وجب قصر الحكم على موردها من الحكم ، بصحّة النذر المذكور إذا أمكن المخرج من الضرر المترتّب عليه على الوجه المقرّر في الرواية بأن يكون الناذر حيا غير مطالب بحقوق واجبة مالية ، سيما إذا كانت فورية ، فيقوّم أملاكه ويضمن القيمة في ذمته ، ويتصرّف في أملاكه كما كان أولا ، ثم يتصدّق بالقيمة تدريجا.

بل ربما يقال : إن هذه الرواية بالدلالة على ما ندّعيه من بطلان هذا النذر المسؤول عنه هنا أشبه ؛ لأنه لو كان النذر على الوجه المذكور في الرواية صحيحا منعقدا بمجرد إيقاع صيغة النذر كذلك ، لأمر عليه‌السلام ذلك الرجل (٢) بالخروج من أملاكه جميعا ، والتصدّق بها ، ولما جاز نقلها إلى الذمّة بالقيمة ؛ إذ مقتضى النذر هو الصدقة بالأعيان ، فتجب الصدقة بها حينئذ. ولكن لما أمر عليه‌السلام بنقلها إلى الذمة بالقيمة ، ثم التصدّق بالقيمة حينئذ تدريجا ، على وجه يندفع به الضرر الموجب لبطلان النذر ـ لو لم يكن كذلك ، كما هو مقتضى الأخبار (٣) وكلام الأصحاب (٤) ـ علمنا أنّ ثبوت هذه الأشياء مما له مدخل في الصحة البتّة.

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤٥٨ / ٢٣ ، باب النذور ، وسائل الشيعة ٢٣ : ٣١٤ ـ ٣١٥ ، كتاب النذر والعهد ، ب ١٤ ، ح ١.

(٢) ذلك الرجل ، من «ح».

(٣) انظر وسائل الشيعة ٢٣ : ٣٠٧ ـ ٣٠٨ ، كتاب النذر والعهد ، ب ٨ ، و ٢٣ : ٣٢١ ، كتاب النذر والعهد ب ١٨.

(٤) انظر : شرايع الإسلام ٣ : ١٤٩ ، الدروس ٢ : ١٥٤ ، مسالك الأفهام ١١ : ٣٦٥ ـ ٣٦٦.

١٩٢

فعلى هذا لا بد في صحة النذر المسؤول عنه هنا وانعقاده من أن يقوّم الناذر جميع أملاكه المنذور بها ، ويضمن قيمتها في ذمته ، فتكون دينا عليه كسائر ديونه ، وحينئذ فلو مات قبل إخراجها كلّا أو بعضا صارت من قبيل الديون الّتي متى تزاحمت حكم فيهما بالتقسيط.

وأنت خبير بأنّ إجزاء هذا الوجه المصحّح للنذر الرافع (١) للضرر ـ كما تضمنه الخبر في محل السؤال ـ غير متّجه ، فإنّ الناذر المذكور لم يقوّم أمواله المذكورة ، ولم ينقل (٢) القيمة إلى ذمّته ، وبدون ذلك لا ينتقل إليها ، وبدون الانتقال إلى الذمة لا يمكن الحكم بالصحة لخروج ذلك عن مورد الخبر.

وحينئذ (٣) فإذا كان مقتضى الاصول بطلان هذا النذر ، وهذا الخبر الذي أوجبنا الوقوف على مورده لا يشمله ، فكيف يمكن الحكم بصحته؟ ولا أعرف خلافا في أن مضمون هذه الرواية أيضا جار على خلاف مقتضى قواعدهم كما صرّح به غير واحد منهم ، وإنهم إنما قالوا بها وأفتوا بمضمونها من حيث اندفاع الضرر بما ذكره عليه‌السلام من التقويم ، ثمّ ضمان القيمة ، ثمّ التصدّق ، حتى إنّ بعضا منهم كالمحدث الكاشاني رحمه‌الله في (المفاتيح) حمل الرواية المذكورة على الاستحباب ، جمعا بينها وبين مقتضى تلك القواعد (٤) الدالّة على الإبطال ، وإن اشعر آخر كلامه بالتوقّف ، من حيث عدم القائل بذلك (٥).

وحينئذ ، فالقول بصحّة هذا النذر وانعقاده من غير توقف على شي‌ء وراء مجرد صيغته رد لكلام عامة الأصحاب (٦) ، وخلاف على الاصول الصحيحة الصريحة الواردة في هذا الباب عن أبواب الملك الوهاب ، وخروج عن مقتضى

__________________

(١) في «ح» : الواقع.

(٢) من «ح».

(٣) من «ح».

(٤) في «ح» : القاعدة.

(٥) مفاتيح الشرائع ٢ : ٣٦ / المفتاح : ٤٧٩.

(٦) نسخة بدل : لكل من العامّة. هامش «ح».

١٩٣

تلك الصحيحة التي هي المستند في ذلك.

وبالجملة ، فإنه لما اتّفقت كلمة الأصحاب المؤيّدة بالأخبار على أن النذر المستلزم للضرر دنيا أو دينا غير منعقد ، وهذا الفرد الذي تضمّنته الرواية إنما انعقد من حيث زوال الضرر بما ذكر فيها ، وما نحن فيه من محلّ السؤال لا مدفع للضرر عنه كما عرفت ؛ فلا وجه للقول بالمضي فيه والانعقاد ، بل الوجه هو البطلان ؛ وقوفا على تلك القواعد المقررة ، لعدم المخرج عنها.

والقول بانعقاد النذر فيما زاد من التركة على الدين ، لا أعرف له وجها ؛ لأنه نذر واحد ؛ فإن صح ، ففي جميع ما اشتمل عليه ، وإلّا بطل في الجميع. على أن ما شرحناه من القول بالبطلان لا يتوقّف على وجودين في البين ، والقائل الذي نقلتم (١) عنه القول بالصحة والانعقاد وإبقاء الديون في ذمة الميت إن سلّم كون هذا النذر جاريا على خلاف القواعد الشرعية والضوابط المرعية ، فلا بد له في الحكم بصحته من الدليل المخصوص (٢) ، والصحيحة المذكورة لا تنهض حجّة له ؛ لكونها ـ لمخالفتها الاصول كما عرفت ـ مقصورة على موردها ، كما أوضحناه ، والفرق بين موردها وبين ما نحن فيه ظاهر كما بيناه على أن ما تضمّنته لا ينطبق على المنقول عنه ، حيث إنه ذهب إلى التصدّق بتلك الأعيان.

والصحيحة المذكورة ، دلّت على نقلها إلى الأثمان وجعلها في الذمّة ، فتصير من جملة الديون كما عرفت ، وإن منع ذلك فهو محجوج بما أجمع عليه الأصحاب من تلك القواعد المنصوصة التي يدور عليها (٣) النذر صحة وبطلانا ، والله سبحانه العالم بحقائق أحكامه ، ونوّابه الأمناء على حلاله وحرامه.

__________________

(١) في «ح» : نقله.

(٢) في «ح» : المخصص.

(٣) في «ح» : عليها يدور.

١٩٤

(٨)

درة نجفية

فيما ألزم به الفضل فقهاء العامّة حول الطلاق عندهم

قال سيّدنا علم الهدى المرتضى ـ عطّر الله مرقده ـ في كتاب (المجالس) الذي جمعه من إملاء شيخنا محمد بن محمد بن النعمان المفيد ـ طيب الله تعالى مضجعه ـ : (ومن حكايات الشيخ وكلامه في الطلاق قال الشيخ ـ أيده الله ـ : قد ألزم الفضل بن شاذان فقهاء العامّة على قولهم في الطلاق [ان] يحل للمرأة الحرة المسلمة ، أن تمكن من وطئها في اليوم الواحد عشرة أنفس على سبيل النكاح ، وهذا شنيع في الدين منكر في الإسلام.

قال الشيخ : ووجه إلزامه لهم ذلك ، بأن قال : خبّروني عن رجل تزوّج امرأة على (الكتاب) والسنّة ، وساق إليها مهرها ، أليس قد حل له وطئها؟ فقالوا وقال المسلمون كلهم : بلى. قال لهم : فإن كرهها عقيب الوطء ، أليس يحل له خلعها على مذهبكم في تلك الحال؟ قالت (١) العامة خاصة : نعم. قال : فإن خلعها ثم بدا له بعد ساعة في العود إليها أليس [يحلّ] له أن يخطبها لنفسه ويحل لها أن ترغب فيه؟ قالوا : بلى. قال لهم : فإن عقد عليها عقد النكاح ، أليس قد عادت إلى ما كانت عليه من النكاح وسقطت عنها عدّة الخلع؟ قالوا : بلى. قال لهم : فإن رجع

__________________

(١) في «ح» : قال.

١٩٥

إلى نيّته في فراقها ، ففارقها (١) عقيب العقد الثاني بالطلاق من غير أن يدخل بها ثانية ، أليس قد بانت منه ولا عدّة عليها بنص (القرآن) من قوله تعالى (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) (٢).

فقالوا : نعم. ولا بد لهم من ذلك مع التمسّك بالدين. قال لهم : قد حلّت من وقتها للأزواج ؛ إذ ليس عليها عدّة بنص (القرآن)؟ قالوا : بلى.

قال : فما تقولون لو صنع بها الثاني كصنع الأوّل؟ أليس يكون قد نكحها اثنان في بعض يوم من غير خطر في ذلك على اصولكم في الأحكام؟ فلا بد [من أن يقولوا] بلى.

قال : وكذلك لو نكحها ثالث ورابع إلى أن يتم نكاح عشرة أنفس وأكثر من ذلك إلى آخر النهار ، أليس يكون جائزا حلالا؟ وهذه هي الشناعة التي لا تليق بأهل الإسلام).

قال الشيخ : والموضع الذي لزمت هذه الشناعة فقهاء العامة دون الشيعة الإمامية ، أنهم يجيزون الخلع والطلاق والظهار في الحيض وفي الطهر الذي قد حصل فيه جماع من غير استبانة حمل ، والإمامية تمنع من ذلك ، وتقول : إن هذا أجمع لا يقع بالحاضرة التي تحيض ، إلّا بعد أن تكون طاهرة من الحيض طهرا لم يحصل فيه جماع ، فلذلك (٣) سلمت مما وقع فيه المخالفون.

قال الشيخ ـ أيده الله ـ : قد حيّرت هذه المسألة [العامّة] حتى زعم بعضهم ـ وقد ألزمته [أنا] بمقتضياتها (٤) ـ أن المطلقة بعد الرجعة إليها عن الخلع يلزمها العدة وإن كانت مطلقة من غير دخول بها ، فرد (القرآن) ردّا ظاهرا. فقلت لهذا

__________________

(١) في «ح» : فقاربها.

(٢) الأحزاب : ٤٩.

(٣) في «ح» : فكذلك.

(٤) في «ح» : بمتضمّنها.

١٩٦

القائل : من أين أوجبت عليها العدة وقد طلقها الرجل من غير أن يدخل بها مع نص (القرآن)؟ فقال : لأنه قد دخل بها مرة قبل هذا الطلاق. فقلت له : إن اعتبرت هذا الباب لزمك أن يكون من تزوج امرأة (١) وقد كان طلقها ثلاثا ، فاستحلّت ثم اعتدّت وتزوّجها بعد العدة ، ثم طلّقها قبل أن يدخل بها في الثاني ، أن تكون العدة واجبة عليها ؛ لأنه قد دخل بها مرة ، وهذا خلاف دين الإسلام. فقال : الفرق بينهما أن هذه [التي ذكرت] قد قضت منه عدة ، والاولى لم تقض العدّة. فقلت : أليس قد أسقطت الرجعة لها بعد الخلع العدّة [عنها] (٢) باتفاق؟ قال : بلى. قلت له : فمن أين يرجع عليها ما كان سقط عنها؟ وكيف يصح ذلك في الأحكام الشرعية ، وأنت لا يمكنك أن تلزمها العدة الساقطة عنها [إلّا] بنكاح لا يجب فيه عدة بظاهر (القرآن)؟ وهذا أمر متناقض؟ فلم يأت بشي‌ء) (٣) انتهى كلامه قدس‌سره في الكتاب المذكور.

أقول : صريح كلام هذين العمدتين ، وكذا ظاهر السيد ـ رضي‌الله‌عنه وعنهما ، حيث نقله ولم يتعرّض لإنكاره ولا الطعن فيه ، بل الظاهر أنه المشهور بين أصحابنا ، رضوان الله عليهم ـ هو سقوط العدة عن المختلعة والمطلقة ثلاثا لو عقد عليها الزوج بعد ذلك قبل انقضاء العدة ، ثم طلقها قبل الدخول ، وأنه يجوز لغيره في تلك الحال [التزوّج] (٤) بها ؛ لدخوله تحت عموم الآية المتقدّمة. والذي وقفت (٥) عليه في كلام جملة من متأخري أصحابنا هو المنع (٦) ، وهو الظاهر عندي ؛ نظرا إلى أن العدّة الاولى إنّما سقطت بالنسبة إلى الزوج خاصّة ، وهذا

__________________

(١) في «ح» : امرة.

(٢) ليست في «ح».

(٣) الفصول المختارة من العيون والمحاسن (ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد) ٢ : ١٧٨ ـ ١٨٠ ، باختلاف.

(٤) في النسختين : التزويج.

(٥) في «ح» : وقعت.

(٦) سيأتي التصريح به.

١٩٧

الطلاق الثاني الواقع قبل الدخول وإن لم يترتّب عليه العدة اتفاقا. لكن الكلام في العدة الاولى فإنها واجبة بالنصّ ، آية (١) ، ورواية (٢) ، وبالإجماع. وغاية ما يستفاد سقوطها بالنسبة إلى الزوج ، فإنه يجوز له العقد قبل انقضائها ؛ لعدم وجوب الاستبراء من مائه الّذي هو العلّة في وجوب العدة.

وأمّا غيره فلا ، وطلاقه لها بعد هذا العقد المجرد عن الدخول لا يؤثر في سقوط تلك العدة ، وإنّما يؤثر في مدة هذا الطلاق. والتمسك بظاهر الآية في المقام معارض بما دلّ على وجوب العدّة من الآية والرواية والإجماع ، فيجب تقييدها بذلك. على أن الآية إنّما تدلّ على سقوط العدة بالنسبة إلى هذا الطلاق الأخير الخالي عن الدخول ، وهذا لا نزاع فيه ؛ إذ هذه العدة التي أوجبناها إنّما هي عدة الطلاق الأول ، أو الخلع. والجنوح في سقوطها إلى عقد الزوج عليها إنّما يتم بالنسبة إليه خاصة ، فقول شيخنا المفيد قدس‌سره : (أليس قد أسقطت الرجعة لها بعد الخلع العدة عنها باتفاق؟) على إطلاقه غير مسلم ؛ إذ الإسقاط إنما وقع في حقّ الزوج خاصة.

ومما حضرني من الأخبار في ذلك مرسلة ابن أبي عمير المروية في (الكافي) قال : «إن الرجل إذا تزوج المرأة متعة كان عليها عدة لغيره ، فإذا أراد هو أن يتزوّجها لم يكن عليها منه عدة ، يتزوجها إذا شاء» (٣).

وأنت خبير بأنه لا فرق في هذا الحكم بين الزوجة الدائمة والمنقطعة ، فإن كلّا منهما يسقط عنها العدة بعد الفراق مع عدم الدخول. وعلى هذا فيجري الإشكال ـ الذي أورده الفضل رحمه‌الله على العامّة ـ في المتعة ، بمقتضى كلامه ، فإنه لو تزوّج

__________________

(١) الآية : من سورة الطلاق.

(٢) سيأتي التصريح بها.

(٣) الكافي ٥ : ٤٥٩ / ٣ ، باب الزيادة في الأجل.

١٩٨

الرجل امرأة متعة ودخل بها ، ثم أبرأها من المدة ، ثم عقد عليها عقدا منقطعا أو دائما ثم أبرأها ، أو طلّقها ، فإنه يجوز لغيره أن يتزوّجها متعة ، ثم يفعل بها كذلك ، فينكحها في يوم واحد عشرة أو أكثر ، كما ألزم به اولئك ، وتأتي فيه الشناعة التي ألزمهم بها. وقد وقفت على رسالة في المتعة الظاهر أنها من تصانيف المحقّق الفيلسوف العماد (١) المير محمد باقر الداماد قدس‌سره قد جنح فيها إلى ذلك ، وصرح فيها بأن المستمتعة المحتال في سقوط عدتها بذلك النحو لا عدة عليها ؛ لا للعقد الثاني ؛ ولا الأول. وهو من الشناعة بمحل لا يخفى! وممن صرح بعدم جواز ذلك المحدث الكاشاني في (مفاتيح الشرائع) (٢) إلّا إن عبارته لا تخلو من سهو وغفلة ، فإنه قال : (ومما يعد من الحيل المباحة ما لو أراد جماعة نكاح امرأة في يوم واحد فيتزوجها أحدهم ثمّ يطلقها بعد الدخول ، ثم يتزوّجها ثانية ويطلّقها من غير دخول ، فيتزوجها الآخر في الحال لسقوط العدة من غير المدخولة ، وهو غلط واضح) (٣) انتهى كلامه.

فإن فيه أن الطلاق بعد الدخول من غير استبراء بحيضة ، أو مضيّ مدة ثلاثة أشهر لا يجري على مذهبنا. اللهم إلّا أن يكون مراده الرد على العامة القائلين بجواز الطلاق في الطهر الذي واقع فيه ، وحينئذ ينكشف عن عبارته الإشكال ، ويتم الاستدلال. إلّا إن الإيراد بمثال المتعة كما ذكرنا أظهر في هذا المجال.

وممن صرّح أيضا بما اخترناه شيخنا البهائي قدس‌سره ، فيما وقفت عليه في أجوبة مسائل الشيخ صالح الجزائري ، حيث قال بعد كلام في المقام : (أمّا لو دخل بالمتمتع بها ، ثم أبرأها ، ثم تمتّعها وأبرأها قبل الدخول ، فالذي اعتمد عليه أنه

__________________

(١) من «ح».

(٢) في «ح» ورد الرمزان : «في» و «تيح» ، وهما إشارة إلى (الوافي) و (مفاتيح الشرائع). علما أنه لم نعثر عليه في (الوافي).

(٣) مفاتيح الشرائع ٣ : ٣٣٥ / المفتاح : ١٢٣١.

١٩٩

لا يحل لغيره العقد عليها إلّا بعد العدة ، ولا فرق بين الإبراء والطلاق. وما يوجد في كتب الأصحاب من جواز ذلك للانخراط في سلك المطلقات قبل الدخول لا اعوّل عليه ، ولا أقول به ، وللكلام فيه مجال واسع ليس هذا محله ، والله العالم) انتهى كلامه زيد مقامه.

والقول باختصاص الآية بالزوجة الدائمة ، فلا تجري في المتعة لا وجه له ؛ فإن الأخبار دالة في المتعة على أنه لو (١) أبراها قبل الدخول فلا عدّة عليها ، ودلالتها كالآية.

وفي حديث الجواد عليه‌السلام مع يحيى بن أكثم القاضي المروي في كتاب إرشاد الشيخ المفيد رحمه‌الله ما يتضمن جواز الظهار في الطهر الذي نكحها فيه (٢) ، ولعله محمول على التقيّة ، إلّا أن يقال بوقوع الظهار بغير المدخول بها بناء على أحد القولين ، وهو خلاف المشهور الذي دلّت عليه صحاح الأخبار ، والله سبحانه وأولياؤه أعلم.

__________________

(١) في «ح» : أنها.

(٢) الإرشاد (ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد) ١١ / ٢ : ٢٨٦ ـ ٢٨٧.

٢٠٠