الدّرر النجفيّة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

ثم قال : (والذي يدلّ على ذلك أنه قد ثبت في المعقول أن الإقدام على ما لا يأمن المكلف كونه قبيحا مثل الإقدام على ما يعلم قبحه ، ألا ترى أن من أقدم على الإخبار بما لا (١) يعلم صحّة مخبره جرى في القبح مجرى من أخبر مع علمه بأن (٢) مخبره على خلاف ما أخبر به على حدّ واحد؟

وإذا ثبت ذلك ، وفقدنا الأدلّة على حسن هذه الأشياء ، فينبغي أن نجوّز كونها قبيحة ، وإذا جوّزنا ذلك فيها قبح الإقدام عليها) (٣). ثم أطال الكلام في النقض والإبرام بدفع ما يرد على دليله في هذا المقام.

رأي المحقق رحمه‌الله

وممّن اختار ذلك وصرح به المحقق رحمه‌الله في (المعتبر) قال : (وأمّا الاستصحاب فأقسامه (٤) ثلاثة :

الأول : استصحاب حال (٥) العقل ، وهو التمسّك بالبراءة الأصلية ، كما تقول : ليس الوتر واجبا ؛ لأن الأصل براءة العهدة.

الثاني : أن يقال : عدم الدليل على كذا ، فيجب نفيه. وهذا يصحّ فيما يعلم (٦) أن لو كان هناك دليل لظفر به ، أما لا مع ذلك فإنه يجب التوقّف ، ولا يكون ذلك الاستدلال حجة.

ومنه القول بالإباحة لعدم دليل الحظر (٧) والوجوب). ثم ذكر الثالث ، وهو الاستصحاب بالمعنى المشهور (٨).

__________________

(١) في «ح» : لم.

(٢) في «ح» : بانه.

(٣) العدة في اصول الفقه ٢ : ٧٤١ ـ ٧٤٢.

(٤) في «ح» : فأقسام.

(٥) ليست في «ح».

(٦) في «ح» بعدها : له.

(٧) ليست في «ح».

(٨) المعتبر ١ : ٣٢.

١٦١

وسيأتي (١) تحقيقه إن شاء الله تعالى في بعض درر الكتاب (٢).

والمعنى الأوّل الّذي ذكره هو ما ذكرنا من القسم الأوّل من قسمي البراءة الأصليّة ، والثاني وهو الثاني مما ذكرناه من قسميها أيضا.

وكلامه قدس‌سره في كتاب (الاصول) يشعر بموافقته للمشهور حيث قال : (اعلم أن الأصل خلوّ الذمّة عن الشواغل الشرعيّة ، فإذا ادّعى مدّع حكما شرعيّا جاز لخصمه أن يتمسّك في انتفائه بالبراءة الأصلية (١) ، فيقول : لو كان ذلك الحكم ثابتا ، لكان عليه دلالة شرعيّة ، لكن ليس كذلك فيجب نفيه. ولا يتم هذا الدليل ، إلّا ببيان مقدمتين :

الاولى : أنه لا دلالة عليه شرعا (٣) بأن نضبط طرق الاستدلالات الشرعيّة ، ونبين عدم دلالتها عليه.

الثانية : أن نبين أنه لو كان هذا الحكم ثابتا ، لدلّت عليه إحدى تلك الدلائل ؛ لأنه لو لم يكن عليه دلالة لزم التكليف (٤) [ب] ما لا طريق للمكلّف إلى العمل (٥) به ، وهو تكليف [بـ] ما لا يطاق.

__________________

(١) في «ح» : فسيأتي.

(٢) انظر الدرر ١ : ٢٠١ ـ ٢٢٢ / الدرّة : ٩.

(٣) والظاهر أن منه أيضا الحكم بطهارة الآدمي بالغيبة ؛ فإن الأصل عدم التكليف بالفحص عن ذلك ؛ إذ الحكم المذكور ممّا يعمّ به البلوى أيضا ؛ للقطع والجزم بعدم خلوّ الإنسان من التلوّث بالنجاسة ، وأقلّه البول والغائط اللذين (١) لا ينفكّ [عنهما] (٢) أحد ، فلو لم يحكم بالطهارة فيه بمجرّد الغيبة لامتنع الاعتناء بإمام الجماعة حتّى يسأل عنه ، والحكم باستصحاب النجاسة في نفسه ليس حجّة عندنا.

وبالجملة ، مقدّمة الدليل على ترتّب الطهارة على الفحص والسؤال دليل على العدم. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

(٤) في «ح» : شرعيا.

(٥) في «ح» : تكليف.

(٦) في «ح» : العلم.

__________________

١ ـ في الأصل : الذي.

٢ ـ في الأصل : عنه.

١٦٢

ولو كان عليه دلالة غير تلك الأدلّة ، لما كانت أدلّة الشرع منحصرة فيها (١) ، لكن (٢) قد بيّنّا انحصار الأحكام في تلك الطرق ، وعند هذا يتم كون ذلك دليلا على نفي الحكم) (٣) انتهى.

مناقشة المصنف رحمه‌الله لكلام المحقق قدس‌سره

وهذا الكلام لا يخلو من إجمال ، وتعدّد الاحتمال ؛ فإنه إن أراد حصر الأدلّة الشرعيّة بالنسبة إلى ما يعمّ به البلوى من الأحكام ، كوجوب قصد السورة ، ووجوب قصد الخروج بالتسليم ونحو ذلك. فالاستدلال بها صحيح ؛ لأن المحدّث الماهر إذا تتبّع الأخبار الواردة حق التتبع في مسألة (٤) ـ لو كان فيها حكم مخالف للأصل لاشتهر ؛ لعموم البلوى بها ـ ولم يظفر بما يدلّ على ذلك ، يحصل له الجزم أو الظن الغالب بعدم الحكم ؛ لأن جمّا غفيرا من أصحابهم عليهم‌السلام ـ ومنهم الأربعة الآلاف الرجل الذين كانوا من تلامذة الصادق عليه‌السلام (٥) ـ كانوا ملازمين لهم عليهم‌السلام في مدّة تزيد على ثلاثمائة سنة ، وكانت همّتهم وهمّة الأئمّة عليهم‌السلام إظهار الدين ، وترويج الشريعة (٦).

وكانوا لحرصهم على ذلك يكتبون كلّ ما يسمعونه حال سماعه ؛ خوفا من عروض النسيان ، وكان الأئمَّة عليهم‌السلام يحثّونهم على ذلك. وليس الغرض منه إلّا العمل به بعدهم ؛ لئلّا يحتاج الشيعة إلى التمسّك بما عليه العامّة من الأخذ بالآراء

__________________

(١) في «ح» بعدها : لكن.

(٢) ليست في «ح».

(٣) معارج الأصول : ٢١٢ ـ ٢١٣.

(٤) في «ح» : في مسألة حق التتبّع ، بدل : حقّ التتبّع في مسألة.

(٥) انظر الإرشاد (ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد) ١١ / ٢ : ١٧٩ ، إعلام الورى بأعلام الهدى : ٢٧٦ ـ ٢٧٧ ، المعتبر ١ : ٢٦ ، الوافية في اصول الفقه : ١٨٢.

(٦) انظر الوافية في اصول الفقه : ١٢٢.

١٦٣

والأهواء ، والاصول المقرّرة عندهم ؛ ولئلّا يضيع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء من شيعتهم. ففي مثل ذلك يجوز التمسّك (١) بأصالة العدم ، وإن عدم الدليل ـ والحال كذلك ـ دليل على العدم.

وعدّ بعض المحدّثين (٢) من أمثلة هذه الصورة أيضا نجاسة أرض الحمّام ، ونجاسة الغسالة. والظاهر أنهما ليسا من ذلك القبيل ؛ فإن الأوّل يمكن القول فيه بالطهارة استنادا إلى عموم قوله عليه‌السلام : «كلّ شي‌ء طاهر حتى تعلم أنه قذر» (٣) ، إلّا أن يخصّ الخبر ، ـ كما ذهب إليه البعض (٤) ـ بما كان من الأشياء مشتملا على أفراد بعضها طاهر وبعضها نجس ، كالدم والبول على قياس «كل شي‌ء فيه حلال وحرام ، فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه».

والثاني يمكن القول فيه بالنجاسة ، والاستدلال بما دل على نجاسة الماء القليل بالملاقاة ، إلّا أن يخصّ بورود النجاسة على الماء دون العكس ، كما هو أحد القولين (٥) ، وهو الظاهر من الأخبار (٦) ، فتختص النجاسة بما ليس كذلك.

وإن أراد حصر الأدلّة الشرعيّة بالنسبة إلى أيّ حكم كان من جميع الأحكام ـ ولعله هو الأظهر من كلامه ، بمعنى : (إن كل حكم اريد فبعد الفحص والتفتيش [في] (٧) الأدلة الواصلة إلينا ، وعدم الاطلاع عليه يجب الجزم بنفي الحكم ، ويكون التمسك بالبراءة الأصليّة دليلا على نفيه كما قالوا : عدم وجود المدرك

__________________

(١) من «ح».

(٢) الفوائد المدنيّة : ١٤١.

(٣) تهذيب الأحكام ١ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥ / ٨٣٢ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٦٧ ، أبواب النجاسات ، ب ٣٧ ، ح ٤ ، وفيهما : «نظيف» بدل : «طاهر».

(٤) الفوائد المدنيّة : ١٤٨.

(٥) انظر الناصريات : ٧٢ ـ ٧٣ / المسألة : ٣.

(٦) انظر وسائل الشيعة ١ : ١٥٠ ـ ١٥٦ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٨.

(٧) في النسختين : من.

١٦٤

للحكم الشرعي مدرك شرعيّ لعدم الحكم. وبعبارة اخرى : عدم (١) الدليل دليل على العدم) (٢) ـ فيرد عليه أن هذا إنما يتمشّى على قواعد العامّة (٣) الذين هم الأصل في العمل على البراءة الأصليّة ، لاتّفاقهم على أن جميع ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أظهره للصحابة ، ولم يكتم شيئا منه (٤) عن الأبيض ولا الأسود ، ولا خص أحدا بشي‌ء من علومه دون أحد ، ولم تقع بعده فتنة أوجبت إخفاء شي‌ء من علومه صلى‌الله‌عليه‌وآله. فعدم اطّلاع المجتهد بعد الفحص والتفتيش والتتبّع للأدلّة على دليل مخرج عن البراءة الأصليّة ، أو على نسخ أو تقييد أو تخصيص أو تأويل لآية أو سنّة موجب للظنّ بعدم ذلك واقعا.

وأما عندنا معاشر الإمامية فحيث استفاض في أخبارنا ، بل صار من ضروريات ديننا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أودع علومه عند أهل بيته (٥) ، وخصّهم (٦) بها دون غيرهم ، واستفاض أيضا أنه لم يبق من الأحكام جزئيّ ولا كلي ، إلّا وقد ورد فيه خطاب شرعيّ وتكليف إلهيّ ، وأن (٧) ذلك مخزون عندهم عليهم‌السلام (٨) ، وأنهم كانوا في زمن تقيّة وفتنة ، فقد يجيبون عند السؤال بما هو الحكم شرعا وواقعا ، وقد يجيبون بخلافه تقية ، وقد لا يجيبون أصلا ، كما ورد عنهم عليهم‌السلام : «إن الله قد فرض عليكم السؤال ، ولم يفرض علينا الجواب ، بل ذلك إلينا إن شئنا أجبنا ، وإن لم نشأ لم نجب» (٩).

فلا يتّجه إجراء هذه القاعدة ، ولا ما يترتّب عليها من الفائدة ؛ لأن وجود الحكم

__________________

(١) في «ح» بعدها : وجود.

(٢) هداية الأبرار : ٢٧٠.

(٣) تقريب الوصول إلى علم الاصول : ١٤٤.

(٤) ليست في «ح».

(٥) انظر الكافي ١ : ٢٢١ ـ ٢٢٧ ، باب أن الأئمَّة عليهم‌السلام يرث بعضهم بعضا ، باب أن الأئمَّة عليهم‌السلام ورثوا علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجميع الأنبياء والأوصياء.

(٦) في «ح» : حقّهم.

(٧) في «ح» : بعدها : جميع.

(٨) انظر الكافي ١ : ٢٣٨ ـ ٢٤٢ ، باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة عليها‌السلام.

(٩) لم نعثر عليه بنصه ، انظر بصائر الدرجات : ٣٨ ـ ٤٣ / ب ١٩.

١٦٥

الشرعيّ في كلّ فرد فرد من القضايا معلوم بتلك الأخبار ، فعدم الاطّلاع عليه لا يدلّ على العدم.

نعم ، يرجع الكلام إلى عدم ثبوت التكليف بالحكم ، لعدم (١) الوقوف على الدليل ، فتصير حجّية (٢) البراءة الأصليّة من هذا القبيل ، وبذلك تعلق بعض فضلاء متأخري المتأخرين وإن كان خلاف ما عليه العلماء جيلا بعد جيل.

والتحقيق أنه لا يخلو من إجمال يحتاج إلى تفصيل ، وذلك أنه إذا (٣) كان الحكم المطلوب دليله هو الوجوب ، فلا خلاف ولا إشكال في انتفائه ، حتى يظهر دليله لاستلزامه التكليف به بدون الدليل الحرج ، وتكليف ما لا يطاق كما عرفت ، لا من حيث عدم الدليل ، كما ذكروا ، بل من حيث عدم الاطّلاع عليه ، إذ (٤) لا تكليف إلّا بعد البيان ، و «الناس في سعة ما لم يعلموا» (٥).

و «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (٦).

و «رفع القلم عن تسعة أشياء ...» وعد منها (٧) «ما لا يعلمون» (٨).

كما قد وردت بجميع ذلك النصوص ، وإن كان هو التحريم المستلزم نفيه للإباحة الذي هو محلّ الخلاف بين الأصحاب والمعركة العظمى في هذا الباب.

فهذه الأخبار ولو سلّمنا دلالتها عليه كالأوّل ـ وإن تفاوت دلالتها في الموضعين ـ إلّا إنها يعارضها ما (٩) ورد عنهم عليهم‌السلام ، ممّا دل على وجوب الاجتناب عن كلّ

__________________

(١) في «ح» : بعدم.

(٢) في «ح» : حجيته.

(٣) في «ح» : إن.

(٤) في «ح» : ان.

(٥) الكافي ٦ : ٢٩٧ / ٢ ، باب نوادر كتاب الأطعمة وفيه : «هم في سعة حتى يعلموا» ، عوالي اللآلي ١ : ٤٢٤ / ١٠٩ ، وفيه : «إن الناس في سعة ما لم يعلموا».

(٦) التوحيد : ٤١٣ ، ب ٦٤ / ٩.

(٧) في «ح» : منهم.

(٨) التوحيد : ٣٥٣ ، ب ٥٦ / ٢٤ ، الفقيه ١ : ٣٦ / ١٣٢ ، وفيهما : «وضع عن أمّتي تسع ...».

(٩) في «ح» : معارضة بما ، بدل : يعارضها ما.

١٦٦

فعل وجوديّ لا يقطع بجوازه عند الله ، كأخبار التثليث (١) المستفيضة الآتية إن شاء الله تعالى.

وحينئذ ، فيجب تقييد تلك الأخبار بهذه (٢) ، بمعنى : أن البيان والعلم بالحكم حاصل بالتوقّف ، والاحتياط الذي قد أشارت إليه هذه الأخبار ؛ فإنه أحد الأحكام الشرعيّة كما سيتّضح لديك إن شاء الله تعالى. على أن الإباحة الشرعيّة أحد الأحكام الخمسة المتوقّفة أيضا على دليل ، ولا يكفي في ثبوتها فقط دليل التحريم. وهذا هو الظاهر عندي من الأخبار بعد إرسال جياد الفكر (٣) في هذا المضمار.

أدلّة القائلين بحجّية البراءة الأصليّة

وتنقيح المقام (٤) إنما يتمّ بنقل حجج الطرفين ، وما يرد عليها من الكلام في البين ، فنقول : اعلم أنه قد استدلّ القائلون بحجّية البراءة الأصليّة بوجوه :

أحدها : أن هذه الأشياء منافع خالية من أمارات المفسدة ، فكانت مباحة ، كالاستظلال بحائط الغير ، وقال (٥) بعضهم في تقرير هذا الكلام : إنها منافع خالية من الضرر على المالك (٦).

وثانيها : قوله تعالى (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (٧) خرج منه ما خرج بدليل ، فبقي الباقي.

وثالثها : قول الصادق عليه‌السلام : «كل شي‌ء مطلق حتى يرد فيه نهي» (٨).

__________________

(١) انظر الدرر ١ : ٢٤٩ / الهامش : ١ ، ٢.

(٢) في «ح» : بعدّه.

(٣) في «ح» : التفكر.

(٤) في «ح» : الكلام.

(٥) من «ح» ، وفي «ق» : فقال.

(٦) الفوائد المدنيّة : ٢٣٥ ـ ٢٣٦.

(٧) البقرة : ٢٩.

(٨) الفقيه ١ : ٢٠٨ / ٩٣٧ ، وسائل الشيعة ٦ : ٢٨٩ ، أبواب القنوت ، ب ١٩ ح ٣.

١٦٧

ورابعها : ما ورد عنهم عليهم‌السلام من قولهم : «الناس في سعة ما لم يعلموا».

و «ما حجب الله علمه عن (١) العباد فهو موضوع عنهم».

وقولهم عليهم‌السلام : «كل شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه».

و «رفع القلم عن تسعة أشياء (٢) ـ وعد منها ـ ما لا يعلمون».

ومجملها أنا مكلّفون بما يصل إلينا حكمه ؛ إذ لا تكليف إلّا بعد البيان وإلّا لزم تكليف ما لا يطاق.

والجواب :

أمّا عن الأوّل ، فهو مصادرة ؛ فإنه محلّ النزاع. ثم أيّ ضرر في ارتكاب المحرّمات على المالك الّذي هو الله سبحانه؟ وهل هذا إلّا قياس مع وجود الفارق.

وأما عن الآية ، فبعد تسليم الاستدلال بظواهر (القرآن) ـ بدون ورود التفسير عن أهل الذكر والبيان ـ أنها لا دلالة لها على ما يدّعونه ، إذ (٣) غاية ما تدل عليه أن الله سبحانه خلق ما في الأرض لعباده ، أي لأجل منافعهم الدينية والدنيوية بأيّ وجه اتّفق. وهذا لا يستلزم إباحة كلّ شي‌ء ، ومجرّد خلقه للانتفاع لا يستلزم حلّيّة ما لا نصّ فيه ؛ لجواز الانتفاع به على وجه آخر ؛ إذ لا شي‌ء من الأشياء إلّا وله وجوه متعددة من المنافع. ولئن سلمنا الدلالة فالتخصيص قائم بما سيأتي من الأخبار ، كما قد خصّصت الآية المذكورة بغيرها.

ويحتمل أيضا ما ذكره الشيخ رضي‌الله‌عنه في كتاب (العدّة) في الجواب عن أدلّة (٤)

__________________

(١) في «ح» : على.

(٢) ليست في «ح».

(٣) في «ح» : ان.

(٤) في «ح» : الأدلّة.

١٦٨

القول في الإباحة حيث استدلّوا بأن خلقه تعالى في (١) هذه الأجسام الطعم واللون لا بد أن يكون فيه وجه حسن ، وإلّا لجعلها (٢) خالية منها (٣) ، فأجاب قدس‌سره : (بأنه إنما خلق هذه الأشياء إذا كانت فيها ألطاف ومصالح وإن لم يجز لنا أن ننتفع بها بالأكل ، بل نفعنا بالامتناع منها ، فيحصل لنا [بها] الثواب ، كما أنه خلق أشياء كثيرة يصح الانتفاع بها ، ومع ذلك فقد حظرها بالسمع ، مثل شرب الخمر والميتة والزنا وغير ذلك) (٤) انتهى.

ومجمله أن العلة مجرّد الانتفاع الحاصل بالثواب بالامتناع من ذلك ، وحينئذ فلا يحتاج إلى تخصيص في (٥) الآية. ثم إنه قدس‌سره احتمل أيضا في الجواب (أن الانتفاع بهذه الأشياء قد يكون بالاستدلال بها على الله تعالى وعلى صفاته ، فليس الانتفاع مقصورا (٦) على التناول فحسب) (٧) انتهى.

أقول : ويدلّ على هذا الوجه الأخير ما ورد في بعض الأخبار المعتمدة في تفسير هذه الآية عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «خلق لكم ما في الأرض لتعتبروا به» (٨).

وعلى هذا يسقط الاستدلال بالآية أصلا ورأسا ؛ لأنه ـ صلوات الله عليه ـ أعرف بظاهره (٩) وخافيه :

وصاحب البيت أدرى [بالذي] (١٠) فيه

فلا يمكن الجزم بدخول شي‌ء من باقي المنافع ، وكيف كان ، فلا أقلّ من (١١) أن

__________________

(١) سقط في «ح».

(٢) في «ح» : لخلقها.

(٣) من «ح» ، وفي «ق» : عنها.

(٤) العدة في اصول الفقه ٢ : ٧٤٧ ـ ٧٤٨.

(٥) ليست في «ح».

(٦) في «ح» : مقصودا.

(٧) العدّة في اصول الفقه ٢ : ٧٤٨.

(٨) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٢ ـ ١٣ / ب ٣٠ ، ح ٢٩.

(٩) في «ح» : لظاهره.

(١٠) في النسختين : بما.

(١١) من «ح».

١٦٩

تكون الآية المذكورة باحتمال ما ذكرنا من المعاني من المتشابهات الّتي يمتنع الاستناد إليها في الاستدلال.

الرد على أدلّة القائلين بحجيّة البراءة

وأما الجواب عن الأخبار فمن وجهين : إجماليّ ، وتفصيليّ.

أما الأول منهما (١) ، فمن وجوه :

الأول : أنها أخبار آحاد ، وقد تقرّر عندهم عدم حجيّتها في الاصول (٢) ؛ لأنها لا تفيد غير الظنّ ، وقد تواتر النهي عن العمل به في الآيات (٣) والروايات (٤) ، وإطلاقها شامل للأصول والفروع ، لكنهم قد خصّوها بالاصول وجوّزوا في الفروع التمسّك بالظن ، حملا لآيات المنع ورواياته على الاصول. وحينئذ ، فلا يجوز لهم الاستدلال فيها بدليل ظنّيّ.

الثاني : أن هذه الأخبار موافقة للعامّة ، وما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى مخالف لهم ؛ فإنها دلّت على كون الامور ثلاثة ، ثالثها المتشابه ، وعلى وجوب التوقّف والاحتياط في ذلك القسم الثالث. وهذه الأخبار قد دلت على التثنية ، وعدم وجود المتشابه في الأحكام ، ومقتضاها الجزم في جميع الأحكام بالحلّ أو التحريم. وهذا هو مذهب العامة أجمع (٥) ، حيث إنهم قائلون بالتثنية ، ومدارهم على العمل بأصالة البراءة. وقد تقرّر في أخبارنا وجوب الأخذ عند تعارض

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الثالثة) : ٢٤ ، الغنية ٢ : ٣٥٦.

(٣) الأنعام : ١١٦ ، الإسراء : ٣٦ ، النجم : ٢٨ ، انظر معالم الاصول : ٢٧١.

(٤) انظر وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٥ ـ ٦٢ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٦.

(٥) انظر : المعتمد في اصول الفقه ٢ : ٣١٥ ، المحصول في علم الاصول ١ : ٣٣ ، الإحكام في اصول الأحكام ٤ : ٣٦٨ ، تقريب الوصول إلى علم الاصول : ١٤٤.

١٧٠

الأخبار بخلافهم ؛ فإن الرشد في خلافهم (١).

الثالث : أن المفروض في هذه الأخبار ، عدم وجود النهي وعدم حصول العلم بالحكم ، والحال أن النهي قد ورد في تلك الأخبار ، كما سيأتي ، وهو النهي عن القول بغير علم (٢) ، والنهي عن ارتكاب الشبهات (٣). وحصل أيضا منها العلم ، وهو العلم بالاحتياط في بعض الأفراد ، فإنه أحد (٤) الأحكام الشرعية ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

وعلى هذا يكون مضمون (٥) هذه الأخبار مخصوصا بما قبل إكمال الشريعة ، أو بمن لم يبلغه النهي العام المعارض لهذه الأخبار ، فيبقى الآن مضمونها غير موجود عند العلماء العارفين بمعارضاتها.

الرابع : أنها خلاف الاحتياط ، وما يقابلها موافق للاحتياط ؛ فإنه لا خلاف في رجحان الاحتياط في المقام ، وإنما الخلاف في وجوبه واستحبابه ، فالنافون للبراءة الأصليّة على وجوبه في هذا المقام ، والمثبتون لها على الاستحباب. والأخبار المستفيضة الدالة على الأمر بالاحتياط في الدين (٦) أوضح دلالة وأكثر عددا ، فالعمل بما يوافقها أرجح البتّة. ولعل أقرب هذه الوجوه ، هو الحمل على التقيّة فيما وضحت دلالته على ذلك من هذه الأخبار ؛ لأنها أصل الاختلاف في أخبارنا كما نبّهنا عليه في محل أليق.

وأمّا الجواب التفصيلي ؛ فأمّا عن الحديث الأول ـ وهو عمدة أدلّة القوم ،

__________________

(١) انظر : الكافي ١ : ٦٨ / ١٠ ، باب اختلاف الحديث ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ ـ ١٠٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٢ ـ ٢٤ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٤ ، ح ٥ ، ٩ ، ١٠.

(٣) انظر وسائل الشيعة ٢٧ : ١٥٤ ـ ١٧١ ، أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يحكم به ، ب ١٢.

(٤) في «ح» : أحد.

(٥) نسخة بدل : المفهوم. (هامش «ح»).

(٦) انظر وسائل الشيعة ٢٧ : ١٥٤ ـ ١٧٥ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢.

١٧١

وأكثرهم في مقام الاستدلال لم يستند إلّا إليه ؛ إذ ما عداه ليس بظاهر الدلالة كما سنقف عليه ـ فمن وجوه :

أحدهما : الحمل على التقية كما تقدّمت الإشارة إليه.

الثاني : أن يكون مخصوصا بالخطابات الشرعيّة. وحاصل معناه حينئذ أن كل خطاب شرعيّ فهو باق على إطلاقه وعمومه ، حتّى يرد فيه نهي عن بعض الأفراد ، فيخرجه عن ذلك الإطلاق ، مثل قولهم : «الماء كله طاهر حتى تعلم أنه قذر» (١) ؛ فإنه محمول على إطلاقه.

ولما ورد (٢) النهي عن استعمال كل واحد من الإناءين إذا تنجّس أحدهما واشتبه بالآخر ، تعيّن تقييده بما عدا هذه الصورة.

ومثل ما ورد : أن «كل شي‌ء طاهر ، حتى تعلم أنه قذر» ، مع ما ورد من أن من كان معه ثوبان أحدهما نجس واشتبه بالآخر ، وجب أن يصلّي الفريضة في كلّ منهما على حدة (٣) ، فإنه بمقتضى الكلّيّة السابقة تكفي الصلاة في واحد منهما ؛ عملا بأصالة الطهارة. ولكن وجود الحديث المذكور خصّص عموم تلك الكلّيّة كما ترى ، وهذا المعنى هو الذي فهمه (٤) شيخنا الصدوق ـ عطّر الله مرقده ـ من الحديث ، فاستدلّ به على جواز القنوت بالفارسيّة (٥) ؛ وذلك فإن أحاديث

__________________

(١) الكافي ٣ : ١ / ٣ ، باب طهور الماء ، تهذيب الأحكام ١ : ٢١٥ / ٦١٩ ، وسائل الشيعة ١ : ١٣٤ ، أبواب الماء المطلق ، ب ١ ، ح ٥ ، في الثلاث : حتى يعلم ، بدل : حتّى تعلم.

(٢) انظر : الكافي ٣ : ١٠ / ٦ ، باب الوضوء من سؤر الدواب ... ، وسائل الشيعة ٣ : ٥٠٥ ، أبواب النجاسات ، ب ٦٤ ، ح ٢.

(٣) الفقيه ١ : ١٦١ / ٧٥٧ ، تهذيب الأحكام ٢ : ٢٢٥ / ٨٨٧ ، وسائل الشيعة ٣ : ٥٠٥ ، أبواب النجاسات ، ب ٦٤ ، ح ١.

(٤) في «ح» : قصر.

(٥) الفقيه ١ : ٢٠٨ / ذيل الحديث : ٩٣٧.

١٧٢

القنوت (١) فيها عموم وإطلاق ، ولم يصل إليه نهي عن القنوت بالفارسيّة يخرجها عن إطلاقها ، وإلّا فإن العبادة لا يستدل فيها بأصالة الإباحة ، بل لا بدّ من دليل الرجحان الشرعيّ.

الثالث : التخصيص بما ليس من نفس الأحكام الشرعيّة ، وإن كان من متعلّقاتها وموضوعاتها ، كما إذا شكّ في جوائز الظالم أنها مغصوبة أم لا.

الرابع : أنه لا أقل من أن يكون محتملا لكلّ من هذه المعاني المذكورة ، فيكون متشابها.

الخامس : أنه خبر واحد لا يعارض ما سيأتي من الأخبار المستفيضة الآتية.

وأما الجواب عن الحديث الثاني : وهو قوله عليه‌السلام : «الناس في سعة ما لم يعلموا» ، فالظاهر من لفظ السعة هو الحمل على مقام الوجوب ، وهو نفي الوجوب في فعل وجودي حتى يقوم دليله. ومع تسليم عمومه ، فهو معارض بالأخبار المستفيضة الآتية. ولا شكّ أن العمل على تلك الأخبار أرجح كما ستطلع عليه إن شاء الله تعالى ؛ فإنه قد حصل منها العلم بما ذكرنا من التوقف والاحتياط ، فالاستدلال به بعد حصول العلم مكابرة محضة ، وبه يتعين حمله على مقام الوجوب. على أن هذا الحديث لم نقف عليه بهذا اللفظ مسندا (٢) في شي‌ء من كتب الأخبار.

والذي وقفت عليه من ذلك رواية السّكوني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أن أمير المؤمنين عليه‌السلام : سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة ، كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها ، وفيها سكين قال عليه‌السلام : «يقوّم ما فيها ثم يؤكل ؛ لأنه يفسد ، وليس له بقاء ، فإن جاء صاحبها (٣) غرموا له الثمن». قيل : يا أمير المؤمنين : لا ندري سفرة

__________________

(١) وسائل الشيعة ٦ : ٢٨٩ ، أبواب القنوت ، ب ١٩.

(٢) في «ح» : مستندا.

(٣) في المصدر : طالبها.

١٧٣

مسلم ، أو سفرة مجوسيّ؟ فقال (١) عليه‌السلام : «هم في سعة حتى يعلموا» (٢).

ومع إغماض النظر عن المناقشة في السند فهي غير صريحة الدلالة فيما يدّعونه ؛ لأن معنى كلامه عليه‌السلام : أنهم (٣) في سعة من النجاسة باحتمال أنها سفرة مجوسيّ ، حتّى يعلموا النجاسة ، فهو مثل : «كل شي‌ء طاهر حتى تعلم أنه قذر».

وأيضا فإنه عليه‌السلام قال : «هم» أي اولئك الآكلون «في سعة» ، باعتبار أصالة الطهارة ، وليس فيه مثل الحديث المنقول : «الناس في سعة» ، إلّا أن يحكم بالتعدية بطريق تنقيح المناط. وكيف كان فهو مخصوص بالنسبة إلى العمل بأصالة الطهارة كما هو ظاهر.

وأما الجواب عن الحديث الثالث ـ وهو قوله : «ما حجب الله علمه عن (٤) العباد» إلى آخره ـ فالظاهر أيضا من لفظ الوضع تخصيصه بمقام الوجوب بمعنى : أن ما حجب الله علمه عن العباد فالتكليف بوجوبه موضوع عنهم (٥) ؛ إذ لا يناسب التعبير بالوضع مقام التحريم. ومع تسليم عمومه ، فهو [مخصّص] (٦) كما خص سابقاه (٧) ـ مع احتمال التقيّة أيضا.

وأما عن الحديث الرابع ـ وهو قوله : «كل شي‌ء فيه حلال وحرام» إلى آخره ـ ففيه أنه لا دلالة فيه على حجّيّة الأصل في نفس الأحكام الشرعيّة ، لأن مدلوله مخصوص بما يكون نوعا ينقسم إلى قسمين ، وحكم كل منهما معلوم شرعا إلّا إنه حصل اشتباه أحدهما بالآخر مع عدم الحصر في أفرادها ، كاللحم الذي منه

__________________

(١) في «ح» : قال.

(٢) الكافي ٦ : ٢٩٧ / ٢ ، باب نوادر كتاب الأطعمة ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٩٣ ، أبواب النجاسات ، ب ٥٠ ، ح ١١.

(٣) في «ح» : أنه.

(٤) في «ح» : من.

(٥) في «ح» : عنها.

(٦) في النسختين : مخصوص.

(٧) في «ح» : سابقا.

١٧٤

مذكّى وميتة ، والجبن الّذي منه ما عمل من لبن طاهر ، ومنه ما عمل من لبن نجس ، وكجوائز الظالم. والشارع لعموم البلوى بذلك ، وحصول الحرج المنافي لسعة الدين المحمدي ، وسهولة الحنفية السمحة ؛ حلّل جميع ما في الأسواق ، وما في أيدي الناس من ذلك وإن علم دخول الحرام فيه مع مجهوليّته ، حتى يعلم الحرام بعينه.

وقد ورد التصريح بهذا المضمون في عدّة أخبار (١) كما لا يخفى على من جاس خلال تلك الديار.

وأما عن الحديث الخامس ـ وهو : «رفع القلم» ـ [فما] (٢) اجيب عن نظائره.

وبالجملة ، فغاية ما يستفاد من هذا الخبر ، وكذا الخبر الثاني والثالث هو معذوريّة الجاهل بالحكم الشرعيّ ، ونحن لا ندفعه بل نقول به إلّا إنا نقول : كما (٣) يجب الخروج عن مضمون هذه الأخبار بالعلم بسائر الأحكام من وجوب أو تحريم أو نحوهما ، وترتفع بذلك المعذوريّة ، كذلك ترتفع بالعلم بوجوب التوقّف والاحتياط المستفاد عن الأخبار الآتية ، فيما لم يرد فيه نص شرعي ؛ فإن التوقّف والاحتياط أحد الأحكام الشرعيّة كما سيأتي بيانه.

ثم إن قوله أخيرا : (إنا مكلفون) ـ إلى آخره ـ إن أراد بالحكم المذكور هو الحكم خاصة ، فهو ظاهر البطلان ، بل العمل بالحكم العامّ أيضا واجب كالخاصّ بشرط أن يكون الفرد الّذي يراد إثباته (٤) بيّن الفردية وإلّا لاحتاج إلى دليل آخر. وقد وصل إلينا النصّ العامّ المتواتر بمعنى أنا (٥) مكلّفون في كلّ واقعة بحكم

__________________

(١) انظر مثلا وسائل الشيعة ٢٥ : ١١٧ ـ ١٢٠ ، أبواب الأطعمة المباحة ، ب ٦١.

(٢) في النسختين : فيما.

(٣) في «ح» بعدها : انه.

(٤) في «ح» بعدها : به.

(٥) في «ح» : للتواتر معنى بأنا ، بدل : المتواتر بمعنى أنا.

١٧٥

شرعي ، وبالتوقف والاحتياط إن لم نعلمه. واشتباه بعض الأحكام علينا ـ مع إمكان تحصيل البراءة في مقام التحريم بترك الفعل الوجودي المحتمل (١) له دون مقام الوجوب لما مضى ويأتي ـ لا يكون لنا عذرا في الجزم بالإباحة الشرعيّة ، مع عدم الدليل ، ولا بالإباحة (٢) الأصليّة للعلم بالانتقال عنها إلى الوجوب أو التحريم أو الكراهة أو الإباحة الشرعيّة. ولو لم يكن النصّ العامّ حجّة ، لزم رفع التكليف ؛ إذ لا نصّ خاصّ على وجوب الصلاة على زيد في يوم كذا في سنة كذا في مكان كذا.

وبالجملة ، فإنه حيث علم الانتقال عن الإباحة الأصليّة بما ذكر ـ والإباحة الشرعيّة متوقّفة على الدليل كغيرها من الأحكام ، ولا دليل في المقام ـ وجب اطّراح البناء على البراءة الأصليّة في الأحكام الشرعيّة ، كما هو ظاهر لذوي الأفهام.

أدلة القائلين بعدم حجّية البراءة الأصلية

استدلّ القائلون بالمنع من الحجّيّة ـ وإن كان مجرّد إبطال دليل الخصم كاف في المطلوب ـ بالأخبار المستفيضة الدالّة على التثليث في الأحكام ، وأن الأمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى الله سبحانه وإلى رسوله وإلى اولى الأمر من بعده ، صلوات الله عليهم.

والأمر المشكل ممّا يجب التوقّف فيه وردّ حكمه إلى الله تعالى وإلى رسوله وإلى اولي الأمر ، صلوات الله عليهم. فروى الصدوق قدس‌سره في (الفقيه) ، قال : خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام الناس فقال : «إن الله حد حدودا فلا تعتدوها ، وفرض فرائض فلا

__________________

(١) في «ح» : المحتملة.

(٢) في «ح» : الإباحة.

١٧٦

تنقصوها ، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلّفوها رحمة من الله لكم فاقبلوها».

ثم قال عليه‌السلام : «حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك. فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان أترك. والمعاصي حمى الله عزوجل ، فمن [يرتع] (١) حولها يوشك أن يدخلها» (٢) وفي حديث جميل بن صالح عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في كلام طويل ـ : الامور ثلاثة : أمر تبيّن لك رشده فاتبعه ، وأمر تبين لك غيه فاجتنبه ، وأمر اختلف فيه فرده إلى الله تعالى» (٣).

وفي مقبولة عمر بن حنظلة عن الصادق عليه‌السلام : «وإنما الأمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى الله والى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم».

إلى أن قال : «فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» (٤) ، وروى الشيخ محمد بن الحسن الحر قدس‌سره في كتاب (الوسائل) عن الحسين بن سعيد (٥) في كتاب (الزهد) بسند معتبر عن أبي شبيب (٦) ، عن أحدهما عليهما‌السلام في حديث قال :

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : رتع.

(٢) الفقيه ٤ : ٥٣ / ١٩٣.

(٣) الفقيه ٤ : ٢٨٥ ـ ٢٨٦ / ٨٥٤ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٦٢ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٢٨.

(٤) الكافي ١ : ٦٧ ـ ٦٨ / ١٠ ، باب اختلاف الحديث ، وليس فيه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فإن الوقوف عند الشبهات ... الهلكات ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٥٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٩ ، وفيه : ثم قال في حديث آخر : فإن الوقوف عن الشبهات ...

(٥) في هامش «ح» : عبد ، بدل : سعيد.

(٦) في المصدر : شيبة.

١٧٧

«الوقوف عند الشبهة ، خير من الاقتحام في الهلكة» (١).

وفي كتاب (الخصال) ، بسنده عن أبي شبيب (٢) يرفعه إلى أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «أورع الناس من وقف عند الشبهة» (٣).

وفي حديث مسعدة بن زياد ، عن أبي جعفر ، عن آبائه عليهم‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : «لا تجامعوا في النكاح على الشبهة وقفوا عند الشبهة».

إلى أن قال : «فإن الوقوف عند الشبهة (٤) خير من الاقتحام في الهلكة» (٥).

وروى في كتاب (عيون الأخبار) عن الميثميّ عن الرضا عليه‌السلام في حديث اختلاف الأخبار قال : «وما لم تجدوه في شي‌ء من هذه الوجوه فردوا (٦) إلينا علمه ، فنحن أولى بذلك ، ولا تقولوا فيه بآرائكم ، وعليكم بالكفّ والتثبّت والوقوف ، وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا» (٧).

وروى في كتاب (معاني الأخبار) بسنده فيه إلى حمزة بن حمران قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إن كل من أجاب فيما يسأل فهو المجنون (٨)» (٩).

وفي (كتاب سليم بن قيس) أن علي بن الحسين عليه‌السلام قال لأبان بن أبي عيّاش (١٠) «يا أخا عبد قيس ، إن (١١) وضح لك أمر فاقبله ، وإلّا فامسك تسلم ، وردّ علمه

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٥٨ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ١٣.

(٢) في المصدر : شعيب.

(٣) الخصال ١ : ١٦ / ٥٦ ، باب الواحد.

(٤) في «ح» : الشبهات.

(٥) تهذيب الأحكام ٧ : ٤٧٤ / ١٩٠٤ ، وليس فيه : وقفوا عند الشبهة ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٢٥٨ ـ ٢٥٩ / أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ، ب ١٥٧ ، ح ٢.

(٦) في «ح» : فردوه.

(٧) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢١ / ب ٣٠ ، ح ٤٥.

(٨) في «ح» : مجنون.

(٩) معاني الأخبار : ٢٣٨ / ٢ ، باب معنى الجنون.

(١٠) في «ح» : عباس.

(١١) في المصدر : فإن.

١٧٨

إلى الله ، فإنه أوسع ممّا (١) بين السماء والأرض» (٢).

وروى الشيخ أبو علي الحسن ابن الشيخ الطوسي قدس‌سرهما في (الأمالي) بسنده إلى النعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «إن لكل ملك حمى ، وحمى الله حلاله وحرامه والمشتبهات بين ذلك ، كما لو أن راعيا رعى إلى جانب الحمى لم يثبت غنمه أن تقع في وسطه ، فدعوا الشبهات» (٣).

وروى فيه أيضا بسنده عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام في جملة حديث قال فيه : «وما جاءكم عنّا فإن وجدتموه للقرآن موافقا فخذوا به ، وإن لم تجدوه موافقا فردّوه ، فإن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردّوه إلينا نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا» (٤).

وروى فيه أيضا بسنده عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصيّته لابنه الحسن عليه‌السلام : «وأنهاك عن التسرع بالقول ... والفعل والزم الصمت تسلم (٥)» (٦).

وروى البرقي في كتاب (المحاسن) بسنده فيه إلى أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنما أهلك الناس العجلة ، ولو أن الناس تلبّثوا لم يهلك أحد» (٧). إلى غير ذلك ممّا يدل على هذا المضمون في المقام ، وينتظم في سلك هذا النظام.

ويؤكد ذلك ورود جملة من الأخبار الدالّة على النهي عن القول بغير علم ، ووجوب الوقوف عند ذلك ، فروى ثقة الإسلام ـ عطر الله مرقده ـ في (الكافي) بإسناده إلى زرارة قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام : ما حق الله على العباد؟ فقال : «أن يقولوا ما يعلمون ، ويقفوا عند ما لا يعلمون» (٨).

__________________

(١) في «ح» : فإنك أوسع ما ، وفي المصدر : فإنك في أوسع ممّا ، بدل : فإنه أوسع ممّا.

(٢) كتاب سليم بن قيس الهلالي (المعروف بالسقيفة) ٢ : ٥٦١ ، مفتتح الكتاب.

(٣) الأمالي : ٣٨١ / ٨١٨.

(٤) الأمالي : ٢٣١ ـ ٢٣٢ / ٤١٠.

(٥) في «ح» : الصحة والسلم.

(٦) الأمالي ٧ ـ ٨ / ٨.

(٧) المحاسن ١ : ٣٤٥ / ٦٩٧.

(٨) الكافي ١ : ٤٣ / ٧ ، باب النهي عن القول بغير علم.

١٧٩

وروى فيه أيضا في الموثّق عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام مثله (١).

وروى فيه أيضا في الحسن عن زياد بن أبي رجاء ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «ما علمتم فقولوا ، وما لم تعلموا (٢) فقولوا : الله أعلم» (٣).

وفيه : عن إسحاق بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إن الله تعالى خص عباده بآيتين من كتابه : ألّا يقولوا حتى يعلموا ولا يردوا ما لم يعلموا ، وقال الله تعالى (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ) (٤)» (٥).

وفيه بسنده عن حمزة الطيار قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «لا يسعكم فيما ينزل (٦) بكم مما لا تعلمون إلّا الكفّ عنه والتثبت والردّ إلى أئمة الهدى ، حتّى يحملوكم (٧) فيه على القصد» (٨).

وفي كتاب (نهج البلاغة) ، في وصايا أمير المؤمنين عليه‌السلام لابنه الحسن عليه‌السلام : «ودع القول فيما لا تعرف ، والخطاب فيما لم (٩) تكلّف ، وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته ، فإن الكفّ عند حيرة (١٠) الضلال خير من ركوب الأهوال» (١١).

وعنه عليه‌السلام أنه قال في خطبة له : «فيا عجبا! وما لي لا أعجب عن خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها ، لا يقتصّون أثر نبي ، ولا يقتدون بعمل وصيّ ... يعملون

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٠ / ١٢ ، باب نوادر كتاب فضل العلم.

(٢) قوله عليه‌السلام : فقولوا وما لم تعلموا ، سقط في «ح».

(٣) الكافي ١ : ٤٢ / ٤ ، باب النهي عن القول بغير علم.

(٤) الأعراف : ١٦٩.

(٥) الكافي ١ : ٤٣ / ٨ ، باب النهي عن القول بغير علم.

(٦) في «ح» : نزل.

(٧) في «ح» : يحكموكم.

(٨) الكافي ١ : ٥٠ / ١٠ ، باب نوادر كتاب فضل العلم.

(٩) في «ح» : لا.

(١٠) ليست في «ح».

(١١) نهج البلاغة : ٥٣٧ / الوصيّة : ٣١.

١٨٠