الدّرر النجفيّة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

ومنها الحكم بكراهة التخلّي تحت الأشجار المثمرة ـ أي الّتي كان فيها ثمر ـ بعد زوال الثمرة منها ؛ بناء على (١) هذا الأصل ؛ للأخبار الدالة على كراهة الخلا تحت الأشجار المثمرة (٢) ؛ فإن الاسم صادق على ما كانت كذلك بناء على الأصل المذكور. وأكثر الأصحاب (٣) حكموا بالكراهة لذلك.

ويرد عليه :

أولا : تصريح الأخبار (٤) بأن المراد بالمثمرة : المنهيّ عن ضرب الخلا تحتها ما كانت مثمرة بالفعل ؛ معلّلا في جملة (٥) منها بمكان الملائكة الموكلين بحفظ ثمرها ؛ ولهذا تكون أنيسة ما دام ثمرها فيها.

وثانيا : أن هذا إنما يتم بناء على جعل محلّ النزاع هو المعنى الأعمّ. وأمّا إذا قيّد بما قصد به الحدوث من المشتقات ـ كما هو التحقيق فيما قدمنا بيانه ـ فما هنا ليس منه ؛ لأن الظاهر أن لفظ (مثمرة) بمعنى : ذات الثمر من (أثمرت النخلة) إذا صار فيها الثمر ك (أتمرت) إذا صار فيها التمر (٦) ، و (أطعمت) إذا صار فيها ما يطعم ، كما هو ظاهر لمن (٧) تصفّح كتب اللغة. فالمشتقّ هنا لم يبق على هيئة اشتقاقه ، ولم يجر مجرى ما اشتقّ منه ، بل سلك به مسلك الجوامد ، وربما كان في ورود الأخبار هنا دالّة على تخصيص الكراهة بوجود الثمرة بالفعل ما يؤذن بالقدح في بناء الأحكام الشرعية على الأصل المذكور وتفريعها عليه.

__________________

(١) في «ح» بعدها : ان.

(٢) وسائل الشيعة ١ : أبواب أحكام الخلوة ، ب ١٥.

(٣) انظر : روض الجنان : ٢٥ ، مسالك الأفهام ١ : ٣٢ ، جامع المقاصد ١ : ١٠٣ ، مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٩٣ ـ ٩٤.

(٤) انظر وسائل الشيعة ١ : ٣٢٥ ـ ٣٢٨ ، أبواب أحكام الخلوة ، ب ١٥ ، ح ٣ ، ٦ ، ٨ ، ٩ ، ١١.

(٥) انظر : الفقيه ١ : ٢١ ـ ٢٢ / ٦٣ ـ ٦٤ ، وسائل الشيعة ١ : ٣٢٧ ، أبواب الخلوة ، ب ١٥ ، ح ٨.

(٦) كأتمرت إذا صار فيها التمر ، من «ح».

(٧) في «ح» : من.

١٤١

ومنها الحكم بتحريم دخول المساجد وقراءة العزائم على الحائض بعد انقطاع دمها وقبل الغسل على المشهور ؛ لإطلاق الأخبار بمنع الحائض من ذلك (١) ، وصدق الحائض على هذه بناء على الأصل المذكور.

وقيل بعدم التحريم ؛ لمنع الصدق بعد الانقطاع لغة وعرفا وإن قلنا بأن المشتق لا يشترط في صدقه بقاء أصله ، كما في مثال المؤمن والكافر ، والحلو والحامض.

ونفى عنه البعد في (المدارك) (٢) إلّا إنه قرّب (٣) المشهور.

أقول : ظاهر من حكم بالتحريم هنا ، جعل موضع النزاع هو الأعمّ من المشتق المراد به : الحدوث أو الدوام كما عرفت في المسألتين المتقدّمتين ، وظاهر من نفى التحريم تخصيص محل النزاع المشتق المراد منه : الحدوث. ومثال الحائض ليس كذلك ، بل هو من قبيل مثال المؤمن والكافر ، كما عرفت تحقيقه آنفا.

وحينئذ فالخلاف في هذا الفرض متفرّع على القولين من عموم محل النزاع في الأصل المذكور أو خصوصه ، وبذلك يظهر لك ما في الاعتراض على السيّد السند في (المدارك) حيث جعل المشهور أقرب ، بعد أن نفى البعد عن القول الآخر المعلل بعدم الصدق ؛ لانتفائه لغة وعرفا ، فاعترض عليه بأن ذلك يقتضي جعل القول الآخر أقرب.

ووجه الجواب ما ذكرنا ، والمحدث الأمين الأسترآبادي قدس‌سره ـ بناء على ما تقدّم من كلامه المؤذن بفرضه محل النزاع هو الأعمّ ، واختياره الاشتراط ـ اختار هنا القول المشهور ، مستندا إلى إطلاق الأخبار (٤) وصدق الحائض على هذه ، لكنه فسّر الحائض بذات حدث الحيض ، وكذلك النفساء بذات حدث النفاس ـ قال :

__________________

(١) انظر وسائل الشيعة ٢ : ٢١٣ ـ ٢١٥ ، أبواب الجنابة ، ب ١٧ ، ١٩.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ١٥ ـ ١٦.

(٣) من «ح» ، وفي «ق» : أقرب.

(٤) انظر وسائل الشيعة ٢ : ٢١٣ ، أبواب الجنابة ، ب ١٧.

١٤٢

(وهو المستفاد من الأخبار) لا ذات الدم ، وجعل هذا من باب إرادة ما يعم المعنى اللغوي وما في حكمه شرعا ، ثم أورد جملة من الأخبار منها قوله عليه‌السلام : «إذا أرادت الحائض أن تغتسل» (١) إلى آخره.

وقوله : «الطامث تغتسل بتسعة أرطال من ماء» (٢).

وقوله : «الحائض ما بلغ الماء من شعرها أجزأها» (٣).

«والنفساء تكفّ عن الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل» (٤).

قال : (وتبادر معنى من كلامهم ـ صلوات الله عليهم ـ هو العمدة عندنا سواء كان من باب الحقيقة اللغوية ، أو العرفية ، العامة أو الخاصة ، أو المجاز المشهور عنهم (٥) عليهم‌السلام) ثم استدلّ أيضا بما يدلّ على النهي عن جماع الحائض بعد انقطاع الدم وقبل الغسل.

أقول : ما ذكره قدس‌سره من أن المراد بالحائض في هذه الأخبار : ذات حدث الحيض وإن احتمل ، إلّا إن فيه :

أوّلا : أن لقائل أن (٦) يقول أيضا : إن المراد بها انما هو ذات الدم ، ويكون إطلاقه عليها انما هو باعتبار عدم اشتراط وجود المبدأ ونحوه في الصدق ، بناء على جعل موضع النزاع المعنى الأعمّ.

وحينئذ ، فتكون هذه الأخبار دليلا لمن قال في المسألة بذلك. وبها أيضا يعتضد القول المشهور هنا من تحريم دخول المساجد وقراءة العزائم على من

__________________

(١) الكافي ٣ : ٨٠ / ٢ ، وسائل الشيعة ٢ : ٣٠٨ ـ ٣٠٩ ، أبواب الحيض ، ب ١٧ ، ح ١.

(٢) الكافي ٣ : ٨٢ / ٢ ، وسائل الشيعة ٢ : ٣١١ ، أبواب الحيض ، ب ٢٠ ، ح ١.

(٣) الكافي ٣ : ٨٢٢ / ٤ ، وسائل الشيعة ٢ : ٣١١ ، أبواب الحيض ، ب ٢٠ ، ح ١.

(٤) الكافي ٣ : ٩٧ ـ ٩٨ / ١ ، تهذيب الأحكام ١ : ١٧٥ / ٤٩٩ ، الاستبصار ١ : ١٥٠ / ٥١٩.

(٥) في «ح» : بينهم.

(٦) لقائل أن ، ليس في «ح».

١٤٣

انقطع عنها الدم قبل الغسل ؛ لصدق الاسم بدلالة هذه الأخبار. ودعوى التجوّز بالمعنى الّذي ذهب إليه يدفعه أصالة عدم النقل عن المعنى اللغوي ؛ فإن الحائض لغة هي ذات دم الحيض (١).

والظاهر أن الذي اضطرّه قدس‌سره إلى ارتكاب هذا المعنى في هذه الأخبار هو ظهور مخالفتها لما ذهب إليه من اشتراط وجود المبدأ ونحوه في الصدق. كما قدمنا نقله عنه.

وثانيا : أن الآية (٢) وجملة من الأخبار (٣) قد دلا على جواز الجماع بعد انقطاع الدم وقبل الغسل ، مع أن الأخبار قد استفاضت بتحريم جماع الحائض (٤) ، وترتيب التعزير (٥) والكفارة (٦) على فعله. فلو كان معنى الحائض شرعا ، هي ذات حدث الحيض كما يدّعيه ، لما تمّ جواز الجماع بعد الانقطاع وقبل الغسل ، والآية وما ذكرنا من الأخبار على خلافه ، وعليه جل الأصحاب ، بل كلّهم ، حيث لم ينقل (٧) الخلاف إلّا عن (٨) الصدوق (٩) ـ طاب ثراه ـ وكلامه لا يدلّ عليه إن لم يدلّ على خلافه (١٠).

__________________

(١) مجمع البحرين ٤ : ٢٠١ ـ حيض.

(٢) البقرة : ٢٢٢ ، وهي قوله تعالى (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ).

(٣) انظر وسائل الشيعة ٢ : ٣٢٤ ـ ٣٢٦ ، أبواب الحيض ، ب ٢٧.

(٤) انظر وسائل الشيعة ٢ : ٣١٧ ـ ٣٢١ ، أبواب الحيض ، ب ٢٤.

(٥) انظر وسائل الشيعة ٢٨ : ٣٧٧ ـ ٣٧٨ ، أبواب بقية الحدود والتعزيرات ، ب ١٣.

(٦) انظر وسائل الشيعة ٢ : ٣٢٧ ـ ٣٢٨ ، أبواب الحيض ، ب ٢٨.

(٧) عنه في المعتبر ١ : ٢٣٥ ، مدارك الأحكام ١ : ٣٣٦ ـ ٣٣٧.

(٨) في «ح» : من.

(٩) الفقيه ١ : ٥٣ / ذيل الحديث : ١٩٩.

(١٠) قال قدس‌سره : (فإن كان الرجل شبقا وقد طهرت المرأة وأراد زوجها أن يجامعها قبل الغسل ، أمرها أن تغسل فرجها ثم يجامعها). قال صاحب (المدارك) بعد نقل هذا القول : (وهو صريح في جواز الوطء قبل الغسل إذا كان الزوج شبقا وغسلت فرجها ، فلا يتمّ إسناد التحريم إليه مطلقا). انظر : الفقيه ١ : ١٥٣ / ذيل الحديث : ١٩٩ ، مدارك الأحكام ١ : ٣٣٦ ـ ٣٣٧.

١٤٤

وثالثا : أن الأخبار أيضا قد دلّت على وصفها بالطهر بعد انقطاع الدم وقبل الغسل (١) ، ومن الظاهر أن المراد : الطهر من الحيض ، فهو مقابل له ، فلا يجتمع معه فيقال : حائض طاهر. ويأتي على ما ذكره اتّصافها (٢) بهما.

ولو قيل : إنه لا يدفع كون الحيض بمعنى الدم (٣) لغة وشرعا ، والطهر هو النقاء منه ، وإنما يدّعى أن لفظ الحائض في الأخبار معناه ذات حدث الحيض مجازا مشهور وحقيقة عرفية أو نحوهما من المعاني التي ذكرها.

قلنا : المفهوم من الأخبار أيضا أن الطهر صفة تقابل الحيض ، كما في قولهم : (إذا كانت المرأة حائضا فطهرت) ، ونحو ذلك ، فإنه يدلّ على أن الطهر حالة تقابل حالة الحيض ولا تجتمع معها ؛ إذ لا معنى لقوله في هذه العبارة : (فطهرت) ، إلّا (انتقلت) إلى حالة أخرى لا يصح وصفها فيها بكونها حائضا ، وما هو الّا باعتبار كون الحائض ذات الدم لا ذات حدث الحيض.

وبالجملة : فالأظهر عندي أن بناء الأحكام الشرعيّة على مثل هذه القواعد الغير المنضبطة والأصول الغير المرتبطة مما لم يقم عليه دليل شرعي.

وقد عرفت (٤) تعدّد أقوالهم ، واختلاف آرائهم في أصل القاعدة ـ لاختلاف أفرادها (٥) وجزئياتها التي يراد اندراجها تحتها ـ إلى ما يبلغ ثمانية أقوال ، ولو كان لذلك أصل في الشريعة مع كثرة ما يتفرع عليه من الأحكام ، لظهر له دليل عنهم (٦) عليهم‌السلام. فالمرجع حينئذ إلى أخبارهم ـ صلوات الله عليهم ـ في كل جزئي

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢ : ٣١٢ ـ ٣١٣ ، أبواب الحيض ، ب ٢١ ، ح ٣.

(٢) في «ح» : اتصاف.

(٣) بمعنى الدم ، ليس في «ح».

(٤) في النسختين بعدها : من.

(٥) في «ح» : أفراد بها.

(٦) في «ح» : منهم.

١٤٥

جزئي مما اندرج تحت هذه القاعدة ، فإن وجد عليه دليل من كلامهم (١) ، وإلّا وجب الوقوف فيه على جادّة الاحتياط عندنا ، أو يرجع إلى البراءة الأصلية عند آخرين. وقد عرفت من أخبار الجلوس تحت الأشجار المثمرة ما يؤيّد كلامنا في نقض هذه القاعدة ، وعدم جواز بناء الأحكام عليها ، والله العالم.

__________________

(١) في «ح» : كلماتهم.

١٤٦

(٥)

درّة نجفيّة

لو رأى المصلي في ثوب إمامه نجاسة غير معفو عنها (١)

وجدت في ظهر بعض (٢) الكتب مسألة مذيّلة بجواب لبعض أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ بما هذه صورته :

(مسألة : لو رأى المأموم في أثناء الصلاة في ثوب الإمام نجاسة غير معفوّ عنها ، فهل (٣) يجوز له الاقتداء في تلك الحال ، أم لا؟ وهل يجب عليه إعلامه أم لا؟

ولو لم يجز له الاقتداء فهل يبني بعد نية الانفراد على ما مضى ، أم يعيد من رأس؟

الجواب الأولى عدم الائتمام ، ويجب الإعلام ، ويجب الانفراد في الأثناء (٤) ، ويبني على قراءة الإمام) انتهى ما وجدته.

أقول : ما ذكره من وجوب الإعلام فقد صرح به العلّامة ـ أجزل الله تعالى إكرامه ـ في أجوبة مسائل السيد السعيد (٥) مهنا بن سنان المدني (٦) ، واحتجّ على

__________________

(١) من هامش «ح» ، وفيه : المصلّي أثناء الصلاة.

(٢) ظهر بعض ، من «ح».

(٣) من «ح» ، وفي «ق» : فهو.

(٤) في الأثناء ، ليس في «ح».

(٥) في «ح» : العبد.

(٦) أجوبة المسائل المهنّائيّة : ٤٨ ـ ٤٩ / المسألة : ٥٣.

١٤٧

ذلك بكونه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (١). وأنت خبير بما فيه :

أمّا أوّلا : فلأن الأصل عدمه ، وأدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تشمله ؛ لعدم توجّه الخطاب للجاهل والذاهل والناسي ، كما ذكروه (٢) ، فلا منكر بالنسبة إليهما ولا معروف.

وأمّا ثانيا : فلأن ما وقفت عليه من الأخبار (٣) المتعلّقة بجزئيّات هذه المسألة يردّ ما ذكروه ، ويبطل ما حرّروه ، فمن ذلك صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام أن الباقر عليه‌السلام اغتسل ، وبقيت لمعة من جسده لم يصبها الماء (٤) ، فقيل له ، فقال : «ما عليك لو سكتّ؟» (٥).

ورواية محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام قال : سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دما وهو يصلي ، قال : «لا يؤذنه حتى ينصرف» (٦) وهي صريحة في المطلوب (٧).

__________________

(١) والنهي عن المنكر ، ليس في «ح».

(٢) شرائع الإسلام ١ : ٣١١ ، الجامع للشرائع : ٢٤٢ ، مسالك الأفهام ٣ : ١٠١ ـ ١٠٢.

(٣) الكافي ٣ : ٤٥ / ١٥ ، وسائل الشيعة ٢ : ٢٥٩ ـ ٢٦٠ ، أبواب الجنابة ، ب ٤٣ ، ح ١.

(٤) لم يصبها الماء ، من «ح».

(٥) الكافي ٣ : ٤٥ / ١٥ ، وسائل الشيعة ٢ : ٢٥٩ ـ ٢٦٠ ، أبواب الجنابة ، ب ٤٣ ، ح ١.

(٦) الكافي ٣ : ٤٠٦ / ٨ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٧٤ ، أبواب النجاسات ، ب ٤٠ ، ح ١.

(٧) نقل شيخنا العلّامة الشيخ سليم (١) بن عبد الله البحراني في رسالته في الصلاة عن المحقّق الشيخ عليّ المنع من الاقتداء بمن علم نجاسة ثوبه أو بدنه في الصلاة (٢). ونقل عن بعض المتأخّرين الجواز. وهو قدس‌سره تنظّر في الجواز أولا ثمّ نقل القول به ، قال (٣) : ولا يخلو عن قوّة ، ولم ينقل دليلا في المقام نفيا ولا [إثباتا] (٤). منه دام [ظله]. (هامش «ح»).

__________________

١ ـ كذا في الأصل ، وهو سليمان بن عبد الله البحراني.

٢ ـ الرسالة الجعفرية (ضمن رسائل المحقق الكركي) ١ : ١٢٩.

٣ ـ وردت هذه الكلمة في الأصل قبل قوله : نقل.

٤ ـ في الأصل : اثباته.

١٤٨

ورواية عبد الله بن بكير المروية في كتاب (قرب الإسناد) قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أعار رجلا ثوبا يصلّي فيه ، وهو لا يصلّى فيه ، قال : «لا يعلمه». قلت : فإن أعلمه؟ قال : «يعيد» (١).

ويستفاد من هذه الأخبار كراهية الإخبار فضلا عن جوازه ، فكيف بالوجوب الّذي توهّموه؟

فالظاهر (٢) أن الوجه في ذلك هو أنه لما كان بناء الأحكام الشرعيّة ، إنما هو على الظاهر في نظر المكلّف دون الواقع ونفس الأمر تحقيقا لبناء الشريعة على السهولة والسعة ، وأنّ الفحص عن أمثال ذلك تضييق لها ، نهوا عليهم‌السلام عن الإخبار بذلك والإعلام كما ورد في صحيحة البزنطي قال : سألته عن الرجل يأتي السوق ، فيشتري جبة خزّ ، لا يدري ذكية هي أم لا ، أيصلي فيها؟ قال : «نعم ، ليس عليكم المسألة إن الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم ، وإن الدين أوسع من ذلك» (٣).

وفي حديث بكر بن حبيب المرويّ في كتاب (المحاسن) قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الجبن ، وأنه يوضع فيه الإنفحّة من الميتة (٤)؟ فقال : «لا يصلح». ثم أرسل بدرهم فقال : «اشتر من رجل مسلم ولا تسأله عن شي‌ء» (٥).

إلى غير ذلك من الأخبار (٦).

وبالجملة ، فإنه لمّا كان إناطة الأحكام بالواقع مستلزمة للعسر والحرج ، بل

__________________

(١) قرب الإسناد : ١٦٩ / ٦٢٠.

(٢) في «ح» : والظاهر.

(٣) تهذيب الأحكام ٢ : ٣٦٨ / ١٥٢٩ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٩١ ، أبواب النجاسات ، ب ٥٠ ، ح ٣ ، وفيهما : «إن الدين ...».

(٤) في «ح» : الميت.

(٥) المحاسن ٢ : ٢٩٦ / ١٩٧٧.

(٦) انظر وسائل الشيعة ٣ : ٤٩٠ ، أبواب النجاسات ، ب ٥٠.

١٤٩

تكليف بما (١) لا يطاق ، جعلها الشارع منوطة بعلم المكلّف. وحينئذ ، فتكلّف المكلّف بنفسه الفحص عن الأشياء ، أو إخبار الغير له بذلك ـ مع أنه غير مكلف بما هنالك ـ تضييق للدين المبنيّ على السعة ، ومنشؤه الوسواس والجهل بالأحكام الشرعيّة ، وما بنيت عليه الملّة الحنيفية ، كما أشار إليه في صحيح البزنطيّ.

وأمّا ما ذكره من عدم الائتمام ، ووجوب الانفراد على المأموم في الأثناء فتحقيق القول فيه مبنيّ على مسألة اخرى ، وهي (٢) أن من صلّى في النجاسة جاهلا بها (٣) هل صلاته ـ والحال كذلك ـ صحيحة مبرئة للذمة واقعا وظاهرا ، أو تكون صحيحة ظاهرا باطلة واقعا ، إلّا إنه غير مأخوذ ولا مأثوم ؛ لمكان الجهل بالنجاسة؟ ظاهر الأصحاب كما صرح به شيخنا الشهيد الثاني في (شرح الألفية) ، هو الثاني حيث قال في مسألة ما لو تطهر بالماء النجس جاهلا بعد أن ذكر أن من مبطلاتها الطهارة بالماء النجس ، سواء علم بالنجاسة أو لا ، ما صورته :

(حتى لو استمر به الجهل (٤) حتى مات فإن صلاته باطلة ، غايته عدم المؤاخذة عليها ؛ لامتناع تكليف الغافل. هذا هو الذي يقتضيه إطلاق العبارة (٥) وكلام الجماعة) (٦) انتهى.

وحينئذ ، فيتّجه وجوب الانفراد على المأموم ؛ لظهور بطلان صلاة الإمام عنده ، وعدم جواز الاقتداء بصلاة باطلة وإن كانت صحيحة في نظر الإمام من حيث جهله بالنجاسة. وربما يحتمل على ذلك وجوب الإعلام أيضا. والأظهر

__________________

(١) من «ح» ، وفي «ق» : ما.

(٢) من «ح» ، وفي «ق» : وهو.

(٣) في «ح» : لها.

(٤) في «ح» : الجهل به ، بدل : به الجهل.

(٥) انظر الألفيّة في الصلاة اليوميّة : ٦٣.

(٦) المقاصد العليّة في شرح الرسالة الألفيّة : ٢٩٢.

١٥٠

عندي هو الأول ؛ لوجوه :

أحدها : ما أشرنا إليه آنفا من أن الشارع لم يجعل الحكم بالطهارة والنجاسة أمرا منوطا بالواقع ونفس الأمر ، وإنما رتّبها على الظاهر في نظر المكلّف ، فأوجب عليه الصلاة في الثوب الطاهر ، أي ما لا (١) يعلم بملاقاة النجاسة له وإن لاقته واقعا ، لا ما لم تلاقه النجاسة. ولا نقول : إنه طاهر ظاهرا نجس واقعا ، فإن النجس ـ كما عرفت ـ هو ما (٢) علم المكلّف بملاقاة النجاسة له لا ما لاقته النجاسة مطلقا. وقد مضى في الدرّة الاولى (٣) ما يحقق هذا الكلام.

وثانيها : ما أسلفناه (٤) من الأخبار الدالّة على المنع من الإخبار بالنجاسة وإن كان في أثناء الصلاة ، ولو كان الأمر كما يدّعونه من كون وصف النجاسة والطهارة ونحوهما ، إنّما هو باعتبار الواقع ونفس الأمر ، وأن تلبّس المصلّي بالنجاسة جاهلا موجب لبطلان صلاته واقعا ، فكيف يحسن من الإمام عليه‌السلام المنع من الإيذان بها؟ والإخبار في الصلاة كما في حديث محمد بن مسلم وقبلها ، كما في رواية ابن بكير؟ وهل هو ـ بناء على ما ذكروه ـ إلّا من قبيل التقرير له على تلك الصلاة الباطلة والمعاونة على الباطل؟ ولا ريب في بطلانه.

وثالثها : أنه يلزم ـ على ما ذكروه ـ عدم الجزم بصحّة شي‌ء من العبادات إلّا نادرا. وبذلك (٥) أيضا اعترف شيخنا الشهيد الثاني في تتمّة الكلام الّذي قدمنا نقله عنه حيث قال على أثره : (ولا يخفى ما فيه من البلوى ؛ فإن ذلك يكاد يوجب فساد جميع العبادات المشروطة بالطهارة ؛ لكثرة النجاسات في نفس الأمر وإن لم يحكم الشارع ظاهرا بفسادها ، فعلى هذا لا يستحقّ عليها ثواب الصلاة وإن

__________________

(١) في «ح» : لم.

(٢) في «ح» : ما هو ، بدل : هو ما.

(٣) انظر الدرر ١ : ٦٣ ـ ٧٥.

(٤) في «ح» : أسلفنا.

(٥) في «ح» بعدها : أيضا.

١٥١

استحقّ أجر الذاكر المطيع بحركاته وسكناته (١) إن لم يتفضّل الله تعالى بجوده) (٢) انتهى.

ولم أر من تنبّه لما حقّقناه ، ولا حام حول ما ذكرناه ، إلّا المحدّث الفاضل السيد نعمة الله الجزائري ـ قدس الله روحه ـ في رسالة (التحفة) ، حيث قال ـ بعد أن نقل عن بعض معاصريه من علماء العراق وجوب عزل السور عن (٣) الناس : (ونقل عنهم أن من أعظم أدلّتهم قولهم : إنا قاطعون بأن في الدنيا نجاسات ، وقاطعون أيضا أن في الناس من لا يجتنبها ، والبعض الآخر لا يجتنب ذلك البعض ، فإذا باشرنا أحدا (٤) من الناس فقد باشرنا مظنون النجاسة أو مقطوعها).

إلى أن قال : (فقلنا لهم : يا معشر الإخوان ، الّذي يظهر من أخبار الأئمّة الهادين عليهم‌السلام ، التسامح في أمر الطهارات ، وأن الطاهر والنجس هو ما حكم الشارع بطهارته ونجاسته ، لا ما باشرته النجاسة والطهارة ، فالطاهر ليس هو الواقع في نفس الأمر (٥) ، بل هو (٦) ما حكم الشارع بطهارته ، وكذا النجس. وليس له واقع سوى حكم الشارع بطهارة المسلمين ، فصاروا طاهرين).

إلى أن قال : (وبهذا التحقيق يظهر لك بطلان ما ذهب إليه جماعة من الأصحاب من أن من تطهّر بماء نجس ، فاستمرّ الجهل به حتّى مات ، فصلاته باطلة (٧). غايته عدم المؤاخذة عليها لامتناع تكليف الغافل. ولو صح هذا الكلام

__________________

(١) في «ح» بعدها : و.

(٢) المقاصد العليّة في شرح الرسالة الألفية : ٢٩٢.

(٣) في «ح» : من.

(٤) من «ح» ، وفي «ق» : باشر أحد.

(٥) من «ح».

(٦) من «ح».

(٧) انظر : ذكرى الشيعة ١ : ١١٠ ، المقاصد العلية في شرح الرسالة الألفية : ٢٩٢ ، شرح الألفية (ضمن رسائل المحقق الكركي) ٣ : ٢٩٢.

١٥٢

لوجب فساد جميع العبادات المشروطة بالطهارة لكثرة النجاسة في نفس الأمر) انتهى.

وبذلك يظهر لك أن الأصحّ هو صحّة صلاة المصلّي في النجاسة جاهلا ظاهرا وواقعا واستحقاق الثواب عليها ، وبه يتضح أن لا وجه للانفراد في أثناء الصلاة كما ذكره المجيب ، بسبب رؤية (١) النجاسة.

فإن قيل : هذا في صورة حمل الإمام على كونه جاهل النجاسة متّجه ، وأمّا مع احتمال العلم بها ونسيانها فالمشهور بين الأصحاب وجوب الإعادة في الوقت ، وقيل مطلقا ، وعليهما فلا يتمّ ما ذكرتم ؛ لأن وجوب الإعادة كاشف عن البطلان.

قلنا فيه :

أولا : أنه قد تقرّر في كلامهم (٢) ، ودلّت عليه الأخبار (٣) أيضا حمل أفعال المسلمين على الصحّة ، وأن الفعل متى احتمل كلّا من الصحّة والبطلان ، فإنه يحمل على الوجه المصحّح ، حتى يقوم يقين (٤) البطلان. وهذا أصل عندهم قد بنوا عليه أحكاما عديدة في العبادات والمعاملات ، كما لا يخفى على المتدرّب.

وحينئذ ، فنقول (٥) : إنه لمّا ثبت أن الصلاة في النجاسة جهلا صحيحة ظاهرا أو واقعا ، فعلى تقدير القول ببطلان الصلاة فيها نسيانا ، فرؤية النجاسة المحتملة لكونها مجهولة أو منسية (٦) يقتضي الحمل على الوجه المصحّح ؛ إذ الأصل هو الصحة و «الناس في سعة ما لم يعلموا» (٧).

__________________

(١) في «ح» : رواية.

(٢) الوافية : ١٨٤.

(٣) انظر : وسائل الشيعة ٣ : ٤٩٠ ـ ٤٩٤ ، أبواب النجاسات ، ب ٥٠.

(٤) من «ح» ، وفي «ق» : تعين.

(٥) في «ح» بعدها : له.

(٦) في «ح» بعدها : فلا.

(٧) الكافي ٦ : ٢٩٧ / ٢ ، باب نوادر كتاب الأطعمة ، وفيه : «هم في سعة حتّى يعلموا» ، عوالي اللآلي ١ : ٤٢٤ / ٩ ، وفيه : «إن الناس في سعة ما لم يعلموا».

١٥٣

فلا يمكن الحكم بمجرّد رؤية النجاسة في ثوب المصلي ببطلان صلاته.

وثانيا : أن مقتضى إطلاق رواية محمد بن مسلم ـ الدالة على المنع من إعلام المصلي بالنجاسة (١) شمول الجهل والنسيان. ولعلّ وجهه أن الناسي في حال نسيانه كالجاهل في حال جهله غير مخاطب بما أخلّ به ، فتكون صلاته صحيحة على التقديرين.

وثالثا : أن وجوب الإعادة على القول به لا يستلزم بطلان تلك الصلاة ؛ إذ يجوز أن تكون العلّة فيه أمرا آخر ، كما دلّت عليه رواية سماعة في الرجل يرى في ثوبه الدم فينسى (٢) أن يغسله حتى يصلي قال : «يعيد صلاته ؛ كي يهتمّ بالشي‌ء إذا كان في ثوبه ، عقوبة لنسيانه» (٣) ؛ ومن ثمّ صرّحوا بتوقّف القضاء على أمر جديد. على أنه لو كان وجوب الإعادة إنّما هو لبطلان الصلاة لم يتّجه التفصيل بالوقت وخارجه كما هو المشهور ؛ لأن تبيّن بطلان الصلاة موجب لبقاء صاحبها تحت عهدة الخطاب ، فتجب عليه الإعادة وقتا وخارجا مع أنهم لا يقولون به ، والأخبار في جملة من الموارد لا تساعده.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٠٦ / ٨ ، باب الرجل يصلّي في الثوب وهو غير طاهر عالما أو جاهلا ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٧٤ ، أبواب النجاسات ب ٤٠ ، ح ١.

(٢) في «ح» : فنسي.

(٣) تهذيب الأحكام ١ : ٢٥٤ ـ ٢٥٥ / ٧٣٨ ، الاستبصار ١ : ١٨٢ / ٦٣٨.

١٥٤

(٦)

درّة نجفية

في تحقيق معنى البراءة الأصليّة وبيان أقسامها وحجيتها

اختلفت كلمة أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ في العمل بالبراءة الأصلية في الأحكام الشرعية ، فأكثر أصحابنا الاصوليين على العمل بها (١) وجملة أصحابنا المحدثين ، وشطر من الاصوليين على ردّها.

معنى الأصل اصطلاحا

ولنحقق المقام بتوفيق الملك العلام ، وبركة أهل الذكر عليهم‌السلام بما لم يسبق إليه سابق من علمائنا الأعلام ، فنقول : اعلم أن الأصل كما ذكره جملة من أصحابنا (٢) وغيرهم ، يطلق على معان :

أحدها : الدليل ، كما يقال : الأصل في هذا الحكم (الكتاب) والسنّة.

وثانيها : الراجح. والمراد منه : ما يترجّح إذا خلّي الشي‌ء ونفسه ، ومنه قولهم :

الأصل في الإطلاق الحقيقة ، بمعنى أنه إذا خلّي الكلام ونفسه من غير قرينة صارفة فإن المخاطب يحمله على المعنى الحقيقيّ ؛ لأنه الراجح المتبادر ، ومنه قولهم أيضا : الأصل في الماء عدم النجاسة.

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) انظر : تمهيد القواعد : ٣٢ / القاعدة : ١ ، الوافية في اصول الفقه : ١٨٣ ـ ١٨٤.

١٥٥

وثالثها : الاستصحاب ، أي استصحاب الحالة السابقة الّتي كان عليه الشي‌ء قبل حال الاختلاف ومحلّ النزاع ، ومنه قولهم : تعارض الأصل والظاهر ، كما مثلوا له بأرض الحمّام (١) ، فإن المراد بالظاهر أي ظنّ النجاسة واحتمالها احتمالا راجحا ، والأصل أي الحالة السابقة. ويحتمل أيضا حمل الأصل هنا على الحالة الراجحة الّتي هي ـ كما عرفت ـ عبارة عن ملاحظة الشي‌ء من حيث هو هو. وأمّا قولهم : الأصل في كلّ ممكن عدمه ، فيحتمل الحمل أيضا على كل من الحالة الراجحة والاستصحاب ، فإنه مبنيّ على أن كلّ ممكن إذا خلّي ونفسه ترجّح عدمه على وجوده ؛ لأن المتبادر من التخلية ، عدم تأثير المؤثر.

ورابعها : بمعنى القاعدة (٢) كقولهم : الأصل في البيع اللزوم ، والأصل في تصرّف المسلمين الصحة ، أي القاعدة الّتي عليها وضع البيع بالذات اللزوم (٣) ، وحكم المسلم بالذات صحة تصرفه.

المناقشة في معاني الأصل

إذا عرفت ذلك فالمعنى الأوّل من هذه المعاني مما لا خلاف فيه ولا إشكال يعتريه.

__________________

(١) أي في مثل أرض الحمّام. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

(٢) منه قول النحويين : الأصل في الفاعل الرفع ، وفي المفعول به النصب ، وأمثال ذلك ، أي القاعدة المستفادة من استقراء كلام (١) العرب ، فتأمّل ذلك. منه رحمه‌الله. (هامش «ح»).

(٣) هذا إن وضع [لفظ] البيع شرعا لنقل مال كلّ من المتبايعين إلى الآخر ، وذلك لا ينافي [...] (٢) من خارج. واعترضه بعض المتأخرين بأن قولهم : الأصل في البيع واللزوم ، ليس له وجه ، لأن خيار المجلس ممّا يعمّ أقسام البيع.

وفيه : أن عروض الخيار له وإن كان في المجلس [إلّا إنه] خارج عن صيغة البيع. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

__________________

(١) في الأصل : الكلام.

(٢) سقط في الأصل بمقدار ثلاث كلمات.

١٥٦

وكذا الثاني في غير البراءة الأصلية. وأمّا فيها ، ففيه ما سيتضح لك إن شاء الله من التفصيل.

وأمّا الثالث ، فهو محلّ الاختلاف في المقام ، ومنتصل سهام النقض والابرام.

وأمّا الرابع ، فإن كان تلك القاعدة مستفادة من (الكتاب) والسنّة فلا إشكال في صحّة البناء عليها ، والاستناد إليها ، وإلّا فلا.

ومنه قولهم : الأصل في الأشياء الإباحة ، والأصل في الأشياء الطهارة ، أي القاعدة المستفادة من النصوص ذلك ، كقولهم : «كل شي‌ء فيه حلال وحرام ، فهو لك حلال» (١).

وقولهم : «كل شي‌ء طاهر حتى تعلم أنه قذر» (٢).

ومنه : الأصل في تصرف المسلمين الصحة ؛ لما استفاض من الأخبار بذلك (٣).

والمراد من الأصل في البراءة الأصليّة يحتمل أن يكون المعنى الثاني ؛ فإن قولهم : الأصل براءة الذمة ، بمعنى أنه متى لوحظت الذمّة من حيث هي هي مع قطع النظر عن التكليفات ، فإن الراجح براءتها.

ويحتمل أن يكون المعنى الثالث ، بمعنى أنه متى لوحظت الحالة السابقة على وقت التكليف أو السابقة على وقت الخلاف ، فالأصل بقاء تلك الحالة السابقة (٤)

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٤٠ ، باب نوادر كتاب المعيشة ، وفيه : «فهو حلال لك» بدل : «فهو لك حلال» ، الفقيه ٣ : ٢١٦ / ١٠٠٢ ، تهذيب الأحكام ٧ : ٢٢٦ / ٩٨٨ ، وفيه : «يكون منه حرام» بدل : «يكون فيه حرام» ، تهذيب الأحكام ٩ : ٧٩ / ٣٣٧ ، وسائل الشيعة ١٧ : ٨٧ ـ ٨٨ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ١.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٢٨٥ / ٨٣٢ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٦٧ ، أبواب النجاسات ، ب ٣٧ ، ح ٤ ، وفيهما : «كل شي‌ء نظيف حتى تعلم أنه قذر».

(٣) وسائل الشيعة ٣ : ٤٩٠ ـ ٤٩٤ ، أبواب النجاسات ، ب ٥٠.

(٤) قوله : على وقت التكليف ... الحالة السابقة ، ليس في «ح».

١٥٧

واستصحابها ، حتى يقوم دليل على الخروج عنها ، وهكذا قولهم : الأصل في الأشياء الإباحة.

ثم إنه يجب أن يعلم أن الأصل بمعنى النفي والعدم إنّما يصحّ الاستدلال به على نفي الحكم ، لا إثباته ؛ ولهذا لم يذكر الاصوليّون البراءة الأصلية في مدارك الأحكام الشرعية. وحينئذ ، فإذا كان أصالة البراءة مستلزمة لشغل الذمّة من جهة اخرى ، لم يجز الاستدلال بها ، كما إذا علم نجاسة أحد الإناءين أو الثوبين بعينه ثم اشتبه بالآخر ، فإنه لا يصحّ الاستدلال على الطهارة في أحدهما بأن يقال : الأصل عدم نجاسته ، أو الأصل عدم وجوب الاجتناب عنه ؛ لاستلزامه التكليف بطهارة الآخر (١) وشغل الذمة بذلك ، فتصير البراءة الأصليّة دليلا على ثبوت حكم شرعيّ.

ومنه أيضا اشتباه الزوجة بالأجنبية ، والحلال بالمشتبه بالحرام (٢) ، ومثل ذلك يجري أيضا في أصالة عدم تقدّم الحادث ، فإنه إن لم يستلزم شغل الذمّة من جهة اخرى يصحّ الاستدلال وإلّا فلا ، كما لو استعمل ماء فوجد فيه بعد الاستعمال نجاسة لم يعلم تقدّمها على وقت الاستعمال أو تأخرها عنه ، فإنه يصحّ أن يقال : الأصل عدم تقدّم النجاسة.

وبخصوص ذلك وردت موثقة عمار ، في الفأرة المتفسّخة في الإناء (٣) ، وحينئذ فلا يجب غسل ما لاقى ذلك الماء قبل رؤية النجاسة. وإن استلزم شغل الذمّة امتنع الاستدلال بها عندهم ، كما إذا استعمل ماء ، ثمّ علم أن ذلك الماء كان

__________________

(١) كذا في النسختين ، غير أنه في مصحّحة «م» : (لاستلزامه التكليف بوجوب الاجتناب عن الاخرى ...).

(٢) في النسختين : والنجاسة في المحصور ، وكذا في «م» ، وما اثبتناه من مصحّحة «م».

(٣) تهذيب الأحكام ١ : ٤١٨ / ١٣٢٢ ، وسائل الشيعة ١ : ١٤٢ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٤ ، ح ١.

١٥٨

نجسا فطهّر ، ولم يعلم أن الاستعمال كان قبل التطهير أو بعده ، فلا يصح أن يقال : الأصل عدم تقدّم التطهير ؛ لاستلزامه وجوب إعادة الغسل.

والوجه في ذلك أن حجّيّة الأصل في النفي والعدم. إنّما هو من حيث لزوم تكليف الغافل لو لم يكن كذلك ، ووجوب إعلام المكلف بالتكليف ؛ فلذلك حكموا ببراءة الذمة عند عدم الدليل على ما سيأتي من التفصيل. وأمّا إثبات الحكم الشرعيّ بالأصل ، فلا دليل عليه ، ويلزم منه إثبات حكم بلا دليل.

أقسام البراءة الأصلية

إذا تقرّر ذلك ، فاعلم أن البراءة الأصليّة على قسمين :

أحدهما : أنها عبارة عن نفي الوجوب في فعل وجوديّ إلى أن يثبت دليله ، بمعنى أن الأصل عدم الوجوب حتّى يقوم عليه دليل. وهذا القسم مما لا خلاف في صحة الاستدلال عليه والعمل به ؛ إذ لم يذهب أحد إلى أن الأصل الوجوب حتّى يثبت عدمه ، لاستلزام ذلك تكليف ما لا يطاق.

وثانيهما : أنها عبارة عن نفي التحريم في فعل وجوديّ إلى أن يثبت دليله ، بمعنى أن الأصل الإباحة وعدم التحريم إلى أن يقوم دليل. وهذه هي البراءة الأصليّة التي وقع النزاع فيها نفيا وإثباتا ، فجميع العامة (١) ، وأكثر الاصوليّين (٢) من أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ على القول بها والتمسّك في رد الأحكام بها ، حتّى طرحوا في مقابلتها النصوص الضعيفة باصطلاحهم ، بل الموثّقة ، كما لا يخفى على من طالع كتبهم الاستدلالية و (المدارك) ونحوهما.

__________________

(١) المعتمد في أصول الفقه ٢ : ٣١٥ ، الإحكام في اصول الأحكام ٤ : ٣٦٨ ، المحصول في علم الاصول : ٣٣ ، تقريب الوصول إلى علم الاصول : ١٤٤.

(٢) الذريعة إلى اصول الشريعة ٢ : ٨٠٩ ، معارج الاصول : ٢١٢ ـ ٢١٣ ، مبادئ الوصول إلى علم الاصول : ٨٧.

١٥٩

القائلون بعدم حجيّة البراءة الأصلية

وجملة من علمائنا المحدّثين (١) وجمع من أصحابنا الاصوليّين على عدم ذلك ، بل أوجبوا التوقّف والاحتياط. وربما قيل أيضا بأن الأصل التحريم إلى أن يثبت الإباحة ، وهو ضعيف.

رأي الشيخ رحمه‌الله

وممن صرّح بالتوقّف واختاره الشيخ قدس‌سره في (العدة) ، ونقله أيضا عن شيخه المفيد حيث قال بعد تقدم الكلام في المقام : (واختلفوا في الأشياء التي يصح الانتفاع (٢) بها ، هل هي على الحظر أو الإباحة أو الوقف؟

فذهب كثير من البغداديّين (٣) ، وطائفة من أصحابنا الإماميّة ، إلى أنها على الحظر ، ووافقهم على ذلك جماعة من الفقهاء.

وذهب أكثر المتكلّمين من البصريّين ، وهو المحكيّ عن أبي الحسن (٤) ، وكثير من الفقهاء (٥) أنها على الإباحة ، وهو الذي اختاره سيدنا المرتضى (٦) رحمه‌الله.

وذهب كثير من الناس إلى (٧) أنها على الوقف (٨) ، ويجوز كلّ واحد من الأمرين فيه ، وينتظر ورود السمع بواحد منهما. وهذا المذهب كان ينصره شيخنا أبو عبد الله رحمه‌الله (٩) وهو الذي يقوى في نفسي).

__________________

(١) العدة في اصول الفقه ٢ : ٧٤٢ ، الفوائد المدنية : ٢٣٤ ، الفوائد الطوسية : ٤٧٣ / الفائدة : ٩٦.

(٢) في «ح» : الانتفاء.

(٣) المعتمد في اصول الفقه ٢ : ٣١٥ ، المحصول في علم الاصول : ٣٣.

(٤) انظر المعتمد في اصول الفقه ٢ : ٣١٥.

(٥) انظر المحصول في علم الاصول : ٣٣.

(٦) الذريعة إلى اصول الشريعة ٢ : ٨٠٩.

(٧) ليست في «ح».

(٨) انظر المحصول في علم الاصول : ٣٣.

(٩) التذكرة بأصول الفقه (ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد) ٩ : ٤٣.

١٦٠