الدّرر النجفيّة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

(٣)

درّة نجفيّة

فيما لو ادّعى ولي الطفل مالا للطفل على ميّت

وجدت بخط من أثق به من الفضلاء المعاصرين نقلا من فوائد شيخنا العلّامة أبي الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني ـ قدّس الله روحه ، ونوّر ضريحه ـ ما صورته : (لو ادّعى وليّ الطفل على ميّت مالا كفت البيّنة ولم يحتج إلى اليمين ، ووهم بعض المتفقّهة فأوجبها ، وهو غلط.

أمّا أولا ، فلأن اليمين على خلاف الأصل ، فيقتصر فيها على مورد النص (١) والفتوى (٢).

وأمّا ثانيا : فلنصّ الأصحاب على عدم جواز حلف الوكيل والوصي والولي ؛ لأنهم لا يثبتون لأنفسهم مالا) (٣) انتهى كلامه زيد مقامه (٤).

__________________

(١) انظر وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٣٣ ـ ٢٣٦ ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، ب ٣.

(٢) المبسوط ٨ : ٢٥٦.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٢٠٢ ، ٢٠٧.

(١) إلّا إنه بعد محل كلامه لم [نظفر] (١) لهم بدليل عليه. وإلى ذلك أيضا أشار المحقق الأردبيلي قدس‌سره في (شرح الإرشاد) حيث قال بعد ذكر المسألة : (ولعل دليلهم على ذلك إجماعهم ، وليس في العقل ما يقتضيه ، ولا نقل صريحا في ذلك. نعم ، هو موجود في كلامه رحمه‌الله ؛ فإن كان إجماعا فالكلام ، وإلّا فلا كلام فيه محال) (٢) انتهى. منه رحمه‌الله. (هامش «ح»).

__________________

١ ـ في الأصل : نظر.

٢ ـ مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٢٠٣.

١٢١

وعندي في هذا الكلام على إطلاقه نظر ، وذلك فإنه إن كان دعوى الوليّ تعلّق بمال انتقل إلى الطفل من مورّثه في ذمّة ذلك الميت مثلا ، فأراد الوليّ قبضه من تركة ذلك الميت المدّعى عليه بعد إقامة البينة ، فكلامه قدس‌سره لا يخلو من وجه ، وإن كانت الدعوى تتعلّق بمال للطفل قد أدانه (١) الوليّ على الميت ، فهو محلّ نظر ، وما ذكر من الدليل ممنوع :

أمّا الأول منهما ، ففيه أنّ ما ذكره ـ من أن اليمين على خلاف الأصل ، فيقتصر فيها على مورد النصّ والفتوى ـ مسلم ، لكن خروج هذا الفرد عن مورد النصّ والفتوى محلّ المنع ؛ فإن النصّ الوارد في هذه المسألة ، هو رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، وفيها : «وإن كان المطلوب بالحقّ قد مات ، فاقيمت عليه البيّنة فعلى المدّعي اليمين بالله الذي لا إله إلّا هو لقد مات فلان ، وأنّ حقي (٢) لعليه ؛ فإن حلف وإلّا فلا حقّ له ؛ لأنا لا ندري لعله قد أوفاه (٣) ببيّنة لا نعلم موضعها ، أو بغير (٤) بينة قبل الموت ، فمن ثم صارت عليه اليمين مع البينة ، فإن ادّعى ولا بينة له فلا حق له ؛ لأنّ المدعى عليه ليس بحي ، ولو كان حيّا لألزم اليمين أو الحق أو يردّ اليمين عليه ، فمن ثم لم يثبت له (٥) عليه حق» (٦).

وظاهر هذه الكلام وإن أشعر في بادئ الرأي بكون المدّعي هو صاحب الحق ، لكن العلّة المنصوصة في الخبر ـ و [هي] (٧) احتمال الوفاة قبل الموت المشار إليه

__________________

(١) في «ح» : الطفل قد أدائه.

(٢) في المصدر : «حقه».

(٣) في «ح» : وفاه.

(٤) في المصدر : «وغيره».

(٥) ليست في الوسائل.

(٦) الكافي ٧ : ٤١٥ ـ ٤١٦ / ١ ، باب من ادّعى على ميت ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٣٦ ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، ب ٢٨ ، ١.

(٧) في النسختين : وهو.

١٢٢

بقوله عليه‌السلام : «لأنا لا ندري» إلى آخره مؤكدا بقوله : «فمن ثم» ، إلى آخره ـ جارية فيما نحن فيه. والعمل بالعلّة المنصوصة الّتي جعلت مناطا للحكم ومدارا له في جميع أفرادها ممّا لا ريب فيه ؛ فإنه ليس القصد من العلّة المذكورة إلّا ذلك ، فيتعدّى الحكم إلى سائر أفرادها ، ويصير دلالتها عليه كدلالة (١) العام على أفراده بخلاف ما إذا كان القصد من العلّة المذكورة (٢) أمرا آخر مثل بيان وجه المصلحة في الفعل ، أو بيان الداعي إلى الفعل ، أو التقريب إلى الأفهام القاصرة بالنكت الظاهرة ، كسائر العلل المذكورة في الأخبار.

على أن لقائل أن يقول : إن ظاهر الرواية لا يأبى الحمل على ما نحن فيه ؛ فإن الحق المدّعى أعم من أن يكون عبارة عن ذات الدين مثلا أو حق التصرف بالقبض والدفع ، فإن الوليّ له حق التصرف بذلك ، فعليه أن يحلف أن فلان مات ، وأن حقي ـ أي حق دفعي له ـ باق ، ليسقط بذلك دعوى القبض عليه ، واحتمال دفع الميت إليه ؛ فإن الغرض من اليمين ـ كما صرّح به النصّ والعلّة فيها ـ هو ذلك ، بل الظاهر أن هذا هو الأقرب ، كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى.

وأمّا الفتوى ، فالموجود في عبائر الأصحاب (٣) ـ رضوان الله عليهم ـ : (لا يستحلف المدّعي مع البيّنة ، إلّا أن تكون الدعوى على ميّت) بهذا اللفظ وما قاربه ، وشموله لما نحن فيه ظاهر لا سترة عليه. وحينئذ ، فلو (٤) كان بيد شخص مال يعمل فيه وكالة أو مضاربة أو ولاية عن طفل ونحوه ، واتّفق صيرورته كلّا أو بعضا في ذمّة ميّت فإن ذلك الذي كان بيده المال يحلف بعد إقامة البيّنة على بقاء حقّه في ذمّة ذلك الميت وإن كان عين المال لآخر.

__________________

(١) في «ح» : لدلالة.

(٢) ليست في «ح».

(٣) انظر مثلا زهر الرياض : ٥٧٩.

(٤) في «ح» : فإن.

١٢٣

وأمّا الثاني من دليليه ، ففيه أن عبائر جملة من الأصحاب وإن كانت مجملة في هذا الباب ، ومنه منشأ الشكّ والارتياب ، إلّا إن المراد منها عند التأمّل والتحقيق بالفكر الصائب الدقيق أنّ من كان عليه يمين شرعا فلا يتولّاها عنه غيره ؛ ولذا تراهم يمثّلون بمن وكل غيره على استيفاء ماله من غائب فأقام البينة ، فإنه لا يحلف معها بناء على ما هو المشهور عندهم من وجوب اليمين ، مع البينة في الدعوى على الغائب ، ويعللونه بأن اليمين لا تقبل النيابة ، وذلك فإنّ حق اليمين بناء على وجوبها في المسألة إنّما هو على الموكل. وكذا لو ادّعى وليّ الطفل ميراثا للطفل عند شخص وأقام شاهدا فإنه لا يحلف معه لكون اليمين ليست عليه ولا تقبل النيابة ، بل توقف الدعوى إلى أن يبلغ الطفل ، فيحلف (١) مع شاهده.

أمّا لو كان دعوى الوكيل أو الولي في شي‌ء من الأموال (٢) التي في يديهما للموكّل والمولّى عليه يتصرّفان فيها بالقبض والدفع ، فلا ريب في تعلّق اليمين بهما في كلّ موضع تلزم فيه اليمين من إنكار أو نكول على القول به ، أو مع الشاهد ، أو مع الشاهدين في الدعوى على ميت ، أو نحو ذلك ؛ لأدلّة اليمين في [هذه] (٣) المواضع الشاملة لما نحن فيه ، ودخولهم فيما قرّره الأصحاب من الأحكام على المدّعي والمنكر ، وصدق تعريف المدّعي والمنكر في كلام الأصحاب عليهم.

وحينئذ ، فلو باع أحد هؤلاء مالا (٤) لمن هو قائم مقامه ، فادّعى عليه المشتري دفع الثمن ولم يكن ثمّة بينة ، فإنه إمّا أن يقال : تعلق اليمين به ، أو رجوعها لمن هو قائم مقامه ، أو سقوطها. لا سبيل إلى الثاني ؛ لعدم علمه بالكلّيّة ، ولا إلى

__________________

(١) في «ح» فيستحلف ...

(٢) في «ح» : الأمور.

(٣) في النسختين : هذا.

(٤) من «ح» ، وفي «ق» : ما.

١٢٤

الثالث ؛ لخروجه عن مورد النصوص الدالة على أن البينة على من ادّعى ، واليمين على من أنكر (١) ؛ فتعين الأول.

وكذا لو ادّعى أحد هؤلاء مالا من ذلك المال الّذي بيده لغيره وأقام شاهدا ، فإما أن يحلف معه ، أو ترجع اليمين على من هو قائم مقامه ، أو تسقط. لا سبيل الى الثاني ؛ لما ذكرنا أولا ، ولا إلى الثالث ؛ لاستلزامه إمّا ذهاب المال أو ثبوت الحق بشاهد واحد خاصّة ؛ فيتعين (٢) الأوّل.

وبالجملة ، فالمراد من إطلاق عبائرهم في هذا المقام هو أنه إذا كانت اليمين الشرعية على شخص فلا يتولّاها عنه غيره وكيلا كان أو وليّا ، أمّا إذا كانت اليمين على ذلك الوكيل مثلا لغير ما ذكرنا ، فإنه يحلف وإن كان عين المال لغيره.

على أن ما ذكرنا من الاحتمال الأوّل في كلامه قدس‌سره ـ وهو ما إذا كان دعوى الولي تتعلق بمال انتقل إلى الطفل من مورثه في ذمّة ذلك الميت بغير واسطة ـ لا يخلو أيضا من مناقشة ؛ فإنه من المحتمل أيضا أن يكون الحكم (٣) في هذه الصورة أنه بعد إقامة الوليّ البيّنة يحلف أيضا على بقاء الحقّ وعدم قبضه له ؛ لاحتمال أن يكون الميّت المدّعى عليه قد وفّاه قبل موته.

اللهم إلّا أن يكون انتقال المال إلى الطفل من مورّثه إنما وقع بعد موت من عليه الحق ، فلا يقوم احتمال الدفع إلى الوليّ حينئذ.

نعم ، يبقى احتمال الدفع إلى مورّث الطفل ، وهو خارج عن مورد النص ؛ لأن مورده احتمال الدفع إلى المدّعي الطالب لذلك الحقّ ووجوب القسم عليه لدفع ذلك الاحتمال. فالظاهر في مثل هذه الصورة ثبوت الحقّ بمجرّد البيّنة.

__________________

(١) انظر وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٣٣ ـ ٢٣٦ ، كتاب القضاء ، ب ٣.

(٢) في «ح» : فتعيّن.

(٣) في «ح» : للحكم.

١٢٥

ولم أر من أوضح هذه المسألة حق إيضاحها. نعم ، وجدت بخطّ والدي ـ نوّر الله تعالى مضجعه ـ ما هذه عبارته : (وجدت في ظهر بعض الكتب القديمة مسألة تتعلّق بالدعوى على الميّت ، وبعدها جواب مكتوب في آخره أنه منقول من خطّ شيخنا نصير الملّة والدين الشيخ حسين بن مفلح (١) ـ دام ظله ـ وصورته : مسألة : لو دين شخص مال غائب إمّا حسبة أو بوكالة ، فمات المديون ، فطالب المدين ورثة المديون بمال الغائب وأقام بينة ، فهل للورثة طلب اليمين من الوكيل ، أو من الغائب ، أو تسقط اليمين؟

أقول : الذي يظهر لي في هذه المسألة أنه إن كان الدين حالّا من أصله أو مؤجّلا ، وقد حلّ قبل الموت ولم يوص به الميت ، فللورثة طلب يمين البقاء من الوكيل ؛ لاحتمال الدفع إليه ، وإن لم يحل إلّا بالموت ، ولم تمض مدّة يمكن فيها الاستيفاء من مال الميّت ، لم يكن لهم تحليفه ؛ عملا بالظاهر من أن الدين المؤجّل لم تجر العادة بدفعه قبل الأجل إلّا نادرا ؛ أو لم تمض مدّة بعد الموت يمكن فيها الاستيفاء من ماله. وليس على الغائب يمين ؛ لعدم علمه بذلك ، وعدم تصور الدفع إليه ؛ فتسقط اليمين ؛ لعدم توجّه محلها ، وإنما محلّها إذا كان صاحب الدين هو المدّعي لنفسه سواء كان الدين حالّا من أصله أو حلّ بالموت لاحتمال الدفع إليه ، أو إبرائه منه ، مع عدم وصيّته به.

ومعهما (ففي سقوط اليمين إشكال ينشأ من عموم النص على وجوب ضم اليمين مع البيّنة (٢) هنا ، ولقيام الاحتمال المقتضي لليمين ، وهو احتمال إبرائه

__________________

(١) في «ح» : مصلح.

(٢) الكافي ٧ : ٤١٥ ـ ٤١٦ / ١ ، باب من ادّعى على ميت ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٣٦ ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، ب ٢٨ ، ح ١.

١٢٦

وقبضه للمال من مال الميت. ومع (١) وجود المقتضي يجب تحقّق الحكم ، ومن انتفاء الاحتمالات بالإيصاء والبناء على الظاهر من بقاء الحقّ) (٢).

والمختار سقوط اليمين بالإيصاء بالدين ، واحتمال الإبراء ضعيف ؛ لأنه لو وقع لكان متقرّبا به غالبا ، فيبعد من المسلم المتقرّب إلى الله تعالى بالإبراء من الدين ، ثم يدّعيه بعد ذلك (٣). أمّا المدين من الغائب فلا يحتمل منه الإبراء بمال غيره ، ولا الدفع إليه قبل حلول الأجل ؛ عملا بالظاهر ، وإن أمكن الدفع إليه بالحلول قبل الوفاة ، أو أخذه من مال الميّت بعد الوفاة توجّهت اليمين عليه ، فإن نكل وجب عليه الغرم ؛ لتقصيره ، والله تعالى أعلم بحقائق الامور (٤)) انتهى كلامه زيد إكرامه ، وبه انتهى ما وجدته من خطّ الوالد ، نوّر الله تعالى مرقده.

أقول : وهو كما ترى مؤيّد لما قلناه من ثبوت اليمين على المدّعي على الميت وإن كان وليّا أو وكيلا ، إذا كان الدفع قد (٥) وقع من جهته للعلّة المذكورة في النص ، إلّا إن النظر يتوجّه إلى مواضع من هذا الكلام :

أحدها : إيجابه اليمين باحتمال الاستيفاء من مال الميت بعد موته ، وإن كان قد سبقه إلى هذا جمع من الأصحاب منهم شيخنا الشهيد الثاني (٦) وغيره ، فجعلوا احتمال القبض من مال الميت بعد موته ، بل احتمال إبراء صاحب الحقّ كما ذكره هنا أيضا موجبا لليمين مع البيّنة.

__________________

(١) في «ح» : على ، وفي نسخة بدل منها : من.

(٢) انظر إيضاح الفوائد ٤ : ٤٣٤ ، وفيه : وجوب اليمين ، بدل : سقوط اليمين.

(٣) في «ح» هامش هو بنصه ما سيجي‌ء في آخر هذه الدرة ، وذلك من قوله : على الميّت لا دعوى الوصيّة ... ، والله العالم.

(٤) في «ح» : الأحكام.

(٥) ليست في «ح».

(٦) مسالك الأفهام ١٣ : ٤٦٢ ـ ٤٦٣.

١٢٧

وفيه أن العلة الناصّة على ضمّ اليمين هي (١) احتمال الوفاء كما هو مكرّر في الرواية ، لا احتمال خلوّ ذمّته ولو بما ذكروه ، وإلّا لجرى هذا الحكم في الحيّ ؛ فإن احتمال القبض والإبراء قائم فيه ، فيجب بمقتضاه اليمين مع البيّنة في الدعوى على الحيّ ، وهم لا (٢) يقولون به ، ويجري (٣) أيضا في دعوى العين على الميّت والحيّ أيضا ؛ لاحتمال قبض العوض من ماله ، واحتمال الانتقال إليه بناقل شرعيّ ، مع أن هذا القائل لا يلتزمه ولا يقول به.

وثانيها : قوله في نفي اليمين عن الغائب : (وإنما محلها إذا كان صاحب الدين هو المدعي لنفسه) ؛ فإنه مناقض لما قدمه في آخر كلامه من الحكم باليمين على الوكيل ؛ لقيام احتمال الدفع إليه أو قبضه من مال الميّت ، فإنه بمقتضى هذا الخبر (٤) الذي ذكره هنا لا تتوجّه اليمين على الوكيل ، وبمقتضى ما ذكره أولا وآخرا لا وجه للحصر المذكور.

وثالثها : قوله فيما لو أوصى بالدين : (ففي سقوط اليمين إشكال) ـ إلى آخره ـ فإنه بمقتضى ما قدّمنا تحقيقه ـ من أنّ العلة الموجبة لليمين في النصّ ، إنما هي احتمال الوفاء دون احتمال خلوّ ذمّته مطلقا ـ لا مقتضي لليمين في الصورة المذكورة.

وبيان هذا الإشكال بوجهيه : الظاهر أنه مأخوذ من كلام فخر المحقّقين في (الإيضاح شرح القواعد) حيث قال المصنّف : (ولو أوصى له حال الموت ، ففي وجوب اليمين [مع البيّنة حينئذ] إشكال) (٥) ، فقال في الشرح : (ينشأ من عموم

__________________

(١) من «ح».

(٢) في «ح» : ولا هم ، بدل : وهم لا.

(٣) في «ح» : فيجري.

(٤) في «ح» : الحصر.

(٥) قواعد الأحكام ٢ : ٢١٠.

١٢٨

النصّ على وجوب ضم اليمين) (١) ، ثم ساق الكلام كما هنا (٢) إلى قوله : (والمختار) ، إلى آخره.

والتحقيق عندي في هذا المقام ، ما أفاده الوالد ـ نوّر الله تربته ، وأعلى رتبته ـ في بعض فوائده من التفصيل في ذلك بأنه إن وقع الإيصاء حال الموت بحيث لم تمض مدّة يقوم احتمال الوفاء فيها ، فلا وجه لليمين ؛ لعدم قيام احتمال الوفاء ، وهو الذي جعل في النصّ مناطا لليمين. وما ذكروه من الاحتمالات التي جعلوها مناطا ، فلا أثر لها في النص ، كما علمته (٣).

وإن وقع الإيصاء قبل الموت بمدّة يقوم فيما احتمال الوفاء ، فالظاهر ضمّ اليمين إلى البيّنة ؛ للاحتمال المذكور.

وبهذا يشعر كلام العلّامة فيما قدمنا من عبارته ، حيث إنه جعل الإشكال في وجوب ضمّ اليمين فيما لو أوصى له حال الموت ، فإنه يعطي أنه لو كانت الوصية قبل حال الموت بمدة يقوم فيها ذلك الاحتمال ، فلا إشكال في وجوب الضمّ (٤).

وما ربما يتوهم هنا من سقوط اليمين باعتبار أن محلّها إنما هو دعوى الدين على الميت ، لا دعوى الوصية ، وما هنا إنما هو من قبيل الثاني لا الأوّل ، فهو توهم ساقط الاعتبار ، ناقص العيار عند ذوي البصائر والأفكار ؛ فإن دعوى الوصيّة بالدين ترجع إلى دعوى الدين.

بقي هنا شي‌ء وهو أنه لو مضت مدة بعد الإيصاء وقبل الموت لكن المدين غائب ولا وكيل له ، أو طفل ولا ولي له ، أو كان ذلك الوصيّ وليه ، فالظاهر في

__________________

(١) إيضاح الفوائد ٤ : ٤٣٤.

(٢) أي في الكلام الذي وجده بخطّ والده قدس‌سره ، ومراده رحمه‌الله أن الكلام المنقول هو عين كلام الفخر قدس‌سره.

(٣) في «ح» : علمت.

(٤) في «ح» : القسم.

١٢٩

جميع هذه الفروض سقوط اليمين ، وأنه يثبت الحق بمجرّد البينة ؛ لخروج ذلك عن مورد النصّ الجاري على خلاف الأصل ، فيرجع فيه إلى مقتضى الأصل من عدم اليمين مع (١) البينة ، إذ (٢) مورد النصّ احتمال الوفاء لذلك المدّعي ؛ لتوجّه اليمين عليه لا مطلقا ، والله العالم.

__________________

(١) في «ح» : على.

(٢) في «ح» : إن.

١٣٠

(٤)

درّة نجفيّة

في اشتراط بقاء مبدأ الاشتقاق في صدق المشتق حقيقة

اختلف علماء الاصول في أنّ صدق المشتق على ذات حقيقة ، هل يشترط فيه بقاء ، مأخذ الاشتقاق أم لا؟ على أقوال متعدّدة وآراء متفرّقة ، وانجرّ هذا الخلاف إلى جملة من الفروع (١) الفقهية والمسائل الشرعية.

وتفصيل الكلام في ذلك ، أنه لا خلاف ولا ريب في أنّ إطلاق المشتقّ على شي‌ء حين قيام المعنى المشتق منه به (٢) ـ كالضارب لمن كان مباشرا للضرب حال الفعل ـ حقيقة ، كما أنه لا ريب ولا خلاف أيضا في أن إطلاقه على شي‌ء قبل قيام المأخذ به ـ كالضارب لمن سيصدر عنه الضرب ـ مجاز ، إنما الخلاف فيمن وجد منه المعنى وانقضى ، كالضارب لمن كان قد ضرب سابقا ، مع كونه الآن غير ضارب ، هل إطلاقه عليه حقيقة أو مجازا؟

والظاهر أنّ سبب انتشار هذا الخلاف ، هو وجود بعض الموارد ممّا يقطع بتوقّف الصدق فيها حقيقة على وجود المبدأ وما يحذو حذوه ، كالبارد والحار ، والهابط (٣) والصاعد ، والساكن والمتحرك ، والحلو والحامض ، والأبيض والأحمر ،

__________________

(١) في «ح» : فروع.

(٢) ليست في «ح».

(٣) ليست في «ح».

١٣١

والمملوك و [الحر] (١) ، والنائم واليقظان ، ونحوها ، ومواضع أخرى ممّا يقطع فيها بالصدق حقيقة مع عدمه ، كالمخبر والمتكلّم ونحوهما ، فإنّه لو اعتبر وجود المبدأ في الصدق ؛ لما صدق على أحد بالكلّيّة فإنه لا يتصوّر معناهما ، إلّا بحصول أجزاء المتلفّظ به (٢) ، وهي حروف تنقضي أولا فأوّلا ، ولا تجتمع في حين ، فقبل حصولها لم يتحقّق المعنى ، وبعده قد انقضى.

ومثل مؤمن وكافر ، فإنه لو اعتبر في صدقهما حقيقة وجود المبدأ لما صدقا على من كان منهما نائما أو غافلا ؛ للخلوّ عن التصديق والإنكار اللذين هما مناط الإيمان والكفر. مع أن الإجماع قائم على الصدق في الحالين ، وعورض بنفس المثالين المذكورين فإنه لو لم يعتبر في صدقهما وجود المبدأ لصدق المؤمن على من كان كافرا الآن باعتبار حصول الإيمان منه سابقا ، والكافر (٣) على من كان بالعكس. إلى غير ذلك من المواضع الّتي بعضها كالأوّل ، وبعضها كالثاني.

ومن أجل ذلك اختلف كلامهم ، وتصادمت أفهامهم ، فقيل بعدم الاشتراط مطلقا ؛ وقوفا على ما دلّ على الصدق مع عدم اعتبار المأخذ ، وزيّنوا ذلك بأدلّة ذكروها لا تكاد تسلم من المناقشة والإيراد ، وأجابوا عمّا عارضها بأجوبة لا تفي بالمراد ، وإلى هذا ذهب كثير من المعتزلة (٤) ، وأكثر الامامية (٥).

وقيل : بالاشتراط ؛ أخذا بما دلّ من تلك الأمثلة على ذلك ، وأطالوا في

__________________

(١) في النسختين : الموجود. انظر كلام الأسترآبادي في حاشيته على مدارك الأحكام الآتي في الصفحة : ١٣٦ ـ ١٣٧.

(٢) في «ح» : اللفظ ثمّة ، بدل : المتلفظ به.

(٣) في «ح» : كافر.

(٤) انظر المحصول في علم الاصول : ٧١ ـ ٧٤.

(٥) انظر : تمهيد القواعد : ٨٤ / القاعدة : ١٩ ، روض الجنان : ٢٥ ـ ٢٦ ، رسائل المحقق الكركي ٢ : ٨٢ ، جامع المقاصد ١ : ١٠٣ ، هداية الأبرار : ٢٤٨.

١٣٢

الاستدلال والجواب عن المقابل بما لا يخلو كلّ منها عن الإشكال. ونقل هذا عن الفخريّ في (المحصول) (١) والبيضاوي في (المنهاج) (٢) ، وأكثر الأشاعرة (٣) ، وإليه مال من أصحابنا المحدّث الأمين الأسترآبادي قدس‌سره (٤).

وقيل بالتفصيل (٥) بأنه إن كان المعنى ممّا يمكن بقاؤه ، كالقيام والقعود ، فالمشتقّ مجاز وإن كان ممّا لا يمكن بقاؤه كالمصادر السيالة الغير القارّة ، نحو التكلّم والأخبار ، فالمشتقّ حقيقة وإن لم يبق المعنى. وبذلك يندفع الإيراد ببعض تلك (٦) الأمثلة ويقلّ الإشكال في الجملة.

وقيل بالتوقف في المسألة (٧) ؛ لتصادم الأدلّة من الجانبين وتعارض الاحتمالات من الطرفين ، ونقل (٨) ذلك عن الآمديّ (٩) والحاجبيّ (١٠).

وقيل بتخصيص محل النزاع بما إذا كان المشتق محكوما به ، كقولك : (زيد مشرك ، أو قاتل ، أو متكلم) ، فأمّا إذا كان محكوما عليه كقوله تعالى (الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا ..) (١١) الآية ، و (السّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا ..) (١٢) ، و (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) (١٣) ، ونحوه ؛ فإنه حقيقة مطلقا ، سواء كان للحال أو لم يكن. نقله بعض

__________________

(١) المحصول في علم الاصول : ٧١ ، عنه في هداية الأبرار : ٢٤٨.

(٢) الإبهاج في شرح المنهاج (المتن) : ٢٢٨ ، عنه في هداية الأبرار : ٢٤٨.

(٣) حاشية العلّامة البناني على شرح الجلال على جمع الجوامع ١ : ٢٨٧ ، ونسبه للجمهور.

(٤) ذكر المصنف في الحدائق ١ : ١٢٢ أن الأسترآبادي ذكره في تعليقاته على شرح مدارك الأحكام.

(٥) انظر تشنيف المسامع بجمع الجوامع ١ : ٢٠٨.

(٦) في «ح» : هذه.

(٧) من «ح» ، وفي «ق» : الجملة.

(٨) انظر الوافية في اصول الفقه : ٦٢.

(٩) الإحكام في اصول الأحكام ١ : ٤٨ ـ ٥٠ / المسألة : ١.

(١٠) منتهى الوصول والأمل : ٢٥.

(١١) النور : ٢.

(١٢) المائدة : ٣٨.

(١٣) التوبة : ٥.

١٣٣

الأفاضل عن كتاب (تمهيد القواعد) (١).

وقيل : إنه إن كان اتّصاف الذات بالمبدإ أكثريا ، بحيث يكون عدم الاتّصاف بالمبدإ مضمحلّا في جنب الاتّصاف ، ولم يكن الذات معرضا عن المبدأ وراغبا عنه ؛ سواء كان المشتقّ محكوما عليه أو به ، وسواء طرأ الضد أم لا ، فالإطلاق حقيقة ؛ لأنهم يطلقون المشتقّات على المعنى المذكور من دون نصب القرينة ، كالكاتب والخيّاط والمتعلّم والمعلّم ونحوها ، ولو كان المحل متّصفا بالضد الوجودي ، كالنوم ونحوه. وبذلك صرح بعض أصحابنا المحقّقين من متأخري المتأخرين (٢).

وقيل بتخصيص محل النزاع بما إذا لم يطرأ على المحلّ وصف وجوديّ ينافي الأوّل ؛ إذ لو طرأ من الوجوديات ما ينافيه أو يضاده ، فإنه يكون مجازا اتفاقا (٣).

وهذا القول منقول عن الفخريّ في (المحصول) (٤) ، نقله عنه في (تمهيد القواعد) (٥). وأنكر (٦) شيخنا البهائي رحمه‌الله في حواشي (الزبدة) نسبته إلى (المحصول) ، قال : (وإنا لم نجده فيه) (٧) ، وشيخنا العلّامة أبو الحسن قدس‌سره نقله (٨) في حواشي (المدارك) ، عن التبريزي في (التنقيح) اختصار (المحصول) ، قال (٩) :

(وربما كان في (المحصول) إشعار به ؛ ومن ثم نسبه الأسنوي في (التمهيد) ، والشهيد في (تمهيد القواعد) (١٠) إليه) انتهى.

__________________

(١) تمهيد القواعد : ٨٥.

(٢) الوافية : ٦٣.

(٣) ليست في «ح».

(٤) المحصول في علم الاصول : ٧٠ ـ ٧٨.

(٥) تمهيد القواعد : ٨٥.

(٦) في «ح» : وأنكر.

(٧) حواشي الزبدة : ١٠ ، وفيه : ونحن لم نجده في المحصول.

(٨) ليست في «ح».

(٩) سقط في «ح».

(١٠) تمهيد القواعد : ٨٥ / القاعدة : ١٩.

١٣٤

وقيل بتخصيص محلّ النزاع بما قصد به الحدوث من المشتقّات لا الدوام. ونقل (١) ذلك عن المحقق التفتازاني في مقام الجواب عمّن استدلّ على عدم الاشتراط بصدق المؤمن على النائم والغافل. والمفهوم من عبارته على ما نقله عنه بعض الأفاضل (٢) ، تقييد محلّ النزاع بكلّ من معنيي (٣) الحدوث وعدم طروء الضد الوجوديّ ، حيث قال : (والتحقيق أن النزاع في اسم الفاعل [وهو] الذي بمعنى الحدوث لا [في مثل] المؤمن والكافر ، والنائم واليقظان ، والحلو والحامض ، والحر والعبد ، ونحو ذلك مما يعتبر في بعضه الاتّصاف به ، مع عدم طريان المنافي في بعضه الاتصاف بالفعل البتة) انتهى.

وهو جيد متين (٤) ، فإن الظاهر أنّ المراد بالمشتق الذي لا يشترط في صدقه بقاء مأخذ الاشتقاق هو ما جرى على ما اشتقّ منه في إرادة الحدوث والتجدّد ، لا ما خرج عنه بأن قصد به الدوام ، أو ذو كذا أو غير ذلك من المعاني. ألا ترى أن الصفة المشبهة بالفعل ، وأفعل التفضيل ، واسم الزمان والمكان ، حيث لم تجر عليه في ذلك لم تصدق إلّا على من هو متّصف حالة الإطلاق ، وإلّا لزم إطلاق حسن الوجه على قبيحه وبالعكس باعتبار ما كان ، وصدق : زيد أفضل من عمرو (٥) ، على من هو أجهل منه الآن وبالعكس ؛ باعتبار ما كان إطلاقا على جهة الحقيقة؟

__________________

(١) زبدة الاصول : ١٠.

(٢) الظاهر أن مراده قدس‌سره بأنه حيث كان بناء الكلام إنّما هو على القواعد الظاهرة في الوضع اللغويّ كما تقدّم في صدر كلامه ، وقال : (إن العالم باعتبار ذلك من قام به العلم ، فالبساطة المذكورة في كلام المحققين باعتبار النظر الدقيق إنما هي باعتبار سلب مأخذ الاشتقاق ، فلا بدّ في بقاء معناه ـ لغة باعتبار قواعد اللغويين ـ من إبقاء مأخذ الاشتقاق الذي يحصل به التركيب وعدم البساطة ، فتأمّل). منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

(٣) في «ح» : معنى.

(٤) في «ح» : معين.

(٥) في «ح» : أفضل زيد من عمرو.

١٣٥

وكذا ما كان من صيغ اسم الفاعل مسلوكا به مسلك الصفة (١) المشبهة (٢) ، ونحوها في عدم إرادة الحدوث ؛ سواء اريد منه الدوام والاستمرار ، كالخالق والرازق من أسمائه تعالى ، أو بمعنى : ذي كذا مجرّدا كالمرضع (٣) والمؤمن والكافر والحائض ، أو مع الكثرة كاللابن والتامر (٤). ويؤيد ذلك تعليق عدم الاشتراط على صفة الاشتقاق في قولهم : (المشتقّ لا يشترط في صدقه) (٥) إلى آخره.

والتعليق على الوصف مشعر بالعلية ، فمعناه : أن المشتقّ من حيث هو مشتقّ لا يشترط ، إلى آخره. وبذلك يندفع الإشكال في كثير من تلك الأمثلة المتقدّمة. لكن المفهوم من كلامهم كما ستعرف هو جعل موضع البحث المعنى الأعم ، وظاهر أصحابنا الإمامية (٦) ـ رضوان الله عليهم ـ كما قدمنا الإشارة إليه ـ القول بعدم الاشتراط ، لكنهم بين مخصّص لموضع النزاع كما ذكره العلّامة التفتازاني ، وبين مطلق. ولم أقف على من ذهب منهم إلى الاشتراط ، سوى المحدث الأمين الأسترآبادي قدس‌سره (٧) فإنه قال في تعليقاته على (المدارك) : (الحقّ عندي أنه لا بدّ في صدق المعنى الحقيقيّ اللغويّ للمشتقّ على ذات من بقاء (٨) الحالة التي هي مناط حدوث صدقه ؛ سواء كانت الحالة المذكورة قيام مبدأ الاشتقاق ، أو

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) في «ح» بعدها : بالفعل.

(٣) في «ح» : كالموضع.

(٤) في «ح» : كالابن والتام.

(٥) روض الجنان : ١٦١ ، جامع المقاصد ١ : ١٠٣.

(٦) الحق ما ذهب إليه الأسترآبادي ، وإليه مال جمع. والتخصيص غير نافع لمن لا يشترط ، بل ما اتّفق عليه يدل على ما اختلف فيه. (أحمد) ، (هامش «ع»).

(٧) الحقّ مذهب الأسترآبادي ، وإليه مال جمع. والتخصيص غير نافع لمن لا يشترط ، بل ما اتّفق عليه يدلّ على ما اختلف فيه. أحمد. (هامش «ع»).

(٨) في «ح» : بقائه.

١٣٦

ما يحذوه. ودليلي على ذلك :

أولا : أن من الامور البيّنة اشتراط ذلك في كثير من الصور كالبارد والحار ، والهابط والصاعد ، والساكن والمتحرك ، والأبيض والأحمر ، والمملوك والموجود.

ومن القواعد الظاهرة (١) أن قاعدة الوضع اللغويّ في كلّ صنف من أصناف المشتقّات واحدة ، ولو لا البناء على القواعد الظاهرة (٢) ، لبطلت قواعد كثيرة من فنون العربيّة.

وثانيا : أن مقتضى النظر الدقيق ، ومذهب المحققين أن معنى المشتقات ـ كالعالم ـ : أمر بسيط ، ومقتضى ظاهر النظر ما اشتهر بين اللغويين من أنّ معناه : شي‌ء قام به العلم ، والوجدان حاكم بأنه ليس هنا معنى بسيط يصلح سوى لا بشرط مأخذ الاشتقاق ، فلا بد في (٣) بقاء معناه من بقائه.

ثم اعلم أنه قد يصير بعض الألفاظ المشتقة حقيقة عرفية عامة أو خاصة أو مجازا مشهورا عند جماعة ، أو عاما فيما يعمّ معناها اللغوي ، وما في حكمه عرفا أو شرعا ، ومنه المؤمن والكافر وأشباههما. ومن الامور العجيبة أنه طال التشاجر بينهم في هذه المسألة من غير فيصل يقطع دابر المنازعة ، والله الموفق للصواب) انتهى كلامه زيد مقامه.

وأنت خبير بأن كلامه قدس‌سره إنما يتّجه على تقدير تقرير محلّ النزاع بما هو أعمّ من المشتقّات المقصود بها الحدوث أو الدوام ، وأعمّ من أن يطرأ عليها (٤) وصف وجودي ينافي الأول أم لا ؛ فإنه على تقدير التخصيص (٥) في الموضعين المذكورين ـ كما هو أحد الأقوال المتقدمة ـ يلزم أن يكون جميع ما ذكره من

__________________

(١) في «ح» : الظاهرية.

(٢) في «ح» : الظاهرية.

(٣) في «ح» : من.

(٤) في «ح» : عليهما.

(٥) في «ح» : التخصص.

١٣٧

الأمثلة خارجا عن محلّ البحث ؛ لما عرفت من أن البارد ونحوه مما هو في سياقه من الأمثلة ـ مع عدم طريان الضدّ ـ لا خلاف في كونه يشترط في صدقه حقيقة وجود المبدأ مع طريانه ، فهو بناء على ما ذكروه مجاز. وكذا نحو العالم ، والمؤمن (١) والكافر ، والأبيض والأسود ، فإنه غير مقصود بها الحدوث كما عرفت.

وربما كان كلامه هذا بناء على عدم تسليم تخصيص محلّ النزاع بما ذكر ؛ إذ من البعيد عدم إطلاقه عليه.

ويؤيد ما نقلناه عن شيخنا البهائي رحمه‌الله من إنكار نسبة شيخنا الشهيد الثاني (٢) القول بتخصيص محلّ النزاع بعدم طريان الضدّ الوجودي إلى (المحصول) ، وأنه غير موجود فيه ، بل ادّعى أيضا أنه لم يوجد في كلام علماء الاصول ؛ ولهذا صدره في عبارته في (الزبدة) عند نقله له بلفظ (قيل) (٣). لكن قد عرفت أن شيخنا العلّامة أبا الحسن قدس‌سره قد نقله عن التبريزي في (تنقيح المحصول).

وبالجملة فإنه إن جعل موضع (٤) النزاع في المسألة هو مطلق المشتقّات ، فالحقّ التوقف ؛ لتصادم الأدلّة من الطرفين ، وقيام التأويل في أدلّة الجانبين ، وإن كان للقول (٥) بالاشتراط نوع رجحان على ما عداه ، وإن خص بما ذكر من المشتقّات المراد بها الحدوث ، مع عدم طريان الضد الوجودي ، وهو ظاهر شيخنا البهائي في حواشي (الزبدة) (٦) ، وإن كان عبارة المتن تدلّ بظاهرها على عموم محل النزاع ، إلّا إنه حيث نقل في الحواشي التخصيص الأوّل عن التفتازاني ، والثاني عن (المحصول) ، ولم يردّه ، فظاهره القول به ، وهو الذي فهمه منه بعض

__________________

(١) في «ق» : بعدها : والعالم.

(٢) تمهيد القواعد : ٨٤ / القاعدة : ١٩.

(٣) زبدة الاصول : ٢٧.

(٤) نسخة بدل : محل. (هامش «ح»).

(٥) في «ح» : القول.

(٦) حواشي الزبدة : ١٠.

١٣٨

الشرّاح ل (الزبدة). فالظاهر حينئذ هو (١) القول بعدم الاشتراط ، كما عليه أصحابنا ، رضوان الله عليهم.

إذا عرفت ذلك ، ففروع المسألة في الأحكام الشرعية كثيرة منها الحكم بكراهة الوضوء بماء اسخن بالشمس وإن زالت السخونة. وبذلك صرح شيخنا الشهيد في (الذكرى) (٢) ، والشهيد الثاني في (الروض (٣)) (٤) تمسّكا بعدم اشتراط بقاء مأخذ الاشتقاق في صدق المشتق.

واعترض (٥) عليه ، بأن تفريع بقاء الكراهة بعد البرد على هذا (٦) الأصل ليس في محلّه ، فإن عدم اشتراط بقاء المعنى في المشتقّ إنّما هو إذا لم يكن زواله بطريان وصف وجودي يناقضه ، والضدّ الوجودي حاصل لطريان (٧) البرودة عليه ، وهي وصف وجودي يضادّ الأول ، فلا يبقى الإطلاق الحقيقي قبل ورود ذلك الوصف بحاله فتنتفي الكراهة حينئذ ، فكيف يفرّع عليه؟

وأجاب المحقق الشيخ حسن قدس‌سره في كتاب (المعالم) : ب (أن الاشتقاق هنا (٨) من التسخين لا من السخونة) (٩).

ومراده رحمه‌الله : أن الطارئ هنا وإن كان وصفا وجوديا لكنه لا يضادّ الوصف القائم به.

نعم ، لو كان القائم به السخونة كان الوصف الطارئ ـ وهو البرودة ـ مضادّا له ، كما لا يخفى.

__________________

(١) من «ح» ، وفي «ق» : من.

(٢) ذكرى الشيعة : ٨.

(٣) في «ح» : روض الجنان.

(٤) روض الجنان : ١٦١.

(٥) في «ح» : ويعترض.

(٦) من «ح».

(٧) في «ح» : الطريان.

(٨) في «ح» : هذا.

(٩) معالم الدين وملاذ المجتهدين / قسم الفقه ١ : ٣٩٨.

١٣٩

واورد على هذا الجواب : (إن القائم بالماء هو التسخّن المطاوع للتسخين ، وأمّا التسخين فهو قائم بالمسخّن ـ على البناء للفاعل ـ فاذا كان الوصف القائم بالماء ـ وهو التسخن ـ فقد طرأ عليه الوصف المناقض له ، أعني : التبرّد).

وقيل عليه : سلمنا أن القائم بالماء هو التسخن المطاوع للتسخين كما ذكره ، لكن ليست الكراهة منوطة بالتسخين ، حيث إن وحدة الفاعل من جملة شروط التناقض عند الشيخ ومتابعيه (١) ، بل به من فعل مباشر. والحكم عندهم مرفوض (٢) فيه ، والوصف الوجودي الذي يناقضه إنما هو التبريد لا التبرّد ؛ لأن وحدة الفاعل من جملة شروط التناقض وإن لم يرد به التناقض المنطقي. ولو كان الحكم منوطا بالتسخن عند الجميع ، كان الإيراد بحسب الظاهر متّجها ، لكنه يستلزم الحرج في كلّ ماء آنية حصل له سخونة بغير قصد ولم يبرد) انتهى.

أقول : تخصيص الكراهة بالقصد لم ينقل عن أحد من أصحابنا ، سوى الشيخ في (الخلاف) (٣) والذي صرح به جملة من المتأخرين (٤) ومتأخريهم (٥) ، هو مجرّد حصول التسخّن ولو (٦) من قبل نفسه. فما ذكره المورد ليس في محله ، ولزوم الحرج ممنوع. على أن المقام مقام كراهة وتنزيه ، بل صرّح جملة منهم بأنه لو لم يجد غيره فلا كراهة (٧). وتحقيق ذلك في كتب الفروع. وبذلك يظهر لك عدم صحة تفريع المسألة المذكورة على هذا الأصل.

__________________

(١) في «ح» : وتابعيه.

(٢) في «ح» : معروض.

(٣) الخلاف ١ : ٥٤ / المسألة : ٤.

(٤) شرائع الإسلام ١ : ٧ ، نهاية الإحكام ١ : ٢٢٦ ، إصباح الشيعة (ضمن سلسلة الينابيع الفقهية) ٢ : ٤٢٥.

(٥) مسالك الأفهام ١ : ٢٢ ، مدارك الأحكام ١ : ١١٧ ، كشف اللثام ١ : ٣٠٢.

(٦) من «ح».

(٧) معالم الدين وملاذ المجتهدين / قسم الفقه ١ : ٣٩٨ ، مدارك الأحكام ١ : ١١٧.

١٤٠