الدّرر النجفيّة - ج ١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

الأردبيلي ـ طاب ثراه ـ في (شرح الإرشاد) (١) في مبحث الجاهل بالقصر والإتمام ؛ حيث عرض في المقام بحديث حمّاد وهو لا يخلو عن غفلة.

تتمة تشتمل على فوائد مهمة.

الفائدة الاولى : الاحتياط إنما يكون عند الجهل بالحكم الشرعي

ينبغي أن يعلم أن ما ذكرنا من وجوب (٢) الاحتياط على الجاهل بعد فقد العلم إنما هو بالنسبة إلى جاهل الحكم الشرعي ؛ إذ لا يخفى أن الجهل إمّا أن يتعلّق بالحكم الشرعيّ ، أو بجزئيّاته التي هي أفراد موضوعه.

والحكم في الأول : الفحص والسؤال ، ومع عدم العلم الوقوف على جادة الاحتياط ، كما تقدّم ، لما ورد في الآيات والروايات من وجوب البناء في الأحكام الشرعية على اليقين ، كقوله سبحانه (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ) (٣). مع قوله سبحانه (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (٤).

ومن الأخبار ما رواه في (الكافي) عن زرارة قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام : ما حق الله على العباد؟ فقال : «أن يقولوا ما يعلمون ، ويقفوا عند ما لا يعلمون» (٥).

ومثلها ما رواه في الموثق عن هشام بن الحكم (٦).

والأخبار بوجوب الفحص والسؤال في الأحكام الشرعية ، ومع عدم حصول

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ٣ : ٤٣٥.

(٢) في «ح» : وجوه.

(٣) الأعراف : ١٦٩.

(٤) يونس : ٣٦.

(٥) الكافي ١ : ٤٣ / ٧ ، باب النهي عن القول بغير علم.

(٦) الكافي ١ : ٥٠ / ١٢ ، باب نوادر كتاب فضل العلم ، وفيه عن هشام بن سالم ، ونصّه : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ما حقّ الله على خلقه؟ فقال : «أن يقولوا ما يعلمون ، ويكفّوا عمّا لا يعلمون ؛ فإذا فعلوا ذلك فقد أدّوا إلى الله حقّه».

١٠١

العلم ، فالوقوف (١) على ساحل التوقف (٢) مستفيضة (٣).

نعم ، يأتي على مذهب القائلين بحجّية البراءة الأصليّة عدم تحتّم الاحتياط مع فقد العلم وإن استحبّ ، بل العمل بموجب البراءة الأصليّة. وسيأتي في بعض درر هذا الكتاب (٤) إن شاء الله تعالى حكم البراءة الأصليّة وبيان عدم حجيّتها.

وأمّا الحكم في الثاني ، فليس مثل الأوّل في وجوب الفحص والسؤال ، بل كثيرا ما ورد في الأخبار في بعض أفراده النهي عن السؤال (٥) ، وهو غير منضبط ولا مبنيّ على قاعدة كالأوّل ، فربما اعتبر الشارع (٦) البناء فيه على الأصل تارة ، كالبناء على الطهارة ، لما ورد أن «كلّ شي‌ء طاهر ، حتى تعلم أنه قذر» (٧).

والأصل هنا بمعنى الراجح الذي هو أحد معانيه ، وربما اعتبر تارة البناء على الظاهر ، كما في الحكم بحلّيّة الأشياء وإن علم فيها الحرام لا بعينه لما ورد أن «كلّ شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال ، حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه» (٨) ، فإن مرجع الحكم بالحلّيّة إلى عدم العلم بكونه محرما وإن كان كذلك في نفس الأمر.

وربما اعتبر البناء على الجهل ، كالتزويج في العدّة مع العلم بالتحريم وجهل العدة ، فإنه يجوز له التزويج ، ولا يجب عليه الفحص والسؤال ، ولا الاحتياط ؛ وإن كان

__________________

(١) في «ح» : والوقف.

(٢) من «ح» ، وفي «ق» : الوقف.

(٣) انظر وسائل الشيعة ٢٧ : ١٥٤ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢.

(٤) انظر الدرر ١ : ١٥٥ ـ ١٨٦ / الدرة : ٦.

(٥) الفقيه ٤ : ٥٣ / ١٩٣ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٧٥ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٦٨.

(٦) في الأخبار الدالّة على النهي عن السؤال في اشتراء الجبن والشراء من سوق المسلمين ، وفيها صحيحة البزنطيّ في شراء الجيّد من السوق ، ونحوها. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

(٧) تهذيب الأحكام ١ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥ / ٨٣٢ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٦٧ ، أبواب النجاسات ، ب ٣٧ ، ح ٤ ، وفيهما : «نظيف» بدل : «طاهر».

(٨) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٣٩ ، باب نوادر كتاب المعيشة ، الفقيه ٣ : ٢١٦ / ١٠٠٢ ، وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ٤ ، باختلاف فيها.

١٠٢

يقدر عليه ، كما أشارت إليه صحيحة عبد الرحمن (١) المتقدمة (٢).

أمّا الجهل بأصل التحريم ، فهو من قبيل الجهل بالحكم الشرعيّ ، وهو عذر ؛ لكونه جاهلا (٣) ساذجا كما تقدّم بيانه. وربما اعتبر البناء على الظن ، كما في القبلة ، لما ورد من أنه مع جهلها يتحرى جهده (٤) ، وربما اعتبر البناء على اليقين (٥) والقطع كمن فاتته صلاة من الخمس لا يعلمها بعينها ، فإنه يجب عليه الإتيان بالجميع ، ولو بالترديد فيما اتّفق عدده منها.

وبالجملة ، فالحكم في متعلّقات الحكم الشرعي غير منضبط على وجه واحد ، بل يجب الرجوع في كلّ فرد فرد إلى الأخبار الواردة فيه ، وما تنصّ به في ذلك ، وأمّا فيه نفسه فلم يعتبر الشارع فيه إلّا البناء على اليقين والعلم ، وإلّا فالتوقّف والاحتياط.

نعم ، مع الجهل الساذج يحصل العذر ، كما عرفت.

الفائدة الثانية : بعض صور الاحتياط

قد عرفت أن الحكم بالنسبة إلى الجاهل ـ بمعنى الظانّ أو الشاك في الحكم الشرعي عند تعذّر العلم والسؤال ـ هو الاحتياط ، وهو واجب بالنسبة إليه ، متى كان الأمر كذلك ؛ إذ الظاهر أنه حكم الله سبحانه في حقّه كما أن حكم العالم العمل بما أوجبه علمه. وله صور عديدة لا بأس بالإشارة إلى شي‌ء منها ، وعسى أن نفرد لتحقيقه على حياله درة من درر هذا الكتاب بتوفيق الملك الوهاب :

__________________

(١) الكافي ٥ : ٤٢٧ / ٣ ، باب المرأة التي تحرم على الرجل فلا تحل له أبدا ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٥٠ ـ ٤٥١ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ب ١٧ ، ح ٤.

(٢) انظر الدرر ١ : ٨٩ / الهامش : ٢.

(٣) في «ح» : جهلا.

(٤) انظر وسائل الشيعة ٤ : ٣١٤ ، أبواب القبلة ، ب ١٠.

(٥) في «ح» : التعيين.

١٠٣

الصورة الاولى :

فمن ذلك ما إذا تردد الفعل بين الوجوب والحرمة ؛ إمّا لورود خبر يفيد ذلك ، أو لتعارض الأخبار ؛ أو ، لطروء (١) حالة على المكلف توجب تغيير الحكم من أحدهما إلى الآخر في نظره لجهله بالحكم ، وعدم تمكّنه من السؤال.

والظاهر من بعض الأخبار أن الاحتياط هنا في الترك (٢) ، ففي موثقة ابن بكير ، وزرارة ، في اناس من أصحابنا حجّوا بامرأة معهم ، فقدموا إلى الوقت ، وهي لا تصلّي ، فجهلوا أن مثلها ينبغي أن يحرم ، فمضوا بها كما هي ، حتّى قدموا مكّة وهي طامث حلال ، فسألوا الناس؟ فقالوا : تخرج إلى بعض المواقيت فتحرم منه ، وكانت إذا فعلت لم تدرك الحجّ ، فسألوا أبا جعفر عليه‌السلام فقال : «تحرم من مكانها قد علم الله نيّتها» (٣).

وجه الدلالة أنها تركت واجبا في الواقع ، لاحتمال حرمته عندها ؛ بسبب الحيض ، والإمام عليه‌السلام قرّرها على ذلك ولم ينكر عليها ، بل استحسن ذلك بقوله :

__________________

(١) في «ح» : لطريان.

(٢) أقول : وممّا يدلّ على ذلك موثّقة سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه ؛ أحدهما يأمره بأخذه والآخر ينهاه عنه ، كيف يصنع؟ قال عليه‌السلام : «يرجئه حتى يلقى من يخبره ؛ فهو في سعة حتى يلقاه» (١).

وجه الدلالة : أنه لما كان كل من الأمر والنهي حقيقة في الوجوب والتحريم ، فالحكم حينئذ باعتبار أمر أحدهما به ونهي الآخر عنه قد تردّد بين الوجوب والتحريم. وهو عليه‌السلام قد أمر في الصورة المذكورة بالإرجاء الذي هو عبارة عن ترك الفعل حتّى يلقى من يخبره بتعيّن أحدهما ؛ فالاحتياط حينئذ هو الترك. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

(٣) الكافي ٤ : ٣٢٤ / ٥ ، باب من جاوز ميقات أرضه بغير إحرام أو دخل مكة بغير احرام ، وسائل الشيعة ١١ : ٣٣٠ ، أبواب المواقيت ، ب ١٥ ، ح ٦.

__________________

١ ـ الكافي ١ : ٦٦ / ٧ ، باب اختلاف الحديث.

١٠٤

«قد علم الله نيّتها». ومثلها رواية معاوية بن عمار (١).

الصورة الثانية :

ومن ذلك ما لو تردد الفعل بين الحرمة والكراهة والاحتياط بالترك ، وهو ظاهر.

الصورة الثالثة :

ومن ذلك ما لو علم اشتغال الذمة بعبادة ، لكنها مترددة بين فردين ، فإن أصل العبادة معلوم (٢) الاستقرار في الذمّة ، لكن الكيفية مجهولة في ضمن هذين الفردين مثلا ، فالخلاص في الإتيان بفردي ما شكّ فيه ، كما في المتردّد في وجوب الجمعة ، والشاكّ فيه ، فإنه يعلم اشتغال ذمّته في هذا الوقت بفرض ، لكنّه متردّد بين كونه جمعة أو ظهرا ، فالواجب الجمع بينهما ؛ للخروج من العهدة بذلك يقينا.

ومثله من نوى الإقامة في موضع ، ثم بدا له في الخروج قبل الصلاة أو بعدها ، ولم يعلم ما هو حكم الله في حقّه ، ولم يتمكّن من السؤال ، فإن الواجب عليه ـ بمقتضى ما قلنا ـ الصلاة تماما وقصرا. وهكذا جميع ما هو من هذا الباب بلا إشكال ولا ارتياب.

وما استشكله بعض المتأخرين (٣) ـ من العمل بالاحتياط مطلقا ، أو فيما إذا استلزم ارتكاب محرم وإن لم يعرف بعينه ، كالجمع بين الجمعة والظهر ، والقصر والإتمام حين لم يعلم أيّهما الواجبة وأيّهما المحرّمة قياسا على ما إذا أوجب الرجل (٤) على نفسه وطء امرأته بنذر وشبهه ، واشتبهت بأجنبيّة ، فإنه لا يجوز له

__________________

(١) الكافي ٤ : ٣٢٥ / ١٠ ، باب من جاء ميقات أرضه بغير إحرام ... ، وسائل الشيعة ١١ : ٣٢٩ ، أبواب المواقيت ، ب ١٤ ، ح ٤.

(٢) في «ح» بعدها : من.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٦٤ ـ ١٦٥ ، أبواب صفات القاضي ، ذيل الحديث : ٣٣.

(٤) من «ح».

١٠٥

الوطء في الصورة المذكورة ـ غفلة فاحشة عن ملاحظة الأخبار الآمرة بالاحتياط في أمثال هذه الموارد. فإن قوله في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج : «إذا اصبتم مثل هذا فلم تدروا ، فعليكم بالاحتياط» (١).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (٢).

وقوله : «ومن اتّقى الشبهات نجا من الهلكات» (٣).

وقول أمير المؤمنين عليه‌السلام لكميل : «يا كميل ، أخوك دينك ، فاحتط لدينك بما شئت» (٤).

وقولهم عليهم‌السلام : «ليس بناكب عن الصراط من سلك طريق الاحتياط» (٥) ، [شاملة] (٦) لما نحن فيه البتة. وكيف يمكن الحكم بأنه مكلّف بأداء ما وجب عليه على وجه التعيين والحال كذلك ، وما هو إلّا تكليف بما لا يطاق؟

على أن نظائر المسألة المذكورة ممّا انعقد عليه الاتفاق فتوى ورواية ، كمن فاتته صلاة لا يعلمها بعينها (٧) ، والصلاة في النجاسة في الثوبين المشتبهين (٨) ،

__________________

(١) الكافي ٤ : ٣٩١ / ١ ، باب القوم يجتمعون على الصيد وهم محرمون ، تهذيب الأحكام ٥ : ٤٦٦ / ١٦٣١ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٥٤ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ١.

(٢) ذكرى الشيعة : ١٣٨ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٧٣ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٦٣.

(٣) الكافي ١ : ٦٧ / ١٠ ، باب اختلاف الحديث ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٥٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٩ ، باختلاف فيهما.

(٤) الأمالي (الطوسي) : ١١٠ / ١٦٨.

(٥) ذكره زين الدين الميسي في إجازته لولده ، انظر بحار الأنوار ١٠٥ : ١٢٩ ، وذكره الشيخ محمود بن محمد الأهمالي في إجازته للسيد الأمير معين الدين ابن شاه أبي تراب ، انظر بحار الأنوار ١٠٥ : ١٨٧ ، ولم يورداه على انه حديث.

(٦) في النسختين : شامل.

(٧) وسائل الشيعة ٨ : ٢٧٥ ، أبواب قضاء الصلاة ، ب ١١.

(٨) الفقيه ١ : ١٦١ / ٧٥٧ ، تهذيب الأحكام ٢ : ٢٢٥ / ٨٨٧ ، وسائل الشيعة ٣ : ٥٠٥ ، أبواب النجاسات ، ب ٦٤ ، ح ١.

١٠٦

وصلاة المتحيّر في جهة القبلة إلى أربع جهات (١). وما توهّمه ذلك القائل من دوران الأمر هنا بين محرّم وواجب ليس في محلّه ، فإنّا لا نسلّم التحريم في هذه الصورة ؛ إنّما التحريم عند العلم بوجوب أحد الفردين معيّنا ، فإنه يحرم عليه الفرد الآخر لا مطلقا كما توهّمه. فتحريم الظهر ، إنّما هو بالنسبة إلى من علم أن فرضه الجمعة ، وتحريم الصلاة في النجاسة ، إنّما هو بالنسبة إلى من علم النجس بعينه.

ويؤيّد ذلك ما ذكرنا من الصور التي ورد بها الشرع كذلك ، مضافا إلى تعذّر الإتيان بالفعل بدون ما ذكرنا ، ودخوله تحت أخبار الاحتياط التي نقلنا شاهد على صحّة ما ادّعينا. أمّا المثال الذي قاس عليه ، فليس كذلك ؛ لأن الشارع قد حرم وطء الأجنبيّة مطلقا ؛ معلومة ، أو مشتبهة ؛ فإنّه قد أعطى المشتبه بالمحرّم حكم المحرّم ، والمشتبه بالنجس حكم النجس في موارد من الأحكام ، كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى في بعض درر هذا الكتاب (٢).

فمن المواضع المتحتّم فيها الاحتياط أيضا ما لو وقع نكاح لم يجزم بصحّته ولا فساده ؛ إمّا لتعارض الأدلّة فيه وعدم إمكان الترجيح ، أو لجهل بحكم المسألة كما لو عقدت البكر البالغ الرشيد بنفسها بدون إذن الولي ، أو وليّها بدون إذنها ، مع اختلاف الأخبار (٣) والأقوال (٤) في ذلك ، وعدم الترجيح ؛ فإنه يجب على الزوج ترك الاستمتاع بها ، وترك التزويج بخامسة وباختها ، ويجب على الزوجة ألّا تمكّنه من نفسها ، وألّا تتزوّج بغيره ، ويجب على الزوج إمّا طلاقها وإمّا العقد عليها بإذن وليّها في الفرض الأوّل أو بإذنها في الثاني ، وإمّا الإنفاق عليها إن

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ٣١٠ ، أبواب القبلة ، ب ٨.

(٢) انظر الدرر ٢ : ١٢٩ ـ ١٦٠ / الدرّة : ٢٥.

(٣) انظر وسائل الشيعة ٢٠ : ٢٨٤ ـ ٢٨٦ ، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، ب ٩.

(٤) انظر مختلف الشيعة ٧ : ١١٧ / المسألة : ٥٦.

١٠٧

رضيت بمجرد الاتّفاق. وإن طلبت أحد الأمرين من إذن وليّها أو الطلاق وجب عليه.

قال المحدث الأمين الأسترآبادي قدس‌سره في كتاب (الفوائد المدنيّة) (١) ؛ (ولو امتنع من ذلك وجب حبسه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن باب الدفاع).

قال : (ولو هرب فرارا من أحد الأمرين ولم يتمكن منه ، فلقائل أن يقول :

يستفاد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» (٢) ، ومن الحديث الشريف ، المتضمّن لجواز أن يطلق الحاكم زوجة مفقود (٣) الخبر بعد الاستخبار عنه ، من باب مفهوم الموافقة المسمى بالقياس الجلي ، والقياس بطريق الأولى جواز أن يطلقها) (٤) انتهى.

ولا يخفى ما فيه ، سيّما على مذاقه ومذهبه.

الفائدة الثالثة : المراد من الجاهل المعذور

نقل بعض السادة الأتقياء المعاصرين (٥) ـ أدام الله توفيقه ـ عن شيخنا المعاصر ـ أدام الله تعالى ظله وفضله ـ كلاما في هذا المقام ، وذكر ـ سلّمه الله ـ أنه أجازه روايته ، وحاصله : (أن الذي يتحقّق (٦) من عذر الجاهل ، إنّما هو الجاهل المطلق

__________________

(١) في «ح» : فوائد المدينة.

(٢) عوالي اللآلي ١ : ٣٨٣ / ١١.

(٣) الكافي ٦ : ١٤٧ / ٢ ، باب المفقود ، الفقيه ٣ : ٣٥٤ / ١٦٩٦ ، ٣ : ٣٥٥ / ١٦٩٧ ، تهذيب الأحكام ٧ : ٤٧٩ / ١٩٢٢ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٥٦ ـ ١٥٧ ، أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ، ب ٢٣ ، ح ١ ـ ٢.

(٤) الفوائد المدنيّة : ١٦٥.

(٥) الناقل : السيّد الأجلّ السيّد نصر الله الحائري ، والمنقول عنه : شيخنا الشيخ حسين ابن المرحوم الشيخ محمد بن جعفر الماحوزي. منه رحمه‌الله. (هامش «ح» و «ع»).

(٦) في «ح» : تحقّق.

١٠٨

الذي ليس له علم تفصيليّ ولا إجماليّ بذلك الفعل المكلّف به ، لأن التكليف بالمجهول المطلق قبيح عقلا. وأمّا الذي له طريق ولو على سبيل الإجمال كالمكلّف ، فإنه يعلم أن الله حلّل وحرّم وأوجب على وجه كلّيّ ، فهو غير معذور لإمكان طلب ذلك الفعل المعلوم على وجه الإجمال ، فيمكن طلب ما حرّم الله سبحانه وحلّله وأوجبه حتى يتأدّى إلى ذلك الواجب عليه) انتهى كلامه ، سلّمه الله تعالى.

ولا يخفى عليك ما فيه بعد الاطلاع على ما قدمناه ، فإن جملة من أخبار معذوريّة الجاهل (١) فيما قدّمنا ذكره ، وما طوينا نشره قد دلّت على معذوريّة الجاهل في جملة من الجزئيّات ، من حيث عدم علمه بحكم ذلك الجزئي ، وإن كان يعلم أن الله قد أحلّ وحرّم وأوجب مطلقا. ولو كان معذوريّة الجاهل مخصوصة بعدم هذا العلم الإجمالي كما ذكره ـ دام ظلّه ـ لتعذّر وجودها بعد زمان (٢) التكليف حتّى في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فضلا عن زمننا هذا ؛ إذ لا يخفى أن هذا العلم الإجماليّ ضروريّ لكلّ مكلّف ، ولا أظن أحدا يلتزمه ، ومن البعيد ، بل الظاهر البعد (٣) بما لا نهاية عليه ، ولا مزيد ؛ إذ هؤلاء الذين خرجت الأخبار بمعذوريّتهم فيما قدّمنا من الأحكام ـ سيّما في باب الحج ـ ليسوا ممّن لهم معرفة بذلك الحكم (٤) الإجمالي بالكلّية البتّة.

وبالجملة ، فإني لا أعرف وجه صحّة لهذا الكلام يوجب الركون إليه في هذا المقام ، والظاهر أن شيخنا ـ أيّده الله تعالى ـ تبع فيه بعض الفضلاء من غير إعطاء التأمّل حقّه في صحّته وفساده ، فإنّه قال ـ بعد ما ذكر ما قدّمنا نقله عنه ـ : (ويؤيّد

__________________

(١) الكافي ١ : ٤١ / ١ ، التوحيد ٤١٣ / ١٠.

(٢) في «ح» : بعذران.

(٣) من «ح».

(٤) ليست في «ح».

١٠٩

ما ذكرناه ما ذكره الشيخ محمّد ابن الشيخ حسن ابن الشيخ زين الدين ـ رحمهم‌الله تعالى ـ حيث قال في (شرح الاستبصار) : (وقد اتّفق للمتأخّرين (١) نوع إجمال في الفرق بين جاهل الأصل وجاهل الحكم. والذي يستفاد من الخبر الذي ذكره الشيخ في النكاح أن ما يمكن معه الاحتياط لا يعذر صاحبه (٢). لكن الحال في هذا لا يخلو من إجمال ، فإن الاحتياط لمن لا يعلم (٣) التحريم في خصوص ما ذكر في الرواية ممكن لمن علم إجمالا بأن الله تعالى قد حلّل وحرّم ؛ فالسؤال عن الحلال والحرام قبل الفعل على سبيل الاحتياط ممكن.

غاية الأمر أن الاحتياط يتفاوت بالقرب والبعد.

ولعلّ هذا هو المراد في الرواية ، فيراد : ما يمكن فيه الاحتياط على وجه قريب ، ولو لا هذا لم يكن أحد من الجهّال معذورا ، بعد أن علم أنه مكلّف. والحال أن الرواية تفيد خلاف ذلك ، وكلام (٤) بعض الأصحاب الذين رأينا كلامهم ، تارة يعطي عدم عذر الجاهل بالحكم الشرعيّ كالمكان المغصوب إذا علم غصبه (٥) وجهل حكمه ، وتارة يعطي ما يخالف ذلك ، كما [يعلمه] (٦) من تتبع كلامهم (٧).

والخبران (٨) اللذان ذكرناهما [ربّما] يفيدان عذر الجاهل بنوع آخر) (٩). انتهى كلامه زيد مقامه.

ثم قال شيخنا المشار إليه ـ بعد نقل هذا الكلام ـ : (وبالجملة ، فالمعذور هو

__________________

(١) في «ح» : المتأخّرين.

(٢) تهذيب الأحكام ٧ : ٣٠٦ / ١٢٧٤.

(٣) استقصاء الاعتبار في شرح الاستبصار ٣ : ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

(٤) من «ح» وفي «ق» : خلاف.

(٥) في «ح» : بغصبه.

(٦) من المصدر ، وفي النسختين : يعلم.

(٧) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٣٤٢ ـ ٣٤٣.

(٨) الفقيه ١ : ٢٧٨ ـ ٢٧٩ / ١٢٦٦ ، تهذيب الأحكام ٧ : ٣٠٦ / ١٢٧٤ ، وسائل الشيعة ٨ : ٥٠٦ ـ ٥٠٧ ، أبواب صلاة المسافر ، ب ١٧ ، ح ٤ ، و ٢٠ : ٤٥٠ ـ ٤٥١ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوه ، ب ١٧ ، ح ٤.

(٩) استقصاء الاعتبار ٣ : ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

١١٠

الجاهل المطلق لا مطلق الجاهل). انتهى.

ثم العجب من شيخنا (١) ـ زيد عمره وفخره ـ أنه استند فيما قدّمنا نقله عنه إلى كلام هذا الفاضل ، مع أن ما رجّحه هذا الفاضل أخصّ ممّا ذهب إليه هو ـ سلّمه الله تعالى ـ إذ حاصل كلام الفاضل المذكور بعد الحيرة والتردد في أوّل كلامه : تخصيص المعذوريّة بالجاهل الذي لا يمكنه الاحتياط على وجه قريب وإن علم أنه مكلّف بالوجوب والحرمة ونحوهما ، وإلّا لو خصّ المعذوريّة بالجاهل الغير العالم بأنه مكلّف بتلك الأشياء ، لم يعذر أحد من الجهّال بعد العلم بأنه مكلّف. والرواية بخلافه. هذا خلاصة كلام ذلك الفاضل قدس‌سره ، وبه يتّضح لك وجه الغفلة في كلام شيخنا ، أيّده الله تعالى بتأييده.

أقول : وكلام هذا الفاضل قدس‌سره يحوم حول ما قدّمنا تحقيقه ، ولكنه لم يبصر طريقه ؛ فلذا بقي في قالب الالتباس عليه وعلى جملة من الناس. والظاهر أن مراد الشيخ قدس‌سره ـ فيما نقله عنه في النكاح وإن لم يحضرني الآن صورة عبارته ـ بالجهل الذي يمكن معه الاحتياط ، ولا يعذر صاحبه هو الجهل بالمعنى الأوّل الذي هو عبارة عن تصوّر الحكم مع الشكّ فيه ، أو الظنّ وعدم إمكان العلم دون المعنى الثاني ، وهو الخالي عن تصوّر الحكم بالكلّيّة فإنه ـ كما عرفت ـ لا يتصوّر الاحتياط في حقّه بالمرة. وهذا التفصيل من الشيخ ، المقتضي لإيجاب الاحتياط في صورة الجهل بأحد معنييه موافق لما ذهب إليه من التثليث (٢) في الأحكام ، كما ذكره في كتاب (العدة) (٣) ، وإلّا فمن يقول بالتثنية يعمل في مثل هذه الصورة على البراءة الأصلية ، ويكون الاحتياط عنده مستحبّا لا واجبا.

__________________

(١) في «ح» : ثم العجب أيضا من شيخنا المشار إليه.

(٢) في «ح» : القول بالتثليث.

(٣) العدّة في اصول الفقه ٢ : ٧٤٢.

١١١

الفائدة الرابعة : ماهيّة تكليف الجاهل

نقل الشهيدان ـ رفع الله درجتيهما ـ في كتاب (الذكرى) (١) و (الروض) (٢) عن السيد الرضي أنه سأل أخاه السيد المرتضى ـ رضي‌الله‌عنهما ـ فقال : (إن الإجماع واقع على أن من صلّى صلاة لا يعلم أحكامها فهي غير مجزية ، والجهل بأعداد الركعات جهل بأحكامها فلا تكون مجزية) ، فأجاب المرتضى رضي‌الله‌عنه بجواز تغيّر (٣) الحكم الشرعي ؛ بسبب الجهل وإن كان الجاهل غير معذور (٤).

قال شيخنا الشهيد الثاني في (الروض) ـ بعد نقل ذلك ـ : (وحاصل هذا (٥) الجواب يرجع إلى النصّ الدالّ على عذره ، والقول به متعيّن) (٦) انتهى.

وقيل : إن الظاهر من جواب السيد قدس‌سره أن مراده أن الأحكام الشرعية تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال ، فيجوز أن يكون حكم الجاهل بالقصر وجوب الإتمام عليه وإن كان مقصّرا غير معذور بترك التعلّم. وحينئذ ، فهو آت بالمأمور به في تلك الحال فيكون مجزيا) (٧).

وقيل : (إنه يمكن أن يكون مقصود السيد رحمه‌الله أنه قد يختلف الحكم من الشارع بالنسبة إلى الجاهل المطلق ، وإلى الجاهل العالم في الجملة كمن عرف أن للصلاة أحكاما يجب معرفتها ولم يعرفها ، فتصحّ تلك الصلاة من الأوّل منهما دون الثانى ، وأن دعوى الإجماع على الإطلاق غير واضح) (٨).

__________________

(١) ذكرى الشيعة : ٢٥٩.

(٢) روض الجنان : ٣٩٨.

(٣) في «ح» : تغيير.

(٤) رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الثانية) : ٣٨٣ ـ ٣٨٤ ، باختلاف في النقل عن كيلهما.

(٥) من «ح».

(٦) روض الجنان : ٣٩١.

(٧) مجمع الفائدة والبرهان ٣ : ٤٣٣ ، ذخيرة المعاد : ٤١٤.

(٨) مجمع الفائدة والبرهان ٣ : ٣٤٣.

١١٢

أقول : قد نقل العلّامة ـ طاب ثراه ـ في (المختلف) هذا الجواب عن السيد رضي‌الله‌عنه ، في (أجوبة المسائل الرسيّة) بوجه أوضح ، حيث قال في الكتاب المشار إليه ـ بعد تقدّم ذكر السيد رضي‌الله‌عنه ـ ما صورته : (قال في (المسائل الرسيّة) ـ حيث قال له السائل : (ما الوجه فيما تفتي به الطائفة من سقوط فرض القضاء عمّن صلى من المقصّرين صلاة متمّم بعد خروج الوقت ، إذا كان جاهلا بالحكم في ذلك ، مع علمنا بأن الجهل بأعداد الركعات لا يصحّ معه العلم بتفصيل أحكامها ووجوهها ؛ إذ من البعيد أن يعلم التفصيل من جهل الجملة التي هي كالأصل ، والإجماع على أن من صلّى صلاة لا يعلم أحكامها ، فهي غير مجزية ، وما لا يجزي من الصلاة يجب قضاؤه؟ فكيف يجوز الفتيا بسقوط القضاء عمّن صلى صلاة لا تجزيه) (١)؟

فأجاب بأن الجهل وإن لم يعذر صاحبه ، بل هو مذموم جاز أن يتغيّر معه الحكم الشرعي ، ويكون حكم العالم بخلاف حكم الجاهل (٢)) (٣) انتهى.

أقول : ما أوضحه هنا من الجواب ـ وهو الذي عليه المعوّل (٤) ـ كاشف عن نقاب الإجمال في الجواب الأوّل ، ويرجع إلى الاحتمال الثاني من الاحتمالات الثلاثة المتقدّمة. ويظهر منه حينئذ أن مذهب السيّد قدس‌سره أنّ تكليف الجاهل من حيث كونه جاهلا في جميع الموارد ليس كتكليف العالم ، وأن الحكم مع الجهل ليس كالحكم مع العلم.

وفيه حينئذ ردّ للإجماع المدّعى في المقام ، وهو مطابق لما ادعيناه ، وموافق لما قدّمناه ، ولا خصوصية له بالصورة المذكورة ، كما فهمه شيخنا الشهيد الثاني

__________________

(١) رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الثانية) : ٣٨٣.

(٢) رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الثانية) : ٣٨٤.

(٣) مختلف الشيعة ٢ : ٥٣٧ / المسألة : ٣٩٥.

(٤) في «ح» : المقول.

١١٣

فيما قدمنا من كلامه في (الروض) (١) ، ليوافق ما ذهب إليه قدس‌سره ممّا قدّمنا نقله عنه آنفا.

لكن ينبغي تقييده كما عرفت بأحد ذينك الفردين ، وهو الجاهل بمعنى : الذاهل الغافل عن تصور الحكم بالكلّية. إلّا إن فيه أن هذا الفرد معذور في جهله عندنا ؛ لعدم توجّه الخطاب إليه ، والسيد رحمه‌الله قد صرّح بأنه غير معذور في جهله الحكم ، بمعنى : أنه مذموم ومعاقب على جهله ، إلّا إن عبادته صحيحة.

اللهم إلّا أن يقال بوجوب تحصيل العلم على الجاهل مطلقا بنوعيه. وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى في المقام.

وما ذكره العلّامة قدس‌سره في كلام السيّد رحمه‌الله في الجواب المذكور من أنه يدلّ بمفهومه على الإعادة في الوقت من حيث إن سؤال السائل تضمّن تخصيص سقوط فرض القضاء بخروج الوقت ، وهو يدلّ بمفهومه على الإعادة في الوقت ، والسيد رحمه‌الله لم يذكره (٢) ، فظنّي أنه بعيد ، فإن الظاهر أن مطمح نظر السيد رحمه‌الله إنّما هو إلى الجواب عن أصل الإشكال من غير نظر إلى الخصوصية المذكورة ، كما يدلّ عليه جوابه الأوّل عن سؤال أخيه ؛ فإنه لا مجال لإجراء هذا الاحتمال فيه.

الفائدة الخامسة : وجوب تعليم الجاهل على العالم ابتداء

هل الواجب على العالم تعليم الجاهل ابتداء من غير سؤال ، أو بعد السؤال ، أو الواجب على الجاهل السؤال من العالم ، أولا ؛ أعم من أن يكون عمّا يعلمه في الجملة كما في الجاهل ؛ بمعنى المتصور للحكم المتردّد فيه ، أو عما يجهله مطلقا على وجوب التعلّم عليه ، لا بالمعنى المتقدم في قسيمه ؛ لأن المفروض كونه

__________________

(١) روض الجنان : ٣٩١.

(٢) في «ح» : ينكره.

١١٤

بمعنى الذاهل الغافل عن الحكم؟ فكيف يتيسّر له السؤال عنه ؛ إذ (١) توجّه النفس نحو المجهول المطلق ممتنع عقلا ، فيرجع الفرض فيه إلى وجوب التعلّم عليه مطلقا ، إن علم ذلك؟

لم أقف لأحد من علمائنا الأعلام على ما يتضمّن تنقيح المقام (٢) ، إلّا إذا نتكلّم في ذلك بما أدّى إليه الفهم القاصر من كلام أهل الذكر عليهم‌السلام ، مستعينين بتوفيق الملك العلّام ، فنقول : ما ذكرناه من الترديد ينحلّ إلى مقامات أربعة :

الأوّل : في وجوب التعليم على العالم ابتداء. ومقتضى كلام المحدّث السيد نعمة الله قدس‌سره كما عرفت ذلك ، وبه صرّح أيضا شيخنا الشيخ (٣) العلّامة أبو الحسن الشيخ سليمان (٤) بن عبد الله (٥) البحراني قدس‌سره في بعض أجوبته ، حيث سئل : هل يجب على العالم تعليم الجاهل ابتداء ، أو أنه لا يجب إلّا بشرط السؤال؟ فأجاب قدس‌سره : (إن الذي يظهر من الآيات والأخبار وجوب التعليم كفاية ، إمّا للسائل المسترشد ، أو للجاهل المعلوم جهله للمرشد ، أمّا لو لم يعلم جهله به فلا تكليف ، لأصالة البراءة) (٦) انتهى.

ولعلّه قدس‌سره أشار بالآيات إلى مثل قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ) (٧).

وقوله سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ) (٨) الآية.

__________________

(١) من «ح» ، وفي «ق» : أو.

(٢) في «ح» : المرام.

(٣) ليست في «ح».

(٤) في «ح» : سليم.

(٥) بن عبد الله ، من «ح».

(٦) أجوبة الشيخ سليمان الماحوزي : ٢٤٣ ـ ٢٤٤.

(٧) آل عمران : ١٨٧.

(٨) البقرة : ١٥٩.

١١٥

قال حجّة الإسلام الطبرسي في كتاب (مجمع البيان) في تفسير (١) الآية الاولى : (دلّت الآية على وجوب إظهار الحقّ وتحريم كتمانه ، فيدخل فيه بيان الدين ، والأحكام ، والفتاوى ، والشهادات ، وغير ذلك من الأمور التي يختصّ بها العلماء).

ثم نقل عن الثعلبي (٢) في تفسيره رواية عن علي عليه‌السلام قال : «ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلّموا ، حتّى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا» (٣).

وقال في تفسير الآية الثانية : (وفي هذه الآية دلالة على أن كتمان الحق مع الحاجة إلى إظهاره من أعظم الكبائر ، وأنّ من كتم شيئا من علوم الدين وفعل مثل فعلهم ، فهو مثلهم في الجرم ، ويلزمه كما يلزمهم من الوعيد) (٤) انتهى.

أقول : ويدلّ على ذلك من الأخبار ما رواه في (الكافي) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قرأت في كتاب علي عليه‌السلام ، إن الله لم يأخذ على الجهّال عهدا بطلب العلم ، حتّى أخذ على العلماء عهدا ببذل (٥) العلم للجهّال» (٦).

وما تقدّم من كلام الأمير عليه‌السلام ، المنقول في آخر كلام المحدّث السيّد نعمة الله رحمه‌الله نقله السيد الرضي رضي‌الله‌عنه في كتاب (نهج البلاغة) (٧) ، وما ورد من الأخبار المتضمنة للنهي عن كتمان العلم ، مثل ما رواه الشيخ قدس‌سره في (الأمالي) عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : «أيّما رجل آتاه الله علما فكتمه وهو يعلمه ، لقي الله عزوجل يوم القيامة ملجما بلجام من نار» (٨).

__________________

(١) في «ح» : تعيين.

(٢) الكشف والبيان في تفسير القرآن (الثعلبي) : ١٦٤.

(٣) مجمع البيان ٢ : ٦٩٥ ـ ٦٩٦.

(٤) مجمع البيان ١ : ٣١٠.

(٥) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : ببذلها.

(٦) الكافي ١ : ٤١ / ١ ، باب بذل العلم ، وفيه عن الصادق عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٧) نهج البلاغة : ٢٠١ / الخطبة : ١٠٨.

(٨) الأمالي : ٣٧٧ / ٨٠٨.

١١٦

لكن ينبغي تقييد ذلك بما إذا لم يكن ثمّة مانع شرعيّ من تقيّة ونحوها ، لما روى في (الاحتجاج) عن عبد الله بن سليمان قال : كنت عند أبي جعفر عليه‌السلام ، فقال له رجل من أهل البصرة يقال له عثمان الأعمى : إن الحسن البصريّ يزعم أن الذين يكتمون العلم تؤذي ريح بطونهم من يدخل النار. فقال أبو جعفر عليه‌السلام : «فهلك إذن مؤمن آل فرعون والله مدحه بذلك! وما زال العلم مكتوما مذ بعث الله رسوله [نوحا] فليذهب الحسن يمينا وشمالا ، فو الله ، ما يوجد العلم إلّا هاهنا» (١).

وروي في تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام (٢) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال : «سمعت رسول الله عليه‌السلام يقول : من سئل عن علم فكتمه حيث يجب إظهاره وتزول عنه التقية ، جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار» (٣).

هذا غاية ما يمكن الاستدلال به في المقام إلّا إن احتمال التخصيص بالسؤال قائم في الجميع كما يدلّ عليه الخبر الأخير ، بل ربما دلّت على ذلك الأخبار المتقدّمة الدالّة على وجوب طلب العلم على المكلف والسؤال ، ولا سيما قول الصادق عليه‌السلام : «لا يسع الناس حتى يسألوا ويتفقهوا» (٤).

أو قوله : «لوددت أن أصحابي ضربت رءوسهم بالسياط ، حتى يتفقّهوا» (٥).

وأمثال ذلك ، فإنه يدلّ بأصرح دلالة على وجوب السؤال والتعلّم عليهم ابتداء ، ولو كان الواجب على العالم التعليم ابتداء ، لوسع الجهّال ترك السؤال حتى يأتيه العالم بعلمه (٦) ، والأخبار بخلافه. فالأظهر حينئذ هو تخصيص الأخبار

__________________

(١) الاحتجاج ٢ : ١٩٣ / ٢١٢.

(٢) في «ح» : الامام الحسن العسكري عليه‌السلام.

(٣) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٤٠٢ / ٢٧٣.

(٤) الكافي ١ : ٤٠ / ٤ ، باب سؤال العلم وتذاكره.

(٥) الكافي ١ : ٣١ / ٨ ، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه.

(٦) ليست في «ح».

١١٧

المتقدّمة بهذه الأخبار إلّا أن يدّعى دخول تلك في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والظاهر بعده.

الثاني : وجوب التعليم بعد السؤال. والظاهر وجوبه لما ذكرنا من الأدلّة ، إلّا مع العذر المانع من ذلك كما عرفت. ويدلّ عليه أيضا ما ورد عنهم عليهم‌السلام في تفسير قوله تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) (١) من الأخبار المتعددة (٢) ، وقولهم : «على شيعتنا ما ليس علينا ، أمرهم الله أن يسألونا وليس علينا الجواب ؛ إن شئنا أجبنا ، وإن شئنا أمسكنا» (٣) ، فإن الظاهر أن إمساكهم ، إنّما هو في مقام العذر من تقيّة ونحوها.

الثالث : وجوب السؤال على الجاهل. ولا ريب في وجوبه على الجاهل بالمعنى الأول للأخبار المتقدّمة في أدلّة القول المشهور آنفا ، وعليه أيضا تحمل الآيات كقوله تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) ، ونحوها.

الرابع : وجوب التعلّم على الجاهل المطلق. ولا ريب في وجوبه على الجاهل (٤) متى علم بالتكليف للأخبار المتكاثرة الدالّة على وجوب طلب العلم والتفقّه ، وأنه فرض على كلّ مسلم ، وأنه يأثم بالإخلال بذلك ، ولكن لا يستلزم ذلك بطلان ما يأتي به ولو جهل الحكم في بعض الجزئيّات على الوجه الّذي قدّمناه والتفصيل الّذي حقّقناه.

وينبغي أن يعلم أن وجوب تحصيل العلم عليه عينا ، إنّما هو فيما يتعلّق به تكليفه ، فعلى هذا يشترك جميع المكلّفين في وجوب معرفة المعارف الدينيّة والعقائد الحقّة اليقينيّة ، ومعرفة أحكام الصلاة والصوم ، والوضوء والغسل ،

__________________

(١) النحل : ٤٣ ، الأنبياء : ٧.

(٢) الكافي ١ : ٢١٠ ـ ٢١١ ، باب أن أهل الذكر الّذين أمر الله الخلق بسؤالهم هم الأئمّة عليهم‌السلام.

(٣) الكافي ١ : ٢١٢ / ٨ ، باب أن أهل الذكر الذين أمر الله بسؤالهم هم الأئمَّة عليهم‌السلام ، باختلاف.

(٤) قوله : على الجاهل ، سقط في «ح».

١١٨

وما يبطلها ويصححها (١) ، والطهارة والنجاسة ، والحلال والحرام ، ونحو ذلك ممّا لا ينفكّ عنه المكلّف غالبا. وينفرد من استطاع الحجّ بوجوب معرفة أحكامه ، ومن ملك أحد النصب الزكوية ، بوجوب معرفة أحكامها.

وعلى هذا كلّ من عمل عملا وجب عليه معرفة أحكام ذلك العمل ، ويجب تحصيل العلم كفاية على كافة المكلفين ، كما حقّق في محله ، والله العالم.

__________________

(١) في «ح» : يصحها.

١١٩
١٢٠