الحسين (ع) والوهّابيّة

جلال معاش

الحسين (ع) والوهّابيّة

المؤلف:

جلال معاش


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القارئ للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

فلمّا رأى وحدة الحسين عليه‌السلام بحيث لم يبقَ معه أحد من أصحابه وأهل بيته ، أتاه وقال : هل من رخصة (للبراز والقتال)؟

فبكى الحسين عليه‌السلام ـ وهو محتضن أخاه أبا الفضل ـ بكاءً شديداً.

قال : «يا أخي ، أنتَ صاحِبَ لُوائي ، وإذا مَضَيْتَ تَفرَّق عَسكَري».

فقال العباس عليه‌السلام : قد ضاق صدري وسئمت الحياة ، وأريد أن أطلب ثأري من هؤلاء المنافقين.

فقال الحسين عليه‌السلام : «إنْ كانَ ولا بدّ فاطْلبْ لِهؤلاءِ الأطفال قليلاً مِنِ الماء».

فمضى العباس بعد الوداع يطلب الماء من الفرات وعليه أربعة آلاف فارس ، فحملوا عليه وحمل هو عليهم ، وجعل يقول :

لا أرهبُ الموتَ إذا الموتُ رقى

حتّى اُوارى في المصاليتِ لقى

نفسي لنفسِ المصطفى الطّهرِ وقا

إنّي أنا العباسُ أغدو بالسقا

ولا أخافُ الشرَّ يومَ الملتقى

ففرّقهم ، حتّى إذا دخل الماء وأراد أن يشرب غرف غرفة من الماء فذكر عطش أخيه الحسين وأهل بيته عليهم‌السلام ، فرمى الماء على الماء وقال :

يا نفسُ من بعدِ الحسينِ هوني

وبعدهُ لا كنتِ أن تكوني

هذا الحسينُ واردُ المنونِ

وتشربينَ باردَ المعينِ

تاللهِ ما هذا فعالُ ديني

ولا فعالُ صادقِ اليقينِ

ثمّ ملأ القربة وحملها متوجّهاً نحو الخيمة ، فقطوا عليه الطريق ، وأحاطوا به

٨١

من كلّ جانب ، فكمن له زيد بن ورقاء الجهني من وراء نخلة ، وعاونه حكيم بن الطفيل فضربه على يمينه فقدّها ، فأخذ السيف بشماله وحمل عليهم ، وهو يرتجز :

واللهِ إن قطعتمُ يميني

إنّي أحامي أبداً عن ديني

وعن إمامٍ صادقِ اليقينِ

نجلِ النبي الطاهرِ الأمينِ

فقاتل حتّى ضعف ، فكمن له عدّو الله من وراء نخلة فضربه على شماله فقطها كذلك ، فقال عليه‌السلام :

يا نفسُ لا تخشي من الكفّارِ

وأبشري برحمةِ الجبّارِ

مع النبي السيّدِ المختارِ

قد قطعوا ببغيهم يساري

فأصلهم يا ربِّ حرَّ النارِ

ثمّ جاء سهم فأصاب القربة وأُريق ماؤها ، فوقف متحيّراً ؛ لا ماء حتّى يوصله إلى الخيمة ، ولا يد حتّى يُحارب بها ، وبينما هو كذلك وإذا بسهم أصاب عينه ، ثمّ ضربه ظالم لعين بعمود من حديد على رأسه فانقلب عن فرسه ، وصاح أخاه الحسين عليه‌السلام قائلاً : يا أخي أدرك أخاك.

فلمّا أتاه الحسين عليه‌السلام ورآه صريعاً على شاطئ الفرات بكى ، وقال : «الآن انكَسَرَ ظَهري ، وقلَّتْ حيلتي ، وشَمَتَ بي عَدوّي».

ثمّ توجّه إلى القوم ، وأنشأ يقول :

تعدَّيتمُ يا شرًّ قومٍ بفعلكم

وخالفتمُ قولَ النبيِّ محمّد

أما كانَ خيرُ الرُّسلِ وصّاكم

بنا أما نحنُ من نسلِ النبيِّ المسدَّد

أما كانتِ الزَّهراءُ أُمّيَ دونكم

أما كانَ من خيرِ البريّةِ أحمد

٨٢

لُعنتم وأُخزيتم بما قد جَنيتم

فسوفَ تُلاقوا حرَّ نارٍ توقَّد (١)

أهكذا يكون الوفاء؟ أوَ هذه هي الإنسانيّة التي جُبل البشر عليها؟ إنّ فعل الأُباة والكرماء يُنبئك عن طيب طينتهم ، والعكس صحيح ، ففعل الجفاة الغلاظ من الدناءة والحقارة يخبرك عن خبث طينتهم بأنّها حمئة خبيثة نتنة ، فتسافلت بهم إلى أسفل من البهائم العجماء ، وذاك أسفل سافلين في الدنيا ، ولهم في الآخرة أسفل سافلين في النار ، وغضب الجبّار والعياذ بالله.

الذنب الفظيع في قتل الرضيع

وإذا كان لديك شكّ في تلك المسوخات التي كانت تحيط بالإمام الحسين عليه‌السلام على صعيد كربلاء ، فإليك ما فعلوه بالطفل الرضيع (عبد الله بن الإمام الحسين عليه‌السلام وأُمّه الرباب) ، فإنّ ذلك لن يدع لديك أيّ شكّ من خروج اُولئك من البشرية ، وتجرّدهم من صفات الإنسانيّة كلّها.

كان من أفجع وأقسى ما نُكب به الإمام الحسين عليه‌السلام هو رزيته بولده عبد الله الرضيع الذي لم يتجاوز من العمر ستة أشهر ، فقد كان الطفل كالبدر في بهائه ، وعند عودة الإمام من مصرع العباس عليه‌السلام وقف في باب الخيمة ، ونادى ولده علياً وأخته زينب الكبرى عليهما‌السلام وقال : «يا أختاه ، اُوصيك بولدي الصغير خيراً».

فقالت له : يا أخي إنّ هذا الطفل له ثلاث أيّام ما شرب الماء ، (وقد جفَّ اللبن في ثدي أُمّه لشدّة العطش) ، فاطلب له شربة من الماء.

__________________

١ ـ موسوعة البحار ٤٥ ص ٤٠.

٨٣

فأخذ منها الطفل (وهو يتلوَّى من شدّة الحرّ والعطش ، وكان يُغمى عليه ، وقد غارت عيناه ، وذبلت شفتاه) ، وتوجّه نحو القوم ، وقال : «يا قَوم ، قَدْ قَتلُتمْ أخي وأولادي وأنصاري ، وما بَقِيَ غَيرَ هذا الطفل ، وَهوَ يَتلظّى عَطَشاً مِنْ غيرِ ذَنبٍ أتاهُ إليكمُ ؛ فاسْقوهُ شَربةً منْ ماء».

وفي (نفس المهموم) قال عليه‌السلام : «يا قومَ ، إنْ لَمْ ترحَمُوني فارْحَموا هذا الطفل».

فاختلف القوم فيما بينهم ، فمنهم مَنْ يقول : اسقوه الماء ، ومنهم مَنْ يقول : لا تسقوه الماء.

فقال بعضهم : إن كان للكبار ذنب فما ذنب الصغار ، وإنّه لطفل رضيع؟!

فصاح بهم الإمام الحسين عليه‌السلام : «وَيَلكُمْ! خُذوهُ وأنتمْ اسْقوُه الماءَ».

فالتفت عمر بن سعد إلى حرملة بن كاهل ، وقال : اقطع نزاع القوم يا حرملة.

فقال هذا اللعين : أأعطيه شربة ماء؟!

فقال ابن سعد : بل ، ألا ترى إلى بياض نحر الطفل في حجر والده؟

فوضع حرملة بن كاهل (وقيل : عقبة بن بشير الأزدي) سهماً في قوسه ورماه به ، فوقع في نحر الطفل فذبحه من الوريد إلى الوريد ، فلما أحسَّ بحرارة السهم أخرج يديه من القماط ، وراح يرفرف بهما على صدر والده العظيم كالطير المذبوح ، فراح عليه‌السلام يتلقّى دمه الشريف في يديه ويرميه إلى السماء ؛ لكي لا يقع إلى الأرض ، فلم تسقط منه قطرة ، كما يؤكّد الإمام الباقر عليه‌السلام في روايته.

٨٤

والإمام المفجوع يبكي ويقول : «هَوِّنَ عليَّ ما نَزَلَ بِي أنَّهُ بِعَينِ اللهِ تعالى. اللَّهُمَّ لا يَكُنْ أهوَن عَليكَ مِنْ فَصيلِ ناقة صالح».

«إلهي ، إنْ كُنتَ حَبَسْتَ عَنَّا النَّصْرَ فَاجْعَلهُ لِما هُوَ خيرٌ مَنهُ ، وانْتَقِمْ مِنْ الظَالِمين ، وَاجْعلْ مَا حلَّ بِنا في العاجِل ذَخيرةً لنا في الآجلِ».

«اللهمَّ أنتَ الشاهِدُ عَلى قَوْمٍ قَتَلوا أشْبَهَ النَّاسِ بِرَسُوِلكَ مُحَّمدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

وبراوية أُخرى :

«إنَّهُمْ قَد عمدوا أن لا يُبقوا أحداً من ذريّة رسولك صلى‌الله‌عليه‌وآله». وهو يبكي بكاءً شديداً ، ويناجي ربّه بهذه الكلمات : «اللهمَّ أنت تعلمُ أنّهم دعونا لينصرونا فخذلونا وأعانوا علينا. اللّهمّ احبس عنهم قطر السماء ، واحرمهم بركاتك ، اللّهمّ لا تُرضِ عنهم أبداً. اللّهمّ إن كنت حبست عنّا النصر في الدنيا فاجعله لنا ذخراً في الآخرة ، وانتقم لنا من القوم الظالمين» (٢).

__________________

١ ـ حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٣ ص ٢٧٦.

٢ ـ ينابيع المودة ص ٤١٥ ، ونفس المهموم ص ٣٤٩.

٨٥
٨٦

الفصل الرابع

ومضاتٌ اجتماعية وروحية

٨٧
٨٨

المجتمع : هو أفراد الأُمّة في اجتماعهم ، وعلاقاتهم المختلفة ، وتشابكاتها المتعدّدة.

والإنسان نفس ، وبدن ، وروح ، قد ذكر القرآن الكريم النفس وجعلها محتملة الأمرين ، مثل قوله تعالى : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (١).

وقد ذكر البدن بطور حيادي كأنّه لا شأن له ، مثل قوله سبحانه : (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (٢).

وذكر الروح بالإعظام والإكبار كالآية السابقة وغيرها ، فكأنّ البدن السفل ، والروح العلو ، والنفس بينهما إن مالت إلى الأعلى كانت من العلييّن ، وإن مالت إلى الأسفل كانت في سجّين.

والنفس يحيط بها البدن ، والبدن في الاجتماع ، وتحيط به المدنية أو نحوها ،

__________________

١ ـ سورة الشمس : الآية ٧ ـ ١٠.

٢ ـ سورة الحجر : الآية ٢٩.

٨٩

وحولها المحيط الطبيعي ، والنفس قادرة على إصلاح نفسها ، ثمّ بدنها ، ثمّ الاجتماع ثمّ المحيط الاصطناعي ، ثمّ المحيط الطبيعي ، وكما أنّ النفس قادرة على التحريك باتجاه البناء هي قادرة على تخريب الكلّ.

والمجتمع إنّما يتولّد من نقطة البدء ، فاللازم في علم الاجتماع أن نبدأ من هنا ، ونبني الهيكل الاجتماعي الصحيح من النفس النقيّة النظيفة (١).

والإنسان خُلق اجتماعياً بالطبع ، لا لحاجاته الجسدية فقط ، بل لحاجاته النفسية كذلك ، حيث الإنسان يستأنس بالإنسان ، ويستوحش لفقده ، كان الإنسان يؤثر بالإنسان الآخر ؛ سواء كانا فردين أو مجتمعين (٢).

والإسلام يؤمن أنّ بناء المجتمع على أساس القيم الصحيحة والعمل الصالح يُعطيه ديناميكية وحركة في الاتجاه الصحيح ، وعكس ذلك صحيح أيضاً ، وهذا المفهوم هو عبارة عن واحدة من السنن الطبيعية التي تنطبق على المجتمع البشري عامّة ، فالمجتمع مثل النهر يمتلك طاقات هائلة ، إذا ما وجِّهت في الاتجاه السليم ، وحُفِرت لها قنوات ملائمة ، تحرّكت هذه الطاقات عبر القنوات كلّ بقدرها ، وغذّت المجتمع ، وأعطى بالتالي ثماراً طيّبة ، ولكن إذا كانت هذه القنوات غير سليمة ومتناقضة الاتجاهات ، فإنّ المجتمع سرعان ما يتحطّم ويموت.

وبكلمة أُخرى : نجد أنّ المجتمع البشري هو عبارة عن جسم حيّ مدرك ، له حياته الخاصّة ، ولحياته نظامها الخاصّ ، وهو يتّصف بالتوازن مثلما يتّصف

__________________

١ ـ موسوعة الفقه (الاجتماع) ـ للإمام الشيرازي ١٠٩ ص ٧.

٢ ـ المصدر نفسه ١٠٩ ص ٣٩.

٩٠

بالانحراف في سلوكه ، كما يتّصف الفرد الواحد من الناس. والنظام الاجتماعي العادل : هو الذي يكفل للمجتمع ولأفراده على السواء جميع الحقوق والواجبات ، من غير تعدّ ولا تقصير.

فإذا سار المجتمع على ذلك النظام العادل ، وطبَّقه على سلوكه وسلوك أفراده ، سمُِّي ذلك التوازن منه عدلاً اجتماعياً.

والعدل الاجتماعي : هو أن تسير الأُمّة إلى المثل الأعلى في الحياة وفي الأخلاق ، وأن تسعى ما أمكنها السعي إلى السعادة العامّة والكمالات المطلوبة ، وأن تعدَّ للأفراد طرق الوصول إلى الخير فتنشئ المؤسسات الكافلة لخير البلاد والحافظة لخيراتها ، وتؤسس المعاهد الصالحة لإعداد الرجال ، وتثقيفهم بالثقافة الصحيحة ، وأن تتمسّك بالأنظمة الشرعية الموجبة لحفظ الحقوق وسلامة النفوس.

على أن تسير في جميع ذلك وفق النظام الصحيح ، والحكمة الرشيدة التي يأمر بها العقل ، ويقرّها الشرع.

إنّ تعاون أفراد الأُمّة وتضامنهم أعظم موجب لتحقيق هذا العدل ، وأبلغ مؤثّر فيه.

يقول المتأخرون من الخلقيين : إنّ المسؤول عن تحقيق هذه الغاية هي الحكومة التي تسيطر على الأُمّة وتتحكّم في مقدّراتها.

أمّا أفراد الأُمّة فيقعون في الدرجة الثانية من هذه المسؤولية ، ووظيفة الفرد هي مساعدة الحكومة في تحقيق الغاية بما يمكنه من الوسائل.

وهذا الرأي قد يكون بيِّن النقص ؛ لأنَّ العدل الاجتماعي هو التوازن التامّ في سلوك المجتمع وسلوك أفراده ، وتعاون الجميع على العمل في سبيل الخير

٩١

واكتساب الصّفات الخلقية المُثلى ، ونيل السعادة العامّة ، وهذا كلّه من مختصّات المجتمع نفسه ومختصّات أفراده.

أمّا ما تقوم به الحكومة من إنشاء المؤسسات والمعاهد الصالحة ، فهو إحدى مقدّمات العدل الاجتماعي (١).

البعد الاجتماعي في حياة الإمام الحسين عليه‌السلام

وبما أنّنا في رحاب الإمام الحسين عليه‌السلام الواسعة الرائعة ، فإنّنا سوف نلحظ كلا الجانبين في المسألة الاجتماعية ، وهما :

١ ـ على مستوى الأفراد ، وتربيتهم وأخلاقهم.

٢ ـ وعلى مستوى الحكومة والأُمّة. وهذا أحد أهم أسباب النهضة الحسينيّة المباركة.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الإسلام الحنيف قد اهتمَّ اهتماماً مميّزاً بالأشخاص كأفراد مستقلين ؛ لأنّ الجنّة مشروع فردي خاص ، كما يُقال ، وكلّ إنسان ينبغي أن يسلك الطريق الصحيح الذي رسمه له الشرع الحنيف ؛ للوصول إلى الله ورضاه ودار السّلام في جواره الأقدس والجنّة.

وللحقيقة نقول : إن يحمل الإنسان أهدافاً كبيرة ، أو يمتلك مستوى علمياً متقدّماً ، فذلك لا يؤثّر شيئاً في حركة الواقع والحياة ما لم يصاحبه حضور اجتماعي يشقّ الطريق أمام تلك الأهداف الكبرى ، ويترجم العلم إلى فعل

__________________

١ ـ الأخلاق عند الإمام الصادق عليه‌السلام ص ٦٧.

٩٢

ملموس على أرض الواقع.

لذلك كان الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام يعيشون في وسط الناس ، ويتفاعلون معهم ، ولم يكونوا منعزلين على قمم الجبال ، أو في الكهوف والمغارات ، ولا كانوا يتعالون ويترفّعون عن الناس في أبراج عاجية.

ومهما كان مستوى المجتمع من حيث التخلّف والجهل ، أو من حيث طغيان أجواء الفساد والانحراف ، فإنّ ذلك لا يبرّر الهروب والعزوف عن الناس لدى المصلحين الإلهيين.

ويبقى صحيحاً أنّ مخالطة الناس وهم يعيشون حالة الجهل والتخلّف ، أو يخضعون لأجواء الفساد والانحراف ، قد تسبّب الكثير من الأذى والمعاناة للرجال الإلهيين ، لكنّ ذلك هو طريق التغيير والإصلاح ، كما أنّه وسيلة لنيل ثواب الله ورضوانه.

والإمام الحسين عليه‌السلام نشأ من بداية حياته الشريفة في عمق الشأن الاجتماعي وفي صميم الأحداث ؛ وذلك لأنّ جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قطب رحى المجتمع وقائده الأعلى ، وكان أبوه أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وزير النبي ووصيه وساعده الأيمن ، بل كان نفسه بنصِّ آية المباهلة (١).

وأمّا أُمّه فاطمة الزهراء عليها‌السلام سيدة نساء العالمين ، ذات الشأن العالي والمكان المرموق في الدين والدنيا ، لا سيما مكانها في قلب أبيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهي بضعته وقلبه وأُمّ أبيها.

__________________

١ ـ أحاديث في الدين والثقافة والاجتماع ١ ص ٩١.

٩٣

وممّا يؤكّد حضوره الاجتماعي في المجتمع الإسلامي النامي في ذلك العصر ، أنّه كانت له حلقة خاصّة غاصّة بالفضلاء وطلاب العلم والباحثين عن الحقيقة في مسجد جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد سأل رجل من قريش معاوية بن أبي سفيان (العدو اللدود للإمام عليه‌السلام) أين يجد الحسين عليه‌السلام؟

فقاله له معاوية : إذا دخلت مسجد رسول الله فرأيت حلقة فيها قوم كأنّ على رؤوسهم الطير فتلك حلقة أبي عبد الله عليه‌السلام (١).

كان مجلسه عليه‌السلام مجلس علم ووقار ، قد ازدان بأهل العلم من الصحابة ، وهم يأخذون عنه ما يلقيه عليهم من الأدب والحكمة ، ويسجّلون ما يروون عنه من أحاديث جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله. ويقول المؤرّخون : إنّ الناس كانوا يجتمعون إليه ويحفّون به وكأنّ على رؤوسهم الطير ، يسمعون منه العلم الواسع والحديث الصادق (٢).

وبالفعل كان مجلسه مهوى الأفئدة ، ومتراوح الأملاك ، يشعر الجالس بين يديه أنّه ليس في حضرة إنسان من عمل الدنيا وصنيعة الدنيا ، تمتد أسبابها برهبته وجلاله وروعته ، بل في حضرة طفاح بالسكينة كأنّ الملائكة تروح فيها وتغدو (٣).

لقد جذبت شخصية الإمام الحسين عليه‌السلام ، وسموّ مكانته الروحيّة قلوبَ المسلمين ومشاعرهم ، فراحوا يتهافتون على مجلسه (تهافت الفراش على منابع

__________________

١ ـ تاريخ ابن عساكر ٤ ص ٢٢٢.

٢ ـ الحقائق في الجوارح والفوارق ص ١٠٥ ، حياة الإمام الحسين ١ ص ١٣٧.

٣ ـ أشعة من حياة الحسين عليه‌السلام ص ٩٣.

٩٤

النور) ، ويستمعون لأحاديثه وهم في منتهى الإجلال والخضوع (١).

وبعد هذه المقدّمة التوضيحية نعود إلى التقسيم الذي قدّمناه أوّلاً :

العمل على مستوى الفرد :

الإسلام يعمل على تربية الإنسان المؤمن المسؤول في المجتمع ، والمؤمن عزيز بعزّة الله ورسوله ، وذلك من قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (٢). فالعزّة إنّما تكون بالإسلام والالتزام برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعترته الأطهار عليهم‌السلام ، والعزّة للعبد المؤمن بعد ذلك.

الحسين عليه‌السلام وعزّة الإنسان المسلم

وتروي كتب التاريخ هذه الحادثة والرواية عن الإمام الحسين عليه‌السلام :

إذ دخل عليه رجل من العرب متلثّماً ، أسمر شديد السّمرة ، فسلَّم وردَّ عليه الإمام عليه‌السلام فقال : يابن رسول الله ، مسالة.

قال عليه‌السلام : «هات».

فقال : كم بين الإيمان واليقين؟

قال عليه‌السلام : «أربَعُ أصابِع».

فقال : كيف؟

قال عليه‌السلام : «الإيمانُ ما سَمِعناهُ ، واليقينُ ما رأيناهُ ، وبين السمعِ والبصرِ أربعُ

__________________

١ ـ حياة الإمام الحسين ١ ص ١٣٧.

٢ ـ سورة المنافقون : الآية ٨.

٩٥

أصابع».

فقال : فكم بين السماء والأرض؟

قال عليه‌السلام : «دعوةٌ مستجابةٌ».

فقال : فكم بين المشرق والمغرب؟

قال عليه‌السلام : «مسيرةُ يومٍ للشمس».

فقال : فما عزُّ المرء؟

قال عليه‌السلام : «استغناؤه عن الناس».

فقال : فما أقبح شيء؟

قال عليه‌السلام : «الفسقُ في الشيخِ قبيحٌ ، والحدةُ في السلطانِ قبيحةٌ ، والكذبُ في ذي الحسبِ قبيحٌ ، والبُخلُ في ذي الغناء ، والحرص في العالم».

فقال : صدق يابن رسول الله ، فأخبرني عن عدد الأئمّة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. قال عليه‌السلام : «اثنا عشر عدد نقباء بني إسرائيل». فقال : فسمهم لي.

قال : فأطرق الإمام الحسين عليه‌السلام ملياً ، ثمّ رفع رأسه فقال :

«نعم ، أُخبرك يا أخا العرب ، إنّ الإمام والخليفة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام والحسن وأنا وتسعة من ولدي ، منهم علي ابني ، وبعده محمد ابنه ، وبعده جعفر ابنه ، وبعده موسى ابنه ، وبعده علي ابنه ، وبعده محمد ابنه ، وبعده علي ابنه ، وبعده الحسن ابنه ، وبعده الخلف المهدي ، هو التاسع من ولدي ، يقوم بالدين في آخر الزمان».

٩٦

قال الراوي : فقام الأعرابي وهو يقول :

مسحَ النبي جبينه

فله بريقٌ في الخدودِ

أبواهُ من أعلى قريش

جدّهُ خيرُ الجدود (١)

فالعزّ للعبد أن يكون مستغنياً عن الناس ، وربما الناس بحاجة إليه ، ولقد جاء بكلمة رائعة لأمير المؤمنين علي عليه‌السلام يقول فيها : «احتج إلى مَنْ شئت تكن أسيره ، واستغن عمَنْ شئت تكن نظيره ، وأحسن (امنن) إلى مَنْ شئت تكن أميره» (٢).

فإذا احتجت تكون أسيراً ، وأمّا إذا أحسنت وأعطيت كنت أميراً ، وكم هو الفرق ما بين الأمير والأسير ، وأرجو لك عزيزي القارئ الإمارة دائماً وأبداً ، وهذا لا يتحقّق إلاّ بانقطاعك إلى الله الغني الحميد ، واتّباعك للمولى أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام في منهجه.

الحسين عليه‌السلام والتوكّل على الله

وبكلمة نورانية حسينيّة يقول فيها : «إنّ العزّ والغنى خرجا يجولان ، فلقيا التوكّل فاستوطنا» (٣).

ومعنى ذلك : إنّ عزّة النفس مقارنة وملازمة للغنى والاستغناء عن الناس ، وهذان لا يستوطنان إلاّ عند مَنْ يتوكّل على الله في كلّ أموره ، وجميع شؤونه

__________________

١ ـ كفاية الأثر ص ٢٣٢ ، موسوعة البحار ٣٦ ص ٣٨٤.

٢ ـ موسوعة البحار ٧٧ ص ٤٠٢ باب (١٥) مواعظه وحكمه.

٣ ـ مستدرك الوسائل ١١ ص ٢١٨ ح١٢٧٩٣.

٩٧

وشجونه. ورحم الله أبا فراس الحمداني الشاعر الذي يقول :

إنّ الغني هو الغني بنفسه

ولو انّه عارِ المناكبِ حافي

والتوكّل على الله ، هو تفويضك أمر التدبير والتقدير إلى العزيز القدير.

وقيل ذات يوم للإمام الحسين عليه‌السلام : إنّ أبا ذر يقول : الفقر أحبّ إليَّ من الغنى ، والسَّقم أحبّ إليَّ من الصحّة. فقال عليه‌السلام : «رَحِمَ اللهُ تعالى أبا ذرّ. أمّا أنا فأقول : مَنْ اتّكل على حسن اختيار الله تعالى له لم يتمنّ غير ما اختاره الله عزّ وجلّ له» (١).

فلا تشرط على الله إذا كنت متوكّلاً عليه ولا حتّى تتمنّى ، وكلّ منَّا يتمنّى حوائجه ، ولكن إذا كنت في المقام الذي يتحدّث عنه الإمام الحسين عليه‌السلام ، فإنّك عند ذلك تدع أمرك إلى الله الحكيم العليم ، وهذا يكون نابعاً من أعماق إيمانك بأنّ الله حكيم ، والحكيم هو الذي يضع الأشياء في مواضعها. وأنت أخي المؤمن ، إذا أيقنت بهذه الحكمة الإلهية ، فإنّك تدع التدبير له ، وتترك نفسك في الدنيا ، وتشتغل بالطاعة والعبادة ، ولا تشغل نفسك بأمور الدنيا وتدبيرها ما دام مولاك (عزَّ وجلّ) الحكيم قد تكفَّل بها.

ولهذا وذاك يقول الإمام الحسين عليه‌السلام : «مَنْ عبد الله حقّ عبادته آتاه الله فوق أمانيه وكفايته» (٢). فعليك الطاعة والانقياد لله ، وعليه العطاء والرزق ، وهو أكرم الأكرمين ، فكن على يقين أنّه سيعطيك حتّى يغنيك ، وفوق كلّ أمانيك.

__________________

١ ـ إحقاق الحقّ ١١ ص ٥٩١.

٢ ـ تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام ص ٣٢٧ ، موسوعة البحار ٧١ ص ١٨٤.

٩٨

أنواع العبادة عند الحسين بن علي عليهما‌السلام

ولكن ما هي العبادة التي ترغب فيها؟

وربما تسأل مقابل هذا السؤال وتقول : هل هناك أنواع للعبادة؟!

الإمام الحسين عليه‌السلام يجيبك بقوله الرائع : «إنّ قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجّار ، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد ، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار ، وهي أفضل العبادة» (١).

فالعبادة ثلاثة ، والعبَّاد ثلاث :

١ ـ عبادة الرغبة والطمع : وهي عبادة التجارة ، يريد أن يجمع الأموال الطائلة ويطمع بالزيادة دائماً وأبداً.

والعابد يطمع بالجنّة ويحقّ له الطمع فيها ، وبما فيها من حور وقصور ، وأنواع الخيرات الحسان ، والتي جاء بها أنّها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

٢ ـ عبادة الرهبة والخوف : وهي عبادة العبيد الذين يخافون من السيد ويحذرون مخالفته ؛ لأنّهم يتعرّضون لغضبه وعقابه الشديد.

والعُبّاد يخافون المخالفة ويخشون النار ، ويحقّ لهم كلّ ذلك ؛ فالخوف من النار وأنواع العذاب فيها يدعو العاقل إلى التوخّي والاحتراز عنها ، فالإنسان ضعيف ولن يحتمل غضب الجبّار.

٣ ـ عبادة الحبّ : وهي عبادة الأحرار الذين علموا عن الله بعض الحقائق

__________________

١ ـ تحف العقول ص ١٧٧ ، موسوعة البحار ٧٨ ص ١١٧ ، أعيان الشيعة ١ ص ٦٢٠.

٩٩

التي أفاضها عليهم ، فتعلّقت قلوبهم بربّهم ؛ لأنّه يستجمع صفات الكمال والجلال ، ويستحق العبادة ؛ لأنّه المنعم الذي هو أهلٌ للشكر على أفعاله.

وهذه العبادة هي أرفع العبادات وأجلُّها وأجملها ؛ لأنّها نابعة من معرفة حقيقية بالمعبود والعابد ، وهذه بالحقيقة عبادة الخُلَّص من عباد الله ، كالإمام الحسين عليه‌السلام والمعصومين من آله الكرام عليهم‌السلام.

الإيمان والمؤمن عند الإمام الحسين عليه‌السلام

الإيمان : هو ذلك النور الذي يقذفه الله في قلوب أوليائه وأصفيائه من الناس. وفي الرواية : أنّه إقرار باللسان وعمل بالأركان ، وأنّه أخصُّ من الإسلام الذي يعني التسليم والنطق بالشهادتين ، وبه تُحقن الدماء وتجري المناكح والمواريث.

والإيمان أرفع درجة ، وأعلى مقاماً من الإسلام. وهو إمّا أن يكون ثابتاً ، أو مشككاً متذبذباً ، وإمّا أن يكون أصلياً ذاتياً ، أو يكون مستعاراً ومستودعاً ، والذي يميّز ذلك كلّه هو الامتحان والاختبار الإلهي للعبد.

في رواية عن الحسين بن علي عليهما‌السلام أنّه قال : «سُئل أمير المؤمنين (صلواتُ الله عليه) ما ثبات الإيمانِ؟ فقال : الورع. فقيل له : ما زواله؟ قال : الطمع» (١).

فثبات الإيمان في القلب يتمّ عن طريق الورع عن محارم الله ، وتكون هذه الصّفة النورانيّة ملكة شخصيّة للعبد ، وهي في الحقيقة التقوى الرادعة من انتهاك المحارم أو فعل المآثم.

__________________

١ ـ موسوعة البحار ٧٠ ص ٣٠٥.

١٠٠