جلال معاش
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القارئ للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥
فلمّا رأى وحدة الحسين عليهالسلام بحيث لم يبقَ معه أحد من أصحابه وأهل بيته ، أتاه وقال : هل من رخصة (للبراز والقتال)؟
فبكى الحسين عليهالسلام ـ وهو محتضن أخاه أبا الفضل ـ بكاءً شديداً.
قال : «يا أخي ، أنتَ صاحِبَ لُوائي ، وإذا مَضَيْتَ تَفرَّق عَسكَري».
فقال العباس عليهالسلام : قد ضاق صدري وسئمت الحياة ، وأريد أن أطلب ثأري من هؤلاء المنافقين.
فقال الحسين عليهالسلام : «إنْ كانَ ولا بدّ فاطْلبْ لِهؤلاءِ الأطفال قليلاً مِنِ الماء».
فمضى العباس بعد الوداع يطلب الماء من الفرات وعليه أربعة آلاف فارس ، فحملوا عليه وحمل هو عليهم ، وجعل يقول :
لا أرهبُ الموتَ إذا الموتُ رقى |
|
حتّى اُوارى في المصاليتِ لقى |
||
نفسي لنفسِ المصطفى الطّهرِ وقا |
|
إنّي أنا العباسُ أغدو بالسقا |
||
ولا أخافُ الشرَّ يومَ الملتقى
ففرّقهم ، حتّى إذا دخل الماء وأراد أن يشرب غرف غرفة من الماء فذكر عطش أخيه الحسين وأهل بيته عليهمالسلام ، فرمى الماء على الماء وقال :
يا نفسُ من بعدِ الحسينِ هوني |
|
وبعدهُ لا كنتِ أن تكوني |
||
هذا الحسينُ واردُ المنونِ |
|
وتشربينَ باردَ المعينِ |
||
تاللهِ ما هذا فعالُ ديني |
|
ولا فعالُ صادقِ اليقينِ |
||
ثمّ ملأ القربة وحملها متوجّهاً نحو الخيمة ، فقطوا عليه الطريق ، وأحاطوا به
من كلّ جانب ، فكمن له زيد بن ورقاء الجهني من وراء نخلة ، وعاونه حكيم بن الطفيل فضربه على يمينه فقدّها ، فأخذ السيف بشماله وحمل عليهم ، وهو يرتجز :
واللهِ إن قطعتمُ يميني |
|
إنّي أحامي أبداً عن ديني |
وعن إمامٍ صادقِ اليقينِ |
|
نجلِ النبي الطاهرِ الأمينِ |
فقاتل حتّى ضعف ، فكمن له عدّو الله من وراء نخلة فضربه على شماله فقطها كذلك ، فقال عليهالسلام :
يا نفسُ لا تخشي من الكفّارِ |
|
وأبشري برحمةِ الجبّارِ |
مع النبي السيّدِ المختارِ |
|
قد قطعوا ببغيهم يساري |
فأصلهم يا ربِّ حرَّ النارِ
ثمّ جاء سهم فأصاب القربة وأُريق ماؤها ، فوقف متحيّراً ؛ لا ماء حتّى يوصله إلى الخيمة ، ولا يد حتّى يُحارب بها ، وبينما هو كذلك وإذا بسهم أصاب عينه ، ثمّ ضربه ظالم لعين بعمود من حديد على رأسه فانقلب عن فرسه ، وصاح أخاه الحسين عليهالسلام قائلاً : يا أخي أدرك أخاك.
فلمّا أتاه الحسين عليهالسلام ورآه صريعاً على شاطئ الفرات بكى ، وقال : «الآن انكَسَرَ ظَهري ، وقلَّتْ حيلتي ، وشَمَتَ بي عَدوّي».
ثمّ توجّه إلى القوم ، وأنشأ يقول :
تعدَّيتمُ يا شرًّ قومٍ بفعلكم |
|
وخالفتمُ قولَ النبيِّ محمّد |
أما كانَ خيرُ الرُّسلِ وصّاكم |
|
بنا أما نحنُ من نسلِ النبيِّ المسدَّد |
أما كانتِ الزَّهراءُ أُمّيَ دونكم |
|
أما كانَ من خيرِ البريّةِ أحمد |
لُعنتم وأُخزيتم بما قد جَنيتم |
|
فسوفَ تُلاقوا حرَّ نارٍ توقَّد (١) |
أهكذا يكون الوفاء؟ أوَ هذه هي الإنسانيّة التي جُبل البشر عليها؟ إنّ فعل الأُباة والكرماء يُنبئك عن طيب طينتهم ، والعكس صحيح ، ففعل الجفاة الغلاظ من الدناءة والحقارة يخبرك عن خبث طينتهم بأنّها حمئة خبيثة نتنة ، فتسافلت بهم إلى أسفل من البهائم العجماء ، وذاك أسفل سافلين في الدنيا ، ولهم في الآخرة أسفل سافلين في النار ، وغضب الجبّار والعياذ بالله.
الذنب الفظيع في قتل الرضيع
وإذا كان لديك شكّ في تلك المسوخات التي كانت تحيط بالإمام الحسين عليهالسلام على صعيد كربلاء ، فإليك ما فعلوه بالطفل الرضيع (عبد الله بن الإمام الحسين عليهالسلام وأُمّه الرباب) ، فإنّ ذلك لن يدع لديك أيّ شكّ من خروج اُولئك من البشرية ، وتجرّدهم من صفات الإنسانيّة كلّها.
كان من أفجع وأقسى ما نُكب به الإمام الحسين عليهالسلام هو رزيته بولده عبد الله الرضيع الذي لم يتجاوز من العمر ستة أشهر ، فقد كان الطفل كالبدر في بهائه ، وعند عودة الإمام من مصرع العباس عليهالسلام وقف في باب الخيمة ، ونادى ولده علياً وأخته زينب الكبرى عليهماالسلام وقال : «يا أختاه ، اُوصيك بولدي الصغير خيراً».
فقالت له : يا أخي إنّ هذا الطفل له ثلاث أيّام ما شرب الماء ، (وقد جفَّ اللبن في ثدي أُمّه لشدّة العطش) ، فاطلب له شربة من الماء.
__________________
١ ـ موسوعة البحار ٤٥ ص ٤٠.
فأخذ منها الطفل (وهو يتلوَّى من شدّة الحرّ والعطش ، وكان يُغمى عليه ، وقد غارت عيناه ، وذبلت شفتاه) ، وتوجّه نحو القوم ، وقال : «يا قَوم ، قَدْ قَتلُتمْ أخي وأولادي وأنصاري ، وما بَقِيَ غَيرَ هذا الطفل ، وَهوَ يَتلظّى عَطَشاً مِنْ غيرِ ذَنبٍ أتاهُ إليكمُ ؛ فاسْقوهُ شَربةً منْ ماء».
وفي (نفس المهموم) قال عليهالسلام : «يا قومَ ، إنْ لَمْ ترحَمُوني فارْحَموا هذا الطفل».
فاختلف القوم فيما بينهم ، فمنهم مَنْ يقول : اسقوه الماء ، ومنهم مَنْ يقول : لا تسقوه الماء.
فقال بعضهم : إن كان للكبار ذنب فما ذنب الصغار ، وإنّه لطفل رضيع؟!
فصاح بهم الإمام الحسين عليهالسلام : «وَيَلكُمْ! خُذوهُ وأنتمْ اسْقوُه الماءَ».
فالتفت عمر بن سعد إلى حرملة بن كاهل ، وقال : اقطع نزاع القوم يا حرملة.
فقال هذا اللعين : أأعطيه شربة ماء؟!
فقال ابن سعد : بل ، ألا ترى إلى بياض نحر الطفل في حجر والده؟
فوضع حرملة بن كاهل (وقيل : عقبة بن بشير الأزدي) سهماً في قوسه ورماه به ، فوقع في نحر الطفل فذبحه من الوريد إلى الوريد ، فلما أحسَّ بحرارة السهم أخرج يديه من القماط ، وراح يرفرف بهما على صدر والده العظيم كالطير المذبوح ، فراح عليهالسلام يتلقّى دمه الشريف في يديه ويرميه إلى السماء ؛ لكي لا يقع إلى الأرض ، فلم تسقط منه قطرة ، كما يؤكّد الإمام الباقر عليهالسلام في روايته.
والإمام المفجوع يبكي ويقول : «هَوِّنَ عليَّ ما نَزَلَ بِي أنَّهُ بِعَينِ اللهِ تعالى. اللَّهُمَّ لا يَكُنْ أهوَن عَليكَ مِنْ فَصيلِ ناقة صالح».
«إلهي ، إنْ كُنتَ حَبَسْتَ عَنَّا النَّصْرَ فَاجْعَلهُ لِما هُوَ خيرٌ مَنهُ ، وانْتَقِمْ مِنْ الظَالِمين ، وَاجْعلْ مَا حلَّ بِنا في العاجِل ذَخيرةً لنا في الآجلِ».
«اللهمَّ أنتَ الشاهِدُ عَلى قَوْمٍ قَتَلوا أشْبَهَ النَّاسِ بِرَسُوِلكَ مُحَّمدٍ صلىاللهعليهوآله» (١).
وبراوية أُخرى :
«إنَّهُمْ قَد عمدوا أن لا يُبقوا أحداً من ذريّة رسولك صلىاللهعليهوآله». وهو يبكي بكاءً شديداً ، ويناجي ربّه بهذه الكلمات : «اللهمَّ أنت تعلمُ أنّهم دعونا لينصرونا فخذلونا وأعانوا علينا. اللّهمّ احبس عنهم قطر السماء ، واحرمهم بركاتك ، اللّهمّ لا تُرضِ عنهم أبداً. اللّهمّ إن كنت حبست عنّا النصر في الدنيا فاجعله لنا ذخراً في الآخرة ، وانتقم لنا من القوم الظالمين» (٢).
__________________
١ ـ حياة الإمام الحسين عليهالسلام ٣ ص ٢٧٦.
٢ ـ ينابيع المودة ص ٤١٥ ، ونفس المهموم ص ٣٤٩.
الفصل الرابع
ومضاتٌ اجتماعية وروحية
المجتمع : هو أفراد الأُمّة في اجتماعهم ، وعلاقاتهم المختلفة ، وتشابكاتها المتعدّدة.
والإنسان نفس ، وبدن ، وروح ، قد ذكر القرآن الكريم النفس وجعلها محتملة الأمرين ، مثل قوله تعالى : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (١).
وقد ذكر البدن بطور حيادي كأنّه لا شأن له ، مثل قوله سبحانه : (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (٢).
وذكر الروح بالإعظام والإكبار كالآية السابقة وغيرها ، فكأنّ البدن السفل ، والروح العلو ، والنفس بينهما إن مالت إلى الأعلى كانت من العلييّن ، وإن مالت إلى الأسفل كانت في سجّين.
والنفس يحيط بها البدن ، والبدن في الاجتماع ، وتحيط به المدنية أو نحوها ،
__________________
١ ـ سورة الشمس : الآية ٧ ـ ١٠.
٢ ـ سورة الحجر : الآية ٢٩.
وحولها المحيط الطبيعي ، والنفس قادرة على إصلاح نفسها ، ثمّ بدنها ، ثمّ الاجتماع ثمّ المحيط الاصطناعي ، ثمّ المحيط الطبيعي ، وكما أنّ النفس قادرة على التحريك باتجاه البناء هي قادرة على تخريب الكلّ.
والمجتمع إنّما يتولّد من نقطة البدء ، فاللازم في علم الاجتماع أن نبدأ من هنا ، ونبني الهيكل الاجتماعي الصحيح من النفس النقيّة النظيفة (١).
والإنسان خُلق اجتماعياً بالطبع ، لا لحاجاته الجسدية فقط ، بل لحاجاته النفسية كذلك ، حيث الإنسان يستأنس بالإنسان ، ويستوحش لفقده ، كان الإنسان يؤثر بالإنسان الآخر ؛ سواء كانا فردين أو مجتمعين (٢).
والإسلام يؤمن أنّ بناء المجتمع على أساس القيم الصحيحة والعمل الصالح يُعطيه ديناميكية وحركة في الاتجاه الصحيح ، وعكس ذلك صحيح أيضاً ، وهذا المفهوم هو عبارة عن واحدة من السنن الطبيعية التي تنطبق على المجتمع البشري عامّة ، فالمجتمع مثل النهر يمتلك طاقات هائلة ، إذا ما وجِّهت في الاتجاه السليم ، وحُفِرت لها قنوات ملائمة ، تحرّكت هذه الطاقات عبر القنوات كلّ بقدرها ، وغذّت المجتمع ، وأعطى بالتالي ثماراً طيّبة ، ولكن إذا كانت هذه القنوات غير سليمة ومتناقضة الاتجاهات ، فإنّ المجتمع سرعان ما يتحطّم ويموت.
وبكلمة أُخرى : نجد أنّ المجتمع البشري هو عبارة عن جسم حيّ مدرك ، له حياته الخاصّة ، ولحياته نظامها الخاصّ ، وهو يتّصف بالتوازن مثلما يتّصف
__________________
١ ـ موسوعة الفقه (الاجتماع) ـ للإمام الشيرازي ١٠٩ ص ٧.
٢ ـ المصدر نفسه ١٠٩ ص ٣٩.
بالانحراف في سلوكه ، كما يتّصف الفرد الواحد من الناس. والنظام الاجتماعي العادل : هو الذي يكفل للمجتمع ولأفراده على السواء جميع الحقوق والواجبات ، من غير تعدّ ولا تقصير.
فإذا سار المجتمع على ذلك النظام العادل ، وطبَّقه على سلوكه وسلوك أفراده ، سمُِّي ذلك التوازن منه عدلاً اجتماعياً.
والعدل الاجتماعي : هو أن تسير الأُمّة إلى المثل الأعلى في الحياة وفي الأخلاق ، وأن تسعى ما أمكنها السعي إلى السعادة العامّة والكمالات المطلوبة ، وأن تعدَّ للأفراد طرق الوصول إلى الخير فتنشئ المؤسسات الكافلة لخير البلاد والحافظة لخيراتها ، وتؤسس المعاهد الصالحة لإعداد الرجال ، وتثقيفهم بالثقافة الصحيحة ، وأن تتمسّك بالأنظمة الشرعية الموجبة لحفظ الحقوق وسلامة النفوس.
على أن تسير في جميع ذلك وفق النظام الصحيح ، والحكمة الرشيدة التي يأمر بها العقل ، ويقرّها الشرع.
إنّ تعاون أفراد الأُمّة وتضامنهم أعظم موجب لتحقيق هذا العدل ، وأبلغ مؤثّر فيه.
يقول المتأخرون من الخلقيين : إنّ المسؤول عن تحقيق هذه الغاية هي الحكومة التي تسيطر على الأُمّة وتتحكّم في مقدّراتها.
أمّا أفراد الأُمّة فيقعون في الدرجة الثانية من هذه المسؤولية ، ووظيفة الفرد هي مساعدة الحكومة في تحقيق الغاية بما يمكنه من الوسائل.
وهذا الرأي قد يكون بيِّن النقص ؛ لأنَّ العدل الاجتماعي هو التوازن التامّ في سلوك المجتمع وسلوك أفراده ، وتعاون الجميع على العمل في سبيل الخير
واكتساب الصّفات الخلقية المُثلى ، ونيل السعادة العامّة ، وهذا كلّه من مختصّات المجتمع نفسه ومختصّات أفراده.
أمّا ما تقوم به الحكومة من إنشاء المؤسسات والمعاهد الصالحة ، فهو إحدى مقدّمات العدل الاجتماعي (١).
البعد الاجتماعي في حياة الإمام الحسين عليهالسلام
وبما أنّنا في رحاب الإمام الحسين عليهالسلام الواسعة الرائعة ، فإنّنا سوف نلحظ كلا الجانبين في المسألة الاجتماعية ، وهما :
١ ـ على مستوى الأفراد ، وتربيتهم وأخلاقهم.
٢ ـ وعلى مستوى الحكومة والأُمّة. وهذا أحد أهم أسباب النهضة الحسينيّة المباركة.
وعلى كلّ حال ، فإنّ الإسلام الحنيف قد اهتمَّ اهتماماً مميّزاً بالأشخاص كأفراد مستقلين ؛ لأنّ الجنّة مشروع فردي خاص ، كما يُقال ، وكلّ إنسان ينبغي أن يسلك الطريق الصحيح الذي رسمه له الشرع الحنيف ؛ للوصول إلى الله ورضاه ودار السّلام في جواره الأقدس والجنّة.
وللحقيقة نقول : إن يحمل الإنسان أهدافاً كبيرة ، أو يمتلك مستوى علمياً متقدّماً ، فذلك لا يؤثّر شيئاً في حركة الواقع والحياة ما لم يصاحبه حضور اجتماعي يشقّ الطريق أمام تلك الأهداف الكبرى ، ويترجم العلم إلى فعل
__________________
١ ـ الأخلاق عند الإمام الصادق عليهالسلام ص ٦٧.
ملموس على أرض الواقع.
لذلك كان الأنبياء والأئمّة عليهمالسلام يعيشون في وسط الناس ، ويتفاعلون معهم ، ولم يكونوا منعزلين على قمم الجبال ، أو في الكهوف والمغارات ، ولا كانوا يتعالون ويترفّعون عن الناس في أبراج عاجية.
ومهما كان مستوى المجتمع من حيث التخلّف والجهل ، أو من حيث طغيان أجواء الفساد والانحراف ، فإنّ ذلك لا يبرّر الهروب والعزوف عن الناس لدى المصلحين الإلهيين.
ويبقى صحيحاً أنّ مخالطة الناس وهم يعيشون حالة الجهل والتخلّف ، أو يخضعون لأجواء الفساد والانحراف ، قد تسبّب الكثير من الأذى والمعاناة للرجال الإلهيين ، لكنّ ذلك هو طريق التغيير والإصلاح ، كما أنّه وسيلة لنيل ثواب الله ورضوانه.
والإمام الحسين عليهالسلام نشأ من بداية حياته الشريفة في عمق الشأن الاجتماعي وفي صميم الأحداث ؛ وذلك لأنّ جدّه رسول الله صلىاللهعليهوآله كان قطب رحى المجتمع وقائده الأعلى ، وكان أبوه أمير المؤمنين علي عليهالسلام وزير النبي ووصيه وساعده الأيمن ، بل كان نفسه بنصِّ آية المباهلة (١).
وأمّا أُمّه فاطمة الزهراء عليهاالسلام سيدة نساء العالمين ، ذات الشأن العالي والمكان المرموق في الدين والدنيا ، لا سيما مكانها في قلب أبيها رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فهي بضعته وقلبه وأُمّ أبيها.
__________________
١ ـ أحاديث في الدين والثقافة والاجتماع ١ ص ٩١.
وممّا يؤكّد حضوره الاجتماعي في المجتمع الإسلامي النامي في ذلك العصر ، أنّه كانت له حلقة خاصّة غاصّة بالفضلاء وطلاب العلم والباحثين عن الحقيقة في مسجد جدّه رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وقد سأل رجل من قريش معاوية بن أبي سفيان (العدو اللدود للإمام عليهالسلام) أين يجد الحسين عليهالسلام؟
فقاله له معاوية : إذا دخلت مسجد رسول الله فرأيت حلقة فيها قوم كأنّ على رؤوسهم الطير فتلك حلقة أبي عبد الله عليهالسلام (١).
كان مجلسه عليهالسلام مجلس علم ووقار ، قد ازدان بأهل العلم من الصحابة ، وهم يأخذون عنه ما يلقيه عليهم من الأدب والحكمة ، ويسجّلون ما يروون عنه من أحاديث جدّه صلىاللهعليهوآله. ويقول المؤرّخون : إنّ الناس كانوا يجتمعون إليه ويحفّون به وكأنّ على رؤوسهم الطير ، يسمعون منه العلم الواسع والحديث الصادق (٢).
وبالفعل كان مجلسه مهوى الأفئدة ، ومتراوح الأملاك ، يشعر الجالس بين يديه أنّه ليس في حضرة إنسان من عمل الدنيا وصنيعة الدنيا ، تمتد أسبابها برهبته وجلاله وروعته ، بل في حضرة طفاح بالسكينة كأنّ الملائكة تروح فيها وتغدو (٣).
لقد جذبت شخصية الإمام الحسين عليهالسلام ، وسموّ مكانته الروحيّة قلوبَ المسلمين ومشاعرهم ، فراحوا يتهافتون على مجلسه (تهافت الفراش على منابع
__________________
١ ـ تاريخ ابن عساكر ٤ ص ٢٢٢.
٢ ـ الحقائق في الجوارح والفوارق ص ١٠٥ ، حياة الإمام الحسين ١ ص ١٣٧.
٣ ـ أشعة من حياة الحسين عليهالسلام ص ٩٣.
النور) ، ويستمعون لأحاديثه وهم في منتهى الإجلال والخضوع (١).
وبعد هذه المقدّمة التوضيحية نعود إلى التقسيم الذي قدّمناه أوّلاً :
العمل على مستوى الفرد :
الإسلام يعمل على تربية الإنسان المؤمن المسؤول في المجتمع ، والمؤمن عزيز بعزّة الله ورسوله ، وذلك من قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (٢). فالعزّة إنّما تكون بالإسلام والالتزام برسول الله صلىاللهعليهوآله وعترته الأطهار عليهمالسلام ، والعزّة للعبد المؤمن بعد ذلك.
الحسين عليهالسلام وعزّة الإنسان المسلم
وتروي كتب التاريخ هذه الحادثة والرواية عن الإمام الحسين عليهالسلام :
إذ دخل عليه رجل من العرب متلثّماً ، أسمر شديد السّمرة ، فسلَّم وردَّ عليه الإمام عليهالسلام فقال : يابن رسول الله ، مسالة.
قال عليهالسلام : «هات».
فقال : كم بين الإيمان واليقين؟
قال عليهالسلام : «أربَعُ أصابِع».
فقال : كيف؟
قال عليهالسلام : «الإيمانُ ما سَمِعناهُ ، واليقينُ ما رأيناهُ ، وبين السمعِ والبصرِ أربعُ
__________________
١ ـ حياة الإمام الحسين ١ ص ١٣٧.
٢ ـ سورة المنافقون : الآية ٨.
أصابع».
فقال : فكم بين السماء والأرض؟
قال عليهالسلام : «دعوةٌ مستجابةٌ».
فقال : فكم بين المشرق والمغرب؟
قال عليهالسلام : «مسيرةُ يومٍ للشمس».
فقال : فما عزُّ المرء؟
قال عليهالسلام : «استغناؤه عن الناس».
فقال : فما أقبح شيء؟
قال عليهالسلام : «الفسقُ في الشيخِ قبيحٌ ، والحدةُ في السلطانِ قبيحةٌ ، والكذبُ في ذي الحسبِ قبيحٌ ، والبُخلُ في ذي الغناء ، والحرص في العالم».
فقال : صدق يابن رسول الله ، فأخبرني عن عدد الأئمّة بعد رسول الله صلىاللهعليهوآله. قال عليهالسلام : «اثنا عشر عدد نقباء بني إسرائيل». فقال : فسمهم لي.
قال : فأطرق الإمام الحسين عليهالسلام ملياً ، ثمّ رفع رأسه فقال :
«نعم ، أُخبرك يا أخا العرب ، إنّ الإمام والخليفة بعد رسول الله صلىاللهعليهوآله أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام والحسن وأنا وتسعة من ولدي ، منهم علي ابني ، وبعده محمد ابنه ، وبعده جعفر ابنه ، وبعده موسى ابنه ، وبعده علي ابنه ، وبعده محمد ابنه ، وبعده علي ابنه ، وبعده الحسن ابنه ، وبعده الخلف المهدي ، هو التاسع من ولدي ، يقوم بالدين في آخر الزمان».
قال الراوي : فقام الأعرابي وهو يقول :
مسحَ النبي جبينه |
|
فله بريقٌ في الخدودِ |
أبواهُ من أعلى قريش |
|
جدّهُ خيرُ الجدود (١) |
فالعزّ للعبد أن يكون مستغنياً عن الناس ، وربما الناس بحاجة إليه ، ولقد جاء بكلمة رائعة لأمير المؤمنين علي عليهالسلام يقول فيها : «احتج إلى مَنْ شئت تكن أسيره ، واستغن عمَنْ شئت تكن نظيره ، وأحسن (امنن) إلى مَنْ شئت تكن أميره» (٢).
فإذا احتجت تكون أسيراً ، وأمّا إذا أحسنت وأعطيت كنت أميراً ، وكم هو الفرق ما بين الأمير والأسير ، وأرجو لك عزيزي القارئ الإمارة دائماً وأبداً ، وهذا لا يتحقّق إلاّ بانقطاعك إلى الله الغني الحميد ، واتّباعك للمولى أبي عبد الله الحسين عليهالسلام في منهجه.
الحسين عليهالسلام والتوكّل على الله
وبكلمة نورانية حسينيّة يقول فيها : «إنّ العزّ والغنى خرجا يجولان ، فلقيا التوكّل فاستوطنا» (٣).
ومعنى ذلك : إنّ عزّة النفس مقارنة وملازمة للغنى والاستغناء عن الناس ، وهذان لا يستوطنان إلاّ عند مَنْ يتوكّل على الله في كلّ أموره ، وجميع شؤونه
__________________
١ ـ كفاية الأثر ص ٢٣٢ ، موسوعة البحار ٣٦ ص ٣٨٤.
٢ ـ موسوعة البحار ٧٧ ص ٤٠٢ باب (١٥) مواعظه وحكمه.
٣ ـ مستدرك الوسائل ١١ ص ٢١٨ ح١٢٧٩٣.
وشجونه. ورحم الله أبا فراس الحمداني الشاعر الذي يقول :
إنّ الغني هو الغني بنفسه |
|
ولو انّه عارِ المناكبِ حافي |
والتوكّل على الله ، هو تفويضك أمر التدبير والتقدير إلى العزيز القدير.
وقيل ذات يوم للإمام الحسين عليهالسلام : إنّ أبا ذر يقول : الفقر أحبّ إليَّ من الغنى ، والسَّقم أحبّ إليَّ من الصحّة. فقال عليهالسلام : «رَحِمَ اللهُ تعالى أبا ذرّ. أمّا أنا فأقول : مَنْ اتّكل على حسن اختيار الله تعالى له لم يتمنّ غير ما اختاره الله عزّ وجلّ له» (١).
فلا تشرط على الله إذا كنت متوكّلاً عليه ولا حتّى تتمنّى ، وكلّ منَّا يتمنّى حوائجه ، ولكن إذا كنت في المقام الذي يتحدّث عنه الإمام الحسين عليهالسلام ، فإنّك عند ذلك تدع أمرك إلى الله الحكيم العليم ، وهذا يكون نابعاً من أعماق إيمانك بأنّ الله حكيم ، والحكيم هو الذي يضع الأشياء في مواضعها. وأنت أخي المؤمن ، إذا أيقنت بهذه الحكمة الإلهية ، فإنّك تدع التدبير له ، وتترك نفسك في الدنيا ، وتشتغل بالطاعة والعبادة ، ولا تشغل نفسك بأمور الدنيا وتدبيرها ما دام مولاك (عزَّ وجلّ) الحكيم قد تكفَّل بها.
ولهذا وذاك يقول الإمام الحسين عليهالسلام : «مَنْ عبد الله حقّ عبادته آتاه الله فوق أمانيه وكفايته» (٢). فعليك الطاعة والانقياد لله ، وعليه العطاء والرزق ، وهو أكرم الأكرمين ، فكن على يقين أنّه سيعطيك حتّى يغنيك ، وفوق كلّ أمانيك.
__________________
١ ـ إحقاق الحقّ ١١ ص ٥٩١.
٢ ـ تفسير الإمام العسكري عليهالسلام ص ٣٢٧ ، موسوعة البحار ٧١ ص ١٨٤.
أنواع العبادة عند الحسين بن علي عليهماالسلام
ولكن ما هي العبادة التي ترغب فيها؟
وربما تسأل مقابل هذا السؤال وتقول : هل هناك أنواع للعبادة؟!
الإمام الحسين عليهالسلام يجيبك بقوله الرائع : «إنّ قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجّار ، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد ، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار ، وهي أفضل العبادة» (١).
فالعبادة ثلاثة ، والعبَّاد ثلاث :
١ ـ عبادة الرغبة والطمع : وهي عبادة التجارة ، يريد أن يجمع الأموال الطائلة ويطمع بالزيادة دائماً وأبداً.
والعابد يطمع بالجنّة ويحقّ له الطمع فيها ، وبما فيها من حور وقصور ، وأنواع الخيرات الحسان ، والتي جاء بها أنّها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
٢ ـ عبادة الرهبة والخوف : وهي عبادة العبيد الذين يخافون من السيد ويحذرون مخالفته ؛ لأنّهم يتعرّضون لغضبه وعقابه الشديد.
والعُبّاد يخافون المخالفة ويخشون النار ، ويحقّ لهم كلّ ذلك ؛ فالخوف من النار وأنواع العذاب فيها يدعو العاقل إلى التوخّي والاحتراز عنها ، فالإنسان ضعيف ولن يحتمل غضب الجبّار.
٣ ـ عبادة الحبّ : وهي عبادة الأحرار الذين علموا عن الله بعض الحقائق
__________________
١ ـ تحف العقول ص ١٧٧ ، موسوعة البحار ٧٨ ص ١١٧ ، أعيان الشيعة ١ ص ٦٢٠.
التي أفاضها عليهم ، فتعلّقت قلوبهم بربّهم ؛ لأنّه يستجمع صفات الكمال والجلال ، ويستحق العبادة ؛ لأنّه المنعم الذي هو أهلٌ للشكر على أفعاله.
وهذه العبادة هي أرفع العبادات وأجلُّها وأجملها ؛ لأنّها نابعة من معرفة حقيقية بالمعبود والعابد ، وهذه بالحقيقة عبادة الخُلَّص من عباد الله ، كالإمام الحسين عليهالسلام والمعصومين من آله الكرام عليهمالسلام.
الإيمان والمؤمن عند الإمام الحسين عليهالسلام
الإيمان : هو ذلك النور الذي يقذفه الله في قلوب أوليائه وأصفيائه من الناس. وفي الرواية : أنّه إقرار باللسان وعمل بالأركان ، وأنّه أخصُّ من الإسلام الذي يعني التسليم والنطق بالشهادتين ، وبه تُحقن الدماء وتجري المناكح والمواريث.
والإيمان أرفع درجة ، وأعلى مقاماً من الإسلام. وهو إمّا أن يكون ثابتاً ، أو مشككاً متذبذباً ، وإمّا أن يكون أصلياً ذاتياً ، أو يكون مستعاراً ومستودعاً ، والذي يميّز ذلك كلّه هو الامتحان والاختبار الإلهي للعبد.
في رواية عن الحسين بن علي عليهماالسلام أنّه قال : «سُئل أمير المؤمنين (صلواتُ الله عليه) ما ثبات الإيمانِ؟ فقال : الورع. فقيل له : ما زواله؟ قال : الطمع» (١).
فثبات الإيمان في القلب يتمّ عن طريق الورع عن محارم الله ، وتكون هذه الصّفة النورانيّة ملكة شخصيّة للعبد ، وهي في الحقيقة التقوى الرادعة من انتهاك المحارم أو فعل المآثم.
__________________
١ ـ موسوعة البحار ٧٠ ص ٣٠٥.