الحسين (ع) والوهّابيّة

جلال معاش

الحسين (ع) والوهّابيّة

المؤلف:

جلال معاش


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القارئ للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

يشين أو يسيء للآخرين ، وهذا يجعلك في حالة مراقبة دائمة لنفسك وتصرّفاتك ، وحتى كلماتك يجب أن تكون موزونة بميزان الذهب.

ويُروى عن الإمام عليه‌السلام شعراً بهذا المعنى :

أفلحَ عبدٌ كُشف

الغطاءُ عنهُ ففطن

وقرّ عيناً مَنْ رأى

أنّ البلاءَ في اللسن

فما زنَ ألفاظه في

كلّ وقتٍ ووزن

وخافَ من لسانه

غرباً حديداً فخزن (١)

فالعبد المفلح : هو الذي رفع الستار عن عينيه وبصيرته ، فعلم أنّ آفات اللسان هي أشدّ فتكاً من مخاطبة السنان بالإنسان ؛ ولذا وزن ألفاظه ، فلم يتحدّث إلاّ بذكر الله سبحانه ، أو ما ينفعه ويعينه ، وخزنه بين لحييه في غير هذه الموارد القليلة.

والحديث يطول في المقام التربوي للإمام الحسين عليه‌السلام ، وسنعيد الكلام عند الحديث عن نفسه القدسية بإذن الله ، ولكن قبل أن أتجاوز أخي الكريم ، إليك هذه الحادثة النادرة التي تعبّر عن عظمة سيّد شباب أهل الجنّة ، ومدى تقديره لأهل العلم والأدب.

تقديره لأهل العلم والأدب

يُقال : إنّ أعرابياً جاء الحسين بن علي عليه‌السلام وقال : يابن رسول الله ، قد

__________________

١ ـ قصيدة في كشف الغمّة ٢ ص ٢١٢ ، راجع كلمة الإمام الحسين ـ للشهيد السيد حسن الشيرازي ص ٣٣١.

٦١

ضمنتُ دية كاملة وعجزت عن أدائها ، فقلت في نفسي : أسأل أكرم الناس ، وما رأيت أكرم من أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقال الإمام الحسين عليه‌السلام : «يا أخا العرب ، أسألك عن ثلاث مسائل ، فإن أجبت عن واحدة أعطيتك ثلث المال ، وإن أجبت عن اثنتين أعطيتك ثلثي المال ، وإن أجبت عن الكلّ أعطيتك الكلّ».

فقال الأعرابي : يابن رسول الله ، أمثلك يسأل مثلي وأنت من أهل بيت العلم والشرف؟!

فقال الحسين عليه‌السلام : «بلى ، سمعتُ جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : المعروف بقدر المعرفة».

فقال الأعرابي : سلْ عمّا بدا لك ، فإن أجبتُ وإلاّ تعلّمتُ منك ، ولا قوّة إلاّ بالله.

فقال الإمام : «أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟».

فقال الأعرابي : الإيمان بالله.

فقال الإمام : «فَما النَّجاةُ منَ المهلَكة؟».

فقال الأعرابي : الثقة بالله.

فقال الإمام : «فَما يُزيَّنُ الرَّجُلَ؟».

فقال الأعرابي : علم معه حلم.

فقال الإمام : «فَإنْ أخْطأهُ ذلِكَ؟».

٦٢

فقال الأعرابي : مال معه مروءة.

فقال الإمام : «فَإنْ أخْطأهُ ذلِك؟».

فقال الأعرابي : فقرٌ معه صبر.

فقال الإمام : «فَإنْ أخْطأهُ ذلِكَ؟».

فقال الأعرابي : فصاعقة تنزل عليه من السماء فتحرقه ؛ فإنّه أهلٌ لذلك.

فضحك الإمام الحسين عليه‌السلام ورمى إليه بصرّة فيها ألف دينار ، وأعطاه خاتمه وفيه فصٌّ قيمته مئتا درهم ، وقال : «يا أعرابِيّ ، أعْطِ الذَّهبَ إلى غُرَمائِك ، واصْرِفِ الخاتَمَ في نفَقَتِكَ».

فأخذه الأعرابي وانصرف وهو يقول : (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (١).

أسمعت بمثل هذا الدرس العملي والعلمي ، وهذا الخُلق الرفيع ، وهذه الأخلاق العالية ، وهذا الأسلوب التربوي؟!

الإمام العظيم عليه‌السلام عَلِم من ذاك الأعرابي الأدب ، وتوسّم فيه الفطنة وحسن التربية ، فأراد أن يُعلّم الناس ومَنْ هم حوله ، أو الأُمّة ومَنْ يأتي بعده ، بهذا الأسلوب الحواري البسيط ، الكاشف عن شفافيّة الإمام عليه‌السلام ، ومدى كرمه وتواضعه لأبناء أُمّته ، لا سيما طالب الحاجة ، فأخرج ما عنده من ظرف وأدب ، وأعطاه ما طلب منه من مال ومتاع.

لا يُقال : إنّ في ذلك إهانة للسائل ، حاشى للإمام عليه‌السلام ؛ وهو الذي يقول في

__________________

١ ـ جامع الأخبار ص ١٣٧ ، موسوعة البحار ٤٤ ص ١٩٦ ، وسورة الأنعام : الآية ١٢٤.

٦٣

هذا الباب : «صاحبُ الحاجَةِ لَمْ يُكرِمْ وجْهَهُ عَنْ سُؤالِكَ ، فَأكرِمْ وَجْهَكَ عَنْ رَدِّهِ» (١).

وبهذا الأسلوب وهذه الطريقة أكرم الأعرابي أيّما إكرام حين عرَّف فضله وعلمه على الملأ ، وصار حديثه وقصّته من تراث وسنّة الإمام الحسين عليه‌السلام ، وكفاه فخراً ، ومن ناحية أُخرى فإنّه أخذ المال عن استحقاق ؛ لأنّه عرف الأسئلة الثلاثة ، وهذا أيضاً درس من الإمام بأن نجعل كلّ أمورنا علميّاً وثقافيّاً ؛ لكي يُقدّر الإنسان بقدر علمه ، ومستواه الثقافي والإيماني والروحي.

عطاء المعروف بقدر المعرفة

وهذه حادثة ورواية أُخرى عن الإمام الحسين عليه‌السلام ، ربما تكون أجمل وأكمل من الأولى ، أنقلها لك عزيزي القارئ ؛ حتّى لا تظنّ أن القصّة واحدة أو الرواية يتيمة.

روي أنّ أعرابياً من البادية قصد الإمام الحسين عليه‌السلام فسلَّم عليه فرَّد عليه‌السلام وقال : «يا أعرابِيُّ ، فيمَ قَصَدْتَنا؟».

قال : قصدتك في دية مسلّمة إلى أهلها.

قال عليه‌السلام : «أقَصدْتَ أحَداً قَبْلي؟».

قال : قصدت عتبة بن أبي سفيان فأعطاني خمسين ديناراً فرددتها عليه ، وقلت له : لأقصدنَّ مَنْ هو خير منك وأكرم. قال عتبة : ومَنْ هو خير منّي

__________________

١ ـ كشف الغمة ٢ ص ٢٠٨ ، الكلمة ص ١٢٣.

٦٤

وأكرم لا أُمَّ لك؟ فقلت : إمّا الحسين بن عليّ ، وإمّا عبد الله بن جعفر (ابن أبي طالب) ، وقد أتيتك بدءاً لتقيم بها عمود ظهري ، وتردّني إلى أهلي.

فقال الحسين عليه‌السلام : «والذي فَلَقَ الحبَّةَ ، وبْرَأ النَّسَمَةَ ، وَتَجَلّى بالعظَمَةِ ، ما في مِلْكِ ابْنِ بنتِ نبيّكَ إلاّ مئِتا دينارِ فأعطِهِ إيّاه يا غلامُ ، وإنّي أسْألُكَ عن ثلاثِ خِصالٍ إنْ أنتَ أجبتَني عنْها أتْمَمتُها خَمْسَمئةَ دينارٍ».

فقال الأعرابي : أكلّ ذلك احتياجاً إلى علمي ، أنتم أهل بيت النُبُوَّة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة؟!

فقال الإمام الحسين عليه‌السلام : «لا ، ولكنْ سَمِعتُ جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : أعطوا المعروفَ بقَدَرِ المعْرِفَة».

فقال الأعرابي : فسلْ ، ولا حول ولا قوةّ إلاّ بالله.

فقال الإمام الحسين عليه‌السلام : «ما أنْجى مِنَ الهَلَكَةِ؟».

فقال : التوكّل على الله.

فقال عليه‌السلام : «ما أرْوَحُ للِمُهمِّ؟».

فقال : الثّقة بالنفس.

فقال عليه‌السلام : «أيُّ شيءٍ خيرٌ للعبدِ في حياتهِ؟».

قال : عقل يزينه حلم.

فقال عليه‌السلام : «فَإنْ خانهُ ذلكَ؟».

فقال : مال يزينه سخاء وسعة.

٦٥

فقال عليه‌السلام : «فإنْ أخْطأهُ ذلك؟».

قال : الموت والفناء خير له من الحياة والبقاء.

قال الراوي : فناوله الحسين خاتمه وقال : «بعهُ بمئة دينارٍ». وناوله سيفه ، وقال : «بعْهُ بمئتي دينارٍ ، واذهبْ فقدْ أتْممتُ لكَ خمسمئة دينارٍ».

فأنشأ الأعرابي يقول :

قلقتُ وما هاجني مقلقُ

وما بي سقامٌ ولا موبقُ

ولكن طربتُ لآلِ الرَّسول

ففاجأني الشعرُ والمنطقُ

فأنتَ الهمامُ وبدرُ الظلام

ومُعطي الأنامَ إذا أملقوا

أبوكَ الذي فازَ بالمكرمات

فقصَّرَ عن وصفهِ السبُّقُ

وأنتَ سبقتَ إلى الطيّبات

فأنتَ الجوادُ وما تلحقُ

بكم فتحَ اللهُ بابَ الهدى

وبابُ الضلالِ بكم مغلَقُ (١)

هذه الدروس يلزم عرضها للعالم ؛ لكي يعي منهج أهل البيت عليهم‌السلام.

وهناك رواية أُخرى قريبة من هذه ترويها كتب التاريخ والفضائل لم أنقلها ؛ لكفاية هذا الذي نحن فيه من الدلالة التربويّة ، والدروس الأخلاقيّة الرائعة للإمام الحسين عليهم‌السلام في تقدير العلم والاهتمام بالثقافة ، واحترام الإنسان المتعلّم ، وبكلّ تواضع وروح شفّافة وأريحيّة لا مثيل لها ، فسلام الله عليك يا أبا عبد الله الحسين المظلوم.

__________________

١ ـ إحقاق الحقّ ١١ ص ٤٤٠ ، موسوعة كلمات الإمام الحسين ص ٧٦٤.

٦٦

الفصل الثالث

المواقف الإنسانيّة

٦٧
٦٨

الإنسان هو الإنسان في كلّ زمان ومكان ، منذ آدم الأوّل عليه‌السلام وحتى آخر نسمة تطأ وجه هذه الأرض ، وهو الغاية وله النهاية.

والإنسان يجب أن ينطلق من إنسانيته التي تميّزه عن الحيوانيّة التي تشمله ، ولولا العقل والإرادة وإمكانيّة التعلّم والتمييز بين الحسن والقبيح ، أو الخير والشرّ ، لكان شأنه شأن أيّ حيوان يسرح ويمرح في المكان والزمان الذي يولد فيه.

فإنسانيّة الإنسان هي لبّه وأصله وجوهره الذي يعوّل عليه دائماً وأبداً عند التعامل معه ؛ ولذا فإنّ غاية الشرائع السماويّة ، والرسالات الإلهيّة ، وحتى القوانين الوضعيّة ، والدساتير الحكوميّة ، هي الحفاظ على كرامة الإنسان ، على إنسانيّة الإنسان ، لتبقى في الحفظ والصوَّن ، والدفاع عنها ضدّ العوادي الخارجيّة.

والله سبحانه علّمنا هذا ، وأكّد عليه في كتابه حين قال : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (١). والرُّسل والأنبياء عليهم‌السلام جاؤوا جميعاً لهذه الغاية المقدّسة ؛ ولذا

__________________

١ ـ سورة الإسراء : الآية ٧٠.

٦٩

ورد عن الإمام أبي الحسن عليه‌السلام : «حُرمةَ المؤمنِ والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عندَ الله أعظمُ من حُرمةِ الكعبة» (١).

وأوصياء الأنبياء عليهم‌السلام هكذا يرون ، وعليه يسيرون في حياتهم كلّها ؛ لأنّهم قادة المجتمع ، ومكلّفون بحفظ كرامة الإنسان ، وصيانة إنسانيّته من أن يتعرّض إليها أحد فيُهينها أو يذلّها ، والمواقف الإنسانيّة تصبغ حياة الإمام الحسين عليه‌السلام الذي نحن في رحابه الإنساني المميّز.

إذاً ، إنسانيّة الإنسان هي جوهره وأصله الذي تبني عليه أعماله ونواياه ، تلك هي الطينة أو الخليقة أو السّجيّة في الإنسان التي جاءت الروايات الكثيرة تعبّر عنها وتبلورها ؛ لإفهامها للبشر ولذوي الخبرة والنظر.

وفي الحديث : «كلّ يعمل على شاكلته» (٢) ، أي أصل طينته التي خُلق منها ، أو الفطرة التي فطره الله عليها ، ولا تبديل لخلق الله ، والجوهرة المكنونة المخزونة في أعماق النفس البشرية هي إنسانيته التي تنعكس على مرآة حياته كأفعال أخلاقيّة راقية ، يقدِّرها كلّ الناس في كلّ عصر ومصر.

الحسين والمساكين

ومن تلك المواقف التي تفيض بالإنسانيّة ، وكلّ حياة الإمام الحسين عليه‌السلام فيّاضة بذلك ، ذاك الموقف الذي تحدّثت عنه كتب السيرة ، أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام مرَّ بمساكين قد بسطوا (مدّوا) كساءً لهم ، وألقوا عليه كسراً من

__________________

١ ـ بحار الأنوار ٥٠ ص ٢٤٤ ، وسائل الشيعة ١٤ ص ٥٣٧.

٢ ـ الكافي ٢ ص ١٦ و ٨٥ ، وسائل الشيعة ١ ص ٥٠.

٧٠

الخبز اليابس ، فقالوا : هلمَّ يابن رسول الله ، فأكل معهم ، وأجاب دعوتهم ، ثمّ تلا : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) (١).

ثمّ قال : «قَدْ أجبتُكمْ فأجيبوني».

قالوا : نعم يابن رسول الله ، ونُعمى عين ، فقاموا معه حتّى أتوا منزله.

فقال للرباب (زوجته) : «أخرجي ما كُنتِ تدَّخرين». فأخرجت ما عندها من نقود فناولها لهم (٢).

وفي حادثة أُخرى ترويها كتب السيرة العطرة للإمام الحسين عليه‌السلام ، والتي تفيض عذوبة ومهابة وأخلاقاً نورانيّة ، أنّه عليه‌السلام مرَّ على فقراء يأكلون كسراً (خبزاً يابساً) من أموال الصدقة ، فسلَّم عليهم فدعوه إلى طعامهم فجلس معهم ، وقال : «لولا أنَّه صدقة لأكلتُ معكم». ثمّ دعاهم إلى منزله ، فأطعمهم وكساهم ، وأمر لهم بدراهم (٣).

نعم ، لقد اقتدى المولى أبو عبد الله عليه‌السلام بجدّه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسار بسيرته العطرة ، واهتدى بهداه ، فكان يخالط الفقراء ويجالسهم ، ويفيض عليهم ببرّه وفضله وإحسانه حتّى لا يتأثّر الفقير بفقره ، ولا يبطر الغني بماله. وهذا إن دلَّ على شيء يدلّ على قمَّة التواضع ، وهو درس لِمَنْ يريد قيادة الأُمّة نحو الهداية والخلاص ، وفي الجانب الإنساني للإمام الحسين عليه‌السلام تتجلّى إنسانيّة الإنسان ،

__________________

١ ـ سورة النحل : الآية ٢٣.

٢ ـ تاريخ ابن عساكر ٣ ص ٥٤.

٣ ـ أعيان الشيعة ٤ ص ١٤٠.

٧١

ويصدّق إيمانَه اهتمامُه بالمحتاجين والفقراء في مجتمعه ، ومهما بلغ الإنسان من العلم ، أو اجتهد في العبادة ، فإنّه لن تتحقّق إنسانيته ، ولن يصح تدينه إذا ما تجاهل مناطق الضعف في المجتمع. ألم يقل ربّنا سبحانه : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) (١).

فالذي يهمل الأيتام ، ولا يبالي بجوع الفقراء مكذّب بالدين ، وغير صادق في ادّعائه التديُّن وإن بالغ في صلاته وعبادته ، بل هو مستحق للويل والعذاب : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) (٢).

والإمام الحسين عليه‌السلام كأهل بيته الطاهرين عليهم‌السلام ، كانوا يعيشون للناس أكثر ممّا يعيشون لأنفسهم ، فهم مصداق الآية الكريمة : (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (٣) ، وفيهم نزلت.

لقد كان الإمام الحسين عليه‌السلام طوال حياته الشريفة ملاذاً للفقراء والمحرومين ، وملجأ لِمَنْ جارت عليه الأيام ، وكان يثلج صدور وقلوب الوافدين إليه بهباته وعطاياه السنية. ويقول عنه كمال الدين بن طلحة : وقد اشتهر النقل عنه أنّه كان يُكرم الضيف ، ويمنح الطالب ، ويصل الرحم ، ويُسعف السائل ، ويكسي العاري ، ويُشبع الجائع ، ويعطي الغارم ، ويشدُّ من أزر الضعيف ، ويشفق على

__________________

١ ـ سورة الماعون : الآية ١ ـ ٢.

٢ ـ سورة الماعون : الآية ٤ ـ ٧.

٣ ـ سورة الحشر : الآية ٩.

٧٢

اليتيم ، ويغني ذا الحاجة ، وقلَّ أنْ وَصَله مال إلاّ وفرَّقه ، وهذه سجيّة الجواد ، وشنشنة الكريم ، وسمة ذي السماحة ، وصفة مَنْ قد حوى مكارم الأخلاق ، فأفعاله المتلوَّة شاهدة له بصفة الكرم ، ناطقة بأنّه متّصف بمحاسن الشيم (١).

ويقول المؤرّخون : أنّه كان يحمل في دجى الليل البهيم الجراب ، يملؤه طعاماً ونقوداً إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين حتّى أثَّر ذلك في ظهره الشريف ، وكان يُحمل إليه المتاع الكثير فلا يقوم حتّى يهب عامَّته (٢).

زيارته للمرضى وقضاء الدين

ويروى أنّه مرض أُسامة بن زيد مرضاً شديداً ، فعاده الإمام الحسين عليه‌السلام ، فلمّا استقرَّ به المجلس سمع أُسامة يقول : واغمَّاه.

فقال له الإمام عليه‌السلام : «وما غمُّكَ يا أخي؟».

قال : ديني ، وهو ستون ألف درهم.

فقال عليه‌السلام : «هُوَ عليَّ».

قال : إنّي أخشى أن أموت.

فقال الإمام عليه‌السلام : «لَنْ تموتَ حتّى أقضيها عنكَ» (٣).

وبادر الإمام عليه‌السلام فقضاها عنه قبل موته ، غاضّاً طرفه مع أنّ أُسامة كان من

__________________

١ ـ حياة الإمام الحسين بن علي ١ ص ١٢٨.

٢ ـ ريحانة الرسول ص ٧١.

٣ ـ مناقب ابن شهر آشوب ٤ ص ٦٥.

٧٣

المتخلّفين عن بيعة أبيه أمير المؤمنين الإمام علي عليه‌السلام ، ولم يجازيه بالمثل وإنّما أغدق عليه الإحسان (١).

ذاك هو الإمام الحسين عليه‌السلام ، العملاق الذي يفيض إنسانيّة لكلّ مَنْ هم حوله ، أو هم من أُمّته ، فإذا رأى معسراً رفع عنه عسره وفرّج عنه ، وإذا مرَّ بمساكين جلس معهم وواساهم بنفسه الشريفة ، وإذا اجتاز بفقراء استأنس بهم ودعاهم إلى مأدبته ، فكان عليه‌السلام والد الأيتام ، ومعيل الأيامى والأرامل ، ومعتق العبيد والأرقّاء لوجه الله تعالى.

موقف الحسين عليه‌السلام مع جيش الحرّ

ومواقف الإمام الإنسانيّة في رحلته إلى الشهادة على صعيد كربلاء هي استثناءات عجيبة غريبة لم تتكرّر إلاّ قليلاً ، وبعضها لن يتكرّر أبداً ، كقصّته مع الحرّ الرياحي وكتيبة الطليعة التي كانت تعدُّ بألف فارس ، حين التقوا بالركب المبارك للإمام عليه‌السلام وقد كاد العطش أن يقتلهم.

فعطف عليهم وهم يريدون قتله وسقاهم عن آخرهم ، وليس الرجال فقطّ بل قال عليه‌السلام : «وَرَشِّفوا الخيلَ ترشيفاً». أي اسقوها قليلاً من الماء حتّى تقوى على المسير والحركة بمَنْ عليها من الفرسان في ذاك الحرّ الشديد.

وكتب السيرة تروي أنّه كان يسقي بعض الرجال والفرسان بيده الشريفة. وإليك يا أخي الكريم هذه الرواية العجيبة والغريبة التي كلّما قرأتها تأخذني قشعريرة وحيرة من أمري مثل ذاك الموقف الإنساني ، ولا عجب من أخلاقيّات

__________________

١ ـ أعيان الشيعة ٤ ص ١٠٤.

٧٤

الإمام الحسين عليه‌السلام ، ولكن كلّ العجب من اُولئك الجفاة الغلاظ الذي عاملهم الإمام بكلّ رقّة ولطافة وإنسانيّة فقابلوه بكلّ صلافة وخساسة ودناءة وجحود ، ليس للفضل والإنعام ، بل لأبسط معاني الأخلاق العربيّة أو الإنسانيّة.

سارَ الإمام الحسين عليه‌السلام مِنْ بطنِ العَقَبةِ حتّى نزلَ شَراف (١) ، فلمّا كانَ السّحر أمرَ فتيانَه فاستقَوا من الماءِ فأكْثروا ، ثمّ سارَ منها حتّى انتصفَ النّهارُ ، فبينا هو يسيرُ إذ كبَّر رجلٌ مِن أصحابِه ، فقالَ له الحسين عليه‌السلام : «الله أكبرُ ، لِمَ كَبَّرتَ؟».

فقال : رأيتُ النخلَ.

فقالَ له جماعةٌ من أصحابه : والله إنّ هذا المكانَ ما رأينا فيه نخلةً قطُّ.

فقالَ لهم الحسينُ عليه‌السلام : «فما تَرَوْنَه؟».

قالوا : نراه والله آذانَ الخيل.

قال عليه‌السلام : «أنا واللهِ أرى ذلكَ».

ثمّ قال عليه‌السلام : «ما لنا ملجأ نلجأ إليهِ فنَجْعلُهُ في ظهورنا ونستقبلُ القومَ بوجهٍ واحدٍ؟».

فقلنا له : بلى ، هذا ذو حُسْم إلى جنبكَ ، تَميلُ إليهِ عَنْ يَساركَ ، فإنْ سبقتَ إليهِ فهو كما تُريدُ ، فأخَذَ إليهِ ذاتَ اليسارِ ومِلنا معهُ ، فما كان بأسرعَ من أن طلعتْ علينا هوادي الخيل (أعناقها) فتبينّاها وعدلْنا.

__________________

١ ـ شراف : موضع بنجد (معجم البلدان ٣ ص ٣٣١).

٧٥

فلمّا رأوْنا عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا كأنّ أسنّتهم اليعاسيبُ (ذكور النحل) ، وكأنّ راياتِهم أجنحةُ الطيرِ ، فاستبقْنا إلى ذي حُسْم فسبقْناهم إليه ، وأمرَ الحسينُ عليه‌السلام بأبنيتهِ (خيامه) فَضُرِبَتْ له خيمةَ ، وجاءَ القومُ زُهاءَ ألفِ فارسٍ معَ الحُرَّ بن يزيدَ (الرياحي) التّميمي حتّى وقفَ هو وخيلُه مُقابلَ الحسين عليه‌السلام في حَرِّ الظّهيرةِ ، والحسين عليه‌السلام وأصحابُه معتمُّونَ متقلِّدون بأسيافِهم.

فقال الحسين عليه‌السلام لفتيانه : «اسْقوا القومَ ، وأرْووهُمْ منَ الماء ِ ، ورشِّفوا الخيلَ ترشيفاً».

ففعلوا وأقبلوا يملؤون القِصاعَ والطّساس (١) من الماء ثمّ يُدنونها من الفرسِ ، فإذا عبَّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عُزِلَتْ عنه وسَقَوا آخرَ ، حتّى سَقَوها (الخيل) كلَّها.

قالَ عليُّ بنُ الطعَّان المُحاربي : كنتُ معَ الحُرِّ يومئذٍ ، فجئتُ في آخرِ مَنْ جاءَ من أصحابهِ ، فلمّا رأى الحسين عليه‌السلام ما بي وبفرسي منَ العطشِ ، قالَ : «أنِخِ الراوية». والراويةُ عندي السِّقاءُ ، ثمَّ قالَ عليه‌السلام : «يابن أخي ، أنخِ الجملَ». فأنَخْتُهُ.

فقال : «اشربْ». فجعلتُ كلّما شربتُ سالَ الماءُ من السِّقاء (دون فائدة لي).

فقالَ الحسين عليه‌السلام : «اخنِثِ السِّقاءَ». أي أعطفْه ، فلم أدْرِ كيفَ أفعلُ ، فَقامَ

__________________

١ ـ الطساس : جمع طسّ ، وهو معرّب طست ، وهو إناء معروف (مجمع البحرين ٢ ص ٢١٠).

٧٦

فَخَنثَه فشربتُ وسقيتُ فرسي (١).

أرأيت مثل هذا الفعل ، أو سمعت بمثله؟!

جيشٌ يأتي إليه ليحاربه وبهذا الحجم الضخم الفخم ؛ (لأنّه طليعة الجيش وعادة يكون من أفضل الفرسان والمقاتلين) ، يلتقون به وهم على شفا الهلاك والهاوية (هم ودوابّهم) من شدّة العطش وحرِّ الظهيرة ، فبدلاً من أن يبيدهم عن آخرهم ويغنم كلّ ما معهم من خيول وجمال ومتاع ، وكان ذلك سهلاً عليه ، يسقيهم ويرشف خيولهم ليقويهم على نفسه الشريفة ، وعلى أصحابه الأفاضل الكرماء ، وهم قادمون له ليقتلوه ومَنْ معه جميعاً ، مع إنّ الحسين وأهل بيته وأصحابه كانوا بحاجة إلى هذا الماء في تلك الصحراء القاحلة.

وتنقل كتب السيرة أنّ أحد أصحابه قال له عليه‌السلام : يا مولاي دعنا نقاتل هؤلاء ونغتنم ما هم فيه ؛ فإنّ قتالهم علينا أسهل.

فقال عليه‌السلام : «ما كنت لأبدأهم بقتال».

إنّ هذا لعجب عجاب!

ولكن ، لو تدري يا عزيزي القارئ ما الذي فعله هؤلاء وجيشهم العرموم على بطاح كربلاء ، وحين التقوا بالإمام الحسين عليه‌السلام وأهله وأصحابه ، وأحاطوه إحاطة السوار بالمعصم ، أو القلادة بالجيد؟!

أوَ تدري أنّ أوّل سلاح استخدموه ـ من خِستِّهم ودناءتهم ، وحقارة أنفسهم ، وتفاهة قادتهم ـ هو التعطيش بمنع الماء عن معسكر الإمام الحسين عليه‌السلام ومَنْ معه

__________________

١ ـ إرشاد المفيد ٢ ص ٧٧ ـ ٧٨.

٧٧

من ثقل عظيم من نساء وأطفال وبنات آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟!

يسقيهم ليُقوِّيهم ، ويعطِّشونه ليقتلوه! فوا عجباً ماذا يصنع الإيمان والكفر بالإنسان؟!

فهذا السلاح الدنيء الخسيس ورثه جيش ابن سعد الأموي من جدّهم معاوية بن أبي سفيان ، حين حاول منع جيش الإمام علي عليه‌السلام من شرب الماء في موقعة صفين الشهيرة ، ولم يسقوهم إلاّ عنوة وبحدّ السيف ، وبمعركة شنيعة انتصر فيها جيش الإمام علي عليه‌السلام على أصحاب معاوية وجلوهم عن الفرات ومنعوهم منه بالقوّة والقهر.

ولو منعوهم نهائياً من الماء لأنصفوهم ؛ لأنّهم أوّل مَنْ بدأ بالإساءة والخساسة ، ودفع الشرّ بالشرّ ممكن ، ولكنّ مناقب الإمام علي عليه‌السلام وأخلاقه الإيمانية الرائعة أبت عليه أن يُقابل الشرّ إلاّ بالخير ، والسيئة إلاّ بالحسنة ، والضلال إلاّ بالهُدى ، وعندما قال له أصحابه : نمنعهم من الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك ومنعونا ، فلا حاجة لنا إلى الحرب.

أبى ذلك وقال عليه‌السلام : (دعوهم والماء ، فليشربوا وليغسِّلوا وليتوضؤوا ، وما لكم إلاّ السيف وساحة المعركة رجالاً نقاتل رجالاً ، فاتركوا القوم والماء لنا ولهم على حدِّ سواء). وأمّا معاوية وأصحابه فإنّهم قالوا عندما احتلّوا شطّ الفرات : (لا والله ، لا ندعهم يشربون حتّى يموتوا عطشاً) (١).

__________________

١ ـ يراجع مروج الذهب ـ للمسعودي (صفين) ، وتاريخ الأُمم والملوك ـ للطبري ، وشرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ٣ ص ٣١٨ ، و ١٠ ص ٢٥٧ ، وينابيع المودّة ـ للقندوزي باب ٥١.

٧٨

هذه المناقب العالية هي أمرٌ طبيعي وعادي في سجِّل أهل البيت الأطهار عليهم‌السلام ، وهم كتاب الله الناطق ، ألم يقل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : «لكلِّ شيءٍ زكاة ، وزكاةُ الظفرِ بعَدوِّك العفوُ عنْه» (١).

والإمام الحسين هو شبل الأمير عليّ عليهما‌السلام ، ويزيد هو جرو معاوية ، ورحم الله مَنْ قال : (وكلّ إناء بالذي فيه ينضح).

فالإمام الحسين عليه‌السلام ينضح ويفيض بالخير والنور والهداية ؛ لأنّه منبعها وأصلها ، فيكون كالشمس الضاحية يستفيد منها كلّ شيء ؛ الجماد والنبات والحيوان ، وكلّ يأخذ منها حاجته ، وتبقى هي في كبد السماء عالية لا تُطال ولا تُنال حتّى بالعين المبصرة ؛ لأنّها إذا حدقت فيها عميت تماماً كما أثبت العلم الحديث.

رأفة الحسين عليه‌السلام بالحيوان

ورأفة الإمام عليه‌السلام ورحمته تشمل الحيوانات مع البشر كما مرّ قبل قليل ، ولكنّ القصّة العجيبة كانت مع فرسه في أحلك الظروف وأدقّها وأرقّها على قلبه الشريف ، وذلك ما ترويه كتب التاريخ والسيرة عنه عليه‌السلام.

يروي أبو مخنف عن الجلودي أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام حمل على الأعور السلمي وعمرو بن الحجّاج الزبيدي ، وكانا في أربعة آلاف رجل على الشريعة ، وأقحم الفرس على الفرات ، فلمّا أولغ (دخل وخاض) الفرس برأسه ليشرب ، قال عليه‌السلام :

__________________

١ ـ ليالي بيشاور ص ٤٦٨.

٧٩

«أنتَ عطشان ، وأنا عطشان ، والله لا أذوق الماءَ حتّى تشرَب». فلمّا سمع الفرس كلام الحسين عليه‌السلام شال (رفع) رأسه ولم يشرب ، وكأنّه فَهِمَ الكلام (١).

الإمام الحسين عليه‌السلام لا يقدِّم نفسه المقدّسة على فرسه الذي يركبه ، والفرس ينفض الماء ويرفض أن يشرب قبل سيّده وصاحبه ، فيا ويلهم اُولئك الغلاظ كيف كانوا يشربون ويتلذذون بماء الفرات ، والإمام الحسين عليه‌السلام ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونساؤه وأطفاله وعيالات أصحابه يصرخون : العطش العطش؟!

كيف فعلوا ذلك؟ لا أدري والله العظيم إلاّ أنّني أُردّد قوله تعالى : (إِنْ هُمْ إِلاّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (٢).

فالفرس أفضل مِن كلّ مَنْ كان هناك ، وهم زهاء ثلاثون ألف مقاتل على أقل التقادير ، وإلاّ فإنّ بعض التواريخ تنقل مئات الألوف شربوا الماء والإمام الحسين عليه‌السلام عطشان ..

العباس عليه‌السلام وعطش الأطفال والنساء

ألم يسمعوا ويروا موقف ساقي عطاشى كربلاء أبي الفضل العباس (سلام الله عليه)؟! إليكم طرفاً من قصّته الطويلة بطول قامته :

في التاريخ الإسلامي العظيم كان العباس عليه‌السلام السَّقاء ، قمر بني هشام ، صاحب لواء الإمام الحسين عليه‌السلام وهو أكبر إخوته ، وأُمّه فاطمة بنت حزام الكلابية ،

__________________

١ ـ مناقب آل أبي طالب ـ لابن شهر آشوب ٤ ص ٥٨.

٢ ـ سورة الفرقان : الآية ٤٤.

٨٠