الحسين (ع) والوهّابيّة

جلال معاش

الحسين (ع) والوهّابيّة

المؤلف:

جلال معاش


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القارئ للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

وعن الحسن بن الجهم قال : سألت الرضا عليه‌السلام : جُعلت فداك ، ما حدّ التوكّل؟

قال لي : «أن لا تخاف مع الله أحداً».

قال : فقلت : فما حدّ التواضع؟

قال : «أن تُعطي الناس من نفسك ما تحبّ أن يعطوك مثله».

قال : قلت : جُعلت فداك ، أشتهي أن أعلم كيف أنا عندك؟

فقال : «انظر كيف أنا عندك».

وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام يقول : «حَسِّنْ مع جميع الناس خُلقك ؛ حتّى إذا غبت عنهم حنّوا إليك ، وإذا متّ بكوا عليك ، وقالوا : إنّا لله وإنّا إليه راجعون. ولا تكن من الذين يُقال عند موته : الحمد لله ربّ العالمين» (١).

هذه أخلاق الأُمم الحضارية ، هذه هي أخلاق الله الذي ربّى عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي قال : «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي» (٢). وعليها ربّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أهل بيته الأطهار عليهم‌السلام : «نحن صنايع ربّنا ، والخلق من بعد صنايعنا» (٣). وعليها تربّت الأُمّة كلّها منذ اليوم الأوّل للرسالة المباركة ، إلاّ البعيدون عن أخلاق أهل البيت عليهم‌السلام ؛ لأنّهم تربّوا على يدي محمد بن عبد الوهاب حديثاً وابن تيمية قديماً ، وفاقد الشيء لا يُعطيه ؛ لأنّهما كانا بعيدين كلّ البُعد عن الخُلق النبوي الشريف.

__________________

١ ـ الأمالي ـ للشيخ الصدوق ص ٣١١ ح٣٦٠ ص ٨.

٢ ـ نهج البلاغة ص قصار الحكم رقم ١٠.

٣ ـ بحار الأنوار ١٦ ص ٢١٠ ، شرح نهج البلاغة ١١ ص ٢٣٣.

٤ ـ الصراط المستقيم ٢ ص ٢٣٥ ، بحار الأنوار ٥٣ ص ١٧٨.

٥٢١

قتل الزائرين للعتبات المقدّسة

سُئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام عن الفرق بين الحقّ والباطل ، فأحال السؤال إلى ولده البار الإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام ، فقال : «أربع أصابع» ، ووضع يده الشريفة على خدّه المبارك ، وأردف قائلاً : «فالحقّ أن تقول : رأيت ، والباطل أن تقول : سمعت».

وسأل رجل من العرب المولى أبا عبد الله الحسين عليه‌السلام قائلاً : كم بين الإيمان واليقين؟ قال عليه‌السلام : «الإيمانُ ما سَمِعناهُ ، واليقينُ ما رأيناهُ ، وبين السَّمع والبَصرِ أرَبعْ أصابعَ» (١).

والواقع أصدق من كلّ تقارير الأخبار والصحفيين في العالم ، وما عليك يا عزيزي الكريم إلاّ الوقوف لحظات أمام شاشة التلفاز وتنتقل بين الفضائيات ولا سيما الإخبارية وما أكثرها ؛ حتّى تعلم إلى أيّ مدى وصل العنف الوهابي؟ وبالتالي باتت عمليات القتل والتدمير والاغتيالات بالجملة في المشهد العالمي. فالتكفير صار أمراً طبيعياً عند هذه الجماعة!

إنّهم يريدون تجميد الحياة ، أو إعادتها إلى آلاف السنين إلى الوراء ، فهم يرفضون حتّى النظريّات العلميّة ، والنهضات العالميّة والإبداعات والمبتكرات العقليّة التي توصّل إليها الإنسان في هذا العصر الذي قفزت فيه البشريّة قفزات نوعيّة لا تُقاس بأيّة قفزة كانت قبلها ، ولا ينكر هذا إلاّ الجاهل أو الغافل.

فهل تعلم أنّهم ينكرون حتّى كرويّة الأرض ودورانها حول نفسها ، أو حول

__________________

١ ـ تفسير البرهان ٤ ص ١٦٧ ، كفاية الأثر ص ٢٣٢.

٥٢٢

الشمس ، كما نُقل عن عبد العزيز بن باز مفتي الديار السعودية الذي يستدلّ على بطلان الكرويّة والدوران بعدم انكباب ، أو انصباب الماء من الكأس الذي يضعه على الطاولة أمامه. تصوّر يرعاك الله موقفهم من هذه الأمور العلميّة التي صارت من البديهيّات عند أطفالنا.

ويتمثل الخطر السلفي الوهابي في ناحيتين :

١ ـ الخطر الخارجي على غير المسلمين : الذين يريد الوهابيّون منهم أن يسلّموا قهراً ، ويعتنقوا الوهابيّة حصراً ، أو أن دماءهم وأموالهم وأعراضهم مباحة ؛ لأنّهم كفّار ومشركون.

٢ ـ الخطر الداخلي على المسلمين : وذلك بسبب سياسة التكفير للأُمّة الإسلاميّة ، وهي من أخطر الدعوات الخارجية (من الخوارج) التي ظهرت في الدين الإسلامي ، منذ ظهوره المبارك وحتّى الآن ، فما من دعوة أو نزعة ، أو بدعة ظهرت ، إلاّ وكانت تلاحظ الأُمّة الإسلاميّة ، وترعى بيضة الإسلام ، إلاّ هؤلاء الذين يكفّرون الأُمّة كلّها. سبحانك اللّهمّ هذا بهتان عظيم!

فالعنف الوهابي العملي ظاهر للعيان ، وحقدهم مشتعل النيران ، تغلي بها القلوب الحجريّة التي يحملونها في صدورهم ، وما الأحداث التي جرت في أفغانستان والباكستان ، والهند والسعودية ، واليمن ولبنان ، ومصر والجزائر ، وخصوصاً العراق الجريح وسائر البلدان ، إلاّ شاهد على أعمالهم التخريبيّة التي شوّهت صورة الإسلام في العالم ، وصار يُعرف بأنّه دين دموي! وإليكم ما تناقلته وكالات الأنباء العالمية :

سلسلة جرائم نكراء أُخرى يندى لها الجبين ، أقدمت عليها الأُمويّة

٥٢٣

الجديدة من زمر الوهابيّة ، وفلول البعث الكافر المرتبطين بتنظيمات القاعدة الإرهابيّة ، أعداء الدين والإنسانيّة تُضاف إلى سجّل جرائمهم البشعة ، وأعمالهم الوحشيّة الجبانة بحقّ الشعب العراقي المسلم عامّة ، وشيعة أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على وجه الخصوص. إذ قام أعداء الإنسانيّة صباح هذا اليوم العاشر من المحرّم ١٤٢٥ هـ بما يلي :

١ ـ تفجير خمس عبوات ناسفة بالقرب من ضريح أبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين عليه‌السلام في مدينة كربلاء المقدّسة ، أسفر عن سقوط عدد كبير من الضحايا بين شهيد وجريح ، رجالاً ونساءً وأطفالاً كلّهم من الزوّار الأبرياء.

٢ ـ وبنفس التوقيت في مدينة الكاظمية حيث مرقد الإمامين الجوادين (موسى الكاظم ومحمد الجواد عليهما‌السلام) في ضواحي بغداد العاصمة العراقيّة.

٣ ـ وفي مدينة الصدر ببغداد التي قدّمت آلاف الشهداء في طريق العدل والحريّة والسّلام.

ارتكبت بنفس الأسلوب الجبان من خلال تفجير عدّة عبوات ناسفة ، ثلاث منها خارج وداخل حرم الإمامين الجوادين عليهما‌السلام في الكاظميّة ، أسفرت عن مقتل وجرح العديد من المواطنين الأبرياء يقدّر بالعشرات (١). وبين يدي العشرات من الأوراق التي تصف الحالة التي تمّ بها التفجير ، وكلّها تؤكّد أنّها عمليات انتحاريّة كانت تستهدف الشيعة الإماميّة في يوم عزائها الأكبر عاشوراء.

__________________

١ ـ وكالات الأنباء العالميّة كلّها ، وكافة الصحف والمجلات العالمية و ....

٥٢٤

قصص واقعيّة وحوارات مع الوهابيّة

١ ـ الوهابي وحجّاج بيت الله :

وأذكر أنّني في عام ١٤٢٠ هجرية ، وفي أيّام الحجّ حيث وفّقني الله لذلك فله الحمد ، وكنّا نبدأ بزيارة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة المنوّرة ، وأهل البيت عليهم‌السلام وكرام الصحابة في البقيع الشريف وبقية الشهداء هناك.

وذات يوم رأيت اجتماعاً كبيراً من الناس غير العرب يقفون مع أحد العناصر الوهابيّة ، ولا أحد منهم يفهم على الآخرين شيئاً ؛ لأنّهم كلٌّ يتحدّث بلغته ولهجته ولكنته.

ورأيت الوهابي يتهجّم عليهم بصوت عالٍ ، وسمعته يفسّق تارة ، ويرمي بالكفر أو الشرك أُخرى! وهذا من أبسط التهم لديه ؛ ولذا قال : يا عبّاد الأصنام والقبور!

فاقتربت منه وقلت له : يا أخي العزيز ، هؤلاء حجّاج بيت الله الحرام ، وجاؤوا هنا لزيارة قبر رسول الله وأهل بيته الأطهار والصحابة الكرام! ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أوصى بهم ، وأوصى بزيارته هذه ؛ لأنّه قال : «مَنْ حجّ ولم يزرني فقد جفاني» (١). وهؤلاء الضيوف جاؤوا لزيارته وتلبية ندائه ، فلماذا هذا الجفاء والعنف معهم؟ فهذا لا يجوز ، علماً أنّ الكثير منهم قطعوا آلاف الأميال ويأتون لأوّل مرّة ، وربما لا يرجعون ثانية.

فقال لي وعينه محمرَّة : قل ماذا تريد؟

__________________

١ ـ مستدرك الوسائل ١٠ ص ١٨.

٥٢٥

قلت : عليك بالهدوء والاحترام لهؤلاء الضيوف ؛ إنّهم ضيوف الرحمن والرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقال : هؤلاء لا ينفع معهم الهدوء والرحمة.

قلت : أليس الله تعالى يقول في كتابه الكريم واصفاً ومخاطباً رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (١) ، (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (٢). أين عطفك وحنانك ، ورحمتك وأخلاقك الإسلاميّة؟!

فبهت الرجل ، ثمّ سكت وأعرض عنّي وأدار لي ظهره!

بهذه الأخلاقيّات يتعاملون مع المسلمين وضيوف الرحمن ، وزوّار وعشّاق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في دار ضيافته الشريفة ، فيشوّهون صورة الإسلام بعيون أبنائه ، ويكرّهونهم بأقدس وأطهر الأماكن ، ويبعّدونهم عن مقدّساتهم وآثار الرسول والرسالة المقدّسة ، وللأسف الشديد كلّ ذلك يقع تحت اسم الإسلام والتوحيد والجهاد.

٢ ـ إهانة عند قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

إنّ الحجّ الواجب مرّة واحدة في الحياة ، وقليل مَنْ يوفَّق للإعادة ثانية ، والقليل جدّاً الذي يحجّ ثلاث مرّات ويُكتب أنّه مدمن الحجّ ، والنادر الذي يذهب أكثر من ذلك إذا كان مسكنه خارج منطقة الجزيرة العربية.

ولهذا نرى أنّ النسبة العظمى ربما أكثر من ٩٠% من الحجّاج يأتون لأوّل

__________________

١ ـ سورة الأنبياء : الآية ١٠٧.

١ ـ سورة القلم : الآية ٤.

٥٢٦

مرّة لأداء فريضة الحجّ ومندوب الزيارة. فهي إذن رحلة العمر التي لن تتكرّر بالنسبة لهم ، فهم إذن غرباء والغريب جاهل بالأرض والسّكان ، والعادات والتقاليد ، فهذا ما يزيد من غربته ، ولكنّ الواجب يهدم بعض تلك الوحشة ، وهيبة المكان وروحانيّة الزمان تضيفان الكثير من مظاهر الودّ والألفة بين الإخوة الحجّاج.

وهكذا فهم أوّل مرّة يدخلون المدنية المنوّرة ، ويرون الروضة المباركة والقبر الشريف والقبّة المنيرة ، فيرجعون إلى التاريخ ويتذكّرون ما تعلّموه وحفظوه عن ظهر قلب. بل ربما هو محفور في حنايا القلب ، لا سيما وصف رسول الله وأهل بيته (صلوات الله وسلامه عليهم) ، فترى أعينهم تفيض من الدمع شوقاً إلى الحبيب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وكذا الحال بالنسبة إلى مكة المكرّمة حيث البيت العتيق ، ومسقط رأس الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وآثار الرسالة والرسول تراها ماثلة للعيان ، لا سيما التي لم تستطع يد الهدم الوهابيّة تخريبها ، وتتذكر تلك العهود الغابرة ، والأحداث الماضية وتسترجع في ذهنك حياة رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين الأوئل.

فكلّ خطوة ، وكلّ لمحة ، وكلّ شيء يذكّرك بمقدّساتك ودينك ، وقرآنك العظيم والحروب والغزوات ، وتسأل نفسك كم لاقى وعانى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لتبليغ الرسالة وإنقاذ البشر من الضلال وظلماته؟

ولذا ترى الحاجّ إذا ما وصل به المقام إلى أمام قبر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وربما قبل ذلك بكثير ، فإنّه يقف بخشوع ومهابة وكأنّه في حضرته المباركة ، وتجري الدموع على خدّيه باكياً منتحباً على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهكذا عند قبور الأئمّة

٥٢٧

الأطهار عليهم‌السلام والشهداء والصحابة الأجلاّء.

الشوق والحبّ يسوقان المسلمين إليك يا رسول الله ليس إلاّ ، فهم لم يروك عياناً ، بل يطمعون برؤية محيّاك ولو بالمنام ، إلاّ أنّهم قرؤوا وصفك ، وسمعوا سيرتك العطرة ، واعتنقوا ديانتك الحنيفيّة ، وها هم الآن يقفون أمام قبرك خاشعين ، وإلى الله داعين ضارعين ، تكسوهم الهيبة ، ويجلّلهم الخشوع أمام عظمة أعظم مخلوق خُلق ، وينتشي القلب بعد أن يشمّ العبير الطيّب الذي يفوح من ذاك القبر المقدّس الذي هو أطيب من المسك وغيره ، ويسمو الفكر ، وترفرف الروح في فضاء من الروحانيّة والنورانيّة المقدّسة التي لا يمكن وصفها ؛ لأنّها من الشعور الذي لا يوصف أبداً ، وإنّما يُحسّ ويُعاش ممّنْ هم من أهل الإيمان ؛ ولذا وربما باللاشعور تهجم إلى القفص الحديدي ، أو إلى الشباك المطلّ على القبر ، أو الجدار أو أي شيء يمكن لك أن تلمسه ، وكلّما كان أقرب كان الأمر أطيب والمكان أهيب ؛ وإذا لم تستطع شيئاً من ذلك فلا شك أنّك ستشير إشارة بيدك من بعيد إلى ذلك المكان المقدّس الشريف.

وبينما أنت بكلّ هذه الروحانيّة التي لا تحبّ أن يقطعها عليك أحد ، تُفاجأ بعناصر وأفراد الوهابيّة يصيحون ويصرخون دون خوف من الله ، ولا احترام لرسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي أمرنا الله سبحانه باحترامه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) (١).

بل يهجمون عليك ، وربما ضربوك إذا مددت يدك باتّجاه الحبيب

__________________

١ ـ سورة الحجرات : الآية ٢.

٥٢٨

المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويقذفونك بالكفر والشرك قائلين : لا تَدْعُ ، لا تتوسّل بالرسول ، لا تلمس القفص ؛ إنّه حديد لا ينفع. لا تقف هنا ... لا ... لا ، وألف لا.

فقلت لأحدهم مرّة : فلماذا جئنا إلى المدينة إذن ، وتحمّلنا مشاقّ السفر لقطع آلاف الأميال؟ فلماذا نأتي وتأتي الملايين إلى المدينة أصلاً؟

فقال : للصلاة في المسجد النبوي.

قلت : وقبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وزيارته؟

قال : محمد مات وانتهى أمره.

قلت : النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوصينا بزيارة قبره الشريف بقوله : «مَنْ حجّ ولم يزرني فقد جفاني» ، وروايات كثيرة بهذا المعنى ملأت كتب المسلمين ، وأنت تمنعنا من زيارته؟!

فقال : اذهب أنت رافضي ، رافضي لا ينفع معك الكلام.

قلت : لماذا تمنعنا من الوقوف والنظر إلى قبر حبيب الله بينما أنت واقف وظهرك إلى قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا إهانة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟!

فتركني وذهب ولم يجبني.

إنّه الجفاء والغلظة ، وضيق الصدر الذي تتّصف به هذه الجماعة.

وكم أستحضر سيرة رسول الإنسانيّة وسيّد الكائنات صلى‌الله‌عليه‌وآله فأقول في نفسي : الله أكبر! ما أعظمك يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله! وما أعظم صبرك ، وأوسع صدرك الشريف! كم تحمّلت الأذى من مثل هؤلاء في حياتك ، وأنت القائل : «ما أوذي

٥٢٩

نبي مثل ما أوذيت» (١). فكنت تدعوهم إلى خير الدنيا والآخرة ، وهم يقذفونك بالسحر والجنون والكذب ـ والعياذ بالله ـ وأنت الصّادق الأمين ، فساعد الله قلبك يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله!

إنّني كلّما ذهبت إلى الحجّ ونظرت بأُمّ عيني إلى هذه التصرّفات اللأخلاقيّة من هذه العناصر ، أتذكر معاناة حبيب الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في تبليغ الرسالة. أتذكّر مظلوميّة أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد وفاة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذلك مظلوميّة سيّدة النساء فاطمة الزهراء ، وبقيّة أئمّة أهل البيت (عليهم صلوات الله وسلامه) ، ولكن لا أملك إلاّ أن أقول : لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.

٣ ـ لا تسلّم عليه إنّه نجس :

ما رأيك بهذا العنوان ، يستفزّك أليس كذلك؟

أخلاق هذه الجماعات لا تستفزّ فقط ، بل كلّها استفزاز أصلاً ، فهذا شأنهم عند كلّ مَنْ سمع وقرأ عن سيرتهم ومنهجهم.

وعليه فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : (مَنْ قال : لا إله إلاّ الله محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو مسلم ، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم).

فيعامل كإنسان مسلم وإن عُلِمَ منه النفاق يقيناً ، والإسلام أحد المطهّرات كما نعلم من خلال الفقه. فالإنسان يطهر بمجرّد دخوله الإسلام ، ويحكم بطهارته وجميع شؤونه وما يحيط به من أدوات ، هذا هو فقه وشريعة الإسلام ، وأمّا فقه ابن تيمية وابن عبد الوهاب فشيء آخر.

__________________

١ ـ كشف الغمة ٢ ص ٥٣٧ ، المناقب ٣ ص ٢٤٧.

٥٣٠

ففي زيارتنا هذا العام ١٤٢٥ هجرية للمدينة المنوّرة ، وحيث كنّا مجموعة من المشايخ والعلماء الكرام ، وإذا بصراخ وضجّة تعلو في جنبات البقيع الطاهر ، فاستطلعنا الخبر وبحثنا عن الأمر ، وإذا بأحد الإخوة من أصدقائنا المشايخ في نزاع وجدال عقيم مع أحد هذه العناصر هناك.

فسألناه عن الخبر وماذا جرى.

قال : سألني ذاك الشاب ـ وأشار إلى شاب يقف هناك ـ بعض الأسئلة الدينية ، فرحت أُجيبه بكلّ احترام وتقدير عن كلّ أسئلته ، وإذا بهذا الذي يقف أمامكم يقول للشاب السائل : لماذا تتكلّم معه؟ لماذا تتكلّم مع هذا الرافضي الكافر النجس؟ فاذهب وغسل يدك (طهّرها) ؛ لأنّه كافر نجس؟!

فعندما سمعتُ ذلك وقف شعر بدني كلّه ، وأصابتني قشعريرة شديدة من هول ما أسمع من هذا الجاهل ، ففقدت أعصابي وبدأت أصرخ :

أيّها الناس ، يا عالم ، تعالوا وانظروا إلى هذا الذي يقول عنّي : كافر نجس ، فاجتمع الناس حولي ، فهرب ذلك الرجل خوفاً من الناس ، وبعد قليل جاء ومعه الشرطة ، فأشار عليّ وذهب فأرادوا أن يعتقلوني ، وانتهى الأمر وكأنّ شيئاً لم يكن.

والله عجيب من هؤلاء الناس! ماذا يحسبون أنفسهم؟ هكذا كنت أقول في نفسي ، ولماذا كلّ هذا الهجوم؟! وبهذه الطريقة الجافة ، واللسان الفظ الغليظ ، والأخلاق السيئة التي تذكّرنا بأبي جهل ، وأبي لهب ، وأبي سفيان وغيرهم من رؤوس قريش في الزمن الغابر؟!

٥٣١

٤ ـ أنا من أتباع محمد بن عبد الوهاب :

يعيبون علينا أنّنا من شيعة علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وهذا فخرنا إلى أبد الآبدين ، ويفتخرون أنّهم شيعة محمد بن عبد الوهاب.

الشيعة : تعني الأتباع والأصحاب والأنصار.

وقبل شهر رمضان المبارك من عام ١٤٢٤ هـ ، وفي مكتبنا الكائن في مبنى الحوزة العلمية الزينبية المقدّسة في ضواحي دمشق الفيحاء ، ذلك المعهد الكبير ، والصرح الحضاري الشهير الذي بناه وشيّده الشهيد السعيد السيد حسن الشيرازي (أعلى الله درجاته) بجوار عمّته عقيلة الطالبيّين زينب الكبرى (سلام الله عليها) منذ عقود ؛ لتكون منارة للنور يقصدها الناس طلباً للعلم والعمل.

هناك زارنا أحد الأصدقاء ومعه شاب وسيم فسلّما علينا ، فرددنا السّلام عليهما بأحسن منه كما أمرنا ربّنا تعالى في كتابه العزيز : (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) (١).

فقال صديقي : هذا صديقي وعنده بعض الأسئلة يطرحها عليكم إذا سمحتم.

فقلت : الأخ العزيز ، من أين؟

قال : أنا من أتباع محمد بن عبد الوهاب.

قلت له : نحن من أتباع محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو قائدنا ونبيّنا ، ورسول الله ، وخاتم النبييّن ، فنحن من أتباعه دون غيره ، ونحن محمّديون لا غير قبل كلّ

__________________

١ ـ سورة النساء : الآية ٨٦.

٥٣٢

صبغة أُخرى ، إلاّ أنّنا نتّبع بعده الإمام علي بن أبي طالب وأهل البيت الأطهار (صلوات الله وسلامه عليهم) ؛ لأنّ الله ورسوله أمرنا بذلك ، لأنّه على نهج الله وشريعة نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فالإمام علي عليه‌السلام هو وصي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وولداه الحسن والحسين ابنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانتاه وسيّدا شباب أهل الجنّة ، وَوِدّ هؤلاء الكرام أجر للرسالة كما في سورة الشورى المباركة : (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (١).

ورحت أتحدّث للأخ الشاب عن الأخلاق الإسلاميّة ، وأخلاق الحبيب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل البيت عليهم‌السلام ، وكيفية التعامل الصحيح مع الناس جميعاً على اختلاف مذاهبهم وأديانهم ، احتراماً وتقديراً بالقول والفعل.

وأثناء الحديث سألته : الأخ متزوّج؟ فقال : لا ، بل أعزب. فاغتنمتها فرصة ، فرحت أتحدّث له عن الزواج وسننه في الإسلام ، وأحاديث رسول الله وأهل البيت (صلوات الله عليهم) في الزواج ، وكيف تمّ زواج الإمام علي عليه‌السلام بسيّدة النساء فاطمة الزهراء عليها‌السلام ومهرها البسيط.

وهكذا طال بنا البحث ، ولكن كنت دائماً وأبداً أدقّ على الوتر الحساس ، وأعزف على اتجاه واحد ، هو أنّنا أتباع محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا غير ، ونحفظ سيرته وسنته أكثر من الآخرين ، ونحيط علماً بأحواله ونلتزم بمنهجه قولاً وعملاً ..

__________________

١ ـ سورة الشورى : الآية ٢٣.

٥٣٣

وأنّه ليس في الإسلام شيء اسمه محمد بن عبد الوهاب ، إلاّ هذا الذي جاء بعد ألف ومئتي عام ليقول لنا : إنّ الإسلام غير صحيح ، والأُمّة الإسلاميّة كافرة ومشركة وضالة ، لا تقول بالتوحيد فحلال دمها ومالها وعرضها!

وهكذا كان الشاب طيلة الجلسة حائراً في نفسه ، مرتبكاً ممّا يسمعه ، ومتفاجئاً من أحاديثنا وكأنّه يسمع بها لأوّل مرّة ، فخرج من عندنا مع صاحبه وهو على حيرة ودهشة بعد أن شكرنا على الحديث ، وودّعنا مصحوباً بالسّلامة.

٥ ـ لحيتك ليست طويلة وثوبك ليس بقصير!

إنّ من أكبر نعم المولى علينا هي نعمة الإسلام الكامل بالولاية العظمى ، وعصرنا هذا عصر العلم والتكنولوجيا والطباعة والنشر ، فالحقائق تظهر على الملأ ، وكتب الحقّ تُطبع وتُنشر في كلّ زمان ومكان ؛ إمّا بالورق ، أو على الإنترنت ، أو البريد الإلكتروني وغير ذلك ، وهذه نعمة كذلك.

ولذا راح العديد من الناس ، لا سيما العلماء وأساتذة الجامعات والمتنورون يقرؤون عن أهل البيت عليهم‌السلام ، فيرون أنّ الحقّ معهم ومنهم وإليهم ، فيعلنون انضمامهم إلى الركب المبارك ويركبون سفينة النجاة.

فالحقّ أبلج ، والحق أحقّ أن يتّبع ، ولكن مَنْ يتمسّك بالحقّ فذاك هو السعيد حقّاً. وفي هذا العقد الأخير (١٤١٥ ـ ١٤٢٥ هجرية) ازداد الدخول في مذهب أهل البيت عليهم‌السلام زيادة ملحوظة ؛ حيث دخل النور إلى قلوبهم فاستضاؤوا بنور العترة الطاهرة ، وهذا كلّه كان ؛ إمّا ببركة أمير المؤمنين عليه‌السلام ونهجه ، أو الزهراء ومظلوميّتها ، أو الإمام الحسين وشهادته المفجعة (صلوات الله عليهم). فأهل التهريج والكذب والافتراء كانوا يصفون أتباع أهل البيت عليهم‌السلام أوصافاً

٥٣٤

هي أشبه بوصف اليهود أو المجوس أو أبشع من ذلك ، وقد مرّت عليك بعض الفتاوى الظالمة لهم.

فمحمد بن عبد الوهاب يقول : إنّهم إذا ماتوا يُمسخون قردة وخنازير.

وآخر مثله يقول : يُدفع بالخشبة من بعيد إلى قبره إذا مات الشيعي.

وثالث القوم يقول : إنّ لهم أذناباً كأذناب الحيوانات ، تظهر بالليل وتختفي بالنهار ، كأنتيل الراديو في السيارة.

ورابع وخامس ، والناس البسطاء المساكين يصدّقون هذه التخاريف ، ويعتقدونها ويأخذونها كمسلّمات وبديهيّات ؛ لأنّ الشيخ يتكلّم بها ويتشدّق ويتمنطق ، ولا يدرون أنّه يقول غلطاً ويفعل شططاً.

والخوف دفع الشيعة إلى أقطار الأرض فتفرّقوا تحت كلّ حجر ومدر ، فسكنوا قُلل الجبال وكهوفها في البلدان ، منقطعين إلى الله في عباداتهم ، لأنّهم محاربون بلا ذنب ، ويُعتدى عليهم بلا رحمة كما حصل في مصر [زمن] صلاح الدين الأيوبي ، وسورية في مرج دابق بحلب الشهباء ، وأفغانستان وباكستان والعراق في هذه الأعوام المتأخّرة ؛ لا لذنبٍ اقترفوه إلاّ حبّهم وولائهم لآل البيت الأطهار عليهم‌السلام. فالشيعي مهدور الدم والمال والعرض ؛ ولذا راح يخفي عقيدته وربما اسمه ، وكثير منهم غيّروا دينهم لشدّة الظلم الذي وقع عليهم.

ولكن عصرنا الحاضر ، هو عصر كشف الحقائق ، ورفع الستور عن المحظور.

ومنذ فترة كنت أستمع لمحاضرة يلقيها سماحة الشيخ أحمد بدر حسون مفتي حلب ، وهو من العلماء الأعلام في سورية ، وله مكانته وحضوره في

٥٣٥

الساحة الثقافية والاجتماعية ، لا سيما في مدينة حلب ، وخلال المحاضرة روى هذه القصّة التي حدثت معه ، قال :

كنت ذاهباً إلى المدينة المنوّرة للزيارة المباركة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فرأيت شاباً فسلّمت عليه فلم يردّ السّلام.

فقلت : أخي ، اُسلّم عليك ولا تردّ السّلام ، والسّلام مستحبّ ورده فرض واجب! لماذا لا تردّ السّلام يا أخي؟!

فقال : لأنّ لحيتك ليست بطويلة ، وثوبك ليس بقصير ، (علماً أنّه كان يرتدي اللباس العلمائي وزيّ رجال الدين).

فيعقب الشيخ : فبتُّ حائراً من هذا الجواب الغريب الذي لم يأت به أحد ، وما أنزل الله به من سلطان!

٦ ـ حوار عند قبر أم البنين :

في إحدى سنوات الحجّ حيث أكرمنا الله ووفّقنا لحجّ بيته الحرام ، وزيارة خير الأنام والعترة الكرام عليهم‌السلام ، وخلال نزولنا إلى المدينة المنوّرة كالعادة ، وفي إحدى الزيارات إلى بقيع الغرقد ، أذكر أنّني كنت واقفاً عند قبر أُمّ البنين (فاطمة بنت حزام الكلابية) ، زوجة أمير المؤمنين الإمام علي عليه‌السلام الذي نصحه بها أخوه عقيل بن أبي طالب ، وذلك حين قال له : يا أخي ، اختر لي امرأة ولدتها الفحولة من العرب لأتزوجها.

فقال عقيل : أين أنت من فاطمة بنت حزام الكلابية؟

فذهب الإمام علي عليه‌السلام وخطبها وتزوجها ، فكانت بارّة تقيّة ، شديدة الحبّ

٥٣٦

والولاء ، مخلصة لسيّدتها فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، فكانت أوّل ما شرطت على أمير المؤمنين عليه‌السلام أن لا يناديها باسمها ؛ حتّى لا يزعج الحسنان بتذكيرهم بأُمّهم فاطمة الزهراء عليها‌السلام.

ولذا سمّيت في التاريخ والسيرة (أُمّ البنين) ؛ لأنّها أنجبت أربعة أشبال ذكور هم : (العباس ، وعبد الله ، وجعفر ، وعثمان) ، واستشهد الجميع تحت راية الإمام الحسين عليه‌السلام على بطاح كربلاء.

كنّا نزورها ؛ احتراماً وتقديراً ووفاءً لها ، وذات يوم أنا واقف عند قبرها سألني أخ من مصر العربية قبر مَنْ هذا؟

فقلت : قبر فاطمة أُمّ البنين زوجة الإمام علي عليه‌السلام.

فقال : قصدك فاطمة الزهراء رضي‌الله‌عنها.

قلت : لا ، هذه الزوجة الثانية لأمير المؤمنين عليه‌السلام تزوّجها بعد شهادة فاطمة الزهراء عليها‌السلام.

فقال : أين إذن قبر فاطمة الزهراء؟

قلت : ليس لها قبر معروف ، والتاريخ لا يعرف لها قبراً ، ولكن يُقال :

١ ـ إنّها دُفنت في بقيع الغرقد هنا ، ولكن لا أحد يعلمه بالتحديد.

٢ ـ أو إنّها دُفنت في بيتها حين قبضها الله سبحانه ، وعندما تمّ توسيع المسجد كانت غرفتها (أي مكان قبرها) في الروضة المباركة التي وصفها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «روضة من رياض الجنّة».

وبينما أحدّثه ويحدّثني ، ويسأل وأجيبه ، ونتبادل أطراف الحديث والحوار

٥٣٧

كان هناك أربعة أشخاص من عناصر الوهابيّة يحرسون القبر الشريف ، ويمنعون أحداً من البكاء وزيارته والسّلام على صاحبته أُمّ البنين (سلام الله عليها) ، وإذا سألهم سائل : قبر مَنْ هذا؟

يقولون : لا نعلم ، هذه أحجار لا تضرّ ولا تنفع ، اذهب وصلِّ في المسجد النبوي.

وبينما نحن كذلك قفز إلينا أحدهم وقال : ماذا تقول يا شيخ! ليس لفاطمة قبر! قلت : نعم ، أين قبرها أرشدني ودلّني عليه ، وأنا لك من الشاكرين.

فقال : هنا ، وأشار بيده إلى البقيع كلّه.

قلت : أين؟ حدّد لي قبراً معيناً.

وعند ذلك سمع الإخوة الزائرون صوتي اُحدّثه ، فجاؤوا إليَّ مسرعين وقالوا : شيخنا ، اتركه وإلاّ فمصيرك إلى السجن أو التعذيب (١) ، أو التسفير خارج الحجاز ، فيمنعونك من أداء مناسك الحجّ كما فعلوا بالكثير من قبل.

فسحبوني وأخرجوني من البقيع كلّه قبل أن يأتي عناصر الشرطة ويأخذوني معهم ، فما كان منّي إلاّ أن اُحوقل وأسترجع بصمت وحسرة : (لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون).

__________________

١ ـ علماً أنّ هناك سجن خاصّ تحت أرض البقيع الغرقد.

٥٣٨

٧ ـ وحوار آخر بجوار الكعبة :

الحجّ واجب ، وفرض على كلّ مَنْ استطاع إليه سبيلاً ، مرّة واحدة في الحياة كلّها ، وأحد أركان الحجّ الأساسي الطواف بالبيت العتيق. ما أهيب ذاك المكان ، وما أعظم روحانيّته ونورانيّته! إنّه أشبه ما يكون بيوم الحشر والنشر ؛ حيث اجتماع الناس على صعيد واحد ، في مكان واحد ، ولباس واحد ، وتلبية واحدة ، ولا فرق بين غني ولا فقير ، ولا كبير ولا صغير ، الكلّ سواسية.

فترى الحجّاج يطوفون حول البيت العتيق يلبّون ويتضرّعون ، ويضجّون ويعجّون إلى الله عزّ وجلّ ، يهلّلون ويكّبرون ويتوسّلون إلى جناب قدسه ، فمنهم مَنْ يطوف ، وآخر متعلّق بالأستار ، وأخر يلمس الجدران ، ومنهم مَنْ يتبرّك بالأركان الأربعة : (ركن الحجر الأسود ، والركن العراقي ، والركن الشامي ، والركن اليماني). وبعضهم في حِجر إسماعيل عليه‌السلام ، وآخرون عند باب المستجار الذي دخلت منه فاطمة بنت أسد ، عندما استجارت بالله فانشق الجدار ودخلت وعاد الجدار إلى وضعه ، فولدت الإمام علياً عليه‌السلام في جوف الكعبة وبقيت ثلاثة أيام.

والجميع متعلّق قلبه بالله ، حبّاً وشوقاً وتطلّعاً إلى نفحاته الروحانيّة وأنواره القدسيّة. إنَّ هيبة المكان لا توصف أبداً.

وهنا ، وفي مثل هذا المكان ترى العجب العُجاب ، فالغضب مرتسم على وجوه اُولئك الوهابيّين ، مكشّرين كأنّهم من زبانية جهنم ، يدفعون ويهينون

٥٣٩

ويكفّرون الحجّاج على هواهم.

فهذا كافر ، وذاك مشرك ، والآخر عابد صنم ، وهذه الكعبة أحجار لا تضرّ ولا تنفع ، وهذا كذا ، وذاك كذا ، ويقسّمون الناس ويعطوهم شهادة الموحّد ، أو الكافر أو المشرك وغير ذلك.

وبينما كنتُ عند حِجر أبينا إسماعيل عليه‌السلام قلت لأحد الحجّاج المتعصّبين المغررين : انظر هل هذا من الإسلام في شيء؟! هؤلاء حجّاج قطعوا آلاف الأميال للحجّ ، وتجشّموا العناء بالسفر والمشقّة والتعب ، وهم مسلمون موحّدون ، ويعتقدون باُصول الدين وفروعه.

قال : هذا حجر لا أكثر ولا أقل.

قلت : والحجر الأسود ماذا يكون؟ فسكت ولم يحر جواباً.

فقلت : وغلاف القرآن أليس من الجلد أو النايلون وجلود الحيوانات ، فلماذا تقبّله أنت؟

قال : نعم ، وهل هذا حرام؟ قلت : لا أبداً ، ولكن لماذا تقبّله؟

قال : لأنه يحوي القرآن.

فقلت : ما الفرق بين هذا وذاك؟ نحن لا نريد الحجر بل نريد ما وراء الحجر يا أخي.

فسكت ولم ينبث ببنت شفة.

فاستطردتُ قائلاً : فلو سلّمنا جدلاً بما تقولون ، فهذه عقائد الناس التي يؤمنون بها كما لكم عقائدكم ، فدعوا الناس وعقائدهم ، واتركوهم يعبدون

٥٤٠