الحسين (ع) والوهّابيّة

جلال معاش

الحسين (ع) والوهّابيّة

المؤلف:

جلال معاش


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القارئ للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

وهل يمكن معاملة المسلم بهذا الشكل المزري؟ بل هل يمكن معاملة الإنسان بهذه الطريقة؟ فأين الأخلاق الإسلاميّة والفضائل والقيم الإنسانيّة أيّها المسلمون؟!

فهل نزع الله الرحمة من قلوب هؤلاء ، أم أنّهم إخوان مَنْ مُسخوا قردة وخنازير حتّى ينظروا إلى الناس بهذه الطريقة السوداويّة؟!

أين منظمات حقوق الإنسان ولوائحهم العالميّة؟ أين عقلاء العالم ليسمعوا قول هذا المتعصّب الذي لا يعلم ولا يدري ما يقول؟!

لا أيّها الشيخ ، إنّها العالميّة وعصر الفضائيّات والنشر الإلكتروني ، ففكّروا ألف مرّة قبل أن تنطقوا مثل هذه الهرطقات ، أو تكتبوا مثل هذا الكلام اللاأخلاقي.

اقرأ معي هذه الفتوى لابن الجبرين وما فيها من التفرقة العنصريّة :

إن كان لأهل السُنّة دولة وقوّة وأظهر الشيعة بدعهم وشركهم واعتقاداتهم ، فإنّ على أهل السنّة أن يجاهدوهم بالقتال بعد دعوتهم ؛ ليكفّوا عن إظهار شركهم وبدعهم ، ويلزموا شعائر الإسلام ، وإذا لم تكن لأهل السنّة قدرة على قتال المشركين والمبتدعين ، وجب عليهم القيام بما يقدرون عليه من الدعوة والبيان (١)!

الله أكبر على هذا المفتي وهذه الفتوى! ألم تقرأ أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله التي تؤكّد على حقن دماء مَنْ شهد الشهادتين فقط؟! فكيف تفتي بوجوب قتل

__________________

١ ـ تاريخ الفتوى ٢٣ ص ٨ ص ١٤٢١ هـ.

٤٨١

أهل القبلة من المسلمين ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر» (١).

إنّي ما أزال حائراً تجاه هذه الفتاوى ، فكيف صدرت وعلى أيّ قواعد شرعية واُصول فقهية اعتمد أصحابها ، لا سيما وهي تخالف الاُصول كلّها الكتاب ، والسنّة ، والإجماع ، والعقل ، وحتى القياس ، فمن أين جاؤوا بها؟ فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.

كلية الطب ممنوعة على الشيعة!

هل تعلم عزيزي القارئ أنّ رسالة وجِّهت إلى وزير المعارف السعودي تستنكر وجود شخص يُدرِّس في مدارس المدينة المنوّرة (لأنّه شيعي) ، هل تصدّق ذلك؟!

وأذكر أنّ أحد الإخوة السعوديين من المنطقة الشرقية ذات الأغلبية الشيعية نجح بالشهادة الثانوية ، وبمجموع عالٍ جدّاً يؤهّله لدخول أي فرع جامعي ، إلاّ أنّ السياسة كانت تُحرِّم عليهم الجيش والكليات الراقية ، لا سيما الحقوق والطب وغيرها.

إلاّ أنّ هذا الطالب أصرَّ على التسجيل في كلّية الطب (تلك المهنة الإنسانيّة الرائعة) في المدينة المنوّرة ، وبعد أن رُفض طلبه لعدّة مرّات ، تقدّم بطلب إلى رئيس الجامعة للمقابلة ؛ ليعرف سبب عدم قبوله بفرع الطبّ البشري.

وبالفعل نجح بلقاء الدكتور رئيس الجامعة في مكتبه الضخم الفخم ، إلاّ أنّه

__________________

١ ـ صحيح البخاري ص كتاب الفتن.

٤٨٢

فوجئ بهذا الدكتور يجادله ، ويريد أن يثنيه عن عزمه بدراسة الطبّ ، ليس بالحوار العقلاني ، بل بالحوار الوهّابي ، بحيث قال الدكتور : هل تستطيع أن تخبرني ما الفرق بين الشيعي والحمار؟!

فأجابه الطالب بكلّ قوّة وشجاعة : نعم يا دكتور ، لا فارق بين الشيعي والحمار إلاّ هذه الطاولة ، وضرب بيده على المكتب الذي يجلس خلفه ذاك الرجل وخرج إلى غير رجعة.

هكذا يتعاملون مع البشر بهذا المنطق العجيب الغريب الذي لم أسمع مثله في التاريخ ، ولا حتّى من أولاد الشوارع في شيكاغو ، ولا أروقة هوليود!

ابن عثيمين : نعم ، الشيعة في حكم الكفّار.

وسُئل الشيخ ابن عثيمين : هل يعتبر الشيعة في حكم الكافرين؟

فقال : الشيعة ، والصواب أن يُقال : الرافضة ؛ لأنّ تشيّعهم لعلي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه تشيّع متطرّف غالٍ لا يقبله علي رضي‌الله‌عنه. فالرافضة كما وصفهم شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم) حيث قال : إنّهم أكذب طوائف أهل الأهواء ، وأعظمهم شركاً!

فلا يوجد في أهل الأهواء أكذب منهم ، ولا أبعد عن التوحيد ، حتّى إنّهم يخربون مساجد الله التي يُذكر فيها اسمه ، فيعطّلونها عن الجمعة والجماعات ، ويعمرون المشاهد التي أُقيمت على القبور التي نهى الله ورسوله عن اتخاذها (مساجد).

وقال : الرافضة أُمّة مخذولة ، ليس لها عقل صريح ، ولا نقل صحيح ، ولا دين

٤٨٣

مقبول ، ولا دنيا منصورة.

وإذا شئت أن تعرف ما كان الرافضة عليه من خبث فاقرأ كتاب (الخطوط العريضة) لمحبّ الدين الخطيب ، فقد ذكر عنهم ما لم يذكر عن اليهود والنصارى في أعظم خلفاء هذه الأُمّة أبي بكر وعمر.

وأمّا خطر الرافضة على الإسلام فكبير جدّاً ، وقد كانوا السبب في سقوط الخلافة الإسلاميّة في بغداد ، وإدخال التتر عليها ، وقتل العدد الكبير من العلماء كما هو معلوم في التاريخ.

وخطرهم يأتي من حيث أنّهم يدينون (بالتقية) التي حقيقتها النفاق ، وهو إظهار قبول الحقّ مع الكفر به باطناً. والمنافقون أخطر على الإسلام من ذوي الكفر الصريح (١).

اقرأ واعجب ، وما عشت أراك الدهر عجباً ، مثل هذا الكلام ينطلق من عضو الإفتاء الأعلى للديار الحجازية ، كيف تجرّأ وكيف أفتى بهذه الكلمات ، وفيها من الخلط والخبط ما لا يخفى حتّى على الأطفال؟!

ولكنّ فتواه تردّ عليه ، وعليه وزرها ووزر مَنْ عمل بها إلى يوم القيامة. وهذه التهمة للشيعة ليست بالجديدة ، ولكن ليس الشيعة هم الذين هدموا الخلافة الإسلاميّة ، ولا هم الذين قتلوا علماء الدين ، ولا هدموا مساجد المسلمين ، وإنّما غيرهم مَنْ فعل ذلك كلّه! وليس هنا مجال بيان ذلك.

وقد تبيّن لك بالأرقام فيما تقدّم عن أعمالهم التخريبية لبيوت الله ، وآثار

__________________

١ ـ فتاوى مهمّة لعموم الأُمّة ص ١٤٥.

٤٨٤

الرسالة المباركة ، كيف طمسوها بحقد عجيب على الإسلام والمسلمين؟

ذبح الشيعة في حلب :

نعم ، يشهد التاريخ على صدور فتوى من حاقد من أمثالهم ، قال في حلب : الشيعة كفّار ، واجب قتلهم ، ونهب أموالهم ، وسبي ذراريهم ، ومَنْ لم يحكم بكفرهم كافر يقتل. ولَقتلُ شيعيٍّ واحد أفضل من قتل ستين كافراً عند الله.

وعلى أثر هذه الفتوى وقعت واقعة (مرج دابق) ، ودخلوا على الجامع الكبير (الأطرش) في حلب ، وذبحوا كلّ مَنْ فيه حتّى إنّ الدماء سالت من أبواب المسجد ، وشُرّد شيعة حلب في تلك الأيام.

وسُئل أحدهم ذات مرّة : كيف يُدفن الشيعي؟

فقال : يدفع بالخشبة من بعيد إلى قبره ويهال التراب عليه!

هكذا تصنع الأحقاد ، وهذا من نتائج التعصّب والعناد على الباطل ، فهل قرأت كهذا المنطق العنيف؟! وهل توقّعت وجود مثل هذا الإرهاب الفكري في العالم الإسلامي كلّه؟! بل في العالم أجمع إلاّ عند اليهود.

فأسهل شيء عندهم أن يرموك بالكفر أو الشرك ، ويستبيحون دمك ومالك وعرضك. وليس من الضروري أن تذنب في حقّهم ، أو يكون لك عمل باطل في عرفهم ، وربما حكموا عليك من مظهرك وشكلك ، أو بلدك ودولتك. وأكبر الطامات أنّك تذهب إلى الحجّ وتتحرّق شوقاً لتلك المشاهد المشرّفة وهم يرمونك بالشرك ، ويتّهمونك بالكفر مباشرة.

٤٨٥

موقف علماء الإسلام من الوهابيّة

إنّ مواقف علماء الإسلام ورجالات الدين الحنيف من الوهابيّة واضحة وضوح الشمس ؛ لأنّ الإنسان المسلم يتخلّق بأخلاق الدين ، ويعامل الناس على تلك الأسس والقواعد الأخلاقيّة الإسلاميّة الرائعة ، وسأكتفي بنموذجين وربما بثلاثة فقط.

ولكن للتذكير أقول : بأنّ الوهابيّة السلفيّة تكفّر أُمّة الحبيب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله قاطبةً ، وتخرج الجميع ؛ السنّة والشيعة ، من الإسلام. ويستعملون (الإرهاب الفكري) بالسبّ والشتم والتكفير ، ويستعملون (الإرهاب العملي) بالحرب والقتل والهدم والتدمير ، فلا يسلم أحد من المسلمين على وجه الأرض!

فالشيعة كفّار ومشركون ، والسنّة كفّار متمذهبون إلاّ مَنْ لحقهم وتبع إمامهم محمد بن عبد الوهاب ، وهم يشدّدون النكير على الأحناف وإمامهم أبي حنيفة النعمان ، فهم شديدوا البغض لهم ؛ وذلك لأنّ الحنابلة يرون أنّ الإمام أبا حنيفة من أئمّة الضلال.

ويقول إسحاق بن منصور كوسج : قلت لأحمد بن حنبل : يؤجر الرجل على بغض أبي حنيفة وأصحابه؟ قال : إي والله.

ونقل عبد الله بن أحمد (بن حنبل) : أنّ الإمام أبا حنيفة كان جهمياً ، وأنّه كافر وزنديق ، وأنّه كان ينقض عُرى الإسلام عروة عروة ، وأنّه ما ولد في الإسلام مولود أشأم من أبي حنيفة ، وأنّه استتيب من الكفر مرتين (١).

__________________

١ ـ السلفية والوهابيّة ص ٧٣ ، عن كتاب السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل.

٤٨٦

وأمّا حديث الصوفية والتصوّف مع الوهابيّة فهو طويل وشائك ؛ فقد حرّم محمد بن عبد الوهاب الذكر كلّه ، ومنع من الاجتماع لأجل الذكر وقراءة القرآن ، وجلد وربما قتل مَنْ يجهر بالصلاة على النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله رغم أنّها تُذهب النفاق وتطرد الشياطين ، فعلوا كلّ ذلك لقهر ومحاربة الصوفية والتصوّف كلّه.

ولذا فإنّ العلماء من كلّ المذاهب كتبوا وردّوا على الوهابيين بكلّ قوّة واقتدار وما زالوا يفعلون.

وقفة أخرى لسليمان بن عبد الوهاب مع أخيه :

أوّل مَنْ بادر إلى الرّد على محمد بن عبد الوهاب أخوه سليمان بن عبد الوهاب في كتاب أسماه (الصواعق الإلهية في الردّ على الوهابيّة) يقول فيه بعد شرح لاُصول الدين : (إذا فهمتم ما تقدّم فإنّكم الآن تكفّرون مَنْ شهد أن لا إله إلاّ الله وحده ، وأنّ محمداً عبده ورسوله ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، وصام رمضان ، وحجّ البيت ، مؤمناً بالله وملائكته ، وكتبه ورسله ، ملتزماً لجميع شعائر الإسلام ، وتجعلونهم كفّاراً وبلادهم بلاد حرب.

فنحن نسألكم : مَنْ إمامكم في ذلك؟

وممّنْ أخذتم هذا المذهب؟

إلى أن يقول : ولكن من أين لكم أنّ المسلم الذي يشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأن محمداً عبده ورسوله إذا دعا غائباً أو ميتاً ، أو نذر له ، أو ذبح لغير الله ، أو تمسّح بقبرٍ ، أو أخذ ترابه أنّ هذا هو الشرك الأكبر الذي مَنْ فعله حبط عمله ، وحلَّ ماله ، ودمه؟!

٤٨٧

وأنّه الذي أراده الله سبحانه من هذه الآية : (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (١) وغيرها من القرآن! وإن قلتم : فهمنا ذلك من الكتاب والسنّة.

قلنا : لا عبرة بمفهومكم ، ولا يجوز لكم ولا لمسلم الأخذ بمفهومكم ؛ فإنّ الأُمّة مجمعة ـ كما تقدّم ـ أنَّ الاستنباط مرتبة أهل الاجتهاد المطلق ، ومع هذا لو اجتمعت شروط الاجتهاد في رجل لم يجب على أحد الأخذ بقوله دون نظر.

إلى أن يقول : ولكنّ المطلوب منكم هو الرجوع إلى كلام أهل العلم ، والوقوف عند الحدود التي حدّدوها ؛ فإنّ أهل العلم ذكروا في كلّ مذهب من المذاهب الأقوال والأفعال التي يكون بها المسلم مرتداً ، ولم يقولوا : مَنْ نذر لغير الله فهو مرتد ، ولم يقولوا : مَنْ طلب من غير الله فهو مرتد. ولم يقولوا : مَنْ ذبح لغير الله فهو مرتد. ولم يقولوا : مَنْ تمسّح بالقبور وأخذ من ترابها فهو مرتد ، كما فعلتم أنتم.

فإن كان عندكم شيء فبيّنوه ؛ فإنّه لا يجوز كتم العلم ، ولكنّكم أخذتم هذا بمفاهيمكم ، وفارقتم الإجماع ، وكفّرتم أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّهم حيث قلتم : مَنْ فعل هذه الأفاعيل فهو كافر ، ومَنْ لم يكفِّره فهو كافر (٢).

هذا كان النموذج الأوّل. وأمّا النموذج الثاني : فهو يتضمّن الردّ من شخصين مهمّين في العالم الإسلامي ، وهي عبارة عن نصائح كتبها السيّد

__________________

١ ـ سورة الأنعام : الآية ٨٨.

٢ ـ الصواعق الإلهية في الردّ على الوهابيّة ص ٤٦ وما قبلها.

٤٨٨

يوسف هاشم الرفاعي من الوجهاء المعروفين في الكويت ، وقدَّم لها الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي من كبار علماء سورية.

الدكتور البوطي وموقفه من الوهابيّة :

في مقدمة كتاب (نصيحة لإخواننا علماء نجد) يتحدّث الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ، وهو من كبار علماء سوريا ، عن أفكار هذه الجماعة التي تطلق على نفسها تارة الوهابيّة ، وتارة أُخرى السلفيّة ، وعن عقائدهم التي منها تكفير كافة المسلمين واتهامهم بأنّهم أهل البدع والضلالة وما أشبه ذلك.

وإليك بعض ما جاء في هذه المقدّمة :

وما أعلم أنّ العالم الإسلامي أجمع في استيائه من أمر من الأمور في عصر من العصور كاستيائه من هذا الذي يقدم عليه الإخوة مسؤولوا المملكة وعلماؤها اليوم ، من إخلاء مكة والمدينة وما حولها من سائر الآثار المتّصلة بحياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الشخصيّة والنبويّة ، وما تبع ذلك من الإقدام على أمور تناقض الشرع ، وتناقض المنهج الذي كان عليه السلف الصالح ، كمنع المسلمين من زيارة البقيع ومنع الدفن فيه ، وتكفير سواد هذه الأُمّة بحجّة كونهم أشاعرة أو ماتريديّين! وهل كان الإمام الأشعري إلاّ نصير السلف الصالح بإجماع الأُمّة؟!

والذي زاد من هذا الاستياء الذي بلغ اليوم ذروته ، أنّ هؤلاء الإخوة الذين يقدمون على هذه الفظائع المنكرة ، ماضون ومستمرون في ذلك في صمت وقدر كبير من اللامبالاة! وقد كان أدنى ما يقتضيه الالتزام بأوليات الدين الإسلامي والبديهيات المتفق عليها من أحكامه ، أن يبدأ هؤلاء الإخوة فينشرون بياناً يأتون

٤٨٩

به على سمع العالم الإسلامي وبصره ، يوضّحون فيه الدليل على ما قد تحقّق لديهم من وجوب هدم آثار النبوّة والقضاء عليها ، وملاحقتها بالمحو أيّاً كانت وأينما وجدت ، ومن ثمّ يعلنون عن عزمهم ـ بناء على ذلك ـ على تنفيذ ما يقتضيه الحكم الشرعي المقرون بدليله.

ولقد كنت ولا أزال واحداً من ملايين المسلمين الذين تأخذهم الدهشة لهذا الذي يجري في مكة والمدينة ، تحت أبصار المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، مع الاستخفاف بمشاعرهم وعلومهم ومعتقداتهم ، ودون تقديم أي معذرة بين يدي مغامراتهم العجيبة هذه ، من حجّة علمية يتمسّكون بها ، أو اجتهاد ديني حقّ لهم أن يجنحوا إليه!

بل لقد آثرت تحت تأثير هذه الدهشة أن أبدأ فأتّهم نفسي بالجهل ، وأن أفترض في معلوماتي الشرعية خطأ توهّمته صواباً ، أو حكماً غاب عنّي علمه ، وذلك ابتغاء المحافظة على ما هو واجب من حسن الظنّ بالإخوة المسلمين ، لا سيما العلماء منهم ، ما اتّسع السبيل إلى ذلك ؛ فرحت أنبش سيرة السلف الصالح وموقفهم ، بدءاً من عصر الصحابة فما بعد ، وأستجلي من جديد موقفهم من آثار النبوّة ؛ سواء منها العائدة إلى شخص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو ذات الدلالة على رسالته ونبوّته ، فلم أجد إلاّ الإجماع بدءاً من عصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على مشروعية التبرّك بآثاره ، بل رأيت الصحابة كلّهم يسعون ويتنافسون على ذلك. ولا ريب أنّ مشايخ نجد يعلمون ما نعلمه جميعاً من ورود الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما ، المتضّمنة تبرّك الصحابة بِعرَق رسول الله وشعره ، ووضوئه وبصاقه ، والقدح الذي كان يشرب فيه ، والأماكن التي

٤٩٠

صلّى فيها ، وجلس أو قال فيها.

ولا نشك في أنّهم يعلمون كما نعلم أنّ عصور السلف الثلاثة مرّت شاهدةً بإجماع على تبرّك اُولئك السلف بالبقايا التي تذكّرهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من دار ولادته ، وبيت خديجة رضي‌الله‌عنها ، ودار أبي أيوب الأنصاري التي استقبلته فنزل فيها في أيّامه الأولى من هجرته إلى المدينة المنوّرة ، وغيرها من الآثار كبئر أريس وبئر ذي طوى ودار الأرقم.

ثمّ إنّ الأجيال التي جاءت فمرّت على أعقاب ذلك كانت خير حارس لها ، وشاهد أمين على ذلك الإجماع.

ثمّ إنّ العالم الإسلامي كلّه يُفاجأ اليوم بهذه البدعة التي يمزّق بها إخوتنا مشايخ نجد إجماع سلف المسلمين وخلفهم إلى يومنا هذا ؛ فدار ولادة رسول الله تُهدّم وتُحوّل إلى سوق للبهائم ، ودار ضيافة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة تحوّل إلى مراحيض! وتمرّ أيدي المحو والتدمير على كلّ الآثار التي تناوبت أجيال المسلمين كلّهم شرف رعايتها والمحافظة عليها.

والأعجب من هذا كلّه أنّ مشايخ نجد يرون مدى استنكار العالم الإسلامي وغليانه الوجداني لهذه البدعة التي تزدري إجماع المسلمين من قبل ، وتستخفّ بمشاعرهم الإيمانية دون أن يتوجّهوا إليهم بكلمة يبرّرون فيها عملهم ، ويشرحون فيها وجهة نظرهم. إذ المفروض إذا كانوا هم المصيبون في عملهم هذا ، وعلماء العالم الإسلامي قاطبة جاهلون ومخطئون أن يتوجّهوا إليهم ببيان هذا الذي يعرفونه ؛ حتّى يتنبهوا إلى خطئهم ، ويتحوّلوا إلى الصواب الذي امتازوا وانفردوا عن العالم كلّه بمعرفته ، وبذلك يكسبون أجر هدايتهم وإرشادهم إلى الحقّ الذي تاه عنه المسلمون خلال أجيالهم المتصرّمة كلّها.

٤٩١

وجاء في مكان آخر من حديثه عن أفكار هذه الجماعة :

فهلاّ تلمّستم يا علماء نجد مكان محبّة الله ورسوله من أفئدتكم ، وهلاّ استنبتّم هذه المحبّة أن رأيتموها ضامرة بمزيد من ذكر الله عزّ وجل ، إذن لدفعكم هذا الحبّ ـ والله ـ إلى حراسة آثار النبوّة وصاحبها بدلاً من محوها والقضاء عليها ، ولسلكتم في ذلك مسلك السلف الصالح (رضوان الله عليهم) ، وإذن لأقلعتم عن ترديد تلك الكلمة التي تظنّونها نصيحة وهي باطل من القول ، وتحسبونّها أمراً هيّناً ، وهي عند الله عظيم ، ألا وهي قولكم للحجيج في كثير من المناسبات : إيّاكم والغلو في محبّة رسول الله!

ولو قلتم ، كما قال رسول الله : لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، لكان كلاماً مقبولاً ، ولكان ذلك نصيحة غالية. أمّا الحبّ الذي هو تعلّق القلب بالمحبوب على وجه الاستئناس بقربه والاستيحاش من بعده فلا يكون الغلوّ فيه عندما يكون المحبوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ عنواناً على مزيد قرب من الله ، وقد علمنا أنّ الحبّ في الله من مستلزمات توحيد الله تعالى. ومهما غلا محبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حبّه له أو بالغ فلن يصل إلى أبعد من القدر الذي أمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ قال فيما اتّفق عليه الشيخان : لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من ماله وولده والناس أجمعين ، وفي رواية البخاري : ومن نفسه.

وإذا ازدهرت قلوبكم بهذه المحبّة فلسوف تعلمون أنّها مهما تلظّت بهذه المحبّة ، فلسوف تظلّ متقاصرة عن الحدّ الذي يستحقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولسوف تنتعش نفوسكم لمرأى آثار النبوّة إن كان قد بقي منها بقيّة لديكم اليوم بدلاً

٤٩٢

من أن تكرهوها ، وتسعوا سعيكم الحثيث للتخلّص منها وللقضاء عليها (١)!

نصيحة لإخواننا علماء نجد :

صاحب هذا الكتاب هو (يوسف بن السيّد هاشم الرفاعي) وهو من الوجهاء المعروفين في الكويت ، يبيّن في كتابه معاناته وآراءه تجاه هذه الجماعة أتباع محمد بن عبد الوهاب.

أخي القارئ : تأمّل في هذه الكلمات أو سميّها النصائح ، ترى كيف هذه الجماعة تكفّر كافة المسلمين ، وأنّهم جماعة شاذّة ومنبوذة من كافة المذاهب الإسلاميّة. فتعالوا معنا يا كرام ؛ لكي نقف ببصيرة مع بعض هذه الكلمات التي اقتطفناها من هذا الكتاب التي سمّاها المؤلف (نصيحة).

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسّلام على سيّدنا رسول الله وعلى آله وصحبه الكرام ومَنْ والاه.

وبعد ، فانطلاقاً من قول النبي (صلّى الله تعالى عليه وآله وصحبه) : «الدين النصيحة». قلنا : لِمَنْ؟ قال : «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم» (٢).

__________________

١ ـ نصيحة لإخواننا علماء نجد ص ٨ مع الإجمال.

٢ ـ رواه مسلم في صحيحه ١ ص ٧٤ كتاب الإيمان ، باب بيان أنّ الدين النصيحة رقم (٥٥) عن تميم الداري.

٤٩٣

فبعد صدور كتابي (الردّ المحكم المنيع) وصدور عدّة كتب لأهل العلم انتظرت لعلّه ينصلح أو يتغيّر شيء من تصرّفاتكم وأساليبكم ، ولكن لم يحصل من ذلك شيء.

وحيث إنّ الله تعالى يقول في سورة العصر :

(وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (١) ؛ فقد عزمت بعد الاستخارة أن أتوجّه إليكم بهذه النصيحة التي أرجو أن تكون مقبولة ، سائلاً المولى تعالى أن يُرينا وإيّاكم الحقّ حقّاً ويرزقنا اتّباعه ، وأن يُرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ، وأن لا يجعله علينا متشابهاً فنتّبع الهوى ، والله الهادي للصواب.

فأقول وبالله التوفيق :

١ ـ لا يجوز اتّهام المسلمين الموحّدين الذين يصلّون معكم ، ويصومون ويزكّون ، ويحجّون البيت ملبّين مردّدين : لبيك اللّهمّ لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إنَّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.

لا يجوز شرعاً اتّهامهم بالشرك كما تطفح كتبكم ومنشوراتكم ، وكما يجأر خطيبكم يوم الحجّ الأكبر من مسجد الخيف بمنى صباح عيد الحجّاج وكافة المسلمين ، وكذلك يروّع نظيره في المسجد الحرام يوم عيد الفطر بهذه التهجّمات والافتراءات أهل مكة والمعتمرين ، فانتهوا هداكم الله تعالى ، وترويع المسلم حرام ، لا سيما أهالي الحرمين الشريفين ، وفي هذا المعنى نصوص شريفة

__________________

١ ـ سورة العصر.

٤٩٤

صحيحة.

٢ ـ لقد كفّرتم الصوفيّة ثمّ الأشاعرة ، وأنكرتم واستنكرتم تقليد واتّباع الأئمّة الأربعة (أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل) في حين أنّ مقلّدي هؤلاء كانوا يمثّلون السواد الأعظم من المسلمين ، كما إنّ المنهج الرسمي لدولتكم والذي وضعه الملك عبد العزيز ينصّ على اعتماد واعتبار المذاهب الأربعة ، فانتهوا هداكم الله تعالى (١).

ومَنْ كان كافراً بعد إسلامه فهو في حكم المرتدّ الذي يُباح دمه ، فتذكّروا حديث نبيّكم المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» (٢).

٣ ـ بعد أن فرغتم ممّن سبق ، سلّطتم من المرتزقة الذين تحتضنونهم مَنْ رَمَى بالضلال والغواية الجماعات والهيئات الإسلاميّة العاملة في حقل الدعوة ، والناشطة لإعلاء كلمة الله تعالى ، والآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر كالتبليغ ، والإخوان المسلمين ، والجماعة (الديوبندية) التي تمثّل أبرز علماء الهند

__________________

١ ـ المؤلّف : في هذه الأيام بدأ النظام السعودي يتقرّب من باقي الفرق الإسلاميّة ؛ كالإمامية الاثني عشرية ، والإسماعيلية ، والزيدية وغيرها تحت عنوان المصالحة الوطنية ، وقد عكست الدولة السعودية ذلك في الإعلام ، ونأمل أن تكون هذه خطوة جيّدة لإعطاء باقي المسلمين في الجزيرة العربية (بلاد الحجاز) حريّتهم وحقوقهم المظلومة ، ولا سيما القاطنين في المنطقة الشرقية من بلاد الحجاز.

٢ ـ رواه البخاري في صحيحه : الآية كتاب الفتن ، باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَنْ حمل علينا السّلاح فليس منّا» ، (الفتح ١٣ ص ٢٩ ح ٧٠٧٧ ، ٧٠٨٠ ، ومسلم في صحيحه ١ ص ٨٢ كتاب الإيمان ، باب معنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» ، ح ٦٦ ، ٦٥.

٤٩٥

وباكستان وبنغلادش ، والجماعة (البريلوية) التي تمثّل السواد الأعظم من عامّة المسلمين في تلك البلاد ، مستخدمين في ذلك الكتب والأشرطة ونحوها ، وقمتم بترجمة هذه الكتب إلى مختلف اللغات وتوزيعها بوسائلكم الكثيرة مجاناً.

أمّا هجومكم على الأزهر الشريف وعلمائه فقد تواتر عنكم كثيراً.

٤ ـ تردّدون جملة الحديث الشريف : «كلّ بدعة ضلالة» (١) بدون فهم ؛ للإنكار على غيركم ، بينما تقرّون بعض الأعمال المخالفة للسنّة النبويّة ولا تنكرونها ولا تعدّونها بدعة! سنذكر بعضاً منها فيما يلي :

٥ ـ إنّكم تغلقون مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد صلاة العشاء مباشرةً وهو الذي لم يكن يُغلق قبلكم في حياة المسلمين ، وتمنعون الناس من الاعتكاف والتهجّد فيه ، وتنسون قول الله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا اُولئك مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (٢).

٦ ـ تفرضون على المؤذّنين الحجازيين أسلوباً معيناً في الأذان هو أسلوبكم في نجد ، وزمناً معيناً محدوداً ، وتطلبون عدم ترخيم الصوت وتحليته بنداء المسلمين لهذه الشعيرة العظيمة (الصلاة).

٧ ـ تمنعون التدريس والوعظ في الحرمين الشريفين ، ولو كان المدرِّس من

__________________

١ ـ جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه ١ ص ٥٩٢ كتاب الجمعة ، باب تخفيف الصلاة والخطبة ح ٨٦٧ عن جابر بن عبد الله رضي‌الله‌عنه.

٢ ـ سورة البقرة : الآية ١١٤.

٤٩٦

كبار علماء المسلمين حتّى لو كان من علماء الحجاز والإحساء ما لم يكن على مذهبكم ، وبإذن صريح منكم مكتوب ومختوم منكم فقط ، ويُمنع غيركم حتّى لو كان شيخ الأزهر الشريف ، فاتقوا الله ولا تغلوا في مذهبكم ، وأحسنوا الظنّ بإخوانكم من علماء المسلمين.

٨ ـ تمنعون دفن المسلم الذي يموت خارج المدينة المنوّرة ومكّة المكّرمة من الدفن فيهما ، وهما من البقاع الطّيبة المباركة التي يحبّها الله ورسوله ، فتحرمون المسلمين ثواب الدفن في تلك البقاع الشريفة المباركة.

فعن عبد الله بن عدي الزهري عنه قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على راحلته واقفاً بالحزورة يقول : «والله إنَّكِ لخير أرض الله ، وأحبّ أرض الله إلى الله ، ولولا أنّي اُخرجت منك ما خرجتُ» (١).

وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَن استطاع أن يموت بالمدينة ، فليمت بها ؛ فإنّي أشفع لِمَنْ يموت بها» (٢).

__________________

١ ـ رواه أحمد في مسنده ٤ ص ٣٠٥ ، والترمذي في سننه ٥ ص ٧٢٢ كتاب المناقب ، باب فضل مكة ح ٣٩٢٥ وقال : حديث حسن غريب صحيح ، ورواه النسائي في سننه الكبرى ٢ ص ٤٧٩ ، وابن ماجه في سننه ٢ ص ١٠٣٧ كتاب المناسك ، باب فضل مكة ح ٣١٠٨ ، وابن حبان في صحيحه ٩ ص ٢٢ كتاب الإحسان ح ٣٧٠٨ ، والحاكم في المستدرك ٣ ص ٧ ، والحزورة : التل أو الربوة الصغيرة.

٢ ـ رواه أحمد في مسنده ٢ ص ٧٤ ، والترمذي في سننه ٥ ص ٧١٩ كتاب المناقب ، باب فضل المدينة ح ٣٩١٧ ، ورواه النسائي في السنن الكبرى ٢ ص ٤٨٨ ، وابن ماجه في سننه ٢ ص ١٠٣٩ كتاب المناسك ، باب فضل المدينة ح ٣١١٢ ، وابن حبان في صحيحه ٩ ص ٥٧ كتاب الإحسان ح ٣٧٤١.

٤٩٧

٩ ـ تمنعون النساء من الوصول إلى المواجهة الشريفة أمام قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والسّلام عليه أسوة بالرجال ، ولو استطعتم لمنعتم النساء من الطواف مع محارمهنّ بالبيت الحرام ، خلافاً لما كان عليه السلف الصالح والمسلمون ، وتحقّرون النساء المؤمنات المحصنات القانتات ، تنهرونهنّ وتحجبونهنّ عن رؤية المسجد والإمام بحواجز كثيفة ، وتنظرون إليهنّ نظرة الشكّ والارتياب. وهذه بدعة شنيعة ؛ لأنّه إحداث ما لم يحدث في زمنه (عليه الصلاة والسّلام) والسلف الصالح ، فقد كان يلي الإمام صفوف الرجال ثمّ الصبيان ثمّ النساء ، يصلّون جميعاً وبلا حواجز خلفه (صلّى الله تعالى عليه وآله).

١٠ ـ أتيتم بالمرتزقة والجهّال من العابسين عند المواجهة الشريفة ، يستدبرون المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله بأقفيتهم وظهورهم ، ويستقبلون زواره المسلمين بوجوه عابسة مكفهرّة تنظر إليهم شزراً ، متّهمة إيّاهم بالشرك والابتداع يكادون أن يبطشوا بهم ، يوبّخون هذا وينتهرون ذاك ، ويضربون يد الثالث ويرفعون أصواتهم زاجرين متجاهلين وناسين قول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ اُولئك الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (١).

كلّ هذا مع الكبر والاستمرار في إهانة أحباب المصطفى وزوّاره المؤمنين في حضرته الشريفة ، وقبالة مضجعه الشريف الذي اعتبره شيخ الحنابلة ابن عقيل

__________________

١ ـ سورة الحجرات : الآية ٢ ـ ٤.

٤٩٨

أفضل بقعة على اليابسة كما نقل ذلك عنه الشيخ ابن القيم في كتابه (بدائع الفوائد) (١).

١١ ـ تمنعون النساء من زيارة البقيع الشريف بلا دليل قطعي مجمع عليه من الشرع ، وتضيّقون على المسلمين في الزيارة إلاّ في أوقات محدودة وقصيرة ، حتّى إنّ بعضهم ينتهز فرصة تشييع الجنائز ليزور البقيع الشريف.

وقد منعتم المزوِّرين في المدينة المنوّرة من مرافقة الزائرين وقطعتم أرزاقهم ، وبدونهم صار الناس يتخبّطون ولا يعرفون أماكن قبور آل البيت الكرام وأُمّهات المؤمنين والصحابة ، وهذا ظلم وتعسّف ، وقهر وبطر لا يرضاه الله تعالى ورسوله الكريم ، فانتهوا هداكم الله تعالى.

١٢ ـ هدمتم معالم قبور الصحابة وأُمّهات المؤمنين وآل البيت الكرام رضي‌الله‌عنهم ، وتركتموها قاعاً صفصفاً ، وشواهدها حجارة مبعثرة ، لا يُعلم ولا يُعرف قبر هذا من هذا ، بل سُكب على بعضها (٢) (البنزين) ، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.

__________________

١ ـ انظر بدائع الفوائد ـ لابن القيم ٣ ص ١٣٥ ـ ١٣٦ وفيه ما نصّه : قال ابن عقيل : سألني سائل : أيّهما أفضل ؛ حجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الكعبة؟

فقلت : إن أردت مجرّد الحجرة فالكعبة أفضل ، وإن أردتَ وهو فيها ، فلا والله ولا العرش وحملته ، ولا جنّة عدن ولا الأفلاك الدائرة ؛ لأنّ بالحُجرة جسداً لو وزن بالكونين لرجح اهـ.

وقال الإمام مالك : إنّ البقعة التي فيها جسد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل من كلّ شيء حتّى الكرسي والعرش ، ثمّ المسجد النبوي ثمّ المسجد الحرام ، ثمّ مكة.

٢ ـ قبر السيّدة آمنة بنت وهب ، أُمّ الحبيب المصطفى نبي هذه الأُمّة صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٤٩٩

فهلاّ أبقيتم وسمحتم بالتحجير وهو مباح ، وارتفاع القبر شبراً وهو مباح مع الشاهدين ، فقد ثبت أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وضع حجراً على قبر عثمان بن مظعون رضي‌الله‌عنه ثمّ قال : «أعَلّمُ بها قبر أخي وأدْفِنُ مَنْ ماتَ من أهلي» (١).

وقال خارجة بن زيد : رأيتني ونحن شبّان في زمن عثمان وأن أشدَّنا وثبةً الذي يثبت قبر عثمان بن مظعون حتّى يُجاوزه (٢).

١٣ ـ أنشأتم مكتب استجواب ومحاكمة وتحقيق في زاوية الحرم النبويّ (القديمة سابقاً) ، وكذلك بجوار البقيع حالياً ، وصرتم تحاكمون فيها مَنْ ترقبونه يتوسّل ، أو يكثر الزيارة ، أو يخشع أو يبكي ، أو يدعو الله تعالى أمام القبر الشريف متوسّلاً به إلى الله تعالى ، حيث توجّهون لهم قائمة من الأسئلة ـ الجاهزة سلفاً ـ عن مشروعية الزيارة والتوسُّل والمولد الشريف ، فمَنْ وجدتّموه مخالفاً لذلك سجنتموه ، وألغيتم إقامته وأبعدتموه من البلاد ، مع أنّ هذه أمور تدور بين الاستحباب والإباحة عند العلماء حتّى عند الحنابلة ، فلا يجوز تكفير المسلم بها ومعاقبته.

وقد حدّثني مَنْ أثق به من السجناء أنّه كانت الأغلال في يديه طيلة فترة

__________________

١ ـ رواه أبو داود في سننه ٣ ص ٥٤٣ كتاب الجنائز ، باب في جمع الموتى في قبر ، والقبر يعلم ح ٣٢٠٦ ، قال الحافظ ابن حجر في (التلخيص الحبير) ٢ ص ١٤١ ، إسناده حسن.

٢ ـ رواه البخاري في صحيحه : (فتح الباري ٣ ص ٢٦٤) في الجنائز ، باب الجريدة على القبر تعليقاً ، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (٣ ص ٢٦٥) : خارجة بن زيد : أي ابن ثابت الأنصاري أحد ثقات التابعين ، وهو أحد السبعة الفقهاء من أهل المدينة ... الخ ، وصله المصنف ـ أي البخاري ـ في التاريخ الصغير من طريق ابن إسحاق : حدّثني يحيى بن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري ، سمعت خارجة بن زيد فذكره ، وفيه جواز تعليقة القبر ورفعه عن وجه الأرض اهـ.

٥٠٠