الحسين (ع) والوهّابيّة

جلال معاش

الحسين (ع) والوهّابيّة

المؤلف:

جلال معاش


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القارئ للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

الفصل الخامس

الإمام الحسين عليه‌السلام في الفكر السلفي

٣٨١
٣٨٢

تحدّثنا عن عداء السلفية لرسول الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبيّنا كيف كان يمنع محمد بن عبد الوهاب من الصلاة على الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وربما يعاقب مَنْ يرفع صوته بها.

وتحدّثنا عن عدائهم للإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وهو ميزان الأعمال ، وميزان ما بين الإيمان والكفر بالعقيدة.

وتحدّثنا عن عدائهم ومحاربتهم لأهل البيت عليهم‌السلام عامّة باعتبارهم ذرّية الحبيب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله وعترته التي اختارها الله ، وأوصى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الأُمّة بها ، وكانت مودّتهم أجر الرسالة الخاتمة.

وبقي علينا فرع كريم من الأصل العظيم ، إنّه الحسين بن علي عليهما‌السلام ومحنته الكبرى في هذه الأُمّة ، ودماؤه الزكية وأبناؤه وإخوته وأصحابه من الشهداء الذين كُتب الإسلام بدمائهم على صفحات الوجود.

فما هو موقف السلفية والوهابيّة من هذا الإمام العظيم ، وشهادته المفجعة على بطاح كربلاء؟

المولى أبو عبد الله الحسين عليه‌السلام الذي قال الله عنه الكثير من آيات القرآن المجيد ، وقال عنه جدّه الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله الكثير الكثير من الأحاديث التي

٣٨٣

تجعل من الإمام عليه‌السلام : «مصباح هدى وسفينة نجاة» (١) و (سيّد شباب أهل الجنّة) (٢) و (ريحانة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وقرّة عين البتول) (٣) و (الإمام إن قام وإن قعد).

وقد تقدّم في القسم الأوّل ـ المناقب والأخلاق الحسينيّة ـ بعض الإشارات التي لاحت لنا من نوره الوضّاء ، واستطعنا أن نستفيد منها لا سيما ما يتعلّق بالأخلاق والقيم الإنسانيّة الإسلاميّة التي مثّلها الإمام عليه‌السلام بشخصه الكريم في حياة المسلمين على أرض الواقع.

وأهل الإنصاف من كلِّ نِحلة ودين ودنيا عندما يقرؤون عن الحسين بن علي عليه‌السلام ، وما جرى عليه من مصائب وأهوال حتّى قُتل شهيداً مظلوماً سعيداً ، راضياً مرضيّاً عند الله ورسوله ، يتأثّرون بتضحياته الجسام ويتّخذونه قدوة وأسوة.

فكم من مسيحي تأثّر بالإمام الحسين عليه‌السلام وكتب عنه الدراسات والمؤلّفات ، كأنطون بارا وسليمان الكتاني ، وغيرهما من علماء النصارى حتّى قال قائلهم : لو أنّ لنا شخصاً كالإمام الحسين عليه‌السلام لصنعنا له تمثالاً من ذهب نضعه في مدخل كلّ قرية.

وقال آخر : بل لوضعناه في كلّ بيت ولدعونا الناس إلى المسيحيّة باسم

__________________

١ ـ موسوعة البحار ٣٦ ص ٢٥ ح٨.

٢ ـ سنن الترمذي ٥ ص ٦٥٦ ح٣٧٦٨ ، باب مناقب الحسن والحسين عليهما‌السلام.

٣ ـ كنز العمال ١٢ ص ١١٣ ح٣٤٢٥١ ، ينابيع المودة ص ١٩٣ ، الفصول المهمة ص ١٥٢.

٣٨٤

الحسين عليه‌السلام المظلوم (١).

وكم من الثوار استفاد من سيرة وسنّة الإمام عليه‌السلام في تحرير بلدانهم ، ألم يقل المهاتما غاندي محرّر الهند من الاستعمار البريطاني : (تعلّمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر)؟!

وأمّا علماء الإسلام من مختلف المذاهب فإنّ حصر الكتب التي كتبوها عن الإمام السبط الشهيد متعذّر وليس بالمقدور ؛ ذلك لأنّ ما لم يطبع أكثر من المطبوع ، والمجهول منها أكثر من المعلوم ، ورغم كلّ ذلك فإنّ المكتبات تضجّ بالكتب عن سيد الشهداء وأبي الأحرار الحسين بن علي عليه‌السلام.

رغم ذلك كلّه ورغم كلّ الآيات التي شملت الإمام عليه‌السلام ، والأحاديث التي رويت في الإمام الشهيد ، وأقوال العلماء من كلّ الأديان والأمم وبكلّ لسان ، رغم ذلك كلّه فعند السلفية : أنّه قُتل بسيف جدّه!

نعم ، إنّها فتوى قاضي القضاة لعشرات السنوات ، إنّه شريح القاضي هو الذي أطلق تلك الفتوى ليُرضي سيّده يزيد (لعنة الله عليه) ، ويُغضب الربّ الجليل وسيّد الخلق صلى‌الله‌عليه‌وآله حين قال : إنّ الحسين قُتل بسيف جدّه.

وكذلك ذهب القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي في كتابه (العواصم من القواصم) إلى أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام قُتل بسيف جدّه وشريعته (٢). وكم طبع هذا الكتاب ووزّع في الأسواق بالمجان وبلا أثمان ؛ لما فيه من التعصّب المقيت

__________________

١ ـ انظر الحسين في الكفر المسيحي ص ٢٤.

٢ ـ راجع : العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ص ٢٢٩ ، طباعة السلفية ، القاهرة ١٣٧١ هـ.

٣٨٥

والتهجّم على أهل البيت عليهم‌السلام وأتباعهم بلا ذنب ولا سبب.

وذلك ـ على ما يدّعي ـ لأنّ الإمام الحسين عليه‌السلام خرج على الخليفة الحاكم ، وهو لا يستحق الخلافة ، وليس للإمامة أهلاً ـ والعياذ بالله ـ ، فثار على يزيد وسلطانه فقتله ؛ لأنّه أراد الفتنة بالأُمّة ، وهذا حكمه القتل والتنكيل. فبالحكم الشرعي الذي ينصّ على وجوب قتل الخارج على الخليفة قُتل الإمام السبط الشهيد عليه‌السلام ، ويزيد لم يفعل إلاّ واجبه بقتل الإمام الحسين عليه‌السلام وأصحابه!

ولن نطيل الكلام في هذا المقام ، بل سأنقل لك أيّها القارئ الكريم فقرات وكلمات من شيخ الإسلام السلفي ابن تيمية ، رأس الجماعة وعالمهم ، وآراءه في النهضة الحسينيّة المباركة ، ورموز أعدائها يزيد وجيشه ؛ لتعلم مدى تعلّق هؤلاء الناس بالدين الإسلامي الحنيف ورموزه المقدّسة.

فما عساه يقول ابن تيمية في النهضة وقائدها العظيم سيد شباب أهل الجنة عليه‌السلام؟

بادئ ذي بدء نتذكّر كلمات الإمام الحسين عليه‌السلام التي يعرب فيها عن فلسفته في المسألة وأسبابها ودوافعها وما الذي يريده منها.

قال المولى أبو عبد الله الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) في البيان الأوّل للنهضة أمام والي المدينة ووزيره مروان بن الحكم ، حين أمر الوليد أن يضرب عنق الإمام إن لم يبايع :

«أيّها الأمير ، إنّا أهلُ بيت النبوّة ، ومعدنُ الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومحلُّ الرّحمة ، بنا فتح الله وبنا يختمُ ، ويزيدُ رجلٌ فاسقٌ ، شاربُ الخمور ، وقاتلُ النّفس

٣٨٦

المحرّمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يُبايع مثله ، ولكن نُصبح وتُصبحون ، وننظرُ وتنظرون أيُّنا أحقُّ بالخلافة والبيعة» (١).

هذا هو البيان النهضوي الأوّل وفيه : رفض البيعة لمثل يزيد الفاسق الفاجر.

والإمام السبط الشهيد عندما أراد الخروج من المدينة قاصداً مكة المكرّمة في أيّام الحجّ ، كتب وصيته لأخيه محمد بن الحنفية ، ويا لها من وصية نورانيّة رائعة يقول فيها عليه‌السلام : «وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ، ولا مُفسداً ولا ظالماً ، وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي ، أُريدُ أن آمر بالمعروف ، وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب ، فمَنْ قبلني بقبول الحقِّ فالله أولى بالحقّ ، ومَنْ ردَّ عليّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين» (٢).

فالإمام الحسين عليه‌السلام خرج على يزيد ليس لأنّه حاكم الدولة الإسلاميّة ، لا بل لأنّه فاسق فاجر ، ولا يمكن أن يكون مثلُه حاكماً للمسلمين ؛ لأنّه بعيد كلّ البعد عن الإسلام وعن أخلاقيّاته وعقائده السمحة.

ولم يخرج نزهة بسبب الترف والرفاهيّة ، ولا طمعاً في الحكم والرئاسة ، بل كان الهدف سامياً ، والغاية نبيلة ، والمطلوب عمل دؤوب ودماء زاكيات تسيل ، وأجساد طاهرة تُقطّع ، وستور وخدور تُنتهك.

__________________

١ ـ مقتل الحسين ـ للمقرّم ص ١٣١ ، مثير الأحزان ص ٢٤ ، مقتل الحسين ـ للخوارزمي ١ ص ١٨٤ ، الفتوح ٥ ص ١٤.

٢ ـ مقتل الحسين ـ للمقرّم ص ١٣٩ ، العوالم ص ٥٤ ، مقتل الخوارزمي ١ ص ١٨٨ ، المناقب ٤ ص ٨٩ ، الفتوح ٥ ص ٢٣.

٣٨٧

وذلك كلّه لطلب الإصلاح لهذه الأُمّة التي عدلت بها بنو أُميّة عن جادة الصّواب إلى السبل الشيطانيّة المختلفة ، وكان التدهور قد وصل إلى أن تسنّم كرسي القيادة العليا مثل يزيد الخارج عن الإسلام ، بل هو إلى دين أُمّه أقرب وإلى طباعهم أنسب.

فأُمّة الحبيب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله غدت مهدَّدة بالاضمحلال ، وديانته أصبحت مهدَّدة بالانحلال إذا لم يخرج الحسين مُعلناً الرفض لهذا الحاكم العنيد والطاغية يزيد الذي زاد على كلّ الأعمال الخبيثة التي قام بها أبوه وجدّه من قبل في محاربة الإسلام ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولكنّ المصيبة عند السلفية والوهابيّة تكمن هنا بالضبط ، وبالذّات قول الإمام عليه‌السلام : «وأسيرَ بسيرةِ جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب» ؛ لأنّهم لا يريدون لسيرة وسنّة علي بن أبي طالب عليه‌السلام أن تكون هي السائدة ، ولا لكلمته أن تكون هي العليا في الحياة الإسلاميّة ، مع أنّ ذلك لأجل الحقّ تعالى ، وهل بعد الحقّ إلاّ الضلال المبين!

وكثيراً ما خطب الإمام الحسين عليه‌السلام خلال مسيرته المظفَّرة ووعظ الناس ، ونبّه الأُمّة إلى المخاطر المحدقة بها من حكومة يزيد ، وها هي بعض الكلمات التي قالها الإمام الحسين عليه‌السلام أمام جيش يزيد ؛ ليعتذر إلى الله بقيام الحجّة عليهم :

«أيُّها الناس ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : مَنْ رأى سُلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ، ناكثاً بعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يعملُ في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يغيّر ما عليه بفعلٍ ولا قولٍ كان حقّاً على الله أن يُدخله مدخله ، ألا وإنّ هؤلاء (بنو أُميّة وأزلامهم) قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ،

٣٨٨

وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلُّوا حرام الله وحرّموا حلاله ، وأنا أحقُّ مَنْ غيّر ...»(١).

تنبّه لخطاب المولى أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام ؛ فإنّه ينادي الناس ، أيّ الذين يتّصفون بالإنسانيّة ، وأمّا مَنْ تبلّد قلبه وتجلّد عقله فإنّ هذا النداء لا يخصّه ، كاُولئك الخوارج عن الإنسانيّة.

والإمام الحفيد يحدّث عن جدّه الرسول (صلوات الله عليهما وآلهما) مباشرة ودون وسائط كأبي هريرة الدوسي ، أو كعب الأحبار اليهودي ، أو غيره من المدلّسين ، أو الذين وقع عليهم الجرح والتعديل في علم الرجال ، بل سيّد شباب أهل الجنّة يروي عن سيّد البشر وخاتم الأنبياء عليهم‌السلام هذه الرواية والتي تضعنا أمام شمس الحقيقة.

إنّ تحكّم سلطان جائر وجب على كلّ حرٍّ أن يكون ثائراً ؛ إمّا باليد والسيف ، أو الكلمة والقلم ، ولا مجال لأضعف الإيمان (بالقلب) إذا كانت بيضة الإسلام وشريعته مهدّدة بالانحراف والضياع.

وهذا بالضبط كان حال الأُمّة الإسلاميّة حين وصل بها السقوط والتسافل ؛ ليتسنم الحكم والقيادة السياسية شخص فاسد فاسق منافق كيزيد بن معاوية بن أبي سفيان ، ويسلّط زبانيته ورجاله الساقطين على هذه الأُمّة ويستهلكون مقدّراتها.

ولذا فقد وجب النهوض للإصلاح ، وحرم السكوت والخنوع ؛ لأنّ الأُمّة

__________________

١ ـ الكامل في التاريخ ٤ ص ٤٨.

٣٨٩

والملّة يتهدّدها طغيان يزيد وجلاوزته من صبيان أُميّة اللعناء على لسان الوحي وسيّد الأنبياء والرسل (صلوات الله عليهم أجمعين وآله الطاهرين).

فمَنْ ينهض بهذا الواجب إلاّ المؤمن التقيّ؟ ومَنْ يخنع للفاسق إلاّ الفاسق أو الجبان الشقيّ؟ ولكن قد تسأل ماذا فعل صبيان أُميّة وزعيمهم يزيد؟

الجواب يأتيك من بطل التوحيد الإمام الحسين الشهيد (سلام الله عليه) في الخطاب نفسه ، فقد كان من أفعال هؤلاء ما يلي :

١ ـ التزام طاعة الشيطان ، وقد أمروا أن يكفروا به (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) (١).

٢ ـ ترك طاعة الرحمان : (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (٢).

٣ ـ إظهار الفساد ، فالزعيم شاربٌ للخمر ، لاعبٌ بالقرد والنرد ، معلنٌ بالفسق.

٤ ـ تعطيل الحدود ، كيف يقيمونها وهم جهلاء بها ، بل وهم أوّل المستحقين لإقامتها عليهم؟!

٥ ـ الاستئثار بالفيء ، فقد استهلكوا اقتصاد الأُمّة الذي فيه حياتها ورفاهها.

٦ ـ أحلّوا حرام الله ؛ كالخمر ، والزنى ، والقتل ... وغيرها.

٧ ـ حرّموا حلال الله.

ألا تكفي هذه البنود السبعة لمعرفة أحوال الجماعة في الديانة والتدين؟

__________________

١ ـ سورة فاطر : الآية ٦.

٢ ـ سورة الأنبياء : الآية ٩٢.

٣٩٠

بلى والله ، إنّها لتكفي واحدة منها لتخرجهم من حظيرة الدين الحنيف وتعيدهم إلى حظائر أجدادهم وما كانوا يعبدونَ ، كاللاّت والعزّى ومناة الثالثة الأُخرى التي ما انفك يقسم بها أبو سفيان حتّى آخر أيّام حياته المشحونة بالحقد والحرب لله ولرسوله وللمؤمنين.

ورغم ذلك فقد صار عند هؤلاء من المسلمين الذين حسن إسلامهم ، بل ومن المؤمنين الكبار ؛ لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال يوم فتح مكة : «مَنْ دخل دار أبي سفيان فهو آمن» ، فلم يميّزوا بين الأمن على نفسه من القتل والمؤمن.

تأمّل في كلام الإمام الحسين عليه‌السلام حيث قال في أواخر حياته : «ألا وإنّ الدعيَّ ابن الدَّعي قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ؛ يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنين» (١).

فالقوم خيّروه بين السيف والقتل ، أو الذلّ والمهانة!

ولكن هيهات ؛ إنّه ابن أبيه علي بن أبي طالب عليه‌السلام الذي قال : (لو اجتمعت العرب على قتالي لما وليت) ، وربما لو اجتمعت الإنس والجنّ على قتاله أو قتال ولده عليهما‌السلام لما هربا من ساحة المعركة ؛ لأنّ الهارب ذليل وحاشاهم من الذلّ.

لماذا هذا الإباء إذن؟

١ ـ الله يأبى لهم ذلك.

٢ ـ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يأبى لهم ذلك.

__________________

١ ـ موسوعة البحار ٤٥ ص ١٠ ، تاريخ ابن عساكر ، ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام ص ٢١٦ ، مقتل الحسين ـ للخوارزمي ٢ ص ٦.

٣٩١

٣ ـ المؤمنون بالله ورسوله يأبون الذلّ لمولاهم وإمامهم.

٤ ـ حجور طابت وطهرت ، وهي فاطمة الزهراء عليها‌السلام وأُمّها خديجة ، وغيرهنّ من الطاهرات.

٥ ـ وأنوف أبيّة ، فالإمام عليه‌السلام سيّد أُباة الضيم والأحرار في هذه الدنيا.

كلّ ذلك لماذا؟ من أجل أن لا نؤثر طاعة الشيطان على عبادة الرحمان ، فنترك يزيد وجلاوزته يعيثون في الأرض فساداً وفي الأُمّة إفساداً.

فأطلقها مدويّة منذ ذاك اليوم الدامي : «لا والله ، لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذلِّيل ، ولا أفرُّ فِرار العَبيد» ، أو «ولا أقرّ لكم إقرار العبيد» (١).

النهضة الحسينيّة عند ابن تيمية

هذا بعض ما قاله الإمام الحسين عليه‌السلام ، وتلك هي فلسفته لشرح أسباب نهضته المباركة.

ولكن كيف قرأ السلفيون والوهابيون هذه النهضة العظيمة؟ تلك هي المسألة ، وهذا ما نستوضحه في هذه الصفحات نقلاً عن عميدهم وسيّدهم ابن تيمية وليس غيره.

يقول عن شهادة الإمام عليه‌السلام في جملة غاية في الصدق واللطافة : بل تمكّن اُولئك الظَّلمة الطغاة من سبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى قتلوه مظلوماً شهيداً (٢).

ولكن إذا سألته بعد هذه الجملة التي يعترف بها أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام هو

__________________

١ ـ إرشاد المفيد ص ٢٣٥.

٢ ـ منهاج السنة النبوية ٢ ص ٢٤١.

٣٩٢

سبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّه قُتل مظلوماً ليس ظالماً ، وأنّ قتلته هم طغاة ظالمون ، إذا سألته مَنْ القاتل الظالم ، أليس الطاغية يزيد بن معاوية الذي أمر بقتل الإمام ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة؟!

يقول : لا ، يزيد بريء من دم الحسين ؛ لأنّه أمير المؤمنين! وحاكم سياسي أعلى للدولة ، ولذا فإن خروج الحسين على يزيد رأي فاسد ؛ لأنّ مفسدته أعظم من مصلحته ، وقلَّ مَنْ خرج على إمام ذي سلطان إلاّ كان ما تولّد على فعله من الشرّ أعظم ممّا تولّد من الخير (١).

وتتعجّب كيف يكون خروج الإمام الحسين عليه‌السلام لا مصلحة ولا خير فيه؟!

وكيف يمكن لإنسان مسلم أن يقول أنّ رأي الإمام الحسين عليه‌السلام فاسد ، وأنّ عمله فيه مفسدة للأُمّة الإسلاميّة ، وهو الذي خرج لطلب الإصلاح في أُمّة جدّه؟!

اسمعه يقول : ولم يكن في خروجه مصلحة لا في دين ولا في دنيا ، وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يكن يحصل لو قعد في بلده (٢).

هل يمكن لعاقل أن يتكلّم بهذا ، سبحانك هذا بهتان عظيم؟! إذ أنّه كيف لم يرَ هذا الرجل وأتباعه المصلحة المتوخّاة من نهضة الإمام عليه‌السلام؟ وينفيها من الدنيا والآخرة ، كيف ذلك؟ ومن أين له العلم بأحوال الآخرة؟!

ويقول ما هو أدهى وأعظم من ذلك : إنّ ما قصده الحسين من تحصيل الخير

__________________

١ ـ المصدر السابق.

٢ ـ المصدر السابق.

٣٩٣

ودفع الشرّ لم يحصل منه شيء ، بل زاد الشرّ بخروجه وقتله ، ونقص الخير بذلك وصار سبباً لشرّ عظيم (١).

لماذا صار الإمام الحسين عليه‌السلام سبباً لشرّ عظيم يابن تيمية المبجّل؟!

يقول : لأنّ خروجه ممّا أوجب الفتن (٢).

ويعني بالفتن التي كان الإمام الحسين عليه‌السلام سبباً فيها : الثورات المتتالية على بني أُميّة إلى أن أسقطتهم ، ورمت بأسطورة معاوية إلى مزابل ونفايات التاريخ ، من ثورة المدينة المنوّرة إلى حركة ابن الزبير في مكة المكرّمة مروراً بثورة التوابين ، وثورة زيد بن علي بن الحسين عليه‌السلام ، ونهضات تلو نهضات وثورات تعقبها ثورات حتّى أطاح العباسيون ببني أُميّة ودفعوها إلى أرذل ما يمكن.

وهذا ما لا يتمنّاه الجماعة السلفية وشيخهم ابن تيمية الذي كان يريد أن يطول الظلم الأموي ، وتدوم الجولة الأمويّة إلى آخر الدهر.

وهذا ما صرّح به مؤسس دولتهم معاوية بن أبي سفيان حين قال للمغيرة بن شعبة نديمة : لا والله ، إلاّ دفناً دفناً. ويقصد الدفن لذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي يعلن عنه بالأذان خمس مرّات.

ألا تعجب عزيزي القارئ أن يرى الهندوسي مصلحةً بخروج الإمام الحسين عليه‌السلام ويتعلّم منه ، والمسيحي يرى كلّ الخير بنهضة الإمام الحسين عليه‌السلام ويتمنّى أن يكون لديهم مثل هذا العظيم ؛ ليصنعوا له تماثيل من ذهب ، ويدعون

__________________

١ ـ المصدر السابق :ج٢ ص ٢٤٢.

٢ ـ المصدر السابق.

٣٩٤

الناس إلى المسيحية باسمه ، وقبل هؤلاء جميعاً الله سبحانه وتعالى يقرّر أنّ كلّ المصلحة والخير بنهضة المولى أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام ويأمره بالخروج على يزيد.

ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يرى كلّ المصلحة والخير بخروج حفيده الإمام السبط الشهيد فيأمره بالخروج إلى الشهادة ؛ لأنّ له مكانة عند الله لا ينالها إلاّ بالشهادة ، وأنّ دين الإسلام لن يستمر ويستقيم إلاّ بشهادة سيّد شباب أهل الجنّة.

وأبو الأحرار الحسين عليه‌السلام وكلّ مَنْ معه من آل البيت عليهم‌السلام وأصحابه الكرام يرون الخير والمصلحة بالنهضة ، ويأتي ابن تيمية بعد ذلك ليكتشف الحقيقة ويعلنها مدوّيةً على الملأ وكأنّه اكتشف كنزاً من العلم أنّ الإمام عليه‌السلام صار سبباً لشرٍّ عظيم. لماذا؟!

لأنّ خروجه أوجب الفتن (١)!

هل تتصوّر هذا من إنسان يدّعي الانتماء إلى الإسلام والإنسانيّة؟!

ويحتجّ على سبط الرسول وعلينا ببعض تلك الآراء الفاسدة ، أو الغير ناضجة ممّن نصح الإمام السبط بعدم الخروج على يزيد ، يقول : لذا أشار عليه بعضهم أن لا يخرج ، وهم بذلك قاصدون نصيحته ، طالبون لمصلحته ومصلحة المسلمين! والله ورسوله إنّما يأمر بالصلاح لا بالفساد (٢)!

__________________

١ ـ منهاج السنة النبوية ٢ ص ٢٤٢.

٢ ـ المصدر نفسه ٢ ص ٢٤١.

٣٩٥

ولكن الإمام عليه‌السلام لم يخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً ، وإنّما خرج لطلب الإصلاح في أُمّة جدّه ، وليسير بسيرة جدّه وأبيه أمير المؤمنين ، والله ورسوله قطعاً مع الحسين عليه‌السلام ونهضته ، وليس مع يزيد وطغيانه وفساده وتهتّكه.

ولكن دعه مع إمامه يزيد ، ودعنا وإمامنا الحسين عليه‌السلام ، خير لبني الإنسان ألف مرة أن يكون فيهم خُلقٌ كخُلق الحسين الذي أغضب يزيد بن معاوية ، من أن يكون جميع بني الإنسان على ذلك الخُلق الذي يرضى به يزيد (١).

إنّه كلام حقّ لا يرضى به ابن تيمية وأمثاله من السلفيّة والوهابيّة الذين يرون ويعتقدون بإمامة يزيد الدينيّة والدنيويّة ، ويطالبون السبط الشهيد عليه‌السلام بالبيعة والاعتذار عمّا بدر منه في نهضته ؛ لأنّه أوجب الفتن على إمامهم يزيد.

وأعجب شيء أن يُطلب الحسين بن علي أن يبايع مثل هذا الرجل ، ويزكّيه أمام المسلمين ، ويشهد له عندهم أنّه نِعمَ الخليفة المأمول ، صاحب الحقّ في الخلافة ، وصاحب القدرة عليها!

ولا مناص للحسين من خصلتين : هذه البيعة ، أو الخروج ؛ لأنّهم لن يتركوه بمعزل عن الأمر لا له ولا عليه.

إنَّ بعض المؤرّخين من المستشرقين وضعاف الفهم من الشرقيين ، ينسون هذه الحقيقة ولا يولونها نصيباً من الرجحان في كفّ الميزان.

وكان خليقاً بهؤلاء أن يذكروا أنّ مسألة العقيدة الدينية في نفس الحسين بن

__________________

١ ـ أبو الشهداء الحسين بن علي ص ١٠٨.

٣٩٦

علي لم تكن مسألة مزاج أو مساومة ، وأنّه كان رجلاً يؤمن أقوى الإيمان بأحكام الإسلام ، ويعتقد أشدّ الاعتقاد أنّ تعطيل حدود الدين هو أكبر بلاء يحيق به وبأهله وبالأُمّة قاطبةً في حاضرها ومصيرها ؛ لأنّه مسلم ولأنّه سبط محمد ، فمَنْ كان إسلامه هداية نفس ، فالإسلام عند الحسين هداية في نفس وشرف بيت (١).

ولكنّ السلفية لا ترى الإسلام هداية نفس ، ولا يعتقدون بشرف البيت النبوي ؛ لأنّهم يحاربون أهله لا سيما ذرية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

يزيد عند ابن تيميّة

ولابن تيميّة فلسفة خاصّة بالنسبة لأميره يزيد بن معاوية ؛ فإنّه المدافع العنيد عن سيّده يزيد ، ولا شيء يريد من وراء ذلك إلاّ محاربة أهل البيت عليهم‌السلام وشيعتهم ؛ لأنّ يزيد إمام ذو سلطان ، وابن تيمية يعتقد بإمامة كلّ مَنْ ركب كرسي السلطنة والإمارة.

ومن المعروف أنّ يزيد متهتّك فاجر على المستوى الشخصي قبل أن يتسلّط على هذه الأُمّة بسلطان والده معاوية الذي اعتبر المدافعون عنه أنّ يزيد أحد أهم مخازيه الموبقة ، مقرونة بحربه لأمير المؤمنين علي عليه‌السلام وقتله لحجر بن عدي وأصحابه الشهداء.

فيزيد أُمّه ميسون الكلبيّة النصرانيّة التي لم تتحدّث كتب التاريخ أنّها أسلمت ، بل تحدّث التاريخ على تربية ولدها يزيد على أخلاقها وعادات أهلها

__________________

١ ـ أبو الشهداء الحسين بن علي ص ١١٥.

٣٩٧

من الشرك والكفر وكلّ ما يخرج الإنسان من الدين الإسلامي ، كشرب الخمور ، وركوب الفواحش كلّها ، لا سيما الزنا حتّى بالمحرّمات ، وضرب الطنبور واللعب بالقرود والفهود ... وغير ذلك من الرزايا التي تربّى عليها يزيد بين أخواله النصارى.

هذا الذي قاله عنه عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة عندما خرج من عنده بوفد رسمّي من أهل المدينة المنوّرة : (والله ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أن نُرمى بالحجارة من السماء ؛ إنّه رجل ينكح أُمّهات الأولاد ، والبنات والأخوات ، ويشرب الخمر ، ويدع الصلاة) (١).

كانت إمارة يزيد أقل من أربع سنوات ارتكب خلالها من الكوارث الفاجعة التي ما زالت الدّنيا تتحدّث عنها.

فعل هتلر واحدة فقط باليهود وكما يقولون كذباً وافتراء ، وذلك بما يسمّى الهولوكوست (أيّ المحرقة) حيث ادّعوا أنّه أحرق اليهود في ألمانيا ؛ لأنّهم العنصر الخبيث في أيّ مجتمع نزلوه ، فأقاموا الدنيا ولم يقعدوها وما زالوا يتحدّثون بها في كلّ المحافل الدوليّة ، ووسائل الاتصالات العالميّة ، مظهرين بشاعة أعمال هتلر الذي أصبح لعنة التاريخ المعاصر.

ولكنّ يزيد فعل أكثر من ذلك بكثير بحيث لا يُقاس عمل أيّ مجرم بأعماله مهما بلغت من الهمجية ، ومنها :

١ ـ في السنة الأولى : قتل الحسين بن علي عليه‌السلام وذريّة الرسول الأعظم

__________________

١ ـ تاريخ الخلفاء : ١٦٥.

٣٩٨

محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهل فعل بنو إسرائيل بأنبيائهم عليهم‌السلام كهذا الفعل؟!

٢ ـ في السنة الثانية : قتل أهل المدينة واستباحها ثلاثة أيام لجيشه ففعلوا الأفاعيل ، فهل فعلت النازيّة بستالينغراد كهذا؟!

٣ ـ في السنة الثالثة : أحرق الكعبة المشرّفة بعد أن رماها بالمنجنيق ، فهل فعل نيرون الذي أحرق روما أبشع من فعلة الحجّاج؟!

٤ ـ وفي السنة الرابعة : قيل أنّه تزوّج عمّته ـ والعياذ بالله ـ ، وهذا لا يفعله الأوادم ولا حتّى الحيوانات ، إلاّ الخنازير وأشباهها من البشر.

هذا الذي فعل كلّ ذلك ما شأنه ، وما مكانه عند السلفية وشيخها ابن تيمية؟!

نعم ، إنّه معذور في أعماله كلّها وذلك لسببين :

١ ـ لأنّه إمام ذو سلطان ويحقّ له أن يفعل ما يشاء في سلطانه.

٢ ـ لأنّه متأوّل ، فإذا أحسن فله أجران ، وإذا أخطأ فله أجر واحد ، فهو مأجور على كلّ حال ، فإذا قتل الحسين عليه‌السلام بتأوّله فإنّه يُخطئ إذا كان مخطئاً وله أجر اجتهاده عند الشيخ ابن تيمية!

يقول الشيخ بتأويل يزيد : (وأمّا أهل التأويل المحض فاُولئك مجتهدون مخطئون ، خطؤهم مغفورٌ لهم ، وهم مثابون على ما أحسنوا فيه من حسن قصدهم واجتهادهم في طلب الحقّ واتّباعه) (١).

هذا الكلام يقوله ابن تيمية في الجدال عن يزيد ، وتبريراً لأخطائه ؛ فمن

__________________

١ ـ رأس الحسين : ص٢٠٤.

٣٩٩

المناسب جدّاً أن يدعمه باتّفاق العلماء على أنّهم لا يكفّرون أهل القبلة بمجرّد الذنوب ولا بمجرّد التأويل ، (فلماذا تكفّر السلفية الأُمّة كلّها إذن) وأنّ الشخص الواحد إذا كانت له حسنات وسيئات فأمره إلى الله تعالى (١)!

ويزيد من أين له هذه الحسنات أيّها الشيخ؟!

قلَّب الشيخ أوراق التاريخ فلم يجد إلاّ ما تقدّم من يزيد : تاركاً للصلاة ، ملازماً للخمور ، ولا تفارقه الأغاني والغانيات ، ملاعباً للكلاب والقرود والفهود ، لا علاقة له بالدين ، وجلّ علاقته من هذه الدنيا نيل كلّ ما استطاع من الشهوات واللذائذ المحرّمة بلا رادعٍ من دين ولا وازعٍ من ضمير.

وهذا ما لا يرضاه الشيخ في إمامه ، فغاص في التاريخ إلى قعره فوجد ما يتمسّك به وهو : وكان له موقف في القسطنطينية ـ وهو أوّل جيش غزاها ـ ما يعدّ من الحسنات (٢).

وا ويلاه! أيّ حسنة تلك التي وجدتها أيّها الشيخ في ذهاب إمامك يزيد مع الجيش الذي توجّه إلى القسطنطينية ، أيّة حسنة ليزيد في ذلك يا عقلاء المسلمين؟!

وربما تزداد عجباً من جعل هذا الفعل حسنة ليزيد إذا علمت يا عزيزي الكريم كيف شارك يزيد في ذلك الجيش ، خذها من المؤرّخين!

قال ابن الأثير في أحداث سنة ٤٩ هجرية : (في هذه السنة وقيل سنة خمسين

__________________

١ ـ المصدر نفسه : ص٢٠٦.

٢ ـ المصدر نفسه : ص٢٠٧.

٤٠٠