الحسين (ع) والوهّابيّة

جلال معاش

الحسين (ع) والوهّابيّة

المؤلف:

جلال معاش


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القارئ للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

المرحومة ، كما في قوله تعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (١).

وقوله تعالى : (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي) (٢).

فالعبادة كما يقول أهل العربية : هي غاية الخضوع والخشوع والتذلّل والسجود ، ووضع المكارم على الأرض أمام المخضوع له ، وهذا لا يجوز إلاّ لله وحده ؛ ولذا فإنّك ترى المسلمين والمؤمنين عندما يذهب أحدهم إلى زيارة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو أولياء الله ويصلّون صلوات الزيارة فتراهم يقولون في عقبها : (اللّهمّ إنّي صليتُ وركعتُ ، وسجدتُ لك وحدك لا شريك لكَ ؛ لأنّ الصلاة والركوع والسجود لا تكون إلاّ لك لأنّك أنت الله لا إله إلاّ أنت. اللّهمّ صلّ على محمد وآل محمد وأبلغهم عنّي أفضل السّلام والتحية واردُد عليّ منهم السّلام. اللّهمّ (وهذه الصلاة) هديةٌ منّي إلى مولاي (وتسمّي المزور). اللّهمّ صلّ على محمد وآله وتقبّل منّي وأجُرني على ذلك بأفضل أملي ورجائي فيك وفي وليك يا وليّ المؤمنين) (٣).

__________________

١ ـ سورة الزمر : الآية ٦٥ ـ ٦٦.

٢ ـ سورة الزمر : الآية ١٤.

٣ ـ مفاتيح الجنان ص ٥٠٣.

٣٤١

وربما تقول : وَأجُرني عليهما شفاعته لي يوم القيامة ، أو يوم الورود عليك. وهذا كما تقرأ يا أخي المؤمن ، إقرار اللسان الذي ينبع عن عقد راسخ في الجنان على أنّ العبادة لا تجوز إلاّ لله وحده ؛ لأنّه أهل العبادة ، وصاحب الاستحقاق لها بالأصالة ، وبها يتفرّد دون غيره من الخلق أجمعين.

٣٤٢

الفصل الثالث

حقيقة السجود لغير الله

٣٤٣
٣٤٤

حقيقة سجود الملائكة لآدم عليه‌السلام

إنّ هذا السجود إذا كان بأمر من الله ، يخرج عن حيّز العبادة للمسجود له إلى حيّز عبادة الآمر بالسجود ، كما في قصّة أبينا آدم عليه‌السلام وسجود الملائكة له ، وورود ذلك في عدد من السور القرآنية ، كما في قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (١).

نسأل : هل كان السجود هنا عبادة لآدم عليه‌السلام أم تعظيماً وتفخيماً وتكريماً له؟!

فالآية تدلّ دلالة قطعية وواقعية واضحة على أنّ آدم عليه‌السلام كان مسجوداً له ، وأنّ الملائكة كانوا هم الساجدين ، وأنّ الله اعتبر إبليس مستكبراً وكافراً ؛ لأنّه لم يسجد لآدم ، فهل كان آدم معبوداً إلهاً والملائكة عابدون له والعياذ بالله؟!

لا ، إنّ الآية تدلّ على أنّ آدم عليه‌السلام كان مسجوداً للملائكة ، ولم يحسب سجودهم له شركاً وعبادة لغير الله ، ولم تعدّ الملائكة بذلك العمل مشركة ، ولم يجعلوا بعملهم هذا ندّاً لله وشريكاً في المعبودية ، بل كان عملهم تعظيماً لآدم وتكريماً لشأنه (٢).

__________________

١ ـ سورة البقرة : الآية ٣٤.

٢ ـ التوحيد والشرك في القرآن الكريم ص ٥١.

٣٤٥

وهنا يمكن أن يكون لدينا عدد من الصور لتفسير أو فهم هذا السجود الملائكي المقدّس لآدم عليه‌السلام ، كما يذهب معظم أهل التفسير قديماً وحديثاً :

ـ يمكن أن يتصوّر : أنّ معنى السجود لآدم في هذه الآية هو الخضوع له ، لا السجود بمعناه الحقيقي المتعارف كسجود الصلاة.

ـ ويمكن أن يتصوّر : أنّ المقصود بالسجود لآدم عليه‌السلام ، هو جعله (قبلة) كالكعبة المشرّفة ، لا السجود له سجوداً حقيقياً.

ولكن كلا التصوّرين باطلان بالدليل :

أمّا الأوّل : فلأنّ تفسير السجود في الآية بالخضوع خلاف الظاهر والمتفاهم العربي ؛ إذ المتبادر من هذه الكلمة في اللغة والعرف هو الهيئة السجودية المتعارف عليها لا الخضوع.

وأمّا الثاني : فهو أيضاً باطل ؛ لأنّه تأويل بلا مصدر يرجع إليه ، ولا دليل يدلّ عليه.

هذا مضافاً إلى أنّ آدم عليه‌السلام لو كان قبلة للملائكة لما كان ثمة مجال لاعتراض الشيطان ؛ إذ قال : (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) (١).

لأنّه يلزم أبداً أن تكون القبلة أفضل من الساجد ، ليكون أيّ مجال لاعتراضه ، بل اللازم هو كون المسجود له أفضل من الساجد ، في حين أنّ آدم عليه‌السلام لم يكن أفضل في نظر الشيطان ، وهذا ممّا يدلّ على أنّ السجود كان أمام مسجود له.

__________________

١ ـ سورة الإسراء : الآية ٦١.

٣٤٦

يقول الجصّاص : ومن الناس مَنْ يقول أنّ السجود كان لله ، وآدم بمنزلة القبلة لهم ، وليس هذا بشيء ؛ لأنّه يوجب أن لا يكون في ذلك حظّ من التفضيل والتكرمة ، وظاهر ذلك يقتضي أن يكون آدم عليه‌السلام مفضلاً مكرماً.

ويدلّ أنّ الأمر بالسجود قد كان أراد به الله تكرمة آدم عليه‌السلام وتفضيله ، وقول إبليس فيما حكى الله عنه : (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ) (١).

فأخبر إبليس أنّ امتناعه من السجود لأجل ما كان من تفضيل الله وتكرمته لآدم بأمر إيّاه بالسجود له. ولو كان الأمر بالسجود على أنّه نصب قبلة للساجدين من غير تكرمة له ولا فضيلة ، لما كان لآدم في ذلك حظّ ولا فضيلة يُحسد عليها كالكعبة المنصوبة للقبلة (٢).

وعلى هذا فمفهوم الآية هو : أنّ الملائكة سجدوا لآدم بأمر الله سجوداً واقعيّاً ، وأنّ آدم أصبح مسجوداً للملائكة بأمر الله ، وهنا أظهر الملائكة من أنفسهم غاية الخضوع أمام آدم عليه‌السلام ، ولكنّهم مع ذلك لم يكونوا ليعبدوه (٣).

هل السجود ليوسف عليه‌السلام عبادة؟

إنَّ العودة إلى القرآن الكريم واستعراض الآيات التي تحدّثنا عن سجود آخر ولا عبادة للمسجود له ، تضعنا أمام قصّة نبيّ الله يوسف عليه‌السلام وأبويه وإخوته ،

__________________

١ ـ سورة الإسراء : الآية ٦١ ـ ٦٢.

٢ ـ أحكام القرآن ١ ص ٣٠٢.

٣ ـ التوحيد والشرك في القرآن الكريم ص ٥٢.

٣٤٧

كما تحدّثنا السورة المباركة بقوله تعالى : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً) (١).

ورؤياه التي يتذكّرها هي : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) (٢).

وقد تحقّقت هذه الرؤيا بعد سنوات عجاف طويلة ، بحيث سجد ليوسف أبواه وإخوته جميعاً عندما اجتمع شملهم تحت ظلّه وملكه لمصر ، علماً بأنّ أحد الساجدين هو والده يعقوب عليه‌السلام وهو نبيّ كما لا يخفى عليك أخي العزيز.

ألا ترى أنّ تعبير القرآن واضح وصريح بسجودهم ليوسف عليه‌السلام؟

وعن هذا البيان القرآني يستفاد جليّاً أنّ مجرّد السجود لأحد بما هو مع قطع النظر عن الضمائم والدوافع ليست عبادة ، والسجود كما نعلم هو غاية الخضوع والتذلّل (٣).

إذ أنّه ليس كلّ خضوع بركوع أو سجود أو تذلّل يعتبر عبادة ، ويعتبر فاعلها مشركاً بالله كما يذهب أصحاب الفكر الوهابي ، والقرآن الكريم يؤيِّد ما نذهب إليه ويدحضهم بكلّ قوّة في العديد من الموارد والآيات المباركة.

إنّ الله سبحانه وتعالى ، ورسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله والعترة الطاهرة عليهم‌السلام ، والأولياء والصلحاء والعقلاء يأمرون الولد بالخضوع لوالديه احتراماً

__________________

١ ـ سورة يوسف : الآية ١٠٠.

٢ ـ سورة يوسف : الآية ٤.

٣ ـ التوحيد والشرك ص ٥٣.

٣٤٨

وإجلالاً لهما حتّى ولو كانا كافرين أو مشركين ، ويعبر عن ذلك بخفض الجناح لهما ، وهو كناية عن الخضوع الشديد والتذلّل لهما ، بقوله تعالى : (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) (١).

فهل يا ترى إنّ الله سبحانه عندما أمرنا هذا الأمر بالخضوع والتدلّل للوالدين ، أمرنا بعبادتهما والشرك به والعياذ بالله؟! إنّ مثل هذا التفكير السقيم عجيب غريب فعلاً!

عمر والحجر الأسود

وكذلك أمرنا سبحانه وجميع البشر بالحجّ للبيت العتيق ، والطواف حوله واستلام الحجر الأسود ، والسعي بين الصفا والمروة ، والصعود على عرفات للوقوف على صعيده الطاهر ، ورمي الجمرات في منى ، وغير ذلك من مناسك الحجّ الإسلاميّة التي تنطوي على معاني رفيعة عالية ، ومغازي معنوية سامية ، ونفعل ذلك بأمر من الله وسنّةٍ من رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا عبادة للحجر والمدر والصخور ، وما شابه ذلك من مكوّنات تلك الأماكن المقدّسة الطاهرة.

وهل نشرك بالله في أفعالنا العبادية تلك ، لا سيما ونحن نترك الأهل والمال والبلاد ونقصد البيت العتيق ؛ لنحجّ إلى الله عبادة وطاعة ، وتقرّباً إلى جناب قدسه طمعاً بالمغفرة وزيادة الأجر بالجنّة؟!

والأعجب من هذا وذاك في التفكير السلفي الوهابي اعتصامهم برواية عمر ابن الخطاب الذي يحتجّ بها الشيخ عبد العزيز إمام المسجد النبوي الشريف ،

__________________

١ ـ سورة الإسراء : الآية ٢٤.

٣٤٩

بمحاورة له مع بعض الإخوة الكرام حيث يقول عمر للحجر الأسود بعدما قبّله : (إنّي أعلم أنّك حجر لا تنفع ولا تضرّ ، ولولا أنّي رأيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يقبّلك ما قبّلتك) (١).

ولكن هذا الشيخ ذُهل عن جواب الإمام علي عليه‌السلام لعمر في نفس الموقف حين بيّن له غلط عقيدته ، وأعطاه الصحيح ببيانه الفصيح ، حين قال له : «نعم والله ، إنّه ليضرّ وينفع ؛ لأنّه الحجر الذي وضع فيه ميثاق الخلق عندما جمعهم الله في عالم الذرّ ، وألقمه لهذا الحجر وكان أبيض من الثلج ، وهو من حجار الجنّة ، وسوف يشهد لكلّ مَنْ أتاه واستلمه يوم القيامة» (٢).

والرواية معروفة ومشهورة ، وأقنعت عمر بن الخطاب في حينها ، ولكنّها لم تقنع هؤلاء البشر في هذه العصور ؛ لأنّهم يرون أنّ السجود والركوع ، واستلام الحجر الأسود ، والخضوع والتذلّل هو من الشرك الأكبر الذي يخرج من الملّة ، أو الأصغر الذي يُفَسَّق صاحبُه ويُعذَّر ، وإلاّ فليقتل والعياذ بالله.

فهل يمكن أن يفكّر بمثل هذا التفكير عاقل يا عقلاء الدنيا؟! أين العقل؟! هل هو نائم أو مخدّر تحت تأثير الفضائيات الداعرة أو المخدّرات القاتلة؟ أم أنّه في إجازة طويلة الأمد؟ أم أنّه محكوم عليه بالإعدام قهراً تحت ظلام الدعوات الباطلة؟!

لقد جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليثير لكم دفائن العقول منذ أكثر من ١٤٠٠ عام ، فلماذا حبستم عقولكم في قمقم معظم ، وجلدتم أنفسكم بسياط الجهل القاسية

__________________

١ ـ صحيح البخاري ٢ ص ٥٧٩ كتاب الحجّ ح ١٥٢٠.

٢ ـ التفسير الكبير ـ للفخر الرازي ١٦ ص ٣٢ قريب من هذا المعنى.

٣٥٠

من دعوة ضالّة جاءت بتعاليم بعيدة عن الفطرة؟!

اقرؤوا ما كتب إليه أخوه سليمان بن عبد الوهاب وغيره من العلماء الأعلام الغيارى على دين الإسلام الحنيف ، وسيأتيكم بعض منه في البحوث القادمة بإذن الله.

العبادة عند النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله

وفي الجملة نقول : ليس مطلق الخضوع عبادة ، وإلاّ لكنّا وقعنا جميعاً في الشرك ، ووقع معنا حتّى رؤوس الفكر السلفي ؛ وذلك لأنّهم يخضعون للآباء والأُمّهات ، ويأمرون أولادهم وأزواجهم بالخضوع لهم ، ويتذلّلون للأمراء والكبراء ويخضعون لهم بعض الخضوع. فالتواضع ولين الجانب وسعة الصدر ، وبعض الأخلاقيّات التي تشتمل على بعض الخضوع ليست من العبادة في شيء ، بل هي أخلاقيّات إنسانيّة رائعة لا يمكن أن نتخلّى عنها.

فالاحترام والتقدير ليس عبادة ، وإلاّ فإنّ الله سبحانه أمر المسلمين بعدم رفع الصوت أمام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعدم الجهر له بالقول ، وعدم مناداته من وراء الحجرات ، وعندما كثرت مناجاتهم له صلى‌الله‌عليه‌وآله أمرهم بدفع صدقة قبل المناجاة ، فلم يعمل بهذا الأمر الإلهي إلاّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام كما هو مشهور في السيرة وكتب التفسير كلّها.

وكُتب السنن فيها الكثير من الأحاديث التي تحكي عن تعظيم وتقدير المسلمين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واحترامه احتراماً يبهر كلّ غريب جاء إليهم ، وكانوا يتسابقون إلى أوامره ويطبقونها في كلّ صغيرة وكبيرة ، حتّى أنّهم كانوا يتبرّكون

٣٥١

بفضل وضوئه ، ويتطببون بلمسه أو بشمِّ عرفه (عرقه) ؛ لأنّه أطيب من المسك والعنبر.

يروى أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج إلى البطحاء في وقت الظهيرة فتوضأ وراح يصلّي ، فقام الناس (المسلمون) فجعلوا يأخذون يده فيمسحون بها وجوههم ، والرواي يقول : فأخذت بيده فوضعتها على وجهي ، فإذا هي أبرد من الثلج ، وأطيب رائحة من المسك (١).

هذا فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه الأوائل ، فهل هذا عبادة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من دون الله؟! وفاعله مشرك بالله والعياذ بالله؟! إنّ هذا القول لإفك عظيم!

فالعبادة ـ عزيزي القارئ ـ هي الخضوع والخشوع مع اعتقاد جازم بإلهيّة المخضوع له المعبود ، أو أنّها الخضوع اللفظي أو العملي الناشئ عن الاعتقاد بألوهيّة المخضوع له.

ومن العلماء مَنْ وضع هذا التعريف في قالب آخر حيث قال : إنَّ العبادة هي الخضوع ممّن يرى نفسه غير مستقل في وجوده وفعله أمام مَنْ يكون مستقلاً بنفسه غنيّاً عن غيره.

والعبادة بهذا المعنى هي نداء الله تعالى وسؤاله والخضوع التامّ أمامه ، لاستنزال حاجات الدنيا والآخرة للعبد ؛ لأنّ الله هو الفاعل الحقيقي ،

__________________

١ ـ صحيح البخاري ١ ص ١٨٣ كتاب الصلاة ح ٤٧٩ ، وما يُقارب هذا المعنى راجع الأحاديث رقم : (١٥٨ ـ ١٨٦ ـ ١٨٧ ـ ٣٦٩ ـ ٣٣٤٧ ـ ٣٣٤٨ ـ ٥٣٤٦ ـ ٥٥٢١ ـ ٥٩٩١).

٣٥٢

والمتصرّف المختار ، والمالك الكلّي لأمور الدنيا والآخرة كلّها ، والمتصرّف فيها بالتدبير الحكيم ، ولو دعا العبد أو نادى أيّ موجود آخر في هذه الحياة بهذا الوصف تماماً أو بعضاً ، فالدعاء والنداء عبادة له وشرك بلا كلام أو نزاع في ذلك.

وعلى ذلك ، فلو خضع واحد منّا أمام موجود زاعماً بأنّه مستقل في ذاته أو فعله لصار الخضوع عبادة ، بل لو طلب فعل الله من غيره لكان هذا الطلب نفسه عبادة وشركاً(١).

هذا هو المعنى الحقيقي للعبادة ، وليس كلّ ما يذهب إليه أتباع محمد بن عبد الوهاب من أنّ كلّ خضوع أو خشوع ، أو دعاء أو استغاثة ، أو زيارة هي عبادة لذاك الذي نتوجّه إليه ؛

لأنّ التوجّه إلى أيّ شيء أو أحد دون اعتقادٍ جازمٍ بألوهيةٍ ، أو جزءٍ من ألوهيةٍ في مَنْ نتوجه إليه ، أو أنّه يملك استقلالية ذاتية في تصرّفه ، أو تصريف شؤون أو بعض شؤون هذا الكون الفسيح لا يعتبر عبادة أو شركاً.

__________________

١ ـ التوحيد والشرك في القرآن الكريم ص ٨٨.

٣٥٣
٣٥٤

الفصل الرابع

الرسول الأعظم في الفكر الوهابي

٣٥٥
٣٥٦

كُتب الكثير الكثير عن الرسول الأعظم محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من أُمّته ومن خارج هذه الأُمّة ، منذ أن ظهر إلى الوجود بشخصه المبارك ، ولا سيما بعد أن بدأ دعوته الإسلاميّة الميمونة.

فكان القمّة الإنسانيّة التي لا تُرتقى ، بل ينظر إليها كما النجوم في السماء ، لا بل هو شمس الوجود وقطب دائرتها النوراني.

ولطالما أُعجب به البشر من كلّ صنف ونوع من بني آدم على مختلف الألوان والقوميّات في الدنيا ، ومختلف الأديان والانتماءات العقائديّة كذلك ، حتّى أنّ الكفّار وأهل الشرك اعترفوا بعظمته وعلوّ مكانته على أقرانه ، ولا أقران له كما نعتقد.

ولذا تراهم كلّما كتب كاتب عن الأنبياء والعظماء والمصلحين والأطهار ، ترى اسم النبيّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله يكون على قمّة الهرم كما يقول الكاتب الغربي المشهور (مايكل هارت) في كتابه (المائة الأوائل).

نعم ، لقد بهر العقول وحيّر الألباب بعظمته وعلوّ همّته ، ورسالته التي نعتنق وندين لله بها ، وكم كتب النصارى عن شخصيّة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ معبّرين عن مدى إعجابهم وحبّهم لذاك الرمز الخالد الذي جعله الله للبشرية

٣٥٧

قدوة وأسوة بقوله تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (١).

هذا هو البشير النذير والسراج المنير. هذا هو العلم الشامخ والنور الباهر. هذا هو الرسول العظيم والنبي الكريم هو خاتم الأنبياء ، وسيد البشر من الأوّلين والآخرين الذي أفرده الله سبحانه بالرسالة الخاتمة ، وقال عنه : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (٢).

إنّ المتأمّل في هذه الجملة النورانيّة ، وهذا الوصف الكريم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يرى أنّه تفرّد به دون غيره من الأنبياء والرسل عليهم‌السلام.

فكلّ نبيّ كان يبشّر قومه بالرسول الذي بعده ، وكلّ رسول كان يبشّر بالرسول الذي يليه ، وجميعهم كانوا يبشّرون بالرسول الخاتم المصطفى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمن نوح عليه‌السلام إلى إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، ومنه إلى موسى الكليم عليه‌السلام وعيسى المسيح عليه‌السلام الذي قال مبشّراً : (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) (٣).

فكلّهم كانوا محطّات نورانيّة وأساسيّة في الحركة التكامليّة والمسيرة الرساليّة في بني البشر ، ولكن عندما وصلت إلى المحطّة النهائيّة والرسول الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت قد وصلت إلى القمّة ؛ إذ أنّه ليس بعده نبيّ ولا رسول ، وليس بعد

__________________

١ ـ سورة الممتحنة : الآية ٦.

٢ ـ سورة الفتح : الآية ٢٩.

٣ ـ سورة الصف : الآية ٦.

٣٥٨

رسالته رسالة تنزل من السماء إلى الأرض لتخلّص البشريّة من العذاب والعناء.

فـ (محمد رسول الله) أي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي يستحق أن يُطلق عليه هذا الوصف دون غيره. فمحمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكفى به رسولاً ، وإذا ذكر هو يذهل الإنسان عن كلّ رسول غيره.

أقول : نعم ، إنّ الرسول الحقّ هو محمد دون غيره ، رغم أنّ إخوانه من الرسل السابقين كانوا حقائق موجودة ، ولكن إذا ذُكر العظيم ذُهل عمَّن هم أقلّ منه عظمة.

فكيف تعامل الفكر السلفي والوهابي مع هذا الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! كيف تناولوا ذكره ووصفه ، والصلاة عليه ، وسيرته وسنّته؟!

وكيف بالتالي تعاملوا مع أهله الأطهار الأبرار عليهم‌السلام وذريّته المباركة؟!

تلك هي المعضلة الكبرى ، أن تقرأ ما يقولونه أو يطرحونه حول ذاك الحبيب الإلهي وأهل بيته وخاصّته وذريّته الكرام (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

إنّ أصحاب هذه الدعوة أرادوا أن يصنعوا إسلاماً مشوّهاً على مقاساتهم وأفكارهم ، مستفيدين من الدين وسماحته ، فراحوا (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) (١) ، ويلفِّقون الأحاديث ، ويخترعون الأخبار والروايات الكاذبة ، ويجتزئون ويقطعون المرويّات الصحيحة والمتواترة في هذه الأُمّة المرحومة.

عمدوا إلى الاُصول فشوَّهوها ، وإلى الفروع فحرَّفوها ، وإلى السَّنن

__________________

١ ـ سورة النساء : الآية ٤٦.

٣٥٩

فبتروها ، فكان لديهم مسخ باطل سمّوه ديناً. يتعلّقون بالقشور ويتركون اللباب ، يبهرهم المصباح ولا يسألون عن الكهرباء التي نوّرته ، حتّى إنّ أكابرهم وفي أواخر القرن العشرين أنكروا المسلّمات التي عرفها صبياننا ، ككروية الأرض ودورانها حول نفسها أو حول الشمس.

فهل سمعت بهذا من قبل؟! أو قرأت كهذا في مثل هذا العصر؟

إنّ هذه الأمّة لم تقدّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حقّ قدره ، وأمّا هؤلاء فسأدع الحكم عليهم إليك عزيزي القارئ ، وإليك الكلام وبعض أطرافه فقط.

محمد طارش وليس بسيّد!

سيّدنا رسول الله محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خاتم الأنبياء وسيّد المرسلين.

كم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنا سيّد ولد آدم ولا فخر» (١) كما روته كتب السيرة والسنن؟ ومن البديهي المتعارف أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سيّد البشر من أُمّة ربيعة ومضر ، لا بل من كلّ البشر.

فهو السيّد المطاع ، والقائد المعظّم ، وهذا ما لم يرق لأصحاب الفكر الوهابي السلفي ، فقالوا : لا يجوز إطلاق لفظ السيادة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

لا بل تجرّأ أحد المتأخّرين إلى القول : إنّه يجوز إطلاق لفظ السيادة على أيّ إنسان إلاّ سيّدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بدعوى أنّ هذا يجرّ إلى عبادته من دون الله تعالى.

__________________

١ ـ وسائل الشيعة ٢٥ ص ٢٣ ، بحار الأنوار ٩ ص ٢٩٤.

٣٦٠