الحسين (ع) والوهّابيّة

جلال معاش

الحسين (ع) والوهّابيّة

المؤلف:

جلال معاش


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القارئ للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

الباب الثاني

مواقف الوهابيّة

٣٠١
٣٠٢

تمهيد

هل سمعت عزيزي القارئ عن حديث البدعة الذي روي عن الرسول الخاتم الحبيب المصطفى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

هل قرأت يا أخي الكريم خبر الخوارج من هذه الأُمّة في الأحاديث النبويّة الشريفة ، وأعمال أمير المؤمنين الإمام علي عليه‌السلام قديماً بحقّهم؟

هل خبرت أمر الردّة والمرتدّين كيف ابتدؤوا واستمروا؟ متى وإلى أين سوف ينتهون؟

وبالتالي هل تعلم شيئاً عن أحوال آخر الزمان ، وحوادث نهاية العالم الذي نعيش فيه؟

حديث البدعة :

ألم يأتك حديث البدعة الذي قاله الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله منذ مئات السنين ، يحذّرنا منها ويصفها لنا بدقّة ، ويبيّن أفكارها ، ويخبر عن أصحابها ومكانهم في الدار الآخرة.

لقد روت كتب الحديث أنّه (صلوات الله وسلامه عليه وآله) قال : «إنَّ على كلِّ حقيقة نوراً ، وإنَّ شرّ الأمور محدّثاتها ، وإنَّ كلَّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة

٣٠٣

في النار» (١).

البدعة : هي إحداث شيء ليس من الدين ، وإلصاقه بالدين والتعبّد به ، أو دعوة الناس إلى التعبّد به. وفي الحديث الشريف : «مَنْ سمعَ ناطقاً فقد عبده ؛ فإنْ كانَ الناطقُ مِنْ عندِ اللهِ فقدْ عبد اللهَ ، وإنْ كانَ منْ عندِ الشَّيطان فقد عبد الشَّيطان» (٢).

والحبيب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمّة المسلمين كانوا دائماً يحذّرون الأُمّة من البدع الضالة ، وليس هناك بدع حسنة في الدين كما يقول العلماء ، ويتبرؤون منهم ويطردونهم من مجالسهم ؛ حتّى لا يفتتن الضعفاء من الأُمّة بهم.

وقصّة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله مع ذي الثدية حين دخل المسجد النبوي الشريف فأعجب الصحابة به ، فأمر أبا بكر بأن يأخذ السيف ويضرب عنقه ، ثمّ أمر عمر بذلك بعد أن عاد صاحبه دون أن يفعل بحجّة أنّه كان ساجداً يصلّي ، فعاد عمر بذات الحجّة ، فأخذ السيف أمير المؤمنين علي عليه‌السلام فقال له صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اضرب عنقه إن وجدته».

فذهب إليه الأمير عليه‌السلام فلم يجده ؛ لأنّه خرج من الباب الآخر للمسجد ، وكان هذا فيما بعد من رؤوس الخوارج ، وقُتل في النهروان مع مَنْ قُتل منهم يومذاك ، وبحث عنه أمير المؤمنين عليه‌السلام مع أصحابه ولمّا وجدوه كبّروا (٣).

وكان ذلك بمثابة معجزة للحبيب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّه أخبر عنه قبل أكثر

__________________

١ ـ مستدرك الوسائل ١٢ ص ٣٢٤ ، كشف الغمة ٢ ص ١٣٤.

٢ ـ وسائل الشيعة ١٧ ص ٣١٧.

٣ ـ انظر الإرشاد ص ١٥٠ ـ ١٥٢.

٣٠٤

من ثلاثين سنة وأعطى أوصافه بدقة.

إذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبر الأُمّة عن البدعة وحذّر منها أُمّته ، وإذا كان الصحابة الكرام يتوقّون أن يُقال لأحدهم أنّه أبدع في الدين ، رغم كلّ الذي عملوه وفعلوه من تغيير وتبديل تحت اسم الاجتهاد ، فكيف يمكن لأهل نجد بعد أكثر من ألف سنة أن يأتوا بدين جديد غير دين الإسلام؟!

كيف لِمَنْ لا يعترف بالله والرسول وأئمّة الإسلام أن يقول عن نفسه أنّه مسلم أو على دين الإسلام؟! وسيأتيك التفصيل بإذن الله.

وكيف لِمَنْ يرمي أُمّة الإسلام بالكفر والشرك والضلال أن يدّعي أنّه مسلم؟! نعم ، إنّه مسلم ولكن على دين محمد بن عبد الوهاب لا دين محمد بن عبد الله!

وبالتالي كيف لهؤلاء أن يدّعوا العلم بالدين ، والقرآن والسُّنَّة ، واللغة والفلسفة ، وأحكام العقل وأخبار النقل ، وأنّهم علماء ومجتهدون ومجدّون للدين؟!

حقاً إنّها لطامّة كبرى نزلت على هذه الأُمّة من أصحاب هذه الأفكار الغريبة والعجيبة!

حديث الخوارج :

حذّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الخوارج. ومَنْ يتتبّع الأحاديث الشريفة يلاحظ أنّه حذّر من فئتين من الخوارج : سلف وخلف.

أمّا السلف : فهم أصحاب ذي الثدية الذي مرّ ذكره آنفاً ، ووصفهم رسول

٣٠٥

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأكثر من حديث ورواية ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يمرقون من الإسلام (الدين) كما يُمرَق السهم من الرمية ، أينما لقيتموهم فاقتلوهم» (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أوصافهم في الآخرة : «إنّهم كلاب أهل النار» (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يقرؤون القرآن يحسبونه لهم وهو عليهم» (٣).

أو : «يقرؤون القرآن تحتقرون قراءتكم عند قراءتهم ، وصلاتكم عند صلاتهم ، لا يتجاوز تراقيهم. يقرؤون القرآن والقرآن يلعنهم» (٤).

واُولئك هم الذين خرجوا على أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، الخليفة الشرعي ، وإمام الزمان الذي اجتمعت عليه الأُمّة الإسلاميّة ، عدا الشام لوجود معاوية بن أبي سفيان فيها ، وبايعه الصحابة والتابعون بعد الفتنة التي اصطنعها صبيان بني أُميّة حول عثمان الضعيف تجاههم ، ولم تنجلي إلاّ بقتله وإلقائه في حشِّ كوكب.

وكانوا حوالي العشرة آلاف خرجوا بعد التحكيم ، فكفّروا الإمام علياً عليه‌السلام ـ والعياذ بالله ـ ومعاوية والحكمين وكل مَنْ يلوذ بهما ، فبعث إليهم أمير المؤمنين يستتيبهم مع عبد الله بن عباس ، فرجع إلى حظيرة الإسلام المباركة ستة آلاف وبقي أربعة آلاف منهم.

__________________

١ ـ صحيح مسلم ص باب (الخوارج شرّ الخلق والخليقة) ح ١٠٦٨ ، وكذا ح (١٠٦٣ ـ ١٠٦٧) فراجع ، صحيح البخاري ص باب (مَنْ ترك قتال الخوارج).

٢ ـ سنن الترمذي ص ح ٤٠٨٦ ، الطبراني في الكبير ٨ ص ١٦٧ ح١٠٣٤.

٣ ـ صحيح مسلم ٨ ص ١٨٠ ، الحاكم في المستدرك ٢ ص ١٤٨.

٤ ـ المصدر نفسه.

٣٠٦

وراحوا يسعون في الأرض فساداً ، فخرج إليهم أمير المؤمنين عليه‌السلام بجيشه والتقوا عند النهروان ، فقتلهم جميعاً ولم ينجُ منهم إلاّ أقل من عدد الأصابع كما أخبر بذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام : «لا يُقتل منكم عشر ، ولا ينجو منهم عشر».

ورغم الذي فعلوه فإنّ شعار أمير المؤمنين عليه‌السلام كان : «لا نبدؤكم بقتال ، ولا نمنعكم عن مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه ، ولا نمنعكم من الفيء ما دامت أيديكم معنا» (١).

اُولئك هم السلف ، خوارج الأمس البعيد الماضي السحيق ، فذهبوا وكانوا لعنة التاريخ على هذه الأُمّة ، ولكن لعنة الله تلاحقهم إلى أن ترميهم في الدرك الأسفل من النار ؛ لأنّهم : «شرّ قتلى تحت أديم السماء» (٢) كما يصفهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في كلمة له.

وأمّا الخلف ، فهم خوارج اليوم القريب والحاضر الذي نعيش فيه ، وهم أشنع وأبشع من اُولئك اللعناء في تاريخ الأُمّة الإسلاميّة.

تروي كتب الحديث قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّما أخاف على أُمّتي الأئمّة المضلّين ، وإذا وضع عليهم السيف لم يُرفع إلى يوم القيامة ، ولا تقوم الساعة حتّى يلحق حي من أُمّتي بالمشركين ، وحتى تعبد فيأم (فيآم) من أُمّتي الأوثان ،

__________________

١ ـ المنتظم في تاريخ الأمم والملوك ٥ ص ١٣٥ ، أحداث سنة ٣٧ هـ.

٢ ـ مسند أحمد ١٢ ص ٣٣٨ ، سنن ابن ماجة ص ح ٣٩٥٢ ، سنن أبو داود : ح ٤٢٥٢.

٣٠٧

وإنّه يكون في أُمّتي كذّابون ثلاثون كلّهم يزعم أنّه نبي ، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي ، ولا تزال طائفة من أُمّتي على الحقّ منصورة لا يضرّهم مَنْ خذلهم حتّى يأتي أمر الله» (١).

مَنْ هم الضّالون المضلّون الذين خرجوا من الدين ومرقوا منه ، بعد أن كفّروا الأُمّة واستباحوا دماءها ، وأموالها وأعراضها ، دون ذنب أو جريمة سوى أنّهم خالفوا آراء الوهابيّة السلفيّة بالعقائد والأحكام والأخلاق الباطلة ، الذين (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) (٢)؟!

وصدق الشريف عبد الله الذي كتب كتاباً عنهم يبيّن فيه حالهم منذ بداية انتشارهم تحت عنوان (صدق الخبر في خوارج القرن الثاني عشر) ، إنّهم خوارج العصر الحديث. فأحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن آخر الزمان ، وأخباره عن الكثير من الحوادث والقضايا تؤكّد لنا ذلك وبما لا يدع لنا مجالاً للشك.

مَنْ هو محمد بن عبد الوهاب؟

إنّه محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي ، نشأ في بلدة العيينة من بلاد نجد ، وقرأ الفقه على مذهب أحمد بن حنبل ، سافر إلى مكة ثمّ إلى المدينة ودرس عند الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن يوسف ، وأظهر الإنكار على الاستغاثة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند قبره الشريف ، ثمّ عاد إلى نجد ثمّ إلى البصرة.

يقول مستر همفر : (لقد وجدت في (محمد بن عبد الوهاب) ضالّتي

__________________

١ ـ كتاب العمدة ص ٤٣١.

٢ ـ سورة الأنعام : الآية ١١٢.

٣٠٨

المنشودة ؛ فإنّ تحرّره وطموحه وتبرّمه من مشايخ عصره ، ورأيه المستقل الذي لا يهتم حتّى بالخلفاء الأربعة أمام ما يفهمه هو من القرآن والسنّة ...) (١).

ثمّ هرب من (البصرة) وعاد إلى قرية (حريملة) من نجد بعد أن تأثّر واقتنع من المستر همفر الذي آخاه على أنّه مجدّد الدين ونبيّه الجديد ، إلاّ أنّ أباه كان في تلك القرية فلم يستطع أن يظهر دعوته ، إلى أن مات أبوه فتجرّأ على إظهار عقائده والإنكار على المسلمين عقائدهم.

وتبعه حثالة من الناس إلى أن ضجّ الناس بهم ، وهمّوا بقتلهم فخرج قاصداً (العيينة) وكان فيها زعيم اسمه (عثمان بن أحمد بن معمّر) فأطمعه ابن عبد الوهاب في ملوكية نجد فساعده الرجل طمعاً بالملك ، فأظهر دعوته وذهب إلى قبر زيد بن الخطاب فهدمه ، فوصل خبره إلى زعيم الإحساء والقطيف (سليمان بن محمد بن عزيز) ، فأرسل إلى عثمان يطالبه بقتله ، فأخرجه من منطقته فذهب إلى (الدرعية) سنة (١١٦٠ هـ).

و (الدرعية) هي المكان الذي خرج منه مسيلمة الكذاب وأظهر الفساد ، وكان صاحبها محمد بن سعود من قبيلة عنيزة ، فتوسّل الرجل بامرأة الحاكم إليه ، وطمعه في الغزو للغلبة والاستيلاء على بلاد نجد ، فبايعه محمد بن سعود على سفك دماء المسلمين ، وجعل ابن سعود يجهّز الجيوش لنصرته ، ويؤلّب العساكر لترويج دعوته وطريقته حتّى استقام أمره (٢).

__________________

١ ـ مذكرات مستر همفر ص ٣٤.

٢ ـ الصواعق الإلهية في الردّ على الوهابيّة ص ٢٧ ، عن تاريخ نجد لابن الآلوسي.

٣٠٩

وتوفّي محمد بن عبد الوهاب في عام (١٢٠٦ هـ) بعد أن أحدث في الإسلام شرخاً لا يندمل أبداً ، وأفسد في البلاد والعباد فساداً لا يتصوّر ، فإلى الله المشتكى وعليه المعوّل ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.

٣١٠

الفصل الأول

وقفة عقائدية

٣١١
٣١٢

تلك كانت مقدّمة موجزة عن الوهابيّة السلفية ، بحيث لا يمكن للباحث أن يتجاهلها إذا أراد أن يكتب عن تلك الجماعة من الناس كما سمّاهم ابن الآلوسي في كتابه (تاريخ نجد) ، لا سيما وأنّ عقائدهم استشرت ، وطرائقهم تفشَّت في الأُمّة كالنار في الهشيم إذا رافقه رياح قويّة في أواخر أيام الصيفية.

فالرياح جاءت عن السياسة وبعض الدول التي تبعت تلك الأفكار الضالة المضلّة ، وراحت تضخّ الأموال الطائلة في سبيل الدعوة لأفكار محمد بن عبد الوهاب ؛ للانقلاب على دين رسول الله محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن كانوا كما يحدّثنا ربّنا عن أهل جهنّم والعياذ بالله (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا) (١).

وهؤلاء كلّما جاء مجدّد منهم لعن الأُمّة وكفّرها وتشدّد أكثر من سابقيه ، وراحوا يتسابقون في إظهار انحرافاتهم عن الدّين والملّة الحقّة ، ويتفاخرون بالجرأة على الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل البيت الأطهار عليهم‌السلام لإظهار العداء السافر والنصب الواضح لهم.

__________________

١ ـ سورة الأعراف : الآية ٣٨.

٣١٣

فهلمَّ معنا عزيزي القارئ نقوم بجولة سريعة في عقائد القوم التي يعاكسون بها عقائد الأُمّة ويناقضونها ، ويكفّرون كلّ مَنْ وقف في وجههم كائناً مَنْ كان ، وسنوافيك خلال البحث ببعض المواقف والحوادث التي تخبرك عن حقيقة القوم وعقائدهم.

عقيدة الوهابيّة في التوحيد

إنّ الوهابيّة كفّرت الأُمّة بسبب التوحيد وهم أبعد ما يكون عن التوحيد ؛ لأنّ لهم توحيداً مخترعاً ما أنزل الله به من سلطان ، ومَنْ لا يقول بتوحيدهم كافر مشرك ، حلال الدم والمال والعرض.

والحديث عن التوحيد يستوقفنا كثيراً لدى القوم ؛ لأنّه الأساس المعتمد لإبطال الدين ، وإخراج المسلمين من حظيرة الإسلام المنيعة. إنّهم يبنون عقيدة التوحيد على الرمال المتحرّكة دون أساس ؛ لأنّ الأساس العلمي والعقائدي بالله (عزَّ وجلَّ) عندهم باطل بإجماع الأُمّة الإسلاميّة قديماً وحديثاً.

١ ـ التجسيم والتشبيه عند الوهابيّة :

يقولون بالتجسيم والتشبيه لله تعالى ، ويسمّونها من باب المغالطة : توحيد الأسماء والصفات.

إنّ المتأمّل في العقائد الوهابيّة يجد أنّهم يتخيّلون الله تعالى على صورة آدمي ، وبناءً على هذا الأصل يبنون أساس الصفات في التوحيد الذي في عقيدتهم ، فيقولون : إنّ لله صورةً ووجهاً ، وعينين وجبيناً ، وحَقْواً (خصراً) وذراعين ، ويدين وأصابع ، وأنامل وصدراً ، وساقاً وقدماً ورجلاً وغير

٣١٤

ذلك من أعضاء الآدميين.

ويقولون : بأنّه ينزل ويتحرّك ويأتي ، ثمّ يعقّبون على ذلك ليرضوا العامّة بقولهم ، بلا كيف ولا تشبيه! (١).

وأوائل مَنْ قال بالتجسيم في هذه الأُمّة استقاه من العقائد السابقة والديانات السالفة المزوّرة ، لا سيما ما دخل في ديننا الحنيف من إسرائيليات عن طريق عدد من اُولئك اليهود الذين دخلوا في دين الله بقصد الكيد والدسّ ، منطلقين من حقدهم الدفين على هذا الدين الذي لم يستطيعوا مقاومته بالعلن ، فأرادوا الدخول فيه ليعبثوا فيه من الداخل فيكون ذلك عليهم أسهل.

وبالتالي تكون مهمّتهم أبسط ما يكون ، بحيث يتعاطف معهم المسلمون الأوائل ويتقبّلون أقوالهم لأنّهم منهم وفيهم ؛ ولذا كان خطر المنافقين على الأُمّة أكبر بكثير من خطر الكفّار والمشركين ، وهم الذين وصفهم الله سبحانه في القرآن بقوله : (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٢).

فقد اندسّ في الدين الإسلامي من اليهود عدد من الأحبار والعلماء الكبار حتّى صاروا من أعاظم المحدّثين إلى يومنا هذا ، ككعب الأحبار وعبد الله بن منبه وأبو هريرة الدوسي ـ على أقوال ـ ، فنقولوا الكثير من الإسرائيليات ، وقصص الأنبياء من كتبهم ، ورووها على أنّها من السنّة النبويّة المطهّرة أو أحاديثه الشريفة ، وكثير من علمائنا الأعلام صنّفوا كتباً عن هذا الموضوع.

__________________

١ ـ السلفية الوهابيّة ص ٢١.

٢ ـ سورة المنافقون : الآية ٤.

٣١٥

٢ ـ الله جالس على كرسي :

وكان من أخطرهم كعب الأحبار الذي قال عنه الذهبي : (جالس أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فكان يحدّثهم عن الكتب الإسرائيلية ...) (١).

وينقل عنه حديث (العلو) ، وأنّ الله تعالى في المكان الفوق (السماء العالية) ، فقد روي عنه أنّ الله سبحانه قال : (أنا الله فوق عبادي ، وعرشي فوق جميع خلقي ، وأنا على عرشي أدير أمور عبادي ، ولا يخفى عليَّ شيء في السماء ولا في الأرض).

وفي حديث آخر له يقول : (فما في السماوات سماء إلاّ وله أطيط كأطيط الرَّحل في أوّل ما يرتحل ـ عندما يكون جديداً ـ من ثقل الجبّار فوقهنّ) (٢).

ومن هذا الباب قالوا : (إنّ الكرسي هو موضع القدمين من العرش ، أو هو العرش الذي يقعد عليه الله ـ تعالى شأنه ـ فلا يفضل منه مقدار أربع أصابع ، وله أطيط كأطيط الرحل الجديد) (٣).

وكثيرة جدّاً إسرائيليات كعب الأحبار هذا ، ولا يقلُّ عنه زميله وصديقه وهب بن منبِّه الذي يروي حديثاً في بعض المعاني المتقدّمة في التجسيم ، كقوله : (إنّ السماوات والبحار لفي الهيكل ـ السليماني ـ وإنّ الهيكل لفي الكرسي ، وإنّ قدميه (عزّ وجلّ) لعلى الكرسي ، وقد عاد الكرسي كالنعل في

__________________

١ ـ سير أعلام النبلاء ٣ ص ٤٨٩.

٢ ـ المصدر نفسه.

٣ ـ ابن تيمية ، حياته وعقائده ص ١٢٢.

٣١٦

قدميه) (١).

٣ ـ يشتركون مع اليهود والنصارى في التجسيم :

هذا التجسيم والتشبيه لله ـ تعالى الله عن أقوالهم علوّاً كبيراً ـ جاء من أصحاب الديانات الباطلة المزيّفة السابقة ، لا سيما اليهود والنصارى الذين ادّعوا له الجسميّة ، واخترعوا له الزوجة والأولاد (قَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٢).

اعلم يرحمك الله تعالى ، أنّ الإغريق أو اليونان واليهود المجسّمة اشتركوا في أنّهم وصفوا الله تعالى وتخيّلوه على شكل إنسان ، وأثبتوا له أفراد عائلة خياليّة كالزوجة والأولاد ، ووصفوه بأنّه يذهب ويأتي ، ويصعد وينزل ، ويضحك ويغضب ، وأثبتوا له أعضاء كأعضاء البشر ، وأنّه على صورة شاب أمرد ، أو شيخ كبير طاعن في السنّ (٣) ، وله لحية بيضاء ناصعة.

ينقل ابن تيمية شيخ المجسّمين عن النصارى قولهم : وفي الإنجيل أنّ المسيح عليه‌السلام قال : لا تحلفوا بالسماء ؛ فإنّها كرسي الله. وقال للحواريين : إن أنتم غفرتم للناس فإنّ أباكم الذي في السماء يغفر لكم كلّكم ، انظروا إلى طير السماء فإنّهنّ لا يزرعن ولا يحصدن ، ولا يجمعن في الهواء ، وأبوكم الذي في

__________________

١ ـ كتاب السنّة ـ لعبد الله بن أحمد بن حنبل ٢ ص ٤٧٧.

٢ ـ سورة التوبة : الآية ٣٠.

٣ ـ السلفية والوهابيّة ص ٢٤.

٣١٧

السماء هو الذي يرزقهم (١).

وأتباع هؤلاء اندسّوا في الإسلام منذ أوائل تبلوره وتجسيده كدولة وكقوّة دينية ودنيوية ، وهذا ما اعترف به أحد مشايخ الوهابيّة بقوله : وتسرّب الإسرائيليات إلى المسلمين ، ومبدأ دخولها في علومهم أمر يرجع تاريخه إلى عهد الصحابة ؛ وذلك لأنّ القرآن يتّفق مع التوراة والإنجيل في ذكر بعض المسائل والحوادث التاريخية (كقصص الأنبياء) ، وإن كان بينه وبين التوراة والإنجيل فرق كبير ، وهو الإيجاز الذي يتميّز به القرآن ويجعله كمعجزة ، والإطناب والتفصيل الذي يتّصف بهما التوراة والإنجيل ، إضافة إلى تحريفهما وتغييرهما كما نصّ القرآن على ذلك (٢).

وأمّا أخبار أبي هريرة الدوسي وتدليسه في الحديث ، وكذبه الفاضح على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتدجيله لصالح معاوية بن أبي سفيان تحت تأثير بطنته ، ومضيرة معاوية اللذيذة حتّى سمّاه الشيخ محمود أبو رية المصري (شيخ المضيرة) فإنّ حديثه يطول تتبّعه ، وما على الباحث إلاّ قراءة ما كتبه السيد عبد الحسين شرف الدين والشيخ أبو رية ، كلّ في كتابه عن أبي هريرة.

ويروى بخصوص ما نحن فيه أنّ التابعي الكبير بسر بن سعيد ، كان يقول : (اتّقوا الله وتحفّظوا من الحديث ، فو الله رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدّث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويحدّثنا عن كعب الأحبار ثمّ يقوم ، فأسمع بعض مَنْ كان معنا يجعل حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن كعب ، ويجعل حديث كعب عن رسول

__________________

١ ـ فتاوى ابن تيمية ٥ ص ٦٠٤.

٢ ـ السلفية والوهابيّة ص ٢٧.

٣١٨

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

الإمام علي عليه‌السلام ونظرية التجسيم

وبكلمة نقول : إنّ حديث التجسيم والتشبيه الذي جاءت به العقول الوهابيّة ، وأساطين التجليد (وليس التجديد) ، هو من عند اليهود والنصارى ، وربما قيل ذلك من بقايا الوثنية اليونانية وغيرها من العقائد الباطلة التي جاء الإسلام الحنيف لتصحيحها وتقويمها وإعادتها إلى التوحيد الحقّ الذي يتلخص بقول أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام في خطبة الأشباح المعروفة ، والمروية في نهج البلاغة ، والتي يقول فيها : «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لا يَفِرُهُ الْمَنْعُ وَالْجُمُودُ ، وَلا يُكْدِيهِ الإِعْطَاءُ وَالْجُودُ ... الأَوَّلُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلٌ فَيَكُونَ شَيْ‏ءٌ قَبْلَهُ ، وَالآخِرُ الَّذِي لَيْسَ لهُ بَعْدٌ فَيَكُونَ شَيْ‏ءٌ بَعْدَهُ ، وَالرَّادِعُ أَنَاسِيَّ الأَبْصَارِ عَنْ أَنْ تَنَالَهُ أَوْ تُدْرِكَهُ».

ثمّ قال للذي سأله : «فَانْظُرْ أَيُّهَا السَّائِلُ فَمَا دَلَّكَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَتِهِ فَائْتَمَّ بِهِ ، وَاسْتَضِئْ بِنُورِ هِدَايَتِهِ ، وَمَا كَلَّفَكَ الشَّيْطَانُ عِلْمَهُ مِمَّا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ عَلَيْكَ فَرْضُهُ ، وَلا فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وَأَئِمَّةِ الْهُدَى أَثَرُهُ ، فَكِلْ عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ» (٢).

هكذا ينزّه الله سبحانه وتعالى أئمّةُ المسلمين ، والأُمّةُ كلّها من بعدهم ، فهم منار الهدى وأعلام التقى للأُمّة ، عنهم تأخذ معالم دينها.

__________________

١ ـ رواه مسلم في كتاب (التمييز) ١ ص ١٧٥.

٢ ـ نهج البلاغة ١ ص خطبة ٨٩ المعروفة بالأشباح.

٣١٩

وهذا بالضبط ما جاء به القرآن الكريم الذي كان قمّة الإعجاز في كلّ شيء ، حتّى في بحوث التوحيد والتقديس والتنزيه للباري تعالى. ألا تكفي عشرات الآيات المباركات في هذا الباب ، وهي رأس الدين وأوّل أصوله ، وعمدة أركانه الخمسة؟

ألا تكفي الوهابيّة السلفيّة والحشويّة وبقيّة المجسّمة سورة الإخلاص المباركة وكلماتها النورانيّة : (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) (١)؟

بلى والله تكفي وتكفي ؛ لأنّها تعادل ثلث القرآن كما في الروايات المستفيضة ، لِما فيها من معارف التوحيد الذي قال عنه أمير المؤمنين في خطبة أُخرى :

«أوّلُ الدِّينِ معرفتهُ ، وكمالُ معرفتهِ التَّصديقُ به ، وكمالُ التصديقِ به توحيدهُ ، وكمالُ توحيدهِ الإخلاصُ لهُ ، وكمالُ الإخلاصِ لهُ نفيُ الصفاتِ عنهُ ؛ لشهادةِ كلِّ صفةٍ أنّها غيرُ الموصوفِ ، وشهادةِ كلِّ موصوفٍ أنّهُ غيرُ الصفةِ» (٢).

إلاّ أنّ المجسّمة لم يرق لهم ذلك ، فراحوا يحملون آيات القرآن على ظاهرها البحت ، ولم يعتمدوها في أبحاثهم ، وإنّما عمدوا إلى السُنّة والأحاديث الملفّقة والمكذوبة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي قال : «ستكثر من بعدي الكذّابة ، فما جاءكم عنّي فاعرضوه على كتاب الله ، فإن وافقه فخذوه ، وإن عارضه

__________________

١ ـ سورة الإخلاص.

٢ ـ نهج البلاغة ـ الخطبة الأولى.

٣٢٠