الحسين (ع) والوهّابيّة

جلال معاش

الحسين (ع) والوهّابيّة

المؤلف:

جلال معاش


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القارئ للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

شيء ولا حتّى الدفن ، وهذه شهادة بأنّ معاوية وأصحابه ليسوا من الإسلام في شيء.

والشجاعة الأدبيّة في كلمات أبي الأحرار الحسين عليه‌السلام كانت عالية ، بحيث لم يترك معاوية يتيه ويفخر بأنّه قتل شيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام وأصحابه ، فبعد الصفعة الأولى وقبل أن يستيقظ معاوية من ألمها ثنّى عليه الإمام الحسين عليه‌السلام بالصفعة الأخرى لتكون أشدّ ألماً وقوّة.

فقال له : «لقد بلغني وقيعتك في عليّ عليه‌السلام» أي أنّك تسبّه ، وهذِهِ سُنّة سيئّة أنت محاسب عنْها ، وقد استمرت هذه السُنّة في الأُمّةِ الإسلاميّة عشرات السنوات ، وتصل بالعيب إلى بني هاشم وهَمْ مَنْ هم في دنيا الفضائل والإسلام. فإنْ فعلتَ ذلكَ فعليكَ أنْ ترجعَ إلى نفسِكَ وتقف معها وقفةً صادقةً ، ألستَ تَراها مَحشوَّةً بالعيوبِ العظامِ ، وأعظم عيوب بني هاشم هي أصغر عيوبك فيك؟!

فإيَاكَ أنْ تشدَّ وِترَ القوسِ الذي لا تملكه ، وتصطادَ غيرَ هدفِكَ ، فإنَّ ذلكَ دلالةٌ على قلّةِ العقلِ ، والجهلِ وسوء التدبير ، والطاعة لابن النابغة عمرو بن العاص شانئ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيتهِ في العداوة والمحاربة للإمام عليه‌السلام وأهل بيته الكرام جميعاً.

وفي الرسالة التي سبق أن نقلناها قرأت قول الإمام الحسين عليه‌السلام فيها : «وإنّي لا أعلمُ فتنةً أعظم على هذه الأُمّة من ولايتك عليها ، ولا أعلمُ نظراً لنفسي ولديني ولأُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلينا أفضل من أن أجاهدك ، فإن فعلت فإنّه

٢٨١

قربةٌ إلى الله ، وإنْ تركتُهُ فإنّي أستغفر الله لذنبي وأسأله توفيقه لإرشاد أمري» (١).

وفي نهاية تلك الرسالة يعلن رفضه ليزيد اللعين بقوله : «وأخذك الناس ببيعة ابنك غلامٍ حدث ، يشربُ الخمر ، ويلعب بالكلاب ، لا أعلمك إلاّ وقد خسرت نفسك ، وتبّرت دينك ، وغششت رعيّتك ، وأخربت أمانتك» (٢).

هل يوجد أقوى وأصرح من هذه الكلمات الحسينيّة في رفض بيعة معاوية وابنه يزيد؟

إنّه يرى وجوب الجهاد لهم ؛ ولذا يستغفر الله بالتقصير من ذلك ، لأنّ جهادهم من أقرب القربات إلى الله ، ولكنّ الحين لم يحن ، وصلح أخيه الإمام الحسن عليه‌السلام أجدر بالوفاء.

ولذا فإنّ الإمام الحسين عليه‌السلام رفض في المدينة المنوّرة بيعة يزيد رفضاً قاطعاً ، وأعلنها نهضة ربّانيّة مباركة لإيقاظ الأُمّة إلى وجوب جهاد الحاكم الظالم ، وتنحية الطاغية عن دفّة القيادة للأُمّة الإسلاميّة ، فقال عليه‌السلام : «مثلي لا يبايع مثله» ، وكان هذا هو البيان الأوّل للنهضة الحسينيّة ، وقد تقدّم.

٢ ـ رفض انتهاك حُرمة الكعبة :

(إنّ للبيتِ ربّاً يحميه).

كلمة انطلقت منذ آلاف السنين ، وما زالت تردّدها الأجيال فتسمع صداها في كلّ زمان ومكان ، منذ أن نطق بها سيدنا شبية الحمد عبد المطلب بن عمرو

__________________

١ ـ بحار الأنوار ٤٤ ص ٢١٣ ، رجال الكشي ص ٥٠.

٢ ـ رجال الكشي ص ٣٢ ، أعيان الشيعة ١ ص ٥٨٢.

٢٨٢

العلى هاشم الخير ، وإلى اليوم نردّدها وكأنّها قيلت اليوم أو أمس القريب.

منذ أن جابه بها عبد المطلب أبرهة الحبشي الذي قاد جيش الفيل وجاء ليهدم الكعبة المشرّفة ؛ لأنّه بنى خيراً منها كما يزعم ويدّعي كذباً وزوراً في اليمن ، وأراد هو عكس ما أراد الله ؛ لأنّه لم يكن يعتقد بالله ، وكان جلّ اعتقاده بنفسه وقوّته.

بيت الله الحرام لا ينتهك حرمته إلاّ مَنْ هو على شاكلة أبرهة الحبشي ، والحجّاج بن يوسف الثقفي ومَنْ لفَّ لفهم من خوارج هذه الأُمّة المرحومة كهؤلاء الذين يدَّعون الإسلام ويكفّرون الأُمّة الإسلاميّة في هذا العصر بأبشع أسلوب وأشنع طريقة عرفها التاريخ.

فللمكان قدسيته لا سيما مكة المكرّمة حرم الله ، والمدينة المنوّرة حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله «المدينةُ حَرمي» كما قال الحبيب المصطفى لأصحابه. وللزمان قدسيته كذلك ، كأيّام الأعياد ، وشهر الله شهر رمضان وغيرها من (أيّام الله) ، فكلّ شيء يُنسب إلى مقدّس فهو مقدّس وذو مكانة ماديّة ومعنويّة.

الحسين عليه‌السلام يرفض بيعة يزيد

ومن أخلاق أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام أنّه كان يحترم المقدّسات ويجلّها ، ويحترم ذوي الشأن في المقدّسين كجدّه وأبويه وأخيه (صلوات الله عليهم جميعاً) ؛ ولذا تراه إذا كانت تهجم عليه الخطوب والمحن فإنّه يلتجئ إلى جدّه المصطفى ، ويحبس نفسه الشريفة على ترابه ، ويناديه ويناجيه بعبارات تفيض بكلّ المعاني المقدّسة.

فعندما رفض البيعة للحاكم الجديد ، يزيد الظالم الفاجر ، الفاسق العربيد ،

٢٨٣

وأعلن ذلك على رؤوس الأشهاد ، راحوا يعدّون العدّة لاغتياله في حرم جدّه (المدينة المنوّرة) ، فما كان منه إلاّ أن أعدَّ واستعدَّ للهجرة إلى مكة المكرّمة ؛ طلباً للحماية الإلهيّة وحاجّاً للبيت العتيق ، وقبل خروجه من المدينة ذهب إلى قبر جدّه وروضته ولاذ بها مودِّعاً بهذه الكلمات النورانيّة : «السّلامُ عليك يا رسول الله ، أنا الحسين بن فاطمة ، فرخك وابن فرختك ...».

ولمّا كانت الليلة الثانية خرج الحسين بن علي عليه‌السلام إلى القبر أيضاً وصلّى ركعات ، فلمّا فرغ من صلاته جعل يقول :

«اللّهمّ إنّ هذا قبرُ نبيّك محمّد وأنا ابن بنت نبيّك ، وقد حضرني من الأمر ما قد علمتَ. اللّهمّ إنّي أحبُّ المعروف وأكره المنكر ، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ هذا القبر ومَنْ فيه إلاّ اخترت لي ما هو لك رضى ولرسولك رضى».

ثمّ جعل يبكي عند القبر حتّى إذا كان قريباً من بياض الصبح وضع رأسه على القبر فأغفى ، فإذا هو برسول الله قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وعن شماله وبين يديه حتّى ضمّ الحسين إلى صدره وقبَّل بين عينيه ، وقال : «حبيبي يا حسين ، كأنّي أراك عن قريب مُرمّلاً بدمائك ، مذبوحاً بأرض كربٍ وبلاء ، من عصابةٍ من أُمّتي ، وأنت مع ذلك عطشان لا تُسقى ، وظمآن لا تُروى ، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي ، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة. حبيبي يا حسين ، إنّ أباك وأُمّك وأخاك قدموا عليّ وهم مشتاقون إليك ، وإنّ لك في الجنان لدرجات لن تنالها إلاّ بالشهادة».

فجعل الحسين عليه‌السلام في منامه ينظر إلى جدّه ويقول : «يا جدّاه ، لا حاجة لي

٢٨٤

في الرجوع إلى الدنيا فخذني إليك ، وأدخلني معك في قبرك».

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا بدّ لك من الرجوع إلى الدُّنيا حتّى تُرزق الشهادة ، وما قد كتب الله لك فيها من الثواب العظيم».

قال : فانتبه الحسين عليه‌السلام من نومه فزعاً مرعوباً ، فقصَّ رؤياه على أهل بيته وبني عبد المطلب ، فلم يكن في ذلك اليوم في مشرق ولا مغرب قوم أشدُّ غمّاً من أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا أكثر باكٍ وباكية منهم (١).

ألم تلحظ الشجاعة التي تفيض من موقف الإمام الحسين عليه‌السلام؟ وهل يمكن لغير الإمام أن يعرف هذه التفاصيل الدقيقة عن مسيرته الاستشهادية ويطيق عليها صبراً ويحتسبها عند الله؟! هذا من ناحية.

ومن ناحية أُخرى ألم تلحظ عزيزي القارئ الأدب الجمّ ، والأخلاق الإسلاميّة الحسينيّة ، واحترامه لمقام جدّه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو ملحود تحت التراب ، يزوره ويناجيه ، ويبثّ إليه شجونه وهمومه ، ويتلقى التعليمات والتوجيهات المباشرة منه عبر الأحلام الصادقة فينفذها بكلّ قوّة واطمئنان وشجاعة وإقدام؟!

وهؤلاء الخوارج الجدد يرون أن لا قيمة ولا فائدة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ والعياذ بالله ـ حتّى قال قائلهم : (إنّ عصاي هذه خير من محمد ؛ لأنّها تنفع ومحمد لا ينفع). أستغفر الله ،

__________________

١ ـ موسوعة بحار الأنوار ٤٤ ص ٣٢٨ ، الفتوح ٥ ص ٢٠ ، مقتل الحسين ـ للخوارزمي ١ ص ١٨٦.

٢٨٥

كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاّ كَذِباً فمقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومكانته ميّتاً كمقامه ومكانته حيّاً بلا فرق أبداً عند أولياء الله.

فالإمام الحسين عليه‌السلام يلجأ إلى قبر جدّه ويلوذ به ويناجيه ويناديه ويبثّه شكواه ، فهل كان مشركاً والعياذ بالله؟!

أم أنّه كان لا يعلم ما هو الشرِّك والتوحيد حتّى جاء اُولئك وعرفوا أن الاستجارة بقبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله شرك أكبر ، وفاعله مشرك كافر يُقتل؟! لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.

أم صدّقوا أنّ عصا مسخهم أفضل من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّها تنفع للحيّة والعقرب ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا ينفع بعد أن مات ودُفن تحت التراب ، وهو الذي قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَنْ زارني ميّتاً كمَنْ زارني حيّاً» و «مَنْ زارني بعد موتي كان كمَنْ زارني في حياتي» (١).

والإمام الحسين المظلوم عليه‌السلام كان في أخلاقيّاته هذه الصفة النورانيّة الحميدة ، ألا وهي احترام وتعظيم وتقديس جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله حيّاً وميّتاً ، ولا أريد أن أعيد الكلمات لأنّها من أوضح العبارات وأعذبها ، والإمام الحسين عليه‌السلام يخاطب جدّه ، والجدّ يسمعه ويجيبه ولو في عالم الرؤيا والأحلام حتّى تبقى في الصورة البشريّة التي يمكن لنا أن نفهمها نحن البسطاء.

اقتلوا الحسين ولو في الكعبة

إلى مكة ، اتّجه الإمام عليه‌السلام من حرم جدّه إلى حرم ربّه ، إلى بيت الله الحرام

__________________

١ ـ وسائل الشيعة ١٤ ص ٥٧٨ ، بحار الأنوار ٩٨ ص ٣٦٦ ، كامل الزيارات ص ٢٨٧.

٢٨٦

الكعبة المشرّفة ، وراح يلتقي بالوفود تلو الوفود ، والأعيان بعد الأعيان ، والشخصيّات بعد الشخصيّات إلى أيّام الحجّ ، فأحرم حاجّاً لله تعالى ، ولكن في تلك الأثناء علم الحاكم الجديد بأمر الإمام الحسين عليه‌السلام ورفض البيعة له ، فبعث رسولاً وجنَّد جنوداً وأمرهم : اقتلوا الحسين ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة ، إنّه إذن الفتك بالحسين أينما وجد.

فما العمل إذن؟ والأيّام من أيّام الله المقدّسة هي أيّام الحجّ ، والشهر هو الشهر الحرام (ذو الحجّة) محرّم فيه القتال ، والمكان حرم الله الأقدس بيت الله العتيق مكة المكرّمة ، والمطلوب أقدس دم في ذاك الزمان ، هو دم شخص الإمام الحسين عليه‌السلام بالذّات للحاكم الجائر الظالم يزيد بن معاوية.

علم الإمام بالمؤامرة الخبيثة التي كان يقودها عمرو بن سعيد بن العاص وحثالة من أهل الشام أعدَّهم وجعل السيوف تحت إحرامهم ؛ للفتك بالحسين عليه‌السلام في مكة المكرّمة ، وأينما وجدوه حتّى ولو كان يطوف بالبيت ، أو يسعى بين الصفا والمروة أو حتّى في عرفات والمشعر الحرام ، أينما استطاعوا أن يجدوه فسوف يقتلونه ـ والعياذ بالله ـ. ويا ويلهم من جرأتهم على الله ورسوله ووليّه! فأراد الإمام أن يحبط المؤامرة الدنيئة تلك ، فاقتصر على العمرة وعدل عن الحجّ ، وأراد الخروج من مكة بأسرع وقت ممكن حفاظاً على حرمة البيت وقدسيته ، فأعلن ذلك على رؤوس الأشهاد بخطبة رائعة قال فيها :

«الحمدُ لله ، وما شاء الله ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، وصلّى الله على رسوله ، خُطّ الموتُ على ولدِ آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخُيّر لي مصرعٌ

٢٨٧

أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تُقطعها عسلانُ الفلوات بين النّواويس وكربلا ، فيملأن منّي أكراشاً جوفاً ، وأجربة سُغباً ، لا محيص عن يومٍ خُطّ بالقلم ، رضى الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ويُوفيّنا أجور الصّابرين ، لن تشذّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لحمته ، وهي مجموعة له في حظيرة القدس ، تقرُّ بهم عينه ، وينجز لهم وعده. مَنْ كان فينا باذلاً مهجته ، وموطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا ؛ فإنّي راحلٌ مُصبحاً إن شاء الله» (١).

أخي الكريم ، هل قرأت أو سمعت بمثل هذا الكلام البليغ؟ وهل يخطر بذهنك أنّ قائد ثورة تغييريّة يقوم في وجه دولة قائمة يصرّح بمثل هذا البيان (بالموت والشهادة) لكلّ مَنْ يذهب معه؟!

نعم ، الصراحة قمّة الشجاعة الأدبيّة ، والتعاطي والتعامل معها قمّة الشجاعة العمليّة ، والصريح شجاع يعترف بنقاط قوّته ويعزّزها ، ويعترف كذلك بنقاط ضعفه ويعالجها. وهذا عادةً لا يتميّز به القادة العسكريون ؛ لأنّ للمعركة ظروفها الخاصّة وحالاتها وأحكامها ، والقائد الناجح بنظريات قادة الجيوش ، هو الذي يستطيع السيطرة على قوّاته في جميع مراحل القتال ، لا سيما في الظروف المعقّدة. وهذا قد يتطلّب التكتّم التام على المعلومات التي تؤثّر سلباً على معنويّات القوّات ونفسيّات الجنود ، والروح المعنوية أساس في ثبات الجند في كلّ معركة. أمّا قيادة الإمام الحسين عليه‌السلام فكانت استثناء من هذا كلّه ، ونهضته فريدة في هذه الحياة كلّها.

__________________

١ ـ كشف الغمة ٢ ص ٢٠٣ ، اللهوف ص ٢٦.

٢٨٨

كان هذا واضحاً في المدينة المنوّرة منذ البداية ، وفي مكة المكرّمة كان الأمر أوضح ، وكان الإمام به أصرح ؛ فإنّه عندما عزم على الرحيل من مكة المكرّمة في يوم التروية ، والناس يستعدّون للخروج إلى عرفات ، دبَّ الخبر أنّ الحسين بن علي عليه‌السلام سوف يخرج إلى العراق ، وذلك بعد الخطبة التي أوردناها ، وسمع بذلك أهل الموقف والموسم.

وفي الليل جاءه أخوه محمد بن الحنفية رضي‌الله‌عنه فقال له : (يا أخي ، إنّ أهل الكوفة مَنْ قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك ، وقد خفت أن يكون حالك حال مَنْ مضى ، فإن رأيت أن تقيم ؛ فإنّك أعزّ مَنْ في الحرم وأمنعه).

فقال عليه‌السلام : «يا أخي ، قد خفتُ أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم ، فأكونَ الكبش الذي تُستباحُ به حرمةُ هذا البيت».

فقال له ابن الحنفية : (فإن خفت ذلك فسر إلى اليمن ، أو بعض نواحي البَرّ ؛ فإنّك أمنع الناس به ، ولا يقدر عليك أحد).

فقال عليه‌السلام : «أنظُرُ فيما قُلتَ».

فلمّا كان السَّحر ، ارتحل الحسين عليه‌السلام فبلغ ذلك ابن الحنفية ، فأتاه فأخذ زمام ناقته التي ركبها ، فقال له : (يا أخي ، ألم تعدني النظر فيما سألتك؟!).

قال عليه‌السلام : «بلى».

فقال : (فما حداك على الخروج عاجلاً؟!).

قال عليه‌السلام : «أتاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ما فارقتك فقال : يا حسين ، اخرجْ فإنَّ الله شاء أن يراكَ قتيلاً».

٢٨٩

فقال له ابن الحنفية : (إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذه الحال؟!).

فقال له عليه‌السلام : «قد قال لي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنَّ الله قد شاءَ أن يراهنَّ سبايا» (١).

والصراحة بهذا الشكل شيمة الأقوياء دون الضعفاء ومن أخلاق العظماء ، قال فيلسوف من الغرب : (الاعتذار : هو أقصى مراتب النضوج العقلي والعاطفي ، فالعظيم يعتذر ويشعر بأخطائه ، وهو في قمّة النصر لا في هوّة الهزيمة).

ويقول العقاد : (لا أحد يعترف بالنقص إلاّ أن يريد التوصّل للاستشهاد بالكمال ، أو يخشى أن يفشي أسرار عدوّ له على غير حقيقتها) (٢).

والإمام الحسين عليه‌السلام قائد ولكن ليس فيه نقص ولا عيب ـ حاشاه ـ وليس عنده خطأ في أقواله وأفعاله ؛ فإنّ القرآن الكريم وجدّه المصطفى قد شهدا له بذلك ، ولذا بقيت مواقفه هذه نبراساً لكلّ الأحرار ، ومناراً للهداية إلى كافة البشرية.

فالإمام عليه‌السلام عند الكعبة المقدّسة (حرسها الله وشرفها) ولا يريد أن تُنتهك به حُرمة المكان الأكثر حُرمة على وجه الأرض.

٣ ـ رفض حياة الذلّ والخنوع :

الحياة واحدة ولن تتكرّر ، وكلّ إنسان له دورة واحدة تبدأ بالولادة وتنتهي

__________________

١ ـ الكلمة ص ٢٤٦ ، اللهوف ص ٢٧.

٢ ـ فلسفة الأخلاق الإسلاميّة ص ٢٠٣.

٢٩٠

بالموت ، فإن عاش حياته بشرف وكرامة كان بها ونعمت ، وسيذكر بالفضل والكرامة بين الناس إلى أمد بعيد بعد وفاته ، وإن كان العكس أي عاش حياته بدناءة ، وخساسة فإنّها بئس المعيشة وبئس الرجل صاحبها.

والإمام الحسين عليه‌السلام سيد الشهداء ، وأبو الأحرار ، وشيخ الأوفياء ، ووالد الأولياء ، وأصل الإباء ، فالدناءة تبعد عنه بُعد المشرقين ، وأخلاقه الفاضلة ملأت الخافقين ، ألا تراه أو تقرأ له ، أو تسمع عنه هذه الكلمات التي تطفح شموخاً وإباء.

رؤية الحسين عليه‌السلام إلى الدنيا

يُقال أن الإمام الحسين عليه‌السلام قام خطيباً في أصحابه على مشارف نينوى أو على أرض كربلاء ، وكان ممّا قال :

«إنّه قد نزلَ من الأمر ما قد ترون ، وإنَّ الدنيا قد تغيَّرت وتنكَّرت وأدبر معروفها ، ولم يبقَ منها إلاّ صُبابةٌ كصبابة الإناء ، وخسيسُ عيشٍ كالمرعى الوبيل.

ألا ترون إلى الحقِّ لا يُعملُ به ، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؟ ليرغب المؤمنُ في لقاء ربّه مُحقاً ؛ فإنّي لا أرى الموتَ إلاّ سعادةً والحياة مع الظالمين إلاّ برماً.

إنّ النّاس عبيدُ الدنيا ، والدّين لعقٌ على ألسنتهم ، يحوطونه ما درّت معايشهم ، فإذا محِّصوا بالبلاء قلَّ الديّانون» (١).

__________________

١ ـ موسوعة البحار ٤٤ ص ٣٨٠ ـ ٣٨٢ ، مقتل الحسين ـ للمقرّم ص ١٩٤.

٢٩١

هكذا أصبحت الدنيا إذا ذهب المعروف عنها ، والأسوأ من ذلك كلّه هو تعطيل الحقّ والعمل بالباطل ، واللازم العكس إعمال الحقّ وإبطال الباطل.

وهكذا صارت الأمور إلى هذه المستويات من التدنِّي الأخلاقي وقلّة التديّن بحيث أنّ الناس يبادرون إلى نبيَّهم كبني إسرائيل ، أو إلى إمامهم كهذه الأُمّة ، ويريدون قتله والتقرّب بدمه إلى سلطان جائر أو طاغية جبّار.

قال الإمام الحسين عليه‌السلام بهذا المعنى : «إنَّ من هوانِ الدُّنيا على الله أنَّ رأس يحيى بن زكريّا اُهدي إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل».

وذات يوم ضرب عليه‌السلام بيده على لحيته الشريفة وقال :

«اشتدَّ غضبُ الله تعالى على اليهود ؛ إذ جعلوا له ولداً ، واشتدَّ غضبُ الله تعالى على النَّصارى ؛ إذ جعلوهُ ثالث ثلاثة ، واشتدَّ غضبهُ على المجوس ؛ إذ عبدوا الشَّمس والقمر دونه ، واشتدَّ غضبه على قومٍ اتّفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيّهم. أما والله ، لا أُجيبهم إلى شيءٍ ممّا يريدون حتّى ألقى الله تعالى وأنا مخضّبٌ بدمي» (١).

إنّ حياة الذلّ والهوان لا تليق بالرجال العظام ، ذوي الهمم الشامخة ، والأخلاق الأبيّة ، والمروءات والشهامات ، والإمام الحسين عليه‌السلام ثار على الواقع المزري الذي وصلت إليه الأُمّة الإسلاميّة في ظلّ حكومة معاوية وولده يزيد.

إنّ نهضة الإمام عليه‌السلام كانت ضرورة حضاريّة لإيقاظ الأُمّة وتنبيهها ؛ وذلك لأنّ «الدّعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين ؛ بين السّلة والذّلة ، وهيهات منّا الذلّة ؛

__________________

١ ـ اللهوف في قتلى الطفوف ص ٤٣ ، الكلمة ص ٢٧٩.

٢٩٢

يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، وجُدودٌ طابت ، وحُجورٌ طهرت ، واُنوفٌ حميةٌ ، ونفوسٌ أبيّةٌ ، لا تُؤثر مصارعَ اللئام على مصارع الكرام. ألا قد أعذرتُ وأنذرتُ ، ألا وإنّي زاحفٌ بهذه الأسرة على قلّة العدد وخذلان الناصر» (١).

فيزيد بن معاوية أو عبيد الله بن زياد لم يرضَ منَّا إلاّ إحدى خصلتين كلتاهما مرّ :

١ ـ إمّا السلّة : أي السيف والحرب ، واستلال الأرواح من الأجساد.

٢ ـ وإمّا الذلَّة : أي الذلّ والهوان ، والسَّوق أسرى إلى الكوفة كالعبيد والإماء.

ولكن هيهات هيهات! أي بعيد كلّ البعد عن اُولئك اللئام أن يعطيهم الإمام الحسين سيّد الإباء ، وأصل الكرامة والشرف ما أرادوا ؛ فهم على يقين من أنّ الحسين عليه‌السلام لن يختار إلاّ السيف والقتال حتّى لو كان وحيداً فريداً في أرض كربلاء.

وكان هذا الموقف واضحاً وجليّاً في الخطبة الأولى لأبي عبد الله الحسين عليه‌السلام على تراب كربلاء في أوّل يوم عاشوراء ، حين خطبهم بخطبة بليغة عظيمة وهو راكبٌ فرسه ، معتمٌّ بعمامة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لابسٌ درعه ومتقلّدٌ سيفه ، فقال في أوّلها :

«أيُّها الناس ، اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتّى أعظكم بما يحقّ لكم عليَّ ، وحتّى أعذرَ إليكم ، فإن أعطيتموني النَّصفَ كنتم بذلك أسعد ،

__________________

١ ـ مقتل الحسين ـ للمقرّم ص ٢٣٤ ، اللهوف في قتلى الطفوف ص ٥٤ ، موسوعة البحار ٤٥ ص ٨.

٢٩٣

وإنْ لم تعطوني النَّصف من أنفسكم (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) (١)» (٢).

إلى أن قال له قيس بن الأشعث : (ما ندري ما تقول ، ولكن انزل على حكم بني عمّك فإنّهم لن يُرُوك إلاّ ما تحب).

فقال له الإمام الحسين عليه‌السلام بكلّ أنفة وإباء ، وشموخ وعظمة :

«لا والله ، لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذّليل ، ولا أفرُّ منكم فرار العبيد (٣). يا عباد الله ، إنّي عُذتُ بربّي وربّكم أن ترجمون ، أعوذُ بربّي وربّكم من كلّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب» (٤).

فإمّا الحياة بكرامة أو الموت بشهامة ، تلك هي كلمات الإمام الحسين عليه‌السلام ، ما زالت شعارات تُكتب على جدران الزمان والمكان ، لتقرأها الأجيال الحرّة المتطلّعة إلى الحريّة والسؤدد ، والشرف والكرامة على طول المدى دائماً وأبداً.

الكرم والجود الحسيني

ما أكثر ما يُحكى عن كرم وسماحة وجود وعطاء الإمام الحسين عليه‌السلام ، وهذا بحر لا ينفد على مدى الأيام ، ومهما تحدّثنا فإنّ الوصف قاصر ، والقلم

__________________

١ ـ سورة يونس : الآية ٧١ ، وسورة الأعراف : الآية ١٩٦.

٢ ـ إرشاد المفيد ص ٢٣٤ ، الكلمة ص ٢٧٣.

٣ ـ وفي رواية : ولا أُقرُّ إقرارَ العبيد.

٤ ـ إرشاد المفيد ص ٢٣٤ ، الكلمة ص ٢٧٣.

٢٩٤

كليل ، والفكر عليل عن الإحصاء ، ولكن لا بأس ببعض الوقائع التاريخية التي لم ننقلها من قبل.

ـ يحكي الحسن البصري فيقول : إنّ الإمام الحسين عليه‌السلام ذهب ذات يوم مع أصحابه إلى بستانه ، وكان في ذاك البستان غلام للحسين عليه‌السلام اسمه صافي ، فلمّا قرب من البستان رأى الغلام قاعداً يأكل الخبز ، فجلس الحسين عليه‌السلام عند بعض النخل بحيث لا يراه الغلام ، فنظر إليه الإمام عليه‌السلام وهو يرفع الرغيف فيرمي نصفه إلى الكلب ويأكل نصفه ، فتعجّب الحسين عليه‌السلام من فعل الغلام. فلمّا فرغ من الأكل قال : الحمد لله ربّ العالمين ، اللّهمّ اغفر لسيّدي كما باركت لأبويه برحمتك يا أرحم الراحمين.

فقام الحسين عليه‌السلام وقال : «يا صافي». فقام الغلام فزعاً وقال : يا سيدي وسيد المؤمنين إلى يوم القيامة ، إنّي ما رأيتك فاعف عنّي.

فقال الحسين عليه‌السلام : «اجعلني في حلٍّ يا صافي ؛ لأنّي دخلتُ بُستانك بغير إذنك».

فقال صافي : بفضلك يا سيدي وكرمك وسؤددك تقول هذا.

فقال الحسين عليه‌السلام : «إنّي رأيتُك ترمي نصفَ الرَّغيف إلى الكلب وتأكُلُ نصفه ، فما معنى ذلك؟».

فقال الغلام : إنّ هذا الكلب نظر إليّ وأنا آكل فاستحييت منه ، وهو كلبك يحرس بستانَك ، وأنا عبدك نأكل رزقك معاً.

فبكى الحسين عليه‌السلام وقال : «إن كانَ كذلك فأنتَ عتيقٌ لله تعالى ، ووهبتُ لك

٢٩٥

ألفي دينار».

فقال الغلام : إن أعتقتني فأنا أريد القيام ببستانك.

فقال الحسين عليه‌السلام : «إنَّ الكريم ينبغي له أن يصدِّق قولهُ بالفعل. أوما قلتُ لك اجعلني في حلٍّ ؛ فقد دخلتُ بُستانك بغير إذنك ، فصدّقت قولي ووهبته ؛ البستان وما فيه لك ، فاجعل أصحابي الذين جاؤوا معي أضيافاً ، وأكرمهم من أجلي أكرمك الله تعالى يوم القيامة ، وبارك لك في حسن خُلُقك وأدبك».

فقال الغلام : إن وهبتني بستانك فإنّي قد سبّلته لأصحابك وشيعتك (١).

أي أنّ الغلام قد جعل البستان سبيلاً لأصحاب الإمام الحسين عليه‌السلام وشيعته ، وهو خادم وحافظ للبستان فقط.

وإليك قصّة أُخرى من قصص الكرم والجود الحسيني ، مع الأخلاقيّات الاستثنائية التي حباها الله لهذا الإمام العظيم (عليه آلاف التحيّة والسّلام وآله الكرام).

ـ عن الذَّيال بن حرملة قال :

خرج سائل يتخطّى أزقّة المدينة حتّى أتى باب الحسين بن علي عليه‌السلام فقرع الباب ، وأنشأ يقول :

لم يخبِ اليومَ مَنْ رجاكَ ومَنْ

حرّكَ من خلفِ بابكَ الحلقه

فأنتَ ذو الجودِ وأنتَ معدنه

أبوكَ قد كان قاتلَ الفسقه

__________________

١ ـ المجالس السنية ١ ص ٢٦ ، موسوعة كلمات الإمام الحسين ص ٦٢٥ ، مستدرك الوسائل ٧ ص ١٩٢ ح٨٠٠٦.

٢٩٦

قال : وكان الحسين بن علي عليه‌السلام واقفاً يصلّي ، فخفّف من صلاته وخرج إلى الأعرابي ، فرأى عليه أثر ضرّ وفاقة ، فرجع ونادى بقنبر ، فأجابه : لبيك يابن رسول الله.

قال عليه‌السلام : «ما تبقّى معكَ مِنْ نفقتنا؟».

قال : مئتا درهم أمرتني بتفريقها في أهل بيتك.

قال عليه‌السلام : «هاتها ؛ فقدْ أتى مَنْ هو أحقُّ بها منهم». فأخذها وخرج يدفعها إلى الأعرابي ، وأنشأ عليه‌السلام :

خُذها فإنّي إليكَ معتذرٌ

واعلمْ بأنّي عليكَ ذو شفقه

لو كان في سيرنا الغداةُ عصا

كانت سمانا عليك مُندفقه

لكنَّ ريب الزمان ذو نكدٍ

والكفُّ منّا قليلةُ النفقه

فأخذها الأعرابي وولَّى وهو يقول :

مطهّرون نقّياتٌ جيوبهمُ

تجري الصلاةُ عليهم أينما ذُكروا

وأنتمُ أنتمُ الأعلَون عندكمُ

علمُ الكتابِ وما جاءت بهِ السورُ

مَنْ لم يكن علويّاً حين تنسبه

فما لهُ في جميعِ الناسِ مُفتخرُ (١)

فهل رأيت أخي الكريم مثل هذا الجود والكرم الحسيني؟ وهذه العفّة والنفسيّة حيث تراه يفيض منها بلا تكلّف ؛ لأنّ الدنيا عنده لا تساوي عفطة عنز كما كان أبوه الأمير عليهما‌السلام يقول ، إذ الدنيا للعطاء والتباذل خُلقت ، وليس للجمع والكنز ، فلمَنْ؟ ولماذا؟!

__________________

١ ـ تاريخ ابن عساكر (ترجمة الإمام الحسين) ص ١٦٠ ، أعيان الشيعة ١ ص ٥٧٩.

٢٩٧

العفو عن المسيء

وأخلاقيّات العفيف لا بدَّ أن يرافقها العفو كذلك ؛ إذ إنّ العفو من شيم الكرام ، وعند المقدرة من شيم العظام.

والمولى أبو عبد الله (صلوات الله وسلامه عليه) كم وكم مرّة عفا عن الناس من العبد والرقيق وحتى السيد الشريف المطاع.

وكان يحضّ دائماً على قبول العذر من المسيء والمعتذر ، كما يحدّث عنه ولده الإمام علي زين العابدين عليه‌السلام قال : «سمعتُ الحسين عليه‌السلام يقول : لو شتمني رجلٌُ في هذه الأُذن وأومأ إلى اليُمنى ، واعتذر لي في الأُخرى لقبلتُ ذلك منه ؛ وذلك أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام حدَّثني أنَّه سمع جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : لا يرد الحوض مَنْ لم يقبل العذر من مُحقٍّ أو مبطلٍ» (١).

فالكريم وأبيّ النفس والفاضل عليه أن يقبل الاعتذار ويعفو عن المسيء ؛ ليرتفع في عيون الناس وقلوبهم ، فينظروا إليه بمهابة وتعظيم ، ولا يعود أحد يجرؤ على الإساءة مرّة أُخرى ، كما حدث مع ذاك الشامي (عصام بن المصطلق) الذي قال : دخلت المدينة فرأيت الحسين بن علي عليه‌السلام فأعجبني سمته ورواؤه (هيأته ومنظره) ، وأثار من الحسد ما كان يخفيه صدري لأبيه من البغض ، فقلت له : أنت ابن أبي تراب؟

فقال عليه‌السلام : «نعم».

__________________

١ ـ إحقاق الحقّ ١١ ص ٤٣١.

٢٩٨

فبالغتُ في شتمه وشتم أبيه ، فنظر إليّ نظرةَ عاطف رؤوف ، ثمّ قال : «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ)(١).

ثمّ قال لي عليه‌السلام : «خفِّضْ عليكَ ، أستغفرُ الله لي ولك ، إنَّكَ لو استعنتنا لأعنَّاك ، ولو استرفدتنا لرفدناك ، ولو استرشدتنا لأرشدناك».

قال عصام : فتوسَّم منّي الندم على ما فرطَ منّي.

فقال عليه‌السلام : «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» (٢).

ثمّ أضاف يسأل : «أمِنْ أهلِ الشَّامِ أنتَ؟».

قلت : نعم.

قال عليه‌السلام : «شنشنةٌ أعرفُها من أخذم. حيّانا الله وإيّاك ، انبسطْ إلينا في حوائجك وما يعرضُ لك تجدني عند أفضل ظنِّكَ إن شاء الله تعالى».

قال عصام : فضاقت عليّ الأرض بما رحبت ، وودت لو ساخت بي ، ثمّ سللت منه لواذاً وما على الأرض أحبّ إليّ منه ومن أبيه (٣).

__________________

١ ـ سورة الأعراف : الآية ١٩٩ ـ ٢٠٢.

٢ ـ سورة يوسف : الآية ٩٢.

٣ ـ نفثة المصدور ص ٦١٤.

٢٩٩

هذا آخر حديثنا في الفصل الأوّل من هذا الكتاب عن بعض مناقبيّات المولى أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام. اللّهمّ اجعل محياي محيا محمد وآل محمد ، ومماتي ممات محمد وآل محمد. اللّهمّ أدخلني في كلّ خير أدخلت فيه محمداً وآل محمد ، وأخرجني من كلّ سوء أخرجت منه محمداً وآل محمد ، والحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسّلام على محمد وآل بيته الطيبين الطاهرين.

٣٠٠