الحسين (ع) والوهّابيّة

جلال معاش

الحسين (ع) والوهّابيّة

المؤلف:

جلال معاش


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القارئ للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

عن عكرمة ، قال : بينما ابن عباس يحدّث الناس إذ قام إليه نافع بن الأزرق فقال : يابن عباس ، تفتي في النملة والقمّلة ، صف لنا إلهك الذي تعبده؟

فأطرق ابن عبّاس إعظاماً لله (عزّ وجلّ) ، وكان الحسين بن علي عليه‌السلام جالساً ناحية ، فقال : «إليَّ يابن الأزرق».

فقال : لست إيّاك أسأل!

فقال ابن عباس : يابن الأزرق ، إنّه من أهل بيت النبوّة ، وهم ورثة العلم.

فأقبل نافع بن الأزرق نحو الحسين عليه‌السلام ، فقال له الحسين عليه‌السلام : «يا نافعُ ، إنّ مَنْ وضع دينه على القياس لم يزل الدّهر في الارتماس ، مائلاً عن المنهاج ، ظاعناً في الاعوجاج ، ضالاً عن السّبيل ، قائلاً غير الجميل. يابن الأزرق ، أصفُ إلهي بما وصف به نفسه ، وأعرِّفه بما عرّف به نفسه ، لا يُدرك بالحواسّ ، ولا يُقاس بالنّاس ، فهو قريبٌ غير مُلتصق ، وبعيدٌ غيرُ متقصٍّ ، يُوحّد ولا يُبعّض ، معروفٌ بالآيات ، موصوفٌ بالعلامات ، لا إله إلاّ هو الكبيرُ المتعال» (١).

__________________

١ ـ التوحيد ص ٧٩ ب٢ ح٣٥ ، مستدرك الوسائل ١٧ ص ٢٦١ ح٢٦٠.

٢٤١

فبكى ابن الأزرق ، وقال : يا حسين ، ما أحسن كلامك؟!

قال له الحسين عليه‌السلام : «بلغني أنّك تشهدُ على أبي وعلى أخي وعليّ بالكفر».

قال ابن الأزرق : أما والله يا حسين ، لئن كان ذلك لقد كنتم منار الإسلام ونجوم الأحكام.

فقال له الحسين عليه‌السلام : «إنّي سائلك عن مسألةٍ».

قال : اسأل.

فسأله عن هذه الآية : (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ) (١) ، يابن الأزرق ، مَنْ حُفظَ في الغُلامين؟

قال : أبوهما.

قال الحسين عليه‌السلام : «فأبوهُما خيرٌ أم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟».

قال ابن الأزرق : أنبأنا الله أنّكم قوم خصمون (٢).

الإمام حياة العلم كما في الرواية ، أي أنّ به يحيا العلم وينمو ويبارك ، ولولا الإمام المعصوم في كلّ عصر لتاه الناس عن دينهم ، وتشتّت بهم الأهواء ، وكثرت التأويلات والاجتهادات في دين الله ، كما فعل المجسّمة وأتباع القياس قديماً وحديثاً ، لا سيما اُولئك الذين يدَّعون التوحيد وهم مشركون مشبّهون ،

__________________

١ ـ سورة الكهف : الآية ٨١.

٢ ـ تاريخ ابن عساكر ، ترجمة الإمام الحسين ص ١٥٧ ح٢٠٣.

٢٤٢

ويرمون الأُمّة الإسلاميّة بالكفر والشرك ؛ لأنّها تنزّه الله عن التشبيه.

فيا أُمّة الإسلام ويا شعوب الأرض ، تعالوا تعلّموا من الحسين بن علي وسائر أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) العلوم الحقَّة التي لا يمكن أن نجدها عند غيرهم من سكّان المعمورة ، ودعكم من تخرّصات الآخرين.

فكيف لغير أولياء الله أن يعرفوا الله؟! وكيف لأعداء الله أن يعرفوا شيئاً عن الله تعالى في أسمائه وصفاته؟! فمعرفة الله تُؤخذ من أوليائه المقرّبين لا من أعدائه والمشبّهين له بعباده أو مخلوقاته. وهذا الإمام الحسين عليه‌السلام يحذّرنا من اُولئك الذين يمرقون من الدين ، (الخوارج قديماً ، والذين يكفّرون المسلمين حديثاً) ، ويصف لنا الله سبحانه بهذا الحديث الرائع :

«أيّها النّاس ، اتّقوا هؤلاء المارقة الذين يُشبّهون الله بأنفسهم ، يُضاهئون قول الذين كفروا من أهل الكتاب ، بل هو الله ليس كمثله شيءٌ ، وهو السميع البصير ، لا تُدركه الأبصار ، وهو يُدرك الأبصار ، وهو اللطيف الخبير. استخلص الوحدانيّة والجبروت ، وأمضى المشيئة والإرادة ، والقدرة والعلم بما هو كائنٌ ، لا منازع له في شيء من أمره ، ولا كفؤ له يُعادله ، ولا ضدّ له يُنازعه ، ولا سميّ له يُشابهه ، ولا مثل له يُشاكله. لا تتداوله الأمور ، ولا تجري عليه الأحوال ، ولا تنزل عليه الأحداث ، ولا يُقدّر الواصفون كُنه عظمته ، ولا يخطُر على القلوب مبلغ جبروته ؛ لأنّه ليس له في الأشياء عديلٌ ، ولا تُدركه العلماء بألبابها ، ولا أهل التفكير بتفكيرهم إلاّ بالتحقيق إيقاناً بالغيب ؛ لأنّه لا يُوصف بشيءٍ من صفات المخلوقين ، وهو الواحد الصّمد ، ما

٢٤٣

تُصوّر في الأوهام فهو خلافه ، ليس بربٍّ مَنْ طُرح تحت البلاغ ، ومعبودٍ مَنْ وجِدَ في هواء أو غير هواء.

هو في الأشياء كائنٌ لا كينونة محظور بها عليه ، ومن الأشياء بائنٌ لا بينونة غائب عنها. ليس بقادرٍ مَنْ قارنه ضدٌ ، أو ساواه ندٌّ ، ليس عن الدّهر قدمه ، ولا بالنّاحية أُممه ، احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار ، وعمّن في السماء احتجابه كمَنْ في الأرض.

قربه كرامته ، وبعده إهانته ، لا تحلّه في ، ولا توقّته إذ ، ولا تُؤامره إنْ ، علّوه من غير توقّلٍ ، ومجيئه من غير تنقّل ، يُوجد المفقود ، ويُفقد الموجود ، ولا تجتمع لغيره الصفتان في وقت ، يصيب الفكر منه الإيمان به ...» (١).

سمات العبادة الحسينيّة

إذا كان الخالق بهذه الصفات من الكمال ، لا بدَّ للمخلوق من اتّصافه بصفاته الجميلة ، وأجمل صفة للإنسان أنّه عبد الله ؛ ولهذا نجد أنّه أوّل ما يوصف النبيّ أو الرّسول بأنّه عبد الله ثمّ رسوله.

وأوّل وصف للعباد الكاملين من أئمّة المسلمين العبوديّة لله ؛ لأنّ الكمال المنشود بالعبوديّة الخالصة للمعبود. والعبادة : هي غاية الخلق ، أو العلّة الغائيّة لخلق المخلوقات كما يقول الفلاسفة. وهذا تقرير لما جاء بالآية الشريفة : (وَمَا

__________________

١ ـ تحف العقول ص ١٧٦ ، موسوعة البحار ٤ ص ٣٠١ ح٢٩.

٢٤٤

خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ) (١).

والإمام الحسين عليه‌السلام يقول : «مَنْ عبد الله حقّ عبادته ، آتاه الله فوق أمانيّه وكفايته» (٢).

ولكن حقّ العبادة كيف؟ ومَنْ يستطيع أن يعبد الله حقّ العبادة إلاّ الخُلّص من العباد؟ كالإمام ومَنْ هم مثله في الطهارة والكمال من آله الكرام (سلام الله عليهم جميعاً).

وأمّا بالنسبة للتقوى : فللإمام الحسين عليه‌السلام كلمات رائعة ، وخطب مدوّية يحض الأُمّة ويحثّها على التقوى التي هي أجلى غايات العبادة ، كخطبته التي يقول فيها :

«أوصيكم بتقوى الله ، وأُحذّركم أيّامه ، وأرفع لكم أعلامه ، فكأنّ المخوف قد أُفد بمهول وروده ، ونكير حلوله ، وبشع مذاقه ، فاعتلق مهجكم ، وحال بين العمل وبينكم.

فبادروا بصحّة الأجسام في مدّة الأعمار ، كأنّكم ببغتات طوارقه فتنقلكم من ظهر الأرض إلى بطنها ، ومن علوِّها إلى أسفلها ، ومن أُنسها إلى وحشتها ، ومن رَوحها وضوئها إلى ظلمتها ، ومن سعتها إلى ضيقها ، حيث لا يُزار حميمٌ ، ولا يُعاد سقيمٌ ، ولا يُجاب صريخٌ.

أعاننا الله وإيّاكم على أهوال ذلك اليوم ، ونجّانا وإيّاكم من

__________________

١ ـ سورة الذاريات : الآية ٥٦.

٢ ـ بحار الأنوار ٦٨ ص ١٨٤ ، مجموعة ورام ٢ ص ١٠٨.

٢٤٥

عقابه ، وأوجب لنا ولكم الجزيل من ثوابه.

عباد الله ، فلو كان ذلك قصر مرماكم ، ومدى مظعنكم ، كان حسب العامل شغلاً يستفرغ عليه أحزانه ، ويُذهله عن دنياه ، ويكثر نصَبه لطلب الخلاص منه ، فكيف وهو بعد ذلك مرتهنٌ باكتسابه ، مستوقفٌ على حسابه ، لا وزير له يمنعه ، ولا ظهير عنه يدفعه ، ويومئذ (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (١).

أوصيكم بتقوى الله ، فإنّ الله قد ضمن لِمَنْ اتّقاه أن يحوِّله عمّا يكره إلى ما يحبّ (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (٢) ، فإيّاك أن تكون ممّن يخاف على العباد من ذنوبهم ، ويأمن العقوبة من ذنبه ؛ فإنّ الله تبارك وتعالى لا يُخدع عن جنّته ، ولا يُنال ما عنده إلاّ بطاعته إن شاء الله» (٣).

هل قرأت أو سمعت كهذا الوصف الجميل ، والموعظة البالغة ، وهذا التحذير من الموت الذي تحدّث عنه الإمام في مطلع موعظته النورانيّة هذه؟!

__________________

١ ـ سورة الأنعام : الآية ١٥٨.

٢ ـ سورة الطلاق : الآية ٣.

٣ ـ تحف العقول ص ١٧٠ ، موسوعة البحار ٧٨ ص ١٢٠ ح٣ ، الأنوار البهية ص ١٤٥.

٢٤٦

الحسين عليه‌السلام يحذّر من الموت

الموت : هو ذاك الطارئ المهول ، والضيف النزول ، والوارد المجهول.

إنّ الموت : هو المخوف الذي يوفد على كلّ منّا بمهول المطلع ، ويأتينا بغتة أو فجأة ، أو على قدر لا يعلمه إلاّ صاحبه ، قال تعالى : (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) (١) ، بشع المذاق ، صعب الحلول ، شنيع الصنيع ، يستلُّ الأرواح ، ويمنع الإنسان من متابعة العمل الصالح.

ولذا فجدير بالإنسان العاقل أن يعدّ العدّة لهذا الضيف الذي لا بدَّ من نزوله وحلوله ، نفسيّاً ومعنويّاً ، وفي الرواية : «موتوا قبل أن تموتوا» ، و «حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا».

والإمام الحسين عليه‌السلام يخبرنا عن الموت قائلاً : «لو عقلَ الناسُ ، وتصوّروا الموت بصورته لخربت الدُّنيا» (٢) ؛ وذلك لأنّ أمر الموت عظيم لا يمكن تصوّره ، ولو تصوّرنا الموت لما عمل أحد للدنيا بشيء ؛ ولذا كانت الدنيا تخرب ، ويصبح الناس جميعاً من أبناء الآخرة وهم في هذه الدنيا ، فسبحان مَنْ قهر عباده بالموت!

ولولا الموت لشمخ الإنسان برأسه وطغى ، وبغى بعضهم على بعض ، ولأظهر كلٌّ بحجمه ما أظهره فرعون لأهل زمانه ودولته.

وفي رواية عن الإمام الحسين عليه‌السلام يقول : «لولا ثلاثةٌ ما وضع ابن آدم رأسه لشيءٍ ؛ الفقرُ ، والمرضُ ،

__________________

١ ـ سورة الزمر : الآية ٤٢.

٢ ـ إحقاق الحقّ ١١ ص ٥٩٢.

٢٤٧

والموت» (١).

والفقر : هو ذلّ حاضر للإنسان ، قاتله الله ما أبشعه! وأمّا المرض : فإنّه منبع الألم ، وربما يكون مقدّمة للموت. فالثلاثة يجمعهم الموت قاصم الظهور ، ومذلّ مَنْ في القصور.

وعلى الإنسان أن يعتبر بالماضين قبل أن يصبح عبرة للأجيال الآتية ، ويعمل لعمار آخرته في دنياه ، لا أن يعمل للدنيا وعمارها بخراب الآخرة ونسيانها. وبين يدينا موعظة جميلة جدّاً بهذا المعنى لأبي عبد الحسين عليه‌السلام يقول فيها :

«يابن آدم ، تفكّر وقل : أين ملوكُ الدنيا وأربابها الذين عمّروا واحتفروا أنهارها وغرسوا أشجارها ، ومدنوا مدائنها؟ فارقوها وهم كارهون ، وورثها قومٌ آخرون ، ونحن بهم عمّا قليلٍ لاحقون.

يابن آدم ، اذكر مصرعك ، وفي قبرك مضجعك ، وموقفك بين يدي الله تشهد جوارحك عليك يوم تزلُّ فيه الأقدامُ ، وتبلغ القلوب الحناجر ، وتبيضُّ وجوهٌ ، وتسودٌّ وجوهٌ ، وتبدو السرائرُ ، ويوضعُ الميزانُ بالقسط.

يابن آدم ، اذكر مصارع آبائك وأبنائك ، كيف كانوا وحيث حلّوا؟ وكأنّك عن قليلٍ قد حللت محلّهم ، وصرت عبرةً للمعتبر». وأنشد شعراً :

__________________

١ ـ نزهة الناظر وتنبيه الخاطر ص ٨٠ ح٤.

٢٤٨

أينَ الملوكُ التي عن حفظها غفلت

حتّى سقاها بكأسِ الموتِ ساقيها

تلكَ المدائنُ في الآفاقِ خالية

عادتْ خراباً وذاقَ الموتَ بانيها

أموالُنا لذوي الورّاثِ نجمعها

ودورُنا لخرابِ الدّهرِ نبنيها (١)

كلمات بسيطة ومعبّرة لا تحتاج إلى تعليق أو توضيح ؛ لأنّ توضيح الواضحات من أشكل المشكلات. والشعر في آخرها يوجز مغزاها ومعناها ، فتبصّر في أمرك يا عزيزي ، واعرف أين أنت ، وإلى أين أنت سائر؟

تيقّظ من غفلتك أيّها العبد السّاهي أو الغافل ؛ حتّى لا تُؤخذ على حين غرّة فتذهب حياتك سُدى ، وأكبر الخسران خسران النفس في الدار الآخرة.

وفي رواية جميلة عن المولى أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام يقول فيها :

«وجِدَ لوحٌ تحت حائط مدينة من المدائن مكتوبٌ فيه : أنا الله لا إله إلاّ أنا ، ومحمدٌ نبييّ ، عجبتُ لِمَنْ أيقن بالموت كيف يفرح! وعجبتُ لِمَنْ أيقن بالقدر كيف يحزن! وعجبت لِمَنْ اختبر الدنيا كيف يطمئن إليها! وعجبت لِمَنْ أيقن بالحساب كيف يُذنب!» (٢).

وأنا العبد الفقير أعجب ممّنْ يتدبّر هذا الحديث ، كيف لا يسوح في الأرض مطلِّقاً الدنيا ثلاثاً كأمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، يبحث عن رضى الله ، متفرّغاً للعبادة والجهاد؟!

__________________

١ ـ إرشاد القلوب ١ ص ٢٩.

٢ ـ عيون الأخبار ٢ ص ٤٨ ح١٥٨ ، موسوعة البحار ٧٨ ص ٤٥ ح١٣ ، و ٧٣ ص ٩٥ ح٧٦.

٢٤٩

فلسفة الحجّ عند الحسين بن علي عليهما‌السلام

إنّ الحجّ عبادة عظيمة جدّاً في ديننا الإسلامي ، وهو استجابة لنداء أبينا إبراهيم الخليل عليه‌السلام منذ قرون وقرون ، حين أمره الله أن يعلي البيت ويعمره ، ثمّ ينادي في الناس بالحجّ ، فجعل الله ذاك المكان المقفر مهوى للأفئدة والقلوب الطاهرة.

وآيات القرآن الكريم تشهد على ذلك كلّه ، ونتلوه في آيات مباركات ، لا سيما في كلّ من سورة إبراهيم وسورة الحجّ المباركتين. وللإمام الحسين عليه‌السلام مع الحجّ حقائق ووقائع جميلة ، وشواهد عظيمة ، فكتُب التاريخ والسيرة والتراجم تذكر أنّه حجّ إلى بيت الله الحرام خمساً وعشرين حجّة ماشياً على قدميه (١) ، وكانت الأفراس والنجائب تُقاد بين يديه وأمامه (١).

وذات مرَّة خرج طالباً العمرة ، وفي أثناء الطريق مرض مرضاً شديداً ، فبلغ ذلك أباه أمير المؤمنين عليه‌السلام وكان في المدينة المنوّرة ، فخرج في طلبه فأدركه في (السقيا) وهو مريض ، فقال له : «يا بُنيّ ، ما تشتكي؟».

قال عليه‌السلام : «أشتكي رأسي».

فدعا أمير المؤمنين عليه‌السلام ببدنة (ناقة) فنحرها ، وحلق رأس الحسين وردّه إلى المدينة ، فلمّا أبل (شفي) من مرضه قفل راجعاً إلى مكّة المكرّمة واعتمر (٣).

__________________

١ ـ تاريخ ابن عساكر ١٣ : الآية ٢٥٤.

٢ ـ المصدر نفسه ص ٥٤.

٣ ـ حياة الإمام الحسين بن علي ١ ص ١٣٤ ، دعائم الإسلام ١ ص ٣٩٥.

٢٥٠

ويروى أنّه كان إذا أمسك الركن الأسود (الحجر الأسود) يناجي الله ويدعوه بهذه الكلمات النورانيّة :

«إلهي ، أنعمتني فلم تجدني شاكراً ، وابتليتني فلم تجدني صابراً ، فلا أنت سلبت النعمة بترك الشكر ، ولا أدمت الشدّة بترك الصبر. إلهي ، ما يكون من الكريم إلاّ الكرم» (١).

ومَنْ يدرس حياة الإمام الحسين عليه‌السلام تستوقفه ثلاثة مواقف في الحجّ الحسيني المبارك :

١ ـ دعاء الإمام الحسين عليه‌السلام في يوم عرفة.

٢ ـ مؤتمر مِنى في آخر حجّة حجّها الإمام قبل وفاة معاوية بعام.

٣ ـ آخر حجّة حجّها ولكن لم يكملها ، بل أحلَّ إحرامه في يوم التروية ، وانطلق إلى العراق في طريقه إلى كربلاء الفاجعة.

وفي الحقيقة فإنّ دراسة دعاء الإمام الحسين عليه‌السلام في يوم عرفة يحتاج إلى كتاب كبير وموسَّع ؛ لأنّ فيه من المعارف الراقية ، واللطائف الرائعة ما لا يدركه إلاّ أصحاب العلوم والمعارف الإلهيّة الحقّة.

وأنا العبد الفقير معترف بالتقصير والقصور عن ذلك العمل الرفيع ؛ لقصر الباع ، وقلّة البضاعة ، ولكن كما يُقال : (ما لا يُدرك كلّه لا يُترك جلّه).

ومن هذه الحقيقة التي نعترف بها أوّلاً ، نحاول قراءة فقرات هذا الدعاء العظيم للمولى أبي عبد الله عليه‌السلام ، ومحاولة الاستفادة منه ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.

__________________

١ ـ حياة الإمام الحسين بن علي ١ ص ١٣٤ ، الكواكب الدريّة ١ ص ٥٨.

٢٥١

تأمّلات عرفانيّة في دعاء يوم عرفة

إنّ معارف الدعاء الشريف للمولى أبي عبد الحسين عليه‌السلام في يوم عرفة تكاد لا تنحصر في موضوع واحد ، لكنّه يبدأ بالحمد والتمجيد لله تعالى ، ثمّ ينتقل إلى العلوم الدقيقة للإنسان من عالم الأصلاب إلى الأرحام وظلماتها ، ثمّ إلى الدنيا وتطوّراتها وأطوارها المختلفة.

وهكذا ينتقل الإمام من آيات النفس البشريّة ، إلى آيات الكون الآفاقيّة برحابتها وعظمتها ، والدَّارس للدعاء الشريف يشعر وكأنّه في بحر خضم من المعارف النورانيّة الرفيعة ، والعميقة والبليغة ، بحيث وردت بهذا الترتيب البديع أو السهل السريع ؛ ولذا فإنّني سأختار فقرات فقط من الدعاء مع الالتفات إلى اللطائف الأخلاقيّة فيها ، وممّا يرتبط ببحثنا عن أخلاقيّات الإمام الحسين عليه‌السلام ، فالأخلاق مع العبادة والطاعة قمّة الأخلاق الفاضلة.

١ ـ التمجيد :

وهو التقديس والتنزيه ، والتعظيم للمولى تعالى ، وهذا مطلوب في بداية كلّ دعاء كما في الرواية الشريفة أنّ : «مَنْ أرادَ الدعاء فليبدأ بالتَّمجيدِ لله تعالى». والإمام الحسين عليه‌السلام يبدأ حامداً وممجّداً بقوله : «الحمدُ لله الذي ليس لقضائهِ دافعٌ ، ولا لعطائه مانعٌ ، ولا كصنعه صُنع صانعٍ ، وهو الجواد الواسع ، فطر أجناس البدائع ، وأتقن بحكمته الصّنائع ، لا تخفى عليه الطلايعُ ، ولا تضيعُ عنده الودائعُ ، جاري كلِّ صانعٍ ، ورائشُ كلّ قانع ، وراحم كلِّ ضارعٍ ، ومنزّلُ المنافع ، والكتاب

٢٥٢

الجامع بالنّور الساطع ، وهو للدّعوات سامعٌ ، وللدّرجات رافعٌ ، وللكربات دافعٌ ، وللجبابرة قامعٌ ، فلا إله غيره ، ولا شيء يعدله ، وليس كمثله شيء وهو السميع العليم ، البصيرُ اللطيف الخبيرُ ، وهو على كلّ شيءٍ قدير ...» (١).

تأمّل عزيزي القارئ هذه الكلمات وأعدْها ؛ حتّى تتذوق ما فيها من حلاوة ، وترى ما عليها من طلاوة ، ألا تجد أنّ في كلّ جملة قصّة أو حكمة ، أو نظريّة علميّة؟

ألا ترى أنّ جملة «ليسَ لقضائهِ دافعٌ ، ولا لعطائه مانعٌ» تلخّص مسألة كلاميّة في غاية الدقّة (القضاء والقدر) ، وبحوثه الكلاميّة التي طال الحديث فيها بين أقطاب الأُمّة ، وافترقت على أساسها إلى ثلاث فرق أساسية؟

أمّا الجملة الثانية : «ليسَ كصُنعهِ صُنعُ صانع» فإنّها تحكي قصّة الخلق كلّه من الذّرة إلى المجرّة ؛ فإنّها كلّها مخلوقة له سبحانه ، وإذا أضفنا إليها الجملة التي بعدها فإنّها تزداد ألقاً ونوراً ، أعني قوله عليه‌السلام : «فَطَرَ أجناس البدائِع ، وأتقنَ بحكمتهِ الصنائعُ».

نعم ، إنّه إبداع أوّل الخلق ؛ لأنّه جاء لا عن مثال سبقه. والفطر : الخلق الإبداعي الأوّل. فطرة الله : خلقته الأولى وإيجاده الأوّل الذي لا يمكن أن يكون إلاّ بحكمة بالغة ودقّة متناهية ، وإلاّ كان الخلق عبثاً والخالق لاعباً ـ والعياذ بالله ـ وهو الحكيم العليم القادر.

__________________

١ ـ البلد الأمين ـ للكفعمي ص ٢٥١ ، زاد المعاد ـ للمجلسي ص ١٤٦.

٢٥٣

فَنِعَمُ الخالق على المخلوقات لا تُحصى ولا تُعدّ ؛ ولذا يتعذّر الشكر عليها وتأدية واجب ذلك للمنعم بها علينا. يقول الإمام عليه‌السلام بعد الالتفات إلى عجيب خلق الإنسان :

«فسُبحانك سُبحانك من مُبدئ مُعيدٍ ، حميدٍ مجيدٍ ، وتقدّستْ أسماؤك ، وعظمت آلاؤك ، فأيّ أنعمك يا إلهي أُحصي عدداً أو ذكراً ، أم أيّ عطاياك أقومُ بها شكراً ، وهي يا ربِّ أكثرُ من أن يُحصيها العادّون ، أو يبلغُ عِلمها الحافظون» (١).

وربّنا سبحانه وتعالى قال وهو أصدق القائلين : (إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) (٢) ، فكيف يشكر ما لا يُحصى.

إذا كانت النعم لا تُحصى ، والشكر عليها لا يؤدّى ، ووصفها متعذّر لجهل معظمها ، فكيف لك أن تصف خالقها ، أو تعرف حقيقة بارئها؟! هيهات هيهات! لا يمكن لك ذلك مهما كنت من أصحاب العقول العملاقة ؛ لأنّك مهما بلغت ستبقى محدوداً وربّك مطلقاً ، فهل يمكن للمحدود أن يحيط علماً بالمطلق؟

«يا مَنْ لا يعلم كيف هو إلاّ هو ، يا مَنْ لا يعلمُ ما هو إلاّ هو ، يا مَنْ لا يعلمُ ما يعلمهُ إلاّ هو ، يا مَنْ كبس الأرض على الماء ، وسدَّ الهواء بالسّماء ، يا مَنْ له أكرمُ الأسماء ، يا ذا المعروف الذي لا ينقطعُ أبداً».

__________________

١ ـ المصدر السابق.

٢ ـ سورة إبراهيم : الآية ٣٤.

٢٥٤

فالله سبحانه لا يُعرَف بالكيف ، ولا بالماهية الحقيقيّة ، ولا يعلم سرّه إلاّ هو ، فعلم ذلك لم يخرج منه إلى أحد من خلقه ؛ لأنّه لا يُحتمل ، ويتعذَّر على الإنسان الإحاطة أو المعرفة بالله تعالى ؛ ولذا جاء في الحديث الشريف : «تفكّروا في خلقِ الله ، ولا تتفكّروا في ذات الله فتضلّوا».

فالعلم بالله ، ومن الله ، ولكن لا أحد يعلم عن الله وصفاته ، أو أسمائه أو حتّى علمه إلاّ هو.

٢ ـ معرفة الخالق :

قلنا : إنّ معرفة الخالق سبحانه متعذّرة ، إلاّ أنّه وصف نفسه القدّوسية ، ووضع لها أسماء مباركة ؛ لنتعامل معها في هذه الحياة ، وسمح لنا بمعرفة الأوصاف بما يقابلها في صفحات الوجود من انعكاسات وظلال نورانيّة.

فعرفنا الاسم ِأو الصفة الجلالية أو الجمالية بالتجلّي على أرض الواقع فيما بيننا ، وإلاّ فإنّه سرّ مكنون مصون. فالله سبحانه معروف بالصفات ، ولا نصفه إلاّ بما وصف لنا نفسه ، وعلى الإنسان أن يعرف ربّه ، كما يقول المولى أبو عبد الله الحسين عليه‌السلام :

«يا مولاي ، أنتَ الذي أنعمتَ ، أنتَ الذي أحسنتَ ، أنتَ الذي أجملتَ ، أنتَ الذي أفضلتَ ، أنت الذي مننتَ ، أنتَ الذي أكملتَ ، أنتَ الذي رزقتَ ، أنتَ الذي أعطيتَ ، أنتَ الذي أغنيتَ ، أنتَ الذي أقنيتَ ، أنتَ الذي آويتَ ، أنتَ الذي كفيتَ ، أنتَ الذي هديتَ ، أنتَ الذي عصمتَ ، أنتَ الذي سترتَ ، أنتَ الذي غفرتَ ، أنتَ الذي أقلتَ ، أنتَ الذي مكّنتَ ، أنتَ الذي أعززتَ ، أنتَ الذي أعنتَ ، أنتَ

٢٥٥

الذي عضدتَ ، أنتَ الذي أيّدتَ ، أنتَ الذي نصرتَ ، أنتَ الذي شفيتَ ، أنتَ الذي عافيتَ ، أنتَ الذي أكرمتَ ، تبارَكتَ ربِّي وتَعَاَليتَ فلك الحمدُ دائماً ، ولك الشُّكر واصباً أبداً».

تلك هي المعرفة الحقّة للخالق تعالى ، فهل تحتاج منّا إلى شرح أو تعليق أو توضيح؟

لا أحسبني محتاجاً لذلك ، بل سأتركه للقارئ الكريم العارف الروحاني.

٣ ـ معرفة النفس والاعتراف بالذنب :

إنّ المعرفة الإنسانيّة عامّة وشاملة مهما كانت واسعة أو عميقة ، إلاّ الأولياء الكمّل من عباد الله المخلصين ، كمحمد وآله الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) ، فإنَّ علمهم لَدُنّيٌّ بتعليم المولى لهم كلّ العلوم التي تحتاجها البشرية ، ولم يَخْفَ عنهم إلاّ علم السّاعة كما في الروايات.

أمّا الإنسان العادي فإنّ معرفته بنفسه يجب أن تكون أفضل المعارف لديه ، وربّنا سبحانه وتعالى يقول : (بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) (١).

إنّ أخبر الناس وأعلمهم بأنفسهم هم المؤمنون الذين أنار الله بصائرهم فكانوا على يقين من أمورهم كلّها ، وتراهم ينظرون بنور الله ، ويهتدون بآياته وكتابه الكريم ، ولكنّ الإمام الحسين عليه‌السلام يعلّمنا كيف ندعو ونعترف بالتقصير ؛ لأنّه لا أحد يعبد الله حقّ عبادته مهما جاهد فيه ؛ لذلك

__________________

١ ـ سورة القيامة : الآية ١٤ ـ ١٥.

٢٥٦

يقول عليه‌السلام في دعاء عرفة أيضاً :

«أنا يا إلهي المعترِفُ بِذُنوبي فاغفرها لي ، أنا الذي أخطأتُ ، أنا الذي هممتُ ، أنا الذي جَهِلتُ ، أنا الذي غفلتُ ، أنا الذي سَهوتُ ، أنا الذي اعْتمدتُ ، أنا الذي تعمَّدتُ ، أنا الذي وَعَدتُ ، أنا الذي أخلفتُ ، أنا الذي نَكثتُ ، أنا الذي أقررتُ ، أنا الذي أعترفُ بنعمتك عندي وأبوء بذنوبي فاغفْر لي ، يا مَنْ لا تضرُّهُ ذُنوبُ عباده وهوَ الغنيُّ عَنْ طاعَتِهمْ ، والموفِّقُ مَنْ عمَل منهم صالحاً بمعونَتهِ ورحمتهِ ، فلك الحمد إلهي وسيدي».

والاعتراف بالذنب فضيلة ، والاعتراف بالتقصير يجبره ، والاعتراف بالخطأ اعتذار ، وعليك أن تعترف بذنبك أمام سيدك وتطلب منه الغفران ، وتقف بين يديه لتقرّ على نفسك بكلّ ما عملت ، وتطلب منه العفو عنك وإخلاءك من التبعات.

وتقول مع سيّدك :

«اللَّهُمَّ اجعلنا في هذا الوقت ممَّنْ سألكَ فأعطيته ، وشكركَ فزدتهُ ، وتابَ إليك فقبلتهُ ، وتنصَّلَ إليك مِنْ ذنوبه كُلِّها فغفرتها له ، يا ذا الجلال والإكرام».

وذلك كلّه نابع من معرفتك بنفسك ، ويقينك من ذنبك ، ورحمة ربّك وواسع مغفرته ، من العبد الاعتراف بالذنب ، ومن الربّ الرحمة والغفران ، وكلّ يعمل على شاكلته.

«إلهي ، أنا الفقيرُ في غناي ، فكيف لا أكونُ فقيراً في فقري. إلهي ،

٢٥٧

أنا الجاهلُ في علمي فكيف لا أكونُ جهولاً في جهلي. إلهي ، إنَّ اختلافَ تدبيركَ وسُرعةَ طواء مقاديرك منعا عبادكَ العارفين بك عن السُّكون إلى عطاء واليأس منك في بلاءٍ. إلهي ، منّي ما يليقُ بلؤمي ، ومنكَ ما يليقُ بكرمكَ. إلهي ، وصفتَ نفسكَ باللُّطفِ والرّأفةِ لي قبلَ وجود ضعفي ، أفتمنعني منهما بعد وجود ضعفي؟! إلهي ، إنْ ظهرتِ المحاسنُ منّي فبفضلكَ ولك المنَّةُ عليَّ ، وإنْ ظهرتِ المساوي منَّي فبعدلك ، ولكَ الحُجّةُ عليَّ».

٤ ـ لطائف ومعارف :

إنّ العرفان هو لطائف نورانيّة تُقذف في القلوب المؤمنة ، فتلوح إشارات غامضة ، وتنطلق كلمات مبهمة لا يمكن شرحها أو تفسيرها ، أو ربما يصعب فهمها على غير أصحاب القلوب الرقيقة ، والعقول العميقة ، والأفكار الدقيقة. ومن هذه اللفتات الرفيقة في دعاء الإمام الحسين عليه‌السلام الذي نحن في رحابه قوله عليه‌السلام :

«إلهي ، هذا ذُلّي ظاهرٌ بينَ يديكَ ، وهذا حالي لا يخفى عليكَ ، منكَ أطلُبُ الوصولَ إليك ، وبكَ أستدلُّ عليك ، فاهْدني بنوركَ إليكَ ، وأقمني بصدق العبوديَّة بين يديك. إلهي ، عَلَّمني من علمك المخزون ، وصُنّي بستركَ المصون. إلهي ، حقّقني بحقائق أهل القُربِ واسلُك بي مسلك أهلِ الجّذب. إلهي ، أغنني بتدبيرك عنْ تدبيري ، وباختياركَ عن اختياري ، وأوقفني على مراكز اضطراري. إلهي ، أخرجني من ذُلِّ نفسي ، وطهِّرني من شكّي وشركي قبلَ حلول رمسي. إلهي ، تقدّس رضاكَ أن يكون له علةٌ منكَ فكيف يكونُ له

٢٥٨

علّةُ منِّي؟! إلهي أنتَ الغنيُّ بذاتِكَ أنْ يَصِلَ إليكَ النَّفعُ منكَ فكيفَ لا تكونُ غنيّاً عنّي؟!

أنت الذي أشْرقتَ الأنوارَ في قلوب أوليائكَ حتّى عرفوكَ ووحَّدوك ، وأنتَ الذي أزلتَ الأغبارَ عنْ قلوبِ أحبائكَ حتّى لم يُحبّوا سواكَ ولمْ يلجأوا إلى غيركَ ، أنتَ المؤنسُ لهم حيثُ أوْحَشَتهمُ العوالمُ ، وأنتَ الذي هديتهُمْ حيثُ استبانتْ لهمُ المعالمُ ، ماذا وجد مَنْ فقدك وما الذي فقد مَنْ وجدك؟ لقد خابَ منْ رضيَ دونكَ بدلاً ، ولقدْ خسِرَ مَنْ بغى عنكَ مُتحوَّلاً».

تملَّ وانتشِ بهذه العبارات النوارنيّة ، وهذه الكلمات المضيئة ، واشرحها في نفسك ونوّر بها قلبك. وفي نهاية الدعاء الشريف يقول الإمام عليه‌السلام :

«يا مَنْ استوى برحمانيَّته فصارَ العرشُ غيباً في ذاته ، محقْتَ الآثار بالآثارِ ، ومحوتَ الأغبار بمُحيطات أفلاكِ الأنوار ، يا مَنْ احتجبَ في سُرادقاتِ عرشهِ عن أنْ تُدركهُ الأبصارُ ، يا مَنْ تجلّى بكمال بهائهِ فتحقّقتْ عظمتُهُ (من) الاستواء ، كيفَ تخفى وأنتَ الظاهرُ ، أم كيف تغيبُ وأنتَ الرَّقيب الحاضرُ؟ إنَّكَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ ، والحمدُ لله وحده».

سأترك لقلبك المنارِ بأنوار الوحي التعليق ، بل التعلُّق بهذه المعاني واللطائف التي احتوتها كلمات المولى أبي عبد الله الحسين (صلوات الله وسلامه عليه).

٢٥٩

المؤتمر الحسيني في الحجّ

أنقل هذا المؤتمر الحسيني المبارك بطوله لك أخي العزيز وقد تسأل ما علاقة هذا بالأخلاق ، ولماذا نقلته بهذا السياق ، وأثناء الحديث عن العبادة والحجّ خاصّة؟

إنّ الأخلاق هنا تكمن ، فالحديث عن هذا المؤتمر له صلة وثيقة بالحجّ وبالأخلاق الإسلاميّة من جهات عدّة :

١ ـ من أخلاقيّات القائد الرسالي.

٢ ـ من أخلاقيّات المعارضة السياسيّة.

٣ ـ من أخلاقيّات الحجّ والعبادة عامّة.

أليس هذا كلّه من الأخلاق ويصبّ في موضوع بحثنا الأخلاقي الحسيني؟

إنّ هذا المؤتمر امتداد للحجّ الواجب ، والعبادة الوحيدة المفروضة على مستطيعي الأُمّة ولمرّة واحدة في العمر. إنّ الحجّ في الحقيقة أكبر مؤتمر إسلامي سنوي في العالم ، بل وأكبر ظاهرة إيمانيّة أخلاقيّة في الحياة ؛

لأنّها تمثيل للقيامة والمحشر بكلّ ما فيه من عظمة ومهابة وقداسة. والمسلمون يجب عليهم أن يهتمّوا أيّما اهتمام بهذا المؤتمر النوراني المبارك ، وأن يعيدوه إلى مجده وإلى أصله التشريعي ؛ فإنّ القوم في هذه الأيام لا سيما وبعد تسلّط الحركة الوهابيّة على مقاليد الأمور هناك ، يفرغون الحجّ والعبادات من معانيها ومقاصدها الشرعيّة.

فتحوّل الحجّ إلى قشر لا لبّ فيه ، وذكر لساني لا معنى في القلب له ، هكذا أراد لنا السلفيون وأتباع محمد بن عبد الوهاب ، وما يخطّطها الاستعمار لضرب

٢٦٠