الحسين (ع) والوهّابيّة

جلال معاش

الحسين (ع) والوهّابيّة

المؤلف:

جلال معاش


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القارئ للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

أقولُ إلاّ قول ربّي تبارك وتعالى ، وإنّ الذي أقولُ لَمِنَ الله أنزله فيك» (١).

إنّ هذا الحديث الذي يرويه الإمام الحسين عليه‌السلام عن جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بحقّ أبيه أمير المؤمنين عليه‌السلام ليس حديث فكاهة ورواية عابرة ، بل هو حديث ولاء ودين يُدان به بين يدي الله عزّ وجلّ. والذي يُلفت النظر ليس الحديث فقط ، بل الأدب العظيم ، والخُلق العالي ، والاحترام الكبير الذي كان يتعامل به الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله مع وصيه وابن عمّه الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، هذا الإمام العظيم الذي تجرّأ عليه الوهابيّة ، لا سيما شيخهم ابن تيميّة وغيره كما سنوضّح فيما بعد بإذن الله.

الحسين عليه‌السلام وعلوم القرآن

إنّ ميزة العلم هي الميزة الأساسية للدين الإسلامي ، وبالتالي لقادة المسلمين الربّانيين وأئمّة الدين (سلام الله عليهم أجمعين) ، وإنّ أشرف العلوم علم القرآن الكريم.

والقرآن عند الإمام الحسين عليه‌السلام فيه أربعة أشياء ، كما كان يقول (سلام الله عليه) :

«كتابُ الله عزّ وجلّ على أربعة أشياء : على العبارة ، والإشارة ، واللطائف ، والحقائق. فالعبارة للعوام ، والإشارة للخواص ، واللطائف للأولياء ، والحقائق

__________________

١ ـ كلمة الإمام الحسين ص ٤٨ ـ ٤٩.

١٦١

للأنبياء» (١).

وفي حديث آخر يروى عنه وعن أبيه أمير المؤمنين عليهما‌السلام : «القرآن ظاهره أنيقٌ ، وباطنه عميقٌ» (٢).

سلام الله عليك سيدي ومولاي يا أبا عبد الله ، ما أعظمك وأجمل كلامك هذا الذي تصف فيه القرآن الحكيم ، بكلمات عذبة رقيقة إلاّ أنّها تُعطي بحاراً من العلم القرآني لكافة البشرية!

إنّ الإمام عليه‌السلام قد أعطى تقسيماً للبشر جميعاً ، فهذا التصنيف ليس للقرآن فقط ، بل لِمَنْ يقرؤه أيضاً ، والناس على هذه الأوجه الأربعة :

الصنف الأوّل : هم عامّة الناس الذي يحفظون القرآن بالقراءة والتلاوة والتبرّك به في كلّ ذلك ، وليس لهم إلاّ الألفاظ والكلمات بمعناها الظاهر ، ورسمها المتداول.

أمّا الصنف الثاني : فهم الخواصّ من المؤمنين ، وهم كالأشعّة اللامعة ينظرون من بين الحروف ، وما وراء الكلمات ؛ لتضيء لهم فكرة أو علماً لم يكن لغيرهم ، وهؤلاء أندر من الكبريت الأحمر في كلّ زمان ومكان.

أمّا الصنف الثالث : فهم الأولياء من اُولئك المؤمنين الذين جاهدوا في الله حقّ جهاده ، فهداهم وسدّدهم إلى لطائف الكتاب العزيز.

أمّا الصنف الرابع : فهم الأنبياء والرسل فقط ، فحقائق القرآن لهم وليس

__________________

١ ـ جامع الأخبار ص ٤١ فصل ٢٢ ، موسوعة البحار ٩٢ ص ٢٠ ح١٨.

٢ ـ المصدر نفسه.

١٦٢

لغيرهم ، وهي حقائق لأنّها لا تقبل التأويل أو التفسير المخالف لما يقوله المعصوم عليه‌السلام.

ويبقى القرآن الكريم في ظاهره أنيقاً جميلاً كالنور يتلألأ على صفحات الوجود العلوي والسفلي ، وأمّا باطنه فإنّه أعمق من أن يتصوّره بشر عادي ؛ لأنّه متّصل بنور الأنوار ، وقدس الأقداس ، بالذّات الإلهية المقدّسة.

وإليك بعض تلك اللطائف الجميلة ، والحقائق الرائعة نستلهمها من الإمام الحسين عليه‌السلام عن بعض آيات القرآن الكريم ، وعليك يا عزيزي أن تلحظ أنّنا نأخذ بحجمنا نحن وقدرنا الصغير ، ويبقى الإمام عليه‌السلام فوق ما يمكن أن نفهم بكثير ؛ فإنّه يروى أنّ رجلاً جاء إليه وسأله عن معنى (كهيعص) فقال له : «لو فسّرتها لك لمشيت على الماء» (١).

الحسين عليه‌السلام وفلسفة التوحيد

فالإمام عليه‌السلام يفيض علينا بقدرنا ، وبحسب عقولنا القاصرة ، وإليك ما قاله في تفسير كلمة (الصمد) الشريفة من كلمات سورة الإخلاص المباركة :

عن الإمام الباقر عليه‌السلام ، عن أبيه عليه‌السلام قال : «إنّ أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن علي عليهما‌السلام يسألونه عن (الصمد) ، فكتب إليهم :

__________________

١ ـ ينابيع المودّة : الآية ٤٨٤ ، إحقاق الحقّ ١١ ص ٤٣٢.

١٦٣

بسم الله الرحمن الرحيم

أمّا بعد ، فلا تخوضوا في القرآن ، ولا تُجادلوا فيه ، ولا تتكلّموا فيه بغير علم ؛ فقد سمعت جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : مَنْ قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار ، وإنّ الله سبحانه قد فسّر الصمد فقال : (اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ) ثمّ فسّره فقال : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).

(لَمْ يَلِدْ) : لم يخرج منه شيء كالولد وساير الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين ، ولا شيءٌ لطيف كالنفس ، ولا يتشعّب منه البدوات كالسِّنة والنوم ، والخطرة والهمّ ، والحزن والبهجة ، والضحك والبكاء ، والخوف والرجاء ، والرغبة والسأمة ، والجوع والشبع ، تعالى أن يخرج منه شيء ، وأن يتولّد منه شيء كثيفٌ أو لطيفٌ.

(وَلَمْ يُولَدْ) : لم يتولّد من شيءٍ ، ولم يخرج من شيء كما تخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها ، كالشيء من الشيء ، والدابة من الدابة ، والنبات من الأرض ، والماء من الينابيع ، والأثمار من الأشجار ، ولا كما تخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها كالبصر من العين ، والسمع من الأذن ، والشمّ من الأنف ، والذوق من الفمّ ، والكلام من اللسان ، والمعرفة والتمييز من القلب ، وكالنّار من الحجر. لا بل هو (اللَّهُ الصَّمَدُ) الذي لا من شيء ولا في شيء ولا على شيء ، مبدع الأشياء وخالقها ، ومنشئ الأشياء بقدرته ، يتلاشى ما خلق للفناء

١٦٤

بمشيته ، ويبقى ما خلق للبقاء بعلمه ، فذلكم الذي (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) ، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» (١).

وفي رواية أُخرى عنه عليه‌السلام أنّه قال : «الصمد : الذي لا جوف له ، والصمد : الذي قد انتهى سؤدده ، والصمد : الذي لا يأكل ولا يشرب ، والصمد : الذي لا ينام ، والصمد : الدائم الذي لم يزل ولا يزال» (٢).

هذا عن (الصمد) ، ذاك الاسم الكريم العظيم لله سبحانه وتعالى في لطائف الإمام الحسين عليه‌السلام.

وأمّا عن (القدرِ) وما جاء في هذا الباب من اللطائف القرآنية في سورة القدر المباركة ، يحدّثنا الإمام الباقر عليه‌السلام عن أبيه زين العابدين عليه‌السلام قوله :

«قرأ عليُّ بن أبي طالب عليه‌السلام (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وعنده الحسن والحسين عليهما‌السلام ، فقال له الحسين عليه‌السلام : يا أبتاه ، كأنّ بها من فيك حلاوةً؟!

فقال له : يابن رسول الله وابني ، إنّي أعلمُ فيها ما لم تعلم ، إنّها لمّا نزلت بعث إليّ جدّك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقرأها عليّ ثمّ ضرب على كتفي الأيمن وقال : يا أخي ووصيي ، ووالي أُمّتي بعدي ، وحرب أعدائي إلى يوم يبعثون ، هذه السورة لك من بعدي ، ولولدك من بعدك ، إنّ جبرائيل أخي من الملائكة حدَّث إليّ أحداث أُمّتي في سنتها ، وإنّه ليحدث ذلك إليك كأحداث النبوّة.

__________________

١ ـ توحيد الصدوق : الآية ٩٠ ، البرهان ٤ ص ٥٢٥ ، موسوعة البحار ٣ ص ٢٢٣.

٢ ـ التوحيد ص ٩٠ ، البرهان ٤ ص ٥٢٥ ، موسوعة البحار ٣ ص ٢٢٣.

١٦٥

ولها نورٌ ساطعٌ في قلبكَ وقلوب أوصيائك إلى مطلع فجر القائم عليه‌السلام» (١).

اقرأ واستمع واعجب مسبّحاً الخالق تعالى على هذا الأدب الجمّ ، وعلى هذه الأخلاق الفاضلة بين الوالد العظيم والولد الكريم ، ثمّ بين الاثنين وذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

الإمام الحسين عليه‌السلام يقول لوالده عند تلاوته للقرآن (السورة) كأنّ بها من فيك حلاوة ، أدب عظيم ، وأخلاق عالية ، وتوقير واحترام ، فالنظر إلى وجه أمير المؤمنين عليه‌السلام عبادة ، والنظر إلى وجه الوالدين عبادة ، والنظر إلى وجه العالم عبادة ، وكلّ هذه الصّفات النورانيّة اجتمعت بالإمام علي عليه‌السلام.

والإمام عليّ وليّ الله الأعظم عليه‌السلام يبادل ولده باحترام أكبر ، وتبجيل أعظم ، حيث يناديه يابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ يردفه (وابني) ؛ إعظاماً للوالدة الشهيدة سيّدة نساء العالمين الزهراء عليها‌السلام ، ويعلّمه بلطف ولين من أسرار السورة وأسباب نزولها.

إنّه لدرسٌ تربويٌ تعليميٌّ أخلاقيٌّ رفيعٌ جدّاً ليتنا نحفظه ، ونعلّمه للآباء قبل الأبناء ، والأساتذة قبل التلاميذ ؛ ليكون لنا نبراساً ومتراساً على طول المدى.

هذه حقائق قرآنيّة ، ولطائف عرفانيّة اقتطفناها من رياض الإمام الحسين عليه‌السلام القرآنيّة النورانيّة ، الوارفة الظلال ، البهيّة الجمال التي تميس خضرتها بغنج ودلال ، تسبح الخالق المتعال. وقد رأيت لزاماً عليَّ أن أنقل لكم هذين الحديثين عن توحيد الله ومعنى صفاته ؛ ليعرف المسلمون كافة كيف علّمنا

__________________

١ ـ موسوعة البحار ٧٠ : الآية ٦٠ ، موسوعة كلمات الإمام عليه‌السلام ص ٥٦٧.

١٦٦

الإمام الحسين عليه‌السلام حقائق العلم وخصائص التوحيد ، ودقائق الفهم للأسماء الشريفة ، والصّفات الملازمة للذّات المقدّسة ، لا أن نفهمها بذاك الفهم الساذج الذي يخلو حتّى من التفكير السليم ، والفعل الصحيح ، إذ يجسّمون الخالق ويشبّهونه بخلقه تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

أخلاقيات القائد العسكري

هنا محطّات أخلاقيّة أستعرضها بعد حديث مقتضب عن القيادة العسكرية وشروطها ، وعوامل نجاحها ـ كما نفهمها في الوقت الحاضر ـ في أرض المعركة ، وأثناء التحضير لها.

إنّ مسألة القائد وقيادة الأعمال القتالية أثناء مجريات المعركة لها الأثر الكبير جدّاً في أيّة معركة حدثت ، أو يمكن أن تحدث على هذه الأرض أو خارجها ، وللقائد العسكري صفات يجب أن يتحلّى بها ؛ ليكون ناجحاً في عمليّة الإرادة والتوجيه ، وقيادة العسكريين ، أو العناصر المشتركة في المعركة.

صفات القائد عند الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام

هذا وقد حدّد الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام هذه الصّفات بعهده لمالك الأشتر النخعي (رضوان الله عليه) حين بعثه والياً على مصر بخمسة عشر نقطة ، أو صفة ، هي أن يكون القائد :

١ ـ مؤمناً ، وناصحاً لله دائماً.

٢ ـ عفيفاً ، طاهر الجيب ، نقي السريرة.

٣ ـ حكيماً ، يبطن على الغضب ، ويستريح إلى العذر ، ولا يعجل بالأمور.

١٦٧

٤ ـ شفوقاً على عسكره وجنده ، وخاصة الضعفاء منهم.

٥ ـ ينبو عن الأقوياء ، ويشتدّ عليهم ؛ لمنعهم من الطغيان على الضعفاء.

٦ ـ من ذوي الحسب والنسب ، والبيوتات المشهورة بالإصلاح.

٧ ـ شجاعاً ، ورابط الجأش ، وثابت الجنان (القلب).

٨ ـ كريماً ، وهي من أكبر صفات النبل البشري في كلّ زمان ومكان.

٩ ـ ذكياً ، سريع البديهة ، ولا يستأثر بالقرار دون مشورة الأصحاب.

١٠ ـ لا يهتمّ بالإطراء والمديح ، فاحثوا التراب في وجوه المداحين كما في الرواية.

١١ ـ أقرب الناس إلى العدوّ ، وأكثرهم مراجعة وكرّاً عليه أثناء القتال.

١٢ ـ عادلاً بين جنده في توزيع المهام والواجبات على الجنود.

١٣ ـ يشاور أصحابه ، ويتراجع عندما يشعر بالخطأ في القرار الذي اتّخذه.

١٤ ـ قويّاً وحازماً ، إلاّ أنّه لا يغضب من جنده ، ويملك غضبه إذا ما غضب يوماً.

١٥ ـ لا يتردّد باتّخاذ القرار المناسب ، والعمل على تنفيذه مباشرة ، ولا يتلكأ بسبب الضعف أو الخوف ، فلا ضعف ولا جبن فيه.

هذا استعراض لبعض النقاط التي حدّدها الإمام علي عليه‌السلام ، وهو أعظم قائد عسكري ربّاني عرفته البشرية بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي صفات القائد الناجح حقيقة ، وفي كلّ الموازين والمعارك ، وتجمع بين الدنيا والآخرة ، أي أنّ القيادة تكون ربّانيّة رساليّة إسلاميّة وإنسانيّة عسكريّة واقعيّة ، إذ لا إفراط ولا تفريط لديه ، فتنقلب الفضائل إلى عكسها تماماً ، وهذا ما لا يريده الإسلام أصلاً.

١٦٨

صفات القائد العسكري حالياً :

أمّا في عصرنا الحاضر بتعقيدات القوّات ، وتنوّع الأسلحة ، واختلاف الأماكن والأوضاع والأنواع القتالية ، ونحن في عصر الصواريخ النوويّة العابرة للقارات ، وأسلحة الإبادة الجماعيّة الشاملة والرحيمة ، في عصر النور الإلكتروني وما فيه من حرب النجوم والفضاء الخارجي ، فإنّ الإنسان المعاصر لم يكتفِ بإفساد البرّ والبحر ، بل راح يسعى إلى إفساد الجو والفضاء الخارجي ، فما هي صفات القائد العسكري في قواميسنا العسكريّة اليوم؟ إنّنا إن تتبّعنا مناهج الأكاديميّات العسكريّة من الغرب المتطوّر إلى الشرق النامي وما بينهما من متخلفين ، نرى أنّ صفات القائد عندهم مختصرة بخمسة أو ستة نقاط لا أكثر ، هي :

١ ـ العقيدة : أن يلتزم العقيدة السياسيّة للبلد الذي يعيش فيه.

٢ ـ الذكاء والمبادرة ، والاعتماد على النفس باتّخاذ القرار وإمضائه بإصرار.

٣ ـ الانضباط الصارم ، والإصرار على تنفيذ المهام القتالية.

٤ ـ الإرادة القتالية ، والقدرة التنظيمية للقوّات ؛ لسهولة القيادة.

٥ ـ الإعداد العسكري العالي ، والثقافة العسكريّة العامّة الجيدة.

٦ ـ إمكانيّة تربية وتدريب المقاتلين.

وبإعادة النظر في هذه الصفات أو النقاط التي سلفت نرى كم هو الفرق بينها وبين الصفات السابقة عند الإمام علي عليه‌السلام ؛ وذلك لأنّ الإمام عليه‌السلام يلتزم بالدين الحنيف وبالعقيدة الإيمانية ، فترى الصفات عنده يغلب عليها الجانب السماوي الإلهي الرسالي ، ثمّ يلتفت إلى الصفات الذاتيّة والشخصية الأُخرى

١٦٩

للقائد.

وهذا ما يسبغ الصفة الإنسانيّة الأخلاقيّة القيميّة عليها ، لا صفات القسوة والغطرسة والانفراديّة باتّخاذ القرارات ، والإصرار بعناد على تنفيذها كما يفهم من صفات القائد المعاصر الذي يجب أن يكون خالياً من كلّ صفات الرحمة والعطف والرأفة والإنسانيّة تجاه عدوّه.

فإذا سألت أحداً منهم ، لماذا هذه القسوة لديكم في التعامل؟

يقول : هكذا يجب أن يكون القائد ، لا يرحم أبداً ، ولا يتردّد في تدمير وإبادة العدوّ ، هكذا تربينا منذ البداية ، وقد نستعمل القسوة حتّى مع مناصرنا إذا لزم الأمر ، فالقائد يجب أن يُطاع دون تردّد ، وتنفذ الأوامر دون تذمّر من أحد.

لأنّ القائد أساساً ليس عنده الوقت الكافي ليستمع إلى رأي أقرب المقرّبين إليه ، فكيف سيكون لديه إمكانية المشاورة أو النصح؟ والقائد لا يعتذر ولو أخطأ ؛ لأنّ اعتذاره يؤدّي إلى خلخلة صورته في عيون عناصره ومرؤوسيه ، ورجاؤه إذا ما قال رجاءً فإنّه أمر عسكري واجب التنفيذ.

قيادة الإمام الحسين بن علي عليهما‌السلام

والبحث يطول هنا إلاّ أنّنا لسنا بحاجة إلى بسط القول في الباب ، فنلوي عنق البحث إلى صفات القائد الناجح قديماً وحديثاً بنظر القادة العظام والسادة الكرام أئمّة الأنام عليهم‌السلام ، فنسأل : أين قيادة الإمام الحسين عليه‌السلام من هذا كلّه؟

هل كان الإمام عليه‌السلام قائداً ناجحاً بالمعنى الكلّي للكلمة؟

هل من ملاحظات على قيادة الإمام الحسين عليه‌السلام؟ أم أنّه كما قال ذاك

١٧٠

الجلف عن أبيه الإمام علي عليه‌السلام : إنّ الإمام علياً رجل شجاع ، إلاّ أنّه لا علم له بفنون الحرب وولده كذلك؟!

هل كان الإمام الحسين عليه‌السلام قائداً عسكريّاً فقط ، أم أنّه كان قائداً رساليّاً إلهيّاً بكلّ المعاني الروحيّة والسماويّة السامية في هذه الدنيا؟!

نَعم ، كان الإمام الحسين عليه‌السلام نِعمَ القائد لجنده ، وكانت تتوفّر في شخصه الكريم جميع الصّفات المذكورة قديماً وحديثاً ، وأكثر منها أيضاً ، لماذا؟!

لأنّه عليه‌السلام جمع صفات القائد العسكري الفذ ، والإنسان المثالي في الإنسانيّة ، والإمام المفترض الطاعة من السماء (من الله تعالى).

وأحسب أنّني لست بحاجة إلى البسط والتطويل ؛ لأنّه يخرجنا عن مدار بحثنا هنا ، رغم أنّ الحديث عن الأخلاق والشجاعة ، والذكاء ومضاء العزيمة التي أظهرها الإمام الحسين عليه‌السلام على أرض كربلاء كقائد حقيقي في يوم عاشوراء كثيرة وعظيمة ، إلاّ إنّني سوف أختار مواقف معيّنة ، وأترك البقيّة الباقيّة لذكاء وفطنة الأخ القارئ الكريم.

١ ـ وضوح الرؤية عند الإمام الحسين :

الإنسان الذي لا يمتلك رؤية مستقبليّة واضحة ، أو الذي ليس لديه بصيرة نيّرة تهديه إلى السبيل الصحيح ؛ ليصل إلى هدفه المنشود وغايته المرجوّة ، لا يمكن أن يكون ناجحاً في عمله ، أو ناجحاً في تفكيره ، أو سعيداً في حياته.

والقائد من باب أولى وأخصّ عليه أن يمتلك رؤية شبه حقيقيّة ، أو تصوّراً جادّاً لمراحل المعركة ، مع حساب كلّ الاحتمالات الممكنة الوقوع ، أو حتّى

١٧١

البعيدة والمستحيلة الحدوث ، ويقول في قراره عند كلّ نقطة : إنّ كان كذا أو حدث كذا فإنّنا نتصرّف بهذا الشكل أو تلك الطريقة ؛ لتلافي الخسائر والتأثير بالعدوّ قدر الإمكان.

وهذا كلّه لا يأتي إلاّ من دراسة المعركة وعناصرها كلّها ـ لا سيما قوّات الصديق والعدوّ ـ وتحليل كافة المعطيات المتوفّرة ، وحساب الاحتمالات ، مع ثقافة عسكريّة عالية ، وخبرة عمليّة واسعة في خوض وإدارة الأعمال القتاليّة العسكريّة التي تأتي بالتدريب المستمر على القتال.

والمولى أبو عبد الله الحسين عليه‌السلام كان من القادة الأفذاذ الذين خاضوا المعارك حتّى حفظوها عن ظهر قلب ؛ وذلك لأنّه ومنذ ولادته المباركة في أوائل سنوات الهجرة المباركة التي شُحنت بالغزوات والحروب الإسلاميّة مع أهل الشرك والكفر والضلال ، حتّى خاض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه حوالي ثمانين غزوة وسريّة ، كان يراقب ويرصد كلّ ما يجري في تلك الساحة.

أمّا في عهد الخلفاء الأوائل ، فإنّ الإمام الحسين عليه‌السلام شارك في فتح أفريقيا ، وخاض حروب التأويل الثلاث : الجمل والناكثين ، وصفين والقاسطين ، والنهروان والمارقين ، مع أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، تلك الحروب التي كانت تشيب الطفل الرضيع من هولها ، وعظيم وقعتها على النفوس ، وتأثيرها في القلوب ، كما إنّه شارك أخاه الإمام الحسن السبط المجتبى عليه‌السلام وقاسمه همومه طيلة فترة إمامته التي امتدت حوالي عشر سنوات ، وذاق معه عليهما‌السلام طعم الغدر من الأُمّة الإسلاميّة ، ومكرها بعد الصلح مع

١٧٢

معاوية ، والاتهامات الشنيعة ـ والعياذ بالله ـ للإمام الحسن عليه‌السلام بعد ذلك ، حتّى إنّ أحدهم طعنه في فخذه يريد قتله ، وآخر قال له : يا مذِّل المؤمنين ـ نستجير بالله من ذلك كلّه ـ ، إلى أن وصلت سفن النجاة الإيمانيّة إلى شواطئ الإمام الحسين عليه‌السلام ، ورست سفينة الإمامة عنده ، ولاذ به المؤمنون ، والتجأ إليه المخلصون من شيعته ومحبي أبيه الأمير عليه‌السلام ، فنهض على اسم الله وبأمره خير نهوض ، وقارع الفساد في الأُمّة بيد من حديد ، وصارع معاوية الجبّار العنيد بسياسة حكيمة ورأي سديد.

إلاّ إنّه أعلن النهضة المباركة عندما نزا على عرش الخلافة والإمارة ذاك الطاغية يزيد ، وأراد تشريعاً لسطانه ، وتثبيتاً لملكه بفتوى (بيعة) من الإمام الحسين عليه‌السلام ، وأرسل بالتهديد والوعيد وحرّ الحديد إن لم يفعل الإمام عليه‌السلام ذلك ويبايع ، إلاّ إنّ أبيّ الضيم قالها مدوّية منذ اليوم الأوّل : «مِثلي لا يُبايع مِثلَه». أي أنّ الذي يكون في مقامي ، مقام إمامة الأُمّة الشرعيّة والحقيقيّة ، لا يمكن أن يُعطي شرعيّة الحكم والقيادة لشخص مثل يزيد ، فاسقٍ فاجرٍ ، شاربٍ للخمر ، قاتلٍ للنفس المحرّمة ؛ لأنّ مثل هذا لا شرعيّة لوجوده أصلاً ، فيجب أن تُقام عليه الحدود الإسلاميّة كلّها ، أو العقوبات القانونيّة المطابقة لأعماله الإجراميّة.

ومنذ البداية ، وقبلها من حين الولادة ، والإمام الحسين عليه‌السلام يمتلك الرؤية الواضحة ، والفكر الناضج الذي جعله يتّخذ هذا القرار الحاسم والمصيري ، لا سيما وأنّه يعلم علم اليقين أنّه مُطارد ومقتول ظلماً وعدواناً حتّى لو اختبأ في قنن الجبال وأوكار الصقور ، فإنّهم لن يدعوه حتّى يستخرجوه ويقتلوه.

١٧٣

والملفت أنّ القائد العسكري أو السياسي يخفي على أتباعه وأقرب المقرّبين إليه الكثير من التفاصيل الحساسة حتّى لا يتأثّر مَنْ حوله معنويّاً ونفسيّاً ، فتخور عزائمهم وتضعف قواهم ، وتتأثّر الحركة أو النهضة الثوريّة وتتعثّر من بدايتها.

إلاّ إنّ القيادة الإلهيّة والرساليّة للإمام الحسين عليه‌السلام تملك الشجاعة الفائقة لكي تخبر عن أدقّ التفاصيل لكافة العسكريين ، وليس للمقرّبين من القائد فقط ؛ لأنّ قيادة السماء همّها وهدفها الأوّل الإنسان المخلص ، والعبد التقي الذي يقدم على العمل بدافع ديني يقيني ، لا من منطلق مصالح دنيويّة آنيّة يطمع بها ، أو منصب قيادي تشريفي يطمح إليه ، فهؤلاء يعملون من أجل المصلحة أو الكرسي ، وليس لله والقربى من ساحاته المقدّسة.

إنّ الحسين بن علي عليهما‌السلام القائد الناهض في وجه الفساد الأموي ، يعلم منذ البداية أنّ كرامته من الله الشهادة ، ولم تغب عن باله يوماً كلمة جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنَّ لك في الجنّة درجات لن تنالها إلاّ بالشهادة» (١).

ولذا قال لأصحابه وأهل بيته سوف نُقتل جميعاً على أرض كربلاء بوحشيّة ودون رحمة أو رأفة ؛ وإنّما أراد بذلك أن يكونوا على بيِّنة من أمرهم منذ البداية : «مَنْ كان باذلاً فينا مهجته ، وموطِّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا ؛ فإنّني راحلٌ مصبحاً إن شاء الله تعالى» (٢).

فالشهادة هي الهدف ، وليس النصر والغلبة واستلام السلطة السياسيّة ،

__________________

١ ـ موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه‌السلام ص ٢٨٧.

٢ ـ مثير الأحزان ص ٤١ ، اللهوف في قتلى الطفوف ص ٢٦.

١٧٤

فكانت رؤية الجميع واضحة ، والنتيجة محتمة ، ولكنّهم يعلمون أيضاً أنّ ثمن هذه الشهادة حفظ الإسلام.

وهذا عكس جميع العلوم العسكريّة ، وقيادة الأعمال القتاليّة في عصرنا الحاضر ، أو مَنْ كان قبلنا بعشرات السنين.

٢ ـ الصراحة والصدق أساس المنهج الحسيني :

الصراحة قوّة ، والصدق شهامة وإباء وكرامة.

الصراحة شموخ وشَمَم ، والصدق أمانة وديانة وكرم.

الصدق : ضدّ الكذب ، وهو أشرف الصّفات المَرْضِيَّةِ ، ورئيس الفضائل النفسيّة ، وما ورد في مدحه وعظيم فائدته من الآيات والأخبار لا يمكن إحصاؤه (١).

وممّا جاء في وصف الصادقين في كتاب الله قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اُولئك هُمُ الصَّادِقُونَ) (٢).

وقد أمرنا ربّنا سبحانه بأن نكون في كلّ أحوالنا مع الصادقين ، محمدٍ وعترته الطاهرين (صلوات الله عليه وعليهم أجمعين) وجميع الأنبياء والمرسلين بقوله تعالى : (اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (٣).

__________________

١ ـ جامع السعادات ٢ ص ٣٣٣.

٢ ـ سورة الحجرات : الآية ١٥.

٣ ـ سورة التوبة : الآية ١٢٠.

١٧٥

وممّا يروى عن الإمام الحسين عليه‌السلام بهذا الشأن الأخلاقي قوله عليه‌السلام:

«الصدق عزٌّ ، والكذبُ عجزٌ ، والسرُّ أمانةٌ ، والجوارُ قرابةٌ ، والمعونةُ صداقةٌ ، والعملُ تجربةٌ ، والخُلُقُ الحسنُ عبادةٌ ، والصمتُ زينٌ ، والشحُ فقرٌ ، والسخاءُ غنى ، والرفقُ لبٌ» (١).

فالصدق عزٌّ وفخرٌ للإنسان ؛ لأنّه يعبّر عن شموخ وأنفة ، وسلامة النفس من الأمراض الباطنيّة ، لأنّ الإنسان لا يكذب إلاّ لعلّة نفسيّة ، وخساسة داخلية يعيش فيها ، ويقع تحت وطأتها فتدفعه إلى الكذب والدجل ؛ ليريح نفسه من عقدة النقص تلك ، ولو أصلحها بالحقّ والصدق لكانت أجدى وأنفع له على كلّ حال.

وهل هناك موقف أصعب من موقف الإمام الحسين عليه‌السلام من بداية حياته إلى يوم عاشوراء ، حيث شهادته المظفّرة على تراب كربلاء؟!

ويروي الإمام الصادق عليه‌السلام قائلاً : «قال عليّ للحسين عليهما‌السلام : يا أبا عَبدِ الله ، أُسوةٌ أنتَ قِدماً. (أي أنت أسوة يقتدى بك منذ القديم).

فقال عليه‌السلام : جُعلتُ فداك ما حالي؟!

قال عليه‌السلام : قد علمت ما جهلوا ، وسينتفع عالمٌ بما علم ، يا بُنيّ اسمع وأبصر من قبل أن يأتيك ، فو الذي نفسي بيده ، ليسفكنَّ بنو أُميّة دمك ، ثمّ لا يزيلونك عن دينك ، ولا يُنسونك ذكر ربّك.

فقال الإمام الحسين عليه‌السلام : والذي نفسي بيده حسبي ، وأقررت بما أنزلَ

__________________

١ ـ تاريخ اليعقوبي ٢ ص ٢٤٦.

١٧٦

اللهُ ، وأصدّق قول نبي الله ، ولا أُكذّب قول أبي» (١).

هذه شهادة صادقة من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام بحقّ ولده الحسين عليه‌السلام ، فهو قدوة في كلّ خير وإحسان وبركة منذ أن ولد على هذه الأرض وظهر في هذا الوجود. ولا يفوتنا الإشارة إلى هذا الأدب العظيم ، والتواضع الجم الذي يتجلّى به الإمام عليه‌السلام بحضرة والده العظيم.

فيبدأ كلامه بالفداء له بالروح والجسد ، ويُقسم بارّاً بالله أنّه يكفيه الإقرار لله بما ينزل والتسليم بما يقدر ، ويصدّق جدّه الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما أخبر به ، ولا يكذب ـ حاشاه ـ قول أبيه فيما يخبره عن فاجعته في كربلاء.

فالإنسان العالم بالعواقب يجب أن يستفيد من علمه ذاك بالعمل الصالح والتقى ، وانتهاز الفرص في الخيرات ، ولا يتوانى أو يتكاسل عن إصلاح المجتمع ومفاسده التي تفشّت في زمانه ، وسماع النصيحة واجب ، بالتبصّر بالعواقب تسلم النتائج ، وتكون إيجابيّة أكثر.

وحركة الإمام الحسين عليه‌السلام منذ البداية كانت صادقة وصريحة ، فلا التواء ولا مواراة ؛ لأنّ الهدف واضح ، والنتيجة مضمونة ومعلومة عند القائد ، فلماذا لا يكون واضحاً كلّ الوضوح مع الجميع؟!

ولكي نزيد مسألة الوضوح عند الإمام الحسين عليه‌السلام فإنّنا نستعرض أنواع الصدق عند علماء الأخلاق ، ونطبّقها على حركة الإمام الشهيد عليه‌السلام ؛ لنرى كم كانت حركة الإمام عليه‌السلام صادقة ونزيهة ، وكم كانت مواقفه واضحة وظاهرة

__________________

١ ـ موسوعة البحار ٤٤ ص ٢٦٢ ح١٧ ، العوالم ١٧ ص ١٥٢.

١٧٧

للعيان.

فالعلماء قالوا : إنّ الصدق أنواع ستة هي :

١ ـ الصدق في القول : وهو الذي يُقابل الكذب ، وهذا من أفحش فواحش اللسان.

والإمام عليه‌السلام منزّه ومطهّرٌ من هذه الآفة ، وكلماته كلّها تخبر عن مدى صدقه في الحديث والقول.

٢ ـ الصدق في العزم : وهو الجزم على عمل الخير لوجه الله تعالى ، وهل رأيت أحداً كان أحزم وأجزم من عمل الإمام الحسين عليه‌السلام؟ الذي قدّم كلّ ما يملك من الأهل والأبناء ، والأصحاب والأموال والأعراض في سبيل الله والمبدأ الذي نهض لإصلاحه ، ألا وهو الإسلام المحمّدي الأصيل الذي حاول صبيان بني أُميّة أن يغيّروه إلى ديانة أمويّة صوريّة لا حقيقة لها في أرض الواقع.

والإنسان بطبعه يقدّم العزم والإرادة على العمل ، فإن كان في داخله وباطنه جازماً على العزم ، مصمّماً على العمل بمقتضاه فإنّ عزمه يكون صادقاً لأنّه مقارن للقوّة والإرادة الصادقة في تنفيذ العمل الذي عزم عليه ، وهذه الصّفة كانت واضحة وجليّة منذ البداية وحتى النهاية في نهضة الحسين بن علي عليه‌السلام الإصلاحيّة.

٣ ـ الصدق في النيّة والإرادة : وهذا هو الإخلاص الكامل بالعمل لوجه الله تعالى ، وذلك بألاّ يكون له باعث في عمله وفي جميع حركاته وسكناته إلاّ الله.

والمولى أبو عبد الله الحسين عليه‌السلام قال :

«إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ، ولا مفسداً ولا ظالماً ، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي رسول الله ، اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، وأسير

١٧٨

بسيرة أبي وجدّي ، فمَنْ قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ ، ومَنْ ردّ عليّ أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم الظالمين» (١).

هذه هي النيّة الصادقة ، والهدف الواضح بالإصلاح للأُمّة ، وإعادتها إلى السير بسيرة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام وذلك لوجه الحقّ تعالى دون غيره.

٤ ـ الصدق والوفاء بالعزم : فإنّ النفس قد تسخو بالعزم في الوقت الحاضر ، إذ لا مشقّة ولا تعب في الوعد ، ولكن إذا حان وقت العمل بالوعد فإنّها تهيج وتجزع ، وتبحث عن مبرّرات للحنث بالوعد ، فإذا ثبت الإنسان كالإمام الحسين عليه‌السلام على عهده فإنّه يكون صادق العزم ، وموطّناً نفسه على الوفاء به.

٥ ـ الصدق في الأعمال : أي تطابق القول والعمل ، والظاهر والباطن ، والسريرة والعلانيّة ، وهذا من أصعب الموارد في هذه الحياة ، ولا يكتمل هذا المقام إلاّ الكُمَّل من أولياء الله (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (٢).

والإمام الحسين عليه‌السلام يقول : «إنّ الناس عبيد الدنيا ، والدين لعقٌ على ألسنتهم ، يحوطونه ما درّت به معائشهم ، فإذا محِّصوا بالبلاء قلّ الديّانون» (٣).

وامتحان الإمام الحسين عليه‌السلام كان أصعب ، وأعظم امتحان في هذه الحياة كلّها ؛ وذلك لأنّ القرآن الكريم وربّنا سبحانه يخبرنا عن أبينا إبراهيم

__________________

١ ـ بحار الأنوار ٤٤ ص ٣٢٩.

٢ ـ سورة سبأ : الآية ١٣.

٣ ـ بحار الأنوار ٤٤ ص ١٩٥ ، تحف العقول ص ١٧٦ ، كشف الغمّة ٢ ص ٣٢.

١٧٩

الخليل عليه‌السلام فيما أُمر بذبح ولده في المنام الصادق ، وأسلم ولده إسماعيل عليه‌السلام لأمر باريه ، وتلّه للجبين ، وفداه الله بذبح عظيم. وقال ربّنا عند ذلك : (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) (١).

أُمر إبراهيم عليه‌السلام بالذبح فامتثل لأمر الله بعد مشاورة ولده البارّ إسماعيل عليه‌السلام ، والنتيجة نجاة الولد ، ورفعة الوالد والولد عليهما‌السلام عند الله وعند الناس جميعاً بأنّهما من العظماء في تاريخ الإنسانيّة كلّها.

أمّا سيد الشهداء الحسين بن علي عليهما‌السلام فإنّ الأمر مختلف تماماً ؛ لأنّه قدّم جميع أهله وأصحابه للذبح أمام عينيه الشريفتين ، فأوّل شهداء البيت العلوي كان ولده علي الأكبر عليه‌السلام ، وآخرهم ولده الطفل الرضيع عبد الله ذُبح بسهم حرملة على صدره الشريف.

وبعد هذا وذاك قدّم نفسه الشريفة ودمه الطاهر قرباناً لله تعالى ، كما قالت عقيلة بني هاشم أُمّ المصائب زينب بنت علي عليهما‌السلام : (اللّهمّ تقبّل هذا القربان من آل محمد).

أسألك أيّها القارئ الكريم هل سمعت بمثل هذا الصدق؟ وهل يمكن أن تُقارن بين عمل أبينا إبراهيم عليه‌السلام وسيدنا أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام؟!

٦ ـ الصدق في مقامات الدين : من الصبر والشكر ، والتوكّل والحبّ ، والخوف والرجاء ، والزهد والتعظيم ، والرضى والتسليم ، وغير ذلك.

__________________

١ ـ سورة الصافات : الآية ١٠٦.

١٨٠