الحسين (ع) والوهّابيّة

جلال معاش

الحسين (ع) والوهّابيّة

المؤلف:

جلال معاش


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القارئ للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

وفي كلّ بقعة من العالم ترى لهم أثراً بسبب التهجير والتشريد والقمع والاضطهاد والظلم ، وما جرى عليهم من مصائب ومحن من هذه الأُمّة.

الحسين عليه‌السلام وحديث الولاء والولاية

وحديث الولاء عند الإمام الحسين عليه‌السلام طويل وجميل ؛ فإنّه يروي الكثير من الأحاديث والأحداث التي تبحث في هذا الموضوع النوراني ، كحديث الكساء وأصحاب الكساء ونزول آية التطهير ، وحديث الثقلين الذي سيأتي تفصيله في القسم الثاني من هذا الكتاب وتفسيره عند أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي يقول فيه :

سُئل أمير المؤمنين عليه‌السلام عن معنى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي مخلّف فيكم الثقلين ؛ كتاب الله وعترتي». مَن العترة؟

فقال عليه‌السلام : «أنا والحسن والحسين والأئمّة التسعة من ولْد الحسين ، تاسعهم مهديهم وقائمهم ، لا يُفارقون كتاب الله ولا يُفارقهم حتّى يردوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حوضه» (١).

وهذا الحديث ـ حديث الثقلين ـ من الأحاديث المتواترة لدى الأُمّة الإسلاميّة جمعاء ، وكم من كتب كُتبت عن شرح وتوضيح وإثبات وتنقيح هذا الحديث الشريف ، وهو من الأحاديث الواضحة والصريحة ، إلاّ أنّ الأيادي الآثمة التي تترصّد لفضائل أهل البيت عليهم‌السلام ، وتريد أن تبترها أو تنكرها حاولت جاهدة أن تحرف الحديث عن مساره أو معناه.

__________________

١ ـ معاني الأخبار ص ٩٠ ح٤.

١٤١

إنّ حديث أهل البيت عليهم‌السلام هو حديث الحقّ الخالص ، وإنّ حديثهم سنَّة رحمانيّة ؛ لأنّهم القرآن الناطق ، وكتاب الله هو القرآن الصامت ، فهم يفسّرون الكتاب والكتاب يؤيّدهم وينطق بفضلهم ووجوب اتّباعهم ، ولكنّ الحقّ مُرٌّ ، وهو صعب ومستصعب.

ذات يوم أتى الإمام الحسين عليه‌السلام أناس ، فقالوا له : يا أبا عبد الله ، حدّثنا بفضلكم الذي جعل الله لكم.

فقال عليه‌السلام : «إنّكم لا تحتملونه ولا تُطيقونه».

قالوا : بلى نحتمل.

قال عليه‌السلام : «إن كنتم صادقين ، فليتنحّ اثنان وأحدّث واحداً ، فإن احتمله حدّثتكم».

فتنحّى اثنان وحدَّث واحداً ، فقام طائر العقل ، ومرَّ على وجهه وذهب ، فكلّمه صاحباه فلم يردَّ عليهما شيئاً ، فقاموا وانصرفوا (١).

سبحان الله! الإنسان يبقى مغروراً بنفسه وهو من أضعف المخلوقات ، ولقد وصفه تعالى بذلك فقال : (وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا) (٢) ، فالإمام الحسين عليه‌السلام يقول لهم لا تطيقون ، ولا يريد أن يحمّلهم أكبر من طاقاتهم ، عطفاً عليهم ورحمة لهم ، وهم يصرّون على أنّهم يطيقون ويحتملون ، وما واحدهم إلاّ كأس صغير ويطمح لكي يتّسع لمياه البحر العظيم ، وإذا قال لهم البحر لن

__________________

١ ـ الكلمة ص ٥١ ، عن الخرائج والجرائح ٢ ص ٧٩٥ ب١٦ ح٤.

٢ ـ سورة النساء : الآية ٢٨.

١٤٢

تتّسعوا اتهموه ووصفوه بالبخل أو القصور والتقصير وغير ذلك ـ والعياذ بالله ـ ، وليس عليهم إلاّ أن يلتفتوا إلى قدرهم وصغر حجمهم.

الحب في الله لأبي عبد الله عليه‌السلام

من الواجب علينا أن نتعبأ من المودّة والحبّ لأهل البيت عليهم‌السلام ليس أكثر ، فأحبَّ اُولئك الأنوار لله تعالى ولوجه الله الحقّ ، ولذواتهم المقدّسة ؛ لأنّك مفطور على هذا الحبّ ، ومأمور بتلك المودّة.

يروى أنّه وفد إلى الإمام الحسين عليه‌السلام وفد فقالوا : يابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إنّ أصحابنا وفدوا إلى معاوية ووفدنا نحن إليك.

فقال عليه‌السلام : «إذن أُجيزكم بأكثر ممّا يُجيزهم».

فقالوا : جُعلنا فداك! إنّما جئنا مرتادين لديننا.

قال : فطأطأ رأسه الشريف ونكت في الأرض وأطرق طويلاً ، ثم رفع رأسه فقال : «قصيرةٌ من طويلة ، مَنْ أحبّنا لم يُحبّنا لقرابةٍ بيننا وبينه ، ولا لمعروفٍ أسديناه إليه ، إنّما أحبّنا لله ورسوله ، فمَنْ أحبّنا جاء معنا يوم القيامة كهاتين ـ وقرن بين سبابتيه ـ» (١).

تأمّل ، إنّها لا تحتاج إلى طويل الشرح وكثير التفريع والتفصيل رغم أنّها تستوعب ذلك ؛ فإنّ الحبّ والوِدّ يجب أن يكون خالصاً مخلصاً لوجه الله وليس لأيّ قرابة نسبيّة أو خدمة دنيويّة ، والفاعل لها فإنّه سيُحشر معهم في يوم

__________________

١ ـ أعلام الدين ص ٤٦٠.

١٤٣

القيامة ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «المرءُ يُحشر مع مَنْ أحب» (١).

وفي حديث آخر عن المعصوم : «أليس الدين كُله الحبَّ في اللهِ ، والبغض في الله؟» (٢).

وذلك لأنّ الحبّ في الله ولله يأتي نقيّاً دون شوائب ، أمّا حبّ الدنيا فإنّه كالدنيا فيه من القاذورات والأوساخ المعنوية الشيء الكثير ، وفي رواية للإمام الحسين عليه‌السلام : «مَنْ أحبّنا لله وردنا نحن وهو على نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله هكذا ـ وضمّ إصبعيه ـ ، ومَنْ أحبّنا للدنيا فإنّ الدنيا لتسع البرّ والفاجر ، فإنّه إذا قام قائم العدل وسع عدله البرّ والفاجر» (٣).

عليك يا عزيزي ليس بالحبّ فقط ، بل بالطاعة والاقتداء بأئمّتك من أهل البيت عليهم‌السلام ، والإمام الحسين عليه‌السلام عليك أن تعرفه وتعشقه وتطيعه في كلّ ما أمركَ به الشرع المقدّس ، وإلاّ كنت مدّعياً للحبّ والولاء ولست صادقاً في قولك إذا لم يقترن بالأفعال.

وللإمام الحسين عليه‌السلام الكثير من الخطب التي تُعلن عن هذا المنهج النوراني الصريح ، أعلنها الإمام عليه‌السلام على رؤوس الأشهاد ، وأمام الجيش الأموي كلّه ، وقبل ذلك أمام الملك الأوّل للدولة الأمويّة معاوية بن أبي سفيان ، وكم هي قصص الإمام مع ذلك الرجل الحاكم لأكبر دولة في العالم لذلك العصر.

__________________

١ ـ بحار الأنوار ٦٦ ص ٨٠.

٢ ـ مستدرك الوسائل ١٥ ص ١٢٨.

٣ ـ أمالي الشيخ الطوسي ١ ص ٢٥٩.

١٤٤

طاعة الحسين عليه‌السلام مفروضة

عن موسى بن عقبة أنّه قال : لقد قيل لمعاوية أنّ الناس قد رموا أبصارهم إلى الحسين عليه‌السلام ، فلو قد أمرته أن يصعد المنبر فيخطب ؛ فإنّ فيه حصراً وفي لسانه كلالة.

فقال لهم معاوية : قد ظنّنا ذلك بالحسن ، فلم يزل حتّى عظم في أعين الناس وفضحنا.

فلم يزالوا به حتّى قال للحسين عليه‌السلام : يا أبا عبد الله ، لو صعدت المنبر فخطبت. فصعد الحسين عليه‌السلام على المنبر فَحَمَدَ اللهَ وأثنى عليه ، وصلّى على النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فسمع رجلاً يقول : مَنْ هذا الذي يخطب؟

فقال الحسين عليه‌السلام :

«نحنُ حزبُ الله الغالبون ، وعترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الأقربون ، وأهل بيته الطيّبون ، وأحد الثقلين الذين جعلنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثاني كتاب الله تبارك وتعالى الذي فيه تفصيل كلُّ شيء ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والمعوّل علينا في تفسيره ، ولا يُبطئنا تأويله ، بل نتّبع حقائقه ، فأطيعونا ؛ فإنّ طاعتنا مفروضةٌ ، إذ كانت بطاعة الله ورسوله مقرونة ، قال الله عزّ وجلّ : (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (١) ، وقال : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ

__________________

١ ـ سورة النساء : الآية ٥٩.

١٤٥

وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاّ قَلِيلاً) (١).

وأحذركم الإصغاء إلى هتوف الشيطان بكم ؛ فإنّه لكم عدوّ مبين ، فتكونوا كأوليائه الذين قال لهم : (لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ منكم) (٢) فتلقون للسيوف ضرباً ، وللرماح ورداً ، وللعمد حطماً ، وللسهام غرضاً ، ثمّ لا يُقبل من نفسٍ إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً».

قال معاوية : حسبك يا أبا عبد الله فقد أبلغت (٣).

هل سمعت مثل هذا البيان الواضح إلاّ من جدّه وأبويه (صلوات الله عليهم جميعاً) ، إنّهم من أهل البيت الذين زقّوا العلم زقّاً ، وآتاهم الله الحكم صغاراً وكباراً.

فطاعة أهل البيت عليهم‌السلام هي طاعة للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبالتالي هي طاعة لله بالطول وليس بالعرض ، وآية الولاية والتصدق بالخاتم تؤكّد ذلك مع كثير من الآيات القرآنية الشريفة.

وعلينا أن نبحث عن الحقيقة ونتمسّك بها ونحافظ عليها ، لا أن نكون كمعاوية الذي لم يحفظ رسوله الكريم المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله في أهل بيته ، بل طغى

__________________

١ ـ سورة النساء : الآية ٨٣.

٢ ـ سورة الأنفال : الآية ٤٨.

٣ ـ الاحتجاج ٢ ص ٢٢ ـ ٢٣ ، مناقب ابن شهر آشوب ٤ ص ٦٧.

١٤٦

وبغى حتّى قاتل الإمام علياً عليه‌السلام ، رأس العترة وسيّدهم في صفين ، ثمّ دسَّ السمّ إلى الإمام الحسن السبط عليه‌السلام ، وأراد الوقيعة بالإمام الحسين عليه‌السلام فلم يستطع.

وإليك أخي الكريم بعض أحوال الإمام الحسين عليه‌السلام مع ذاك الطاغيّة الباغيّة ، وأهل بيته الشجرة الملعونة في القرآن كما في سورة الإسراء المباركة ، والشجرة الخبيثة كما في سورة إبراهيم المباركة ، وأقربائهم صبية النار ، والأوزاغ الملعونين إلى يوم القيامة على لسان الحبيب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الأطهار عليهم‌السلام.

رأفة الإمام الحسين عليه‌السلام وموقف مروان بن الحكم

يروى أنّ مروان بن الحكم قال يوماً للحسين بن علي عليهما‌السلام بمحضر من رجالات قريش : لولا فخركم بفاطمة بِمَ كنتم تفتخرون علينا؟

فوثب الحسين عليه‌السلام ـ وكان شديد القبضة ـ فقبض على حلقه فعصره ، ولوى عمامته على عنقه حتّى غشي عليه ثمّ تركه ، وأقبل الإمام عليه‌السلام على القوم فقال :

«أنشدكم بالله إلاّ صدّقتموني إن صدقت. أتعلمون أنّ في الأرض حبيبين كانا أحبّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله منّي ومن أخي؟ أو على ظهر الأرض ابن بنت نبيّ غيري وغير أخي؟».

قالوا : اللهمّ لا.

قال عليه‌السلام : «وإنّي لا أعلم في الأرض ملعوناً ابن ملعون غير هذا (مروان) وأبيه ، طريدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. والله ما بين جابرس وجايلق ، أحدهما بباب

١٤٧

المشرق والآخر بباب المغرب ، رجلان ممّن ينتحل الإسلام أعدى لله ولرسوله ولأهل بيته منك ومن أبيك ؛ إذ كان علامةُ قولي فيك أنّك إذا غضبت سقط رداؤك عن منكبك».

قال : فو الله ما قام مروان من مجلسه حتّى غضب ، فانتفض وسقط رداؤه عن عاتقه (١).

هذا هو (الوزغ ابن الوزغ) كما في الرواية عن الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا الملعون سيصبح أمير المؤمنين بعد حين ، ويخطب باسمه في جميع بلاد المسلمين ، ويتعاقب على الحكم الأموي سبعة أكباش من صلبه الملعون.

وفي معركة الجمل للإمام الحسين عليه‌السلام مع هذا الوزغ حوادث وأحداث جسام عظام ، تخبرك عن عظيم أخلاق الإمام عليه‌السلام ، وفادح حقارة ودناءة ذاك الوزغ ، منها تلك التي حدثت في يوم معركة الجمل حيث كان مروان وجماعته مع المرأة وأتباع الجمل الأدْبَب ، عسكر ذاك الشيطان.

فعندما عُقر الجمل وفرَّ أصحابه ، وقُتل طلحة (٢) والزبير ، وأُسرت عائشة ، كان من الفارّين عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم ومَنْ لفَّ لفهم ، فأرسل مروان يستغيث بالإمامين الحسنين عليهما‌السلام ؛ ليشفعا له عند أبيهما أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، حيث كانوا يخافون على أنفسهم حدَّ السيف.

فخفّا إلى أبيهما وكلّماه في شأنه ، وقالا له : «يُبايعك يا أمير المؤمنين».

__________________

١ ـ المناقب ٤ : الآية ٥١ ، الاحتجاج ٢ ص ٦٩ ، موسوعة البحار ٤٤ ص ٢٠٦.

٢ ـ علماً أنّ مروان بن الحكم هو الذي قتل طلحة في يوم الجمل ، وذلك حين رآه يريد الفرار ، فرماه بسهم فقتله.

١٤٨

فقال عليه‌السلام : «أوَ لم يُبايعني بعد قتل عثمان ، لا حاجة لي في بيعته ؛ إنّها كفٌ يهودية ، لو بايعني بكفّه لغدر بسبابته (أو بسبته) ، أما أنّ له إمرةً كلعقة الكلب أنفه ، وهو أبو الأكبُش الأربعة ، وستلقى الأُمّة منه ومن ولده يوماً أحمر!» (١).

وما زالا يتلطّفان به حتّى عفا عنه ، إلاّ أنّ هذا الوغد قد تنكّر لهذا المعروف ، وقابل السبطين بكلّ ما يملك من وسائل الشرّ ، فهو الذي منع جنازة الإمام الحسن عليه‌السلام أن تُدفن بجوار جدّه وأمطرها بسهامه ، وهو الذي أشار على الوليد بقتل الإمام الحسين عليه‌السلام إن امتنع من البيعة ليزيد (٢). لقد كان ذلك في المدينة المنوّرة عندما هلك معاوية واستولى على كرسي الخلافة يزيد الفاسق الفاجر ، فقد أرسل إلى الوليد والي المدينة يخبره الخبر ، ويأمره بأخذ البيعة من الناس مع ورقة صغيرة كتب فيها : خذ الحسين وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً عنيفاً ليست فيه رخصة ، ومَنْ أبى عليك منهم فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه (٣).

وبعث الوليد إلى الإمام الحسين عليه‌السلام فوضع خطّة مع فتيان بني هاشم الأجاويد بحيث لا يمكّن الوليد من نفسه ، وعندما استقرَّ المجلس بأبي عبد الله عليه‌السلام نعى الوليد إليه معاوية ، ثمّ عرض عليه البيعة ليزيد ، فقال عليه‌السلام : «مثلي

__________________

١ ـ بحار الأنوار ٣٢ ص ٢٣٤ ، نهج البلاغة ص ١٠٢ ، ضبط د. صبحي صالح ـ ط دار الكتاب ـ بيروت.

٢ ـ حياة الإمام الحسين بن علي ١ ص ١٢٦.

٣ ـ مقتل الحسين ـ للخوارزمي ١ ص ١٧٨.

١٤٩

لا يُبايع سرّاً ، فإذا دعوت الناس إلى البيعة دعوتنا معهم ، فكان أمراً واحداً» (١).

فاقتنع الوليد منه ، ولكن مروان ابتدر قائلاً : إن فارقك الساعة ولم يبايع لم تقدر منه على مثلها حتّى تكثر القتلى بينكم ، ولكن احبس الرجل حتّى يبايع أو تضرب عنقه.

فقال الحسين عليه‌السلام : «يابن الزّرقاء ، أنت تقتلني أم هو؟ كذبت وأثمت!».

ثمّ أقبل عليه‌السلام على الوليد ، وقال : «أيّها الأمير ، إنّا أهل بيت النبوّة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، بنا فتح الله وبنا يختم ، ويزيد رجلٌ شارب الخمور ، وقاتل النفس المحرمة ، معلنٌ بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله ، ولكن نصبح وتصبحون ، وننظر وتنظرون أيّنا أحقُّ بالخلافة».

وارتفعت الأصوات فيما بينهم ، وخرج الإمام الحسين عليه‌السلام من بينهم قهراً ، فقال مروان للوليد : عصيتني ، فو الله لا يمكنك من مثلها أبداً.

قال الوليد : وبّخ غيرك يا مروان! اخترت لي ما فيه ذهاب ديني ، أأقتلُ حسيناً إنْ قال لا أبايع ، والله لا أظنّ امرأً يُحاسب بدم الحسين إلاّ خفيف الميزان يوم القيامة ، ولا ينظر الله إليه ولا يزكّيه وله عذاب أليم! (٢).

انظر واعجب من جرأة هذا الوزغ على الله وعلى أوليائه الكرام الميامين ، وهو من أشرّ خلق الله ، يأمر بضرب عنق وقتل ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الإمام في ذاك الزمان ، المفترض الطاعة والولاية على الأُمّة جمعاء ، إلاّ أنّ عذره كان بيِّناً

__________________

١ ـ تاريخ الطبري ٦ ص ١٨٩.

٢ ـ مقتل الحسين ـ للمقرّم ص ١٣١ ، الخوارزمي ص ١٨٣ ، واللهوف ص ١٣.

١٥٠

في أوّل كلام الإمام الحسين عليه‌السلام ، حيث عرَّفه جيداً بأنّه ابن الزرقاء ، تلك البغي التي كانت من أصحاب الرايات المومسات.

موقف آخر مع عمرو بن العاص

وإليك نموذج آخر ، إنّه من عمرو بن العاص بن ليلى ، أرخص بغايا العرب في عصرها ، ولقد كانت له قصص كثيرة ومثيرة مع أبناء الطهر المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله ووصيه أمير المؤمنين علي عليه‌السلام.

أكتفي بهذه الحادثة اللطيفة ، حيث تروي كتب التاريخ والأدب أنّ عمرو بن العاص قال للإمام الحسين عليه‌السلام : يابن علي ، ما بال أولادنا أكثر من أولادكم؟

فقال عليه‌السلام :

بغاثُ الطيرِ أكثرها فراخاً

وأُمُّ الصقرِ مقلاة نزور (١)

فقال : ما بال الشيب إلى شواربنا أسرع منه في شواربكم؟

فقال عليه‌السلام : «إنّ نساءكم نساءٌ بخرةٌ (كريهة رائحة الفم) ، فإذا دنا أحدكم من امرأته نكهت في وجهه فيُشاب منه شاربه».

فقال : ما بال لحاكم أوفر من لحانا؟

__________________

١ ـ الشعر لعباس بن مرداس السلمي. بغاث الطير : شرارها وما لا يصاد منها. المقلاة من النوق التي تضع واحداً ثمّ لا تحمل بعده ، والمقلاة من النساء التي لا يعيش لها ولد. النزور : المرأة القليلة الولد.

١٥١

فقال عليه‌السلام : «وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاّ نَكِداً» (١).

فقال معاوية لعمرو : بحقّي عليك إلاّ سكتّ ؛ فإنّه ابن عليّ بن أبي طالب.

فقال عليه‌السلام :

إن عادتْ العقربُ عُدنا لها

وكانت النعلُ لها حاضره

قد علمت عقربُ واستيقنت

أن لا لها دنيا ولا آخره (٢)

كان دأب اُولئك الأشرار أن ينقصوا من أهل البيت الأطهار عليهم‌السلام ، إلاّ أنّ الله سبحانه كان يخذلهم دائماً وأبداً على أيدي الأئمّة وأتباعهم المخلصين ، وهذا ديدن الحقّ في مقابل الباطل.

رسالة الإمام الحسين عليه‌السلام لمعاوية

وقبل أن أغادر هذا المقام فإنّني أحبّ أن أختمه برسالة كتبها الإمام الحسين عليه‌السلام ردّاً على رسالة إليه من معاوية بن أبي سفيان ، عندما وشى مروان بن الحكم والي المدينة إلى معاوية عن الإمام الحسين عليه‌السلام بأنّه يعدُّ العدّة للخروج والثورة عليه.

روي أنّ مروان بن الحكم كتب إلى معاوية وهو عامله على المدينة :

أمّا بعد ، فإنّ عمرو بن عثمان ذكر أنّ رجالاً من أهل العراق ووجوه أهل

__________________

١ ـ سورة الأعراف : الآية ٥٨.

٢ ـ المناقب لآل أبي طالب ٤ ص ٦٧.

١٥٢

الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي ، وذكر أنّه لا يأمن وثوبه ، وقد بحثت عن ذلك فبلغني أنّه لا يريد الخلاف يومه هذا ، ولست آمن أن يكون هذا أيضاً لما بعده ؛ فاكتب إليَّ برأيك في هذا ، والسّلام.

فكتب إليه معاوية :

أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك ، وفهمت ما ذكرت فيه من أمر الحسين ، فإيّاك أن تعرض للحسين في شيء ، واترك حسيناً ما تركك ، فإنّا لا نريد أن نعرض له في شيء ما وفى ببيعتنا ، ولم ينزُ على سلطاننا ، فاكمن عنه ما لم يبد لك صفحته ، والسّلام.

وكتب معاوية إلى الحسين بن علي عليه‌السلام :

أمّا بعد ، فقد انتهت إليَّ أمور عنك إن كانت حقّاً فقد أظنّك تركتها رغبة فدعها ، ولعمر الله ، إنّ مَنْ أعطى الله عهده وميثاقه لجدير بالوفاء ، وإن كان الذي بلغني باطلاً فإنّك أنت أعزل الناس لذلك ، وعظ نفسك فاذكره ، ولعهد الله أوف ؛ فإنّك متى ما تنكرني أنكرك ، ومتى ما تكدني أكدك ، فاتّقِ شقّ عصا هذه الأُمّة ، وأن يؤدّهم الله على يديك في فتنة ، فقد عرفت الناس وبلوتهم ، فانظر لنفسك ولدينك ، ولأمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يستخفنَّك السفهاء الذين لا يعلمون.

فلمّا وصل الكتاب إلى الحسين (صلوات الله عليه) كتب إليه :

«أمّا بعد ، فقد بلغني كتابُك ، تذكرُ فيه أنّه قد بلغك عنّي أُمورٌ أنت لي عنها راغبٌ ، وأنا لغيرها عندك جديرٌ ، فإنّ الحسنات لا يهدي لها ، ولا يردُّ إليها إلاّ الله.

١٥٣

وأمّا ما ذكرت أنّه انتهى إليك عنّي ، فإنّه إنّما رقاه إليك عنّي الملاّقون المشاؤون بالنميم ، وما أُريد لك حرباً ولا عليك خلافاً ، وأيمُ الله ، إني لخائف لله في ترك ذلك ، وما أظنّ الله راضياً بترك ذلك ، ولا عاذراً بدون الإعذار فيه إليك ، وفي أوليائك القاسطين الملحدين ، حزب الظلمة وأولياء الشياطين.

ألستَ القاتل حجر بن عدي أخا كندة والمصلين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون البدع ، ولا يخافون في الله لومة لائم؟ ثمّ قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما كنتَ أعطيتهم الأيمان المغلّظة ، والمواثيق المؤكّدة لا تأخذهم بحدثٍ كان بينك وبينهم ، ولا بإحنةٍ تجدها في نفسك؟

أوَ لستَ قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه وصفرّ لونه؟ بعد ما أمّنته وأعطيته من عهود الله ومواثيقه ما لو أعطيته طائراً لنزل إليك من رأس الجبل ، ثمّ قتلته جُرأة على ربّك واستخفافاً بذلك العهد؟

أوَ لستَ المدّعي زياد بن سُميّة ، المولود على فراش عبد ثقيف؟ فزعمت أنّه ابن أبيك ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الولد للفراش ، وللعاهر الحجر. فتركت سُنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تعمّداً ، وتبعت هواك بغير هدى من الله ، ثمّ سلّطته على العراقيين يقطع أيدي المسلمين وأرجلهم ، ويسمل أعينهم ، ويصلبهم على جذوع النخل ، كأنّك لست من هذه الأُمّة وليسوا منك؟!

أوَ لستَ صاحب الحضرميين الذين كتب فيهم ابن سُميّة أنّهم كانوا

١٥٤

على دين علي عليه‌السلام؟ فكتبت إليه أن اقتل كلّ مَنْ كان على دين علي ، فقتلهم ومثّل بهم بأمرك ، ودينُ علي عليه‌السلام سرّ الله الذي كان يُضرب عليه أباك ويضربك ، وبه جلست مجلسك الذي جلست ، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف أبيك الرحلتين.

وقلت فيما قلت : انظر لنفسك ولدينك ولأُمّة محمد ، واتّقِ شقّ عصا هذه الأُمّة ، وأن تردهم إلى فتنة. وإنّي لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأُمّة من ولايتك عليها ، ولا أعلم نظراً لنفسي ولديني ولأُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل من أن أجاهدك ، فإن فعلت فإنّه قربةٌ إلى الله ، وإن تركته فإنّي أستغفر الله لديني ، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري.

وقلت فيما قلت : أنّك إن أنكرك تنكرني ، وإن أكدك تكدني ، فكدني ما بدا لك ؛ فإنّي أرجو أن لا يضرّني كيدك فيّ ، وأن لا يكون على أحدٍ أضرّ منه على نفسك ، لأنّك قد ركبت جهلك ، وتحرّصت على نقض عهدك ، ولعمري ما وفيت بشرط.

ولقد نقضت عهدك بقتلك هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والإيمان ، والعهود والمواثيق ، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا وقتلوا ، ولم تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلنا ، وتعظيمهم حقّنا ، فقتلتهم مخافة أمرٍ لعلك لو لم تقتلهم متّ قبل أن يفعلوا ، أو ماتوا قبل أن يدركوا.

فأبشر يا معاوية بالقصاص ، واستيقن بالحساب ، واعلم أنّ لله تعالى كتاباً لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، وليس الله بناسٍ لأخذك بالظنّة ، وقتلك أولياءه على التهم ، ونفيك أولياءه من دورهم إلى دار الغربة ، وأخذك للناس بيعة ابنك غلام حدث ، يشرب الخمر ، ويلعب

١٥٥

بالكلاب ، لا أعلمك إلاّ وقد خسرت نفسك ، وتبّرت دينك ، وغششت رعيتك ، وأخربت أمانتك ، وسمعت مقالة السفيه الجاهل ، وأخفت الورع التقي لأجلهم ، والسّلام» (١).

أخي القارئ ، لم أعلّق على هذه الرسالة ؛ لوضوح الحقيقة ، وكما يُقال : توضيح الواضحات من أشكل المشكلات ، بل تركته لذوقك الرفيع ، وأخلاقك العالية ؛ لتعرف ما بين السطور.

إنّك لو تأمّلت رسالة معاوية فقط لتصوّرت أنّه رجل قديس؟ ولكنّ جواب الإمام عليه‌السلام كشف الحقيقة ، وزيف حال الرجل.

__________________

١ ـ راجع رجال الكشي ١ ص ٢٥٠ ـ ٢٥٩ ح٩٧ ـ ٩٩ ، والغدير ١٠ ص ١٦٠ ، والإمامة والسياسة ١ ص ١٨٠.

١٥٦

الفصل الثامن

النبوّة والإمامة توأمان

١٥٧
١٥٨

الإمام الحسين عليه‌السلام هو ابن الإمام علي عليه‌السلام ، هو ابن الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هو ابن الرسالة الإسلاميّة ، وأخلاقه القرآن. والنبوّة هي بعثة من الله لبني البشر ، أمّا الإمامة فهي امتدادٌ رساليٌ وتأويليّ إلهيّ لتلك الرسالة ، وإلاّ لخلت الأرض من الحجّة ، ولو خلت لساخت بأهلها.

وفي رواية عن الإمام محمد الباقر عليه‌السلام ، عن أبيه زين العابدين عليه‌السلام ، عن جدّه الإمام الحسين عليه‌السلام قال :

«خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذاتَ يومٍ وهو راكبٌ ، وخرج عليٌ عليه‌السلام وهو يمشي ، فقال له : يا أبا الحسن ، إمّا أن تركب وإمّا أن تنصرف ؛ فإنّ الله عزّ وجلّ أمرني أن تركب إذا ركبتُ وتمشي إذا مشيت ، وتجلس إذا جلستُ ، إلاّ أن يكون في حدٍّ من حدود الله لا بدّ لك من القيام والقعود فيه ، وما أكرمني الله بكرامةٍ إلاّ وقد أكرمك بمثلها ، وخصّني الله بالنبوّة والرسالة وجعلك ولييّ في ذلك تقوم في حدوده وصعب أموره ، والذي بعثني بالحقِّ نبيّاً ما آمن بي مَنْ أنكرك ، ولا أقرّ بي مَنْ جحدك ، ولا آمن بالله مَنْ كفر بك ، وإنّ فضلك لَمِن فضلي ، وإنّ

١٥٩

فضلي لفضل الله ، وهو قول ربّي عزّ وجلّ : (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (١).

ففضل الله نبوّة نبيكم ، ورحمته ولاية علي بن أبي طالب عليه‌السلام (فَبِذَلِكَ) قال : بالنبوّة والولاية (فَلْيَفْرَحُوا) يعني الشيعة (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) يعني ما يجمع مخالفوهم من الأهل والمال والولد في دار الدنيا ، والله يا عليّ ما خُلقتَ إلاّ ليُعبد ربّك ، ولتُعرف بكَ معالم الدين ، وتُصلح بكَ دار السبيل ، ولقد ضلّ مَنْ ضلّ عنك ، ولن يهتدي إلى الله مَنْ لم يهتد إليك وإلى ولايتك.

وهو قول ربّي عزّ وجلّ : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى) (٢) يعني إلى ولايتك ، ولقد أمرني ربّي تبارك وتعالى أن افترض من حقّك ما افترض من حقّي ، وإنّ حقّك لمفروضٌ على مَنْ آمن بي ، ولولاك لم يُعرف حزب الله وبكَ يُعرف عدوّ الله ، ومَنْ لم يلقه بولايتك لم يلقه بشيء.

ولقد أنزل الله عزّ وجلّ إليّ : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) يعني في ولايتك يا علي (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) (٣) ولو لم اُبلّغ ما أُمرت به من ولايتك لحبط عملي ، ومَنْ لقيَ الله عزّ وجلّ بغير ولايتك فقد حبط عمله وغداً سُحقاً له (سُحقاً) وما

__________________

١ ـ سورة يونس : الآية ٥٨.

٢ ـ سورة طه : الآية ٨٢.

٣ ـ سورة المائدة : الآية ٦٧.

١٦٠