جلال معاش
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القارئ للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥
إنّ العلاقات في هذه الحياة نوعان : مادية ومعنوّية ، سببيّة ونسبيّة.
١ ـ الماديّة : كعلاقة الأبوّة والبنوّة ، والناس إخوة لأنّهم من أبناء الأنبياء آدم ونوح عليهماالسلام ، وعلاقة الإخوان في عالمنا المعاصر قد تفكّكت وقلَّ تأثيرها أو مراعاتها فيما بين البشر.
٢ ـ المعنويّة : كعلاقة الأبوّة والبنوّة المعنوية التي تربط بين الأستاذ المعلم والتلميذ الطالب للعلم ، والناس ربما لا يعترفون بهذه العلاقة الغير محسوسة ولا ملموسة ، إلاّ أنّ لها شأناً عظيماً في الحياة الإسلاميّة ، وتُسمّى الأخوّة الإيمانية ، وقد قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (١).
وهناك العديد من الأحاديث عن أئمّة المسلمين من أهل البيت عليهمالسلام بهذا المعنى ، كقول الإمام الصادق عليهالسلام : «إنّما المؤمنون إخوةٌ بنو أبٍ وأُمّ ، وإذا ضرب على رجلٍ منهم عرق سهر له الآخرون» (٢).
__________________
١ ـ سورة الحجرات : الآية ١٠.
٢ ـ موسوعة البحار ٧٤ ص ٢٦٤ ، الاُصول من الكافي ٢ ص ١٦٥.
وعنه عليهالسلام قال : «المؤمنُ أخو المؤمن كالجسد الواحد ، إذا اشتكى شيءٌ منه وجد ألم ذلك في سائر جسده ، وأرواحهما من روحٍ واحدة ، وإنّ روح المؤمن لأشدّ اتصالاً بروح الله من اتّصال شعاع الشمس بها» (١).
وفي رواية أُخرى عن الإمام الباقر عليهالسلام : «المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأُمّه ؛ لأنّ الله (عزّ وجلّ) خلق المؤمنين من طين الجنان ، وأجرى في صُدورهم من ريح الجنّة ؛ فلذلك هم إخوة لأبٍ وأُمّ» (٢).
فهذه الروايات الشريفة المباركة تؤكّد على الأُخوّة الإيمانية بين المؤمنين ، وهي تبيّن سبب هذه الرابطة النورانيّة الروحانيّة التي لم يستطع أن يكتشفها البشر إلى هذا اليوم ، حيث الأجهزة المتطوّرة واللايزر والرنين المغناطيسي ، وغيرها من الأجهزة الطبيّة الدقيقة.
نعم ، وكأنّ الإيمان أبوّة ، والمؤمنون إخوة كما في كتاب الله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (٣) ، وهذه العلاقة أشدّ وأقوى من سابقتها ؛ لأنّها ترتبط بالأرواح ، وتلك ترتبط بالأجساد ، ودائماً وأبداً العلاقات الروحيّة أشدّ وأقوى.
__________________
١ ـ موسوعة البحار ٧٤ ص ٢٦٨ ، الاُصول من الكافي ٢ ص ١٦.
٢ ـ موسوعة البحار ٧٤ ص ٢٦٦ ، الاُصول من الكافي ٢ ص ١٦٦ ، المحاسن ١ ص ١٣٣.
٣ ـ سورة الحجرات : الآية ١٠.
ومن هذا الباب يروون الحديث الوارد عن الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآله : «يا علي ، أنا وأنت أبوا هذه الأُمّة» (١).
يقسّم الإمام الحسين عليهالسلام الإخوان إلى أربعة ، فيقول : «الإخوان أربعةُ ؛ فأخٌ لك وله ، وأخٌ لك ، وأخٌ عليك ، وأخٌ لا لك ولا له».
فسُئل عن معنى ذلك ، فقال عليهالسلام موضحاً :
«الأخُ الذي هو لك وله فهو الأخ الذي يطلب بإخائه بقاء الإخاء ولا يطلب بإخائه موت الإخاء ، فهذا لك وله ؛ لأنّه إذا تمّ الإخاء طابت حياتهما جميعاً ، وإذا دخل الإخاء في حال التناقض بطل جميعاً.
والأخ الذي هو لك فهو الأخ الذي قد خرج بنفسه عن حال الطمع إلى حال الرغبة ، فلم يطمع في الدنيا إذ رغب في الإخاء ، فهذا متوفّرٌ عليك بكلّيته.
والأخ الذي هو عليك فهو الأخ الذي يتربّص بك الدوائر ، ويُفشي السرائر ، ويكذب عليك بين العشائر ، وينظر في وجهك نظر الحاسد ، فعليه لعنة الواحد.
والأخ الذي لا لك ولا له فهو الذي قد ملأه الله حمقاً فأبعده سُحقاً ، فتراه يؤثر نفسه عليك ، ويطلب شحّاً ما لديك» (٢).
هل عرفت الإخوان؟ وهل تأمّلت في قول المولى أبي عبد الله عليهالسلام في هذا الحديث؟! وهل التفتَّ إلى المغزى الرفيع من هذا الحديث البديع؟!
إنّ الأخوّة ليست كلمات تُقال ، بل هي علاقات إنسانيّة لا تُقدر بثمن ، ولا
__________________
١ ـ ينابيع المودة ص ١٤٦ باب ٤١.
٢ ـ تحف العقول ص ١٧٦ ، مستدرك الوسائل ٩ ص ١٥٣ ح١٠٥٣٢.
مال ؛ لأنّها تلحظ جوانب الكرامة والمعنويّة في الإنسان. فالإنسان «إمّا أخٌ لك في الدين ، أو نظيرٌ لك في الخَلق» (١) ، كما يقول أمير المؤمنين عليهالسلام في عهده لمالك الأشتر حين ولاّه مصر.
فهذا الأخ إن كان صالحاً عاملك بإنسانيّة وأخلاق إسلاميّة فنفعك ونفع نفسه منك وبك ، وإن كان فاسداً فيجب أن تبعده عنك قدر المستطاع ، ولكن إن كان أحمقاً يضرّك من حيث يريد أن ينفعك ، فابتعد عنه ؛ لئلاّ يرديك في المهالك.
ولكن إذا ظفرت بأخٍ كريم ، وصديق حميم ، وهؤلاء أندر من الكبريت الأحمر فعليك أن تلزمه ، وتعضّ عليه بالنواجذ ، وحتى يتحقّق ذلك فيجب أن تُراعي حقوق الأخوّة فيما بينك وبينه. تلك الحقوق التي حدّدها الإمام الحسين عليهالسلام بقوله : «لولا التقيّة ما عُرف وليّنا من عدوّنا ، ولولا معرفة حقوق الإخوان ما عُرف من السيئات شيءٌ إلاّ عوقب على جميعها» (٢).
قضاء حوائج المؤمنين
ومعرفة المؤمن والسعي في قضاء حوائجه هو عند الإمام الحسين عليهالسلام في أعلى المراتب في الدنيا والآخرة ، وتنقل بعض الروايات الكاشفة عن مدى اهتمام الإمام عليهالسلام بقضاء حوائج المؤمنين :
عن ابن مهران قال : كنتُ جالساً عند مولاي الحسين بن علي عليهماالسلام ، فأتاه رجل ، فقال : يابن رسول الله ، إنَّ فلاناً له عليَّ مال ويريد أن يحبسني
__________________
١ ـ نهج البلاغة ـ باب رسائل أمير المؤمنين.
٢ ـ تفسير الإمام العسكري عليهالسلام ص ٣٢١ ، ح١٦٥ ، موسوعة البحار ٧٥ ص ٤١٥.
فقال عليهالسلام : «والله ما عندي مالٌ أقضي عنك».
قال : فكلّمه (من أجل أن يؤخّر عنه الطلب).
قال عليهالسلام : «ليس لي به أُنسٌ ، ولكنّي سمعت أبي أمير المؤمنين عليهالسلام يقول : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : مَنْ سعى في حاجة أخيه المؤمن فكأنّما عبد الله تسعة آلاف سنة ، صائماً نهاره قائماً ليله» (١).
فقضاء حاجة المؤمن كعبادة تسعة آلاف سنة ، وربما تستعظم مثل هذه الرواية ، ولكن إليك هذه القصة العجيبة الغريبة عن الإمام الحسين عليهالسلام ، ينقلها عنه حبر الأُمّة الإسلاميّة عبد الله بن عباس ، فيقول :
كنتُ مع الحسين بن علي عليهماالسلام في المسجد الحرام ، وهو معتكف ، وهو يطوف بالكعبة ، فعرض له رجل من شيعته ، فقال : يابن رسول الله ، إنّ عليَّ ديناً لفلان ، فإن رأيتَ أن تقضيه عنّي.
فقال عليهالسلام : «وربّ هذه البُنيّة ما أصبح عندي شيء». (يقسم بربّ الكعبة المشرّفة).
فقال : إن رأيت أن تستمهله عنّي فقد تهَدَّدني بالحبس.
قال ابن عباس : فقطع الطّواف ، وسعى معه ، فقلت : يابن رسول الله ، أنسيت أنّك مُعتكف؟!
فقال عليهالسلام : «لا ، ولكن سمعتُ أبي عليهالسلام يقول : سمعتُ رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول :
__________________
١ ـ موسوعة البحار ٧٤ ص ٣١٥ ح٧٣.
مَنْ قضى أخاه المؤمن حاجةً كان كمَنْ عبد الله تسعة آلاف سنة ، صائماً نهاره وقائماً ليليه».
ويقول في رواية أخرى : «أما إنّه لو سعى في حاجتك كان خيراً له من اعتكاف ثلاثين سنة» (١).
فالسعي في حاجات المؤمنين هو من أعظم موارد النعم على الإنسان ، والسعيد حقّاً هو مَنْ يوفّق لقضاء أكثر الحاجات لأكبر عدد ممكن من الإخوة المؤمنين. تأمّل في كلام سيد الشهداء الإمام الحسين عليهالسلام الذي يقول : «إنّ حوائج الناس إليكم من نِعَمِ الله عليكم ، فلا تملّوا النِّعَمَ» (٢).
حقوق الإخوان
وهذا من أخلاقيّات الإمام الحسين عليهالسلام الرفيعة التي راح يعلّمنا إيّاها بأقواله وأفعاله خلال سيرته المظفّرة وحياته الشّريفة ، وقد تسأل عن المؤمن وحقوقه على أخيه في شريعة الله الخالدة ، ودينه الأبدي ، ورسالته الخاتمة ، فلقد جاءت الروايات عن أئمّة المسلمين عليهمالسلام تضعنا في صلب الإجابة ، ولكنّ معرفة الحقوق توجب الحساب الدقيق على التضييع ، كما في رواية المعلّى بن خنيس عن الإمام جعفر الصادق عليهالسلام حين سأله عن حقِّ المؤمن على المؤمن.
قال عليهالسلام : «إنّي عليك شفيقٌ ؛ إنّي أخاف أن تعلم ولا تعمل ، وتضيّع ولا تحفظ».
__________________
١ ـ موسوعة كلمات الإمام عليهالسلام ص ٧٥٦ ، موسوعة البحار ٩٧ ص ١٢٩ ح٦.
٢ ـ كلمة الإمام عليهالسلام ص ١٦٩ ، موسوعة البحار ٧٤ ص ٣١٨ ح٨٠.
قال : لا حولَ ولا قوّة إلا بالله.
قال عليهالسلام : «للمؤمن على المؤمن سبعةُ حقوق واجبة ، وليس منها حقٌ إلاّ هو واجبٌ على أخيه ، وإن ضيّع منها حقّاً خرج من ولاية الله ، وترك طاعته ، ولم يكن له فيها نصيب.
أيسر حقّ منها : أن تحبّ له ما تحبّ لنفسك ، وأن تكره له ما تكرهه لنفسك.
والحقُ الثاني : أن تُعينه بنفسك ومالك ، ولسانك ويدك ورجلك.
والحقّ الثالث : أن تتبع رضاه ، وتجتنّب سخطه ، وتطيع أمره.
والحقّ الرابع : أن تكون عينه ودليله ومرآته.
والحقّ الخامس : أن لا تشبع ويجوع ، وتروى ويظمأ ، وتكتسي ويعرى.
والحقّ السادس : أن لا يكون لك خادم وليس له خادم ، ولك أمرأةٌ تقوم عليك وليس له أمرأةٌ تقوم عليه ، وأن تبعث خادمك يغسل ثيابه ، ويصنع طعامه ، ويهيئ فراشه.
والحقّ السابع : أن تبرّ قسمه ، وتجيب دعوته ، وتعود مرضه ، وتشهد جنازته ، وإن كانت له حاجة تُبادر مبادرةً إلى قضائها ، ولا تكلّفه أن يسألكها ، فإذا فعلت ذلك ، وصلت ولايتك بولايته ، وولايته بولاية الله» (١).
فأين نحن المسلمون من هذه الصّفات النورانيّة؟! نعم ، إنّ هذه الصّفات ، وهذه العلاقة والروابط الروحيّة هي التي صنعت الدولة الإسلاميّة في أوائل الدعوة المباركة ، والتاريخ يحدّثنا أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قد آخى بين المسلمين مرّتين ؛ في
__________________
١ ـ الاختصاص ص ٢٣ ، موسوعة البحار ٧٤ ص ٢٢٤ ، الخصال ص ٣٥٠.
مكّة المكرّمة بين المسلمين الأوائل ، وفي المدينة بين المهاجرين والأنصار ، فكانت حركة مباركة لم يشهدها تاريخ الإنسان من قبل الإسلام ولا من بعده.
وما أحوجنا في هذا العصر إلى هذه الأُخوّة ؛ لأنّه لو تكوّنت الأُمّة الإسلاميّة من جديد ، وعادت الأُخوّة الإسلاميّة على ما كانت عليه ، وغدت الأُمّة تحت قيادة رشيدة منيعة ، كقيادة رسول الله صلىاللهعليهوآله لأمكن تخليص العالم من ويلاته ، وصياغة العالم صياغة جديدة يسود فيها كلّ خير ورفاه (١).
تحية السلام في الخلق الحسيني
إنّ الإمام الحسين عليهالسلام كان ابن الإسلام الحنيف ، والداعي إلى الله ، وقائد الأُمّة في ذلك الزمن ، والإسلام دين الحرية والرفاه والسّلام ، وليس دين الدم والعنف والسيف كما يصوِّره الأعداء في هذه الأيّام.
فالإسلام كلّه سلام وطمأنينة في الدنيا والآخرة ، ولا يمكن للبشريّة أن تنعم بالأمن والاطمئنان إلاّ بالالتزام بقوانين وشرائع الإسلام الحنيف ، ولا يمكن لأحد أن يحقّق السعادة المرجوّة إلاّ تحت رايته المظفّرة.
وأخلاقيّات سبط الحبيب المصطفى وأقواله في هذا الباب لطيفة وجميلة ؛ فإنّه يقول ويفعل ما يقتضيه الموقف الرفيع ، والأخلاق العالية ، ويدعو الأُمّة لإفشاء السّلام فيما بينها ، كما كان يفعل جدّه رسول الله صلىاللهعليهوآله من قبل.
يقول الإمام عليهالسلام : «البخيلُ مَنْ بخِلَ بالسّلام» (٢).
__________________
١ ـ الصياغة الجديدة ص ٤٩٦.
٢ ـ تحف العقول ص ١٧٧ ، موسوعة البحار ٧٨ ص ١٢٠ ح١٨ ، أعيان الشيعة ١ ص ٦٢١.
فليس البخيل الذي لا يعطيك مالاً أو متاعاً إذا ما احتجت إليه ، بل الذي لا يعطيك كلمة السّلام ، وهي تحيّة الإسلام وأهل الجنّة ـ كما في الرواية ـ ، فهل تجد أبخل من هذا الشخص المحروم من نعمة الاطمئنان؟
ويشجّع على السّلام فيما بيننا بقوله عليهالسلام : «للسّلام سبعون حسنة ؛ تسعٌ وستون للمبتدئ ، وواحدةٌ للرادّ» (١).
وردّ السّلام واجب شرعاً ، أمّا إلقاؤه فهو فضل وأخلاق إسلاميّة ؛ لذا كان يستحق هذا الثواب العظيم. وتذكر كتب السيرة أنّ رجلاً جاء إلى الإمام الحسين عليهالسلام فقال له ابتداءً : كيف أنت عافاك الله؟!
فقال عليهالسلام : «السّلامُ قبل الكلام عافاك الله».
ثمّ قال عليهالسلام لِمَنْ حوله : «لا تَأذَنوا لأحَدٍ حتّى يُسلّم» (٢).
نعم ، تلك هي أخلاق الإمام الحسين عليهالسلام الإسلاميّة الرفيعة التي يدعونا إليها في كلّ سكناته وحركاته ، فكان يسلّم على كلّ مَنْ يلتقيه صغيراً كان أو كبيراً ، مؤمناً كان أو فاسقاً عاصياً.
وكان يروي حديثاً عن أبيه أمير المؤمنين عليهالسلام في هذا الباب :
عن عليّ بن الحسين زين العابدين عن أبيه الحسين عليهالسلام : «أنّ ابن الكوّا سأل علي بن أبي طالب عليهالسلام فقال : يا أمير المؤمنين ، تسلّم على مذنب هذه الأُمّة؟! فقال عليهالسلام : يَراهُ اللهُ (عزّ وجلّ) للتوحيدِ أهلاً ، ولا تراهُ للسّلام عليه
__________________
١ ـ تحف العقول ص ١٧٧ ، موسوعة البحار ٧٨ ص ١٢٠ ح١٧.
٢ ـ تحف العقول ص ١٧٥ ، موسوعة البحار ٧٨ ص ١١٧ ح٦.
أهلاً؟» (١).
وعليه فإنّنا نرى أنّ الإمام الحسين عليهالسلام لم يقم بثورة دمويّة انتقاميّة كما يصوِّرها البعض ، بل قام بنهضة إيمانيّة نورانيّة لإعادة الأُمّة الإسلاميّة إلى جادّة الصّواب ، بعد أن حرَّفها حكّام الجور وصبيان بني أُميّة.
فكانت نهضته المباركة من باب المسؤوليّة الشرعيّة ؛ للوقوف أمام الانتهاكات اللأخلاقيّة التي قام بها الحزب الأموي ، لإخراج الأُمّة الإسلاميّة عن جادّة الصواب ، والمحجّة البيضاء التي أمر الله ورسوله الأُمّة أن تسير عليها.
فأعاد الإمام عليهالسلام إلى الأُمّة الإسلاميّة توهّجها وبريقها وإيمانها ، بعد أن كادت الصبية الأمويّة أن تذهب بذلك كلّه ، وبالتالي تُطفئ نور الله في الأرض ، وتبدّل دينه الحنيف إلى دين عنيف ليس له من الإسلام إلاّ الرسم دون الاسم.
وبالنهضة الحسينيّة صارت الأُمّة تعرف أنّ هناك حقّاً مضيَّعاً ، وباطلاً ظالماً مشنَّعاً ، وأُمّة لا يمكن لها أن تركع أمام ذاك الظالم الغشوم ، والحاكم اللعين الظلوم ، بل يجب أن تنهض بوجهه وتقول له مع الإمام الحسين عليهالسلام : «لا والله ، لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أفرّ فرار العبيد» (٢).
فالإمام عليهالسلام علّمنا أبجديّات الثورات التصحيحيّة ، والنهضات التقويميّة في هذه الأُمّة المرحومة ، ولولا دماء الحسين عليهالسلام لصار الإسلام أشنع وأبشع من
__________________
١ ـ مستدرك الوسائل ٨ ص ٣٥٩.
٢ ـ بحار الأنوار ٤٤ ص ١٩١ ، مناقب ابن شهر آشوب ٤ ص ٦٨ ، وفي رواية أخرى : «ولا اُقرُّ لكم إقرار العبيد».
كلّ الأديان السابقة عليه من التحريف والتبديل والتغيير والتحوير.
نعم ، إنّ نهضة المولى الحسين بن علي عليهالسلام سلميّة بكلّ معانيها ومبانيها ، ولولا تلك الروح الطامحة إلى الإصلاح لما أخذ معه أهله ونساءه وبناته وأطفالهم جميعاً ، ومَنْ يفكّر أن يثور على حكم قوي مثل الحكم الأموي في بدايته ببضعة رجال لا يزيدون على المئة في أعظم الروايات؟
نعم ، إنّها نهضة تربويّة ، أخلاقيّة ، إسلاميّة ، رحمانيّة ، عالية النفس والمضمون ، وليست إلاّ صراحة في وجه الأُمّة النائمة ؛ لكي تصحو من غفلتها ، وتنهض من كبوتها.
تذكّرت طريفة سمعتها في محاضرة لمفتي حلب الشيخ أحمد بدر حسون وهو من علماء السنة ، يقول فيها : ذهبت لحجّ بيت الله الحرام فزرت المدينة المنوّرة ، وفي إحدى الأيّام سلّمت على شاب فلم يردّ عليّ السّلام ، فكرّرت ذلك ، ولم يجب!
فسألته : أخي ، لماذا لا تردّ السّلام وهو واجب؟!
فأجاب بغضب : لأنّ لحيتك ليست بطويلة ، وثوبك ليس بقصير!
انظر أخي المؤمن إلى هذا السلوك الذي سوف نتعرّض له في القسم الثاني من هذا الكتاب الذي عنوننّاه بـ (مواقف الوهابيّة) حتّى تميّز ما بين النهضة الأخلاقيّة السلمية للحسين بن علي عليهالسلام وما بين هذه الجماعة المتطرّفة.
الفصل السابع
المناقبيّات الذاتيّة للإمام الحسين عليهالسلام
الإنسان هو القيمة العظمى في دين الإسلام ، والمحور الذي تدور على مصلحته الشريعة الإسلاميّة وجوداً وعدماً ، فعلينا أن نفسِّر كلّ نصّ من نصوصها على هذا الأساس ، وننفي كلّ حكم مدوّن في كتب الفقه الإسلامي ينحرف عن هذا الخطّ.
يقول أحد المحامين : الشرع الإسلامي أوّل الشرائع المدنيّة التي دوّنت الأخلاق ، وأعطت مفاهيمها قوّة القانون ، وجعلت الصدق والأمانة ، والوفاء والشرف والمروءة ، قوى موجّهة للحقّ ، بحيث إذا تجرّد منها انهدم ولم يُعد ملزماً بشيء.
إنّ أفق الشريعة الإسلاميّة أوسع آفاق الشرائع ؛ لأنّها تصدر عن العقل والأخلاق ، فكلّ ما يقرّره العقل السليم ، وتسمح به الأخلاق الفاضلة فهو من الشرع.
وإذا كان دين الإسلام هو دين الإنسانيّة جمعاء حقّاً وواقعاً ، فيجب أن يُشبع حاجات الإنسان بالكامل ، ولن يكون كذلك إلاّ أن تحرص شريعته على كلّ ما من شأنه أن يخدم الإنسان ويسير به إلى حياة أفضل ، علماً كان أو فنّاً ،
أو فلسفة أو أخلاقاً (١).
وعليه فإنّك تجد أنّ الشريعة الإسلاميّة هي أكمل الشرائع وأسهل القوانين لتنظيم وتقويم الحياة البشريّة من البدايّة وحتى النهايّة ، من قبل انعقاد النطفة وحتى تسوية تراب القبر ، كلّ ذلك بمناقبيّات رائعة ، وأدبيّات ذائعة ، يعرفها الجميع من أفراد الأُمّة بالإجمال ، وتغيب عن أكثرهم بالتفصيل ، ولكن لا أحد يقول أنّها ليست موجودة.
فالقيم الإسلاميّة ، والقواعد الأخلاقيّة تنطلق من عالم حكيم حيّ قيوم قدير ، ذاك هو الله العليّ العظيم سبحانه وتعالى ، وليست من أيّ شيء أو فكر آخر ؛ لأنّ أيّ آخر هو ناقص وقاصر لأنّه مخلوق ، أمّا شرعنا المقدّس فإنّه من الكامل المطلق ، من الخالق العظيم.
ومشرِّع قوانين الإسلام هو الله سبحانه الذي يعلم حقيقة الإنسان وما يصلحه في الدنيا والآخرة ، وهو أعلم به من نفسه مهما كان ذكيّاً ، أو ادّعى العبقريّة في مجال من المجالات العامّة.
وربما تكون قيمة العلم والمعرفة أرقى القيم الإنسانيّة في الدين الإسلامي الحنيف ؛ ولذا يقول بعض الفلاسفة عن تعريف الإنسان : بأنّه حيوان متعلّم ، أو مثقّف ، نجد أنّ أوّل سورة نزلت من كتابنا المقدّس هي سورة العلق ، وأوّل آياتها بعد البسملة : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ
__________________
١ ـ قيم أخلاقيّة في فقه الإمام الصادق عليهالسلام : الآية ١٠٤.
الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (١).
فالقراءة والعلم والكتابة والقلم ، تلك هي أوائل المفردات والمفاهيم التي جاء بها القرآن الكريم لبني البشر ، منذ أكثر من أربعة عشر قرناً.
وبما أنّ الإمام الحسين عليهالسلام قد تجسّدت في شخصيته جميع القيم الإنسانيّة والمثل العليا ، حيث التقت فيه عناصر النبوّة والإمامة البرزخيّة الفاطميّة ، فكان جمّاعاً للفضائل ، ومثلاً من الأمثلة العليا في الدنيا والدين ، فذّاً من الأفذاذ في التكامل البشري ، ومثالاً جميلاً رائعاً من أمثلة الرسالة الإسلاميّة ؛
فكان بحقّ أطروحة من أطروحات الإسلام الخالدة ، بجميع طاقاته ومقوّماته الذاتيّة والرساليّة ، ليهدي الأُمّة وتهتدي به الأجيال في كلّ زمان ومكان.
علم الإمام عليهالسلام
وبما أنّ العلم هو ذروة القيم الإسلاميّة ، فإنّنا نقف على أعتاب الإمام الحسين عليهالسلام ؛ لنطلّ من خلاله وبعض كلماته النورانيّة على بحره الذي لا ينزفه المنح ، ويلا ينقصه الكيل مهما كان عظيماً ، لأنّه بحر عظيم وشاسع ، ونبع نوراني فيّاض بالنور والهدايّة ، فهو كالشمس في كبد السّماء.
وعلم الإمام ليس كالعلوم الكسبيّة التي نعرفها ، بل هو نور من الله يؤيّد به الإمام المفترض الطاعة ، فيعلم كلّ الذي يحتاجه عندما يحتاجه ؛ إمّا بالإلهام ، أو
__________________
١ ـ سورة العلق : الآية ١ ـ ٥.
النقر في الأسماع ، أو الرؤيا الصادقة ، أو الوحي المباشر أو غير المباشر. وتروي كتب السيرة أنّ رجلاً لقي الإمام الحسين عليهالسلام في الثعلبيّة في طريقه إلى كربلاء ، فدخل عليه وسلّم ، وسأله عن قوله تعالى : (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) (١).
فقال عليهالسلام : «إمامٌ دعا إلى هُدى فأجابوا إليه ، وإمامٌ دعا إلى ضلالةٍ فأجابوا إليها ، هؤلاء في الجنّة وهؤلاء في النّار ، وهو قوله تعالى : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (٢).
فسأله الإمام الحسين عليهالسلام : «مِن أيّ البلدان أنت؟».
فقال الرجل : من أهل الكوفة.
قال عليهالسلام : «يا أخا أهل الكوفة ، أما والله لو لقيتك بالمدينة لأريتك أثر جبرائيل في دارنا ، ونزوله بالوحي على جدّي. يا أخا أهل الكوفة ، مستقى العلم من عندنا ، أفعلموا وجهلنا؟! هذا ما لا يكون» (٣).
لا والله لا يكون ، ولن يكون أحد من هذه الأُمّة أعلم من أهل البيت عليهمالسلام الذين نزل القرآن عليهم وفي أبياتهم التي أمر الله أن تُرفع وتقدّس ؛ ليذكر فيها أسمه صباحاً ومساءً في كلّ حين بإذن الله العليّ القدير ؛ ولهذا قال الإمام لجعيد الهمداني مرَّة حين سأله : جعلتُ فداك! بأيّ شيءٍ تحكمون؟
فقال : «يا جعيد ،
__________________
١ ـ سورة الإسراء : الآية ٧١.
٢ ـ سورة الشورى : الآية ٧.
٣ ـ مقتل الحسين ـ للمقرم ص ١٧٩.
نحكم بحكم آل داوود ، فإذا عيينا عن شيءٍ تلقّانا به روح القدس» (١).
الحسين عليهالسلام وأجر الرسالة
فهم القرابة ، ومودّتهم هي أجر الرسالة الخاتمة ، كما في سورة الشورى المباركة : (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (٢) ، والإمام الحسين عليهالسلام يقول في تفسيرها : «وإنّ القرابة التي أمر الله بصلتها ، وعظّم من حقّها ، وجعل الخير فيها قرابتنا أهل البيت الذين أوجب الله حقّنا على كلّ مسلم» (٣).
نعم ، أجر الرسالة مودّة أهل البيت عليهمالسلام ، هُم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً كما في آية التطهير ، والإمام الحسين عليهالسلام هو خامس خمسة لم يكن لهم شبيه في الكون من البشر ، منذ آدم وحتى آخر مخلوق في الدنيا.
وله ميزة خاصّة بسبب شهادته وفدائه الخالص للإسلام الحنيف ، فأعطاه الله ميزة الذريّة الطاهرة ، فالأئمّة من صلبه خاصّة ، ففي حديث يرويه المولى أبو عبد الله عليهالسلام عن جدّه الرسول صلىاللهعليهوآله وقوله : «دخلتُ أنا وأخي على جدّي رسول الله صلىاللهعليهوآله فأجلسني على فخذه ، وأجلس أخي الحسن على فخذه الأُخرى ، ثمّ قبّلنا وقال : بأبي أنتما من إمامين صالحين (سبطين) اختاركما الله منّي ومن أبيكما وأُمّكما ، واختار من صلبك يا حسين تسعة أئمّة ، تاسعهم قائمهم ، وكلّكم في
__________________
١ ـ بصائر الدرجات ٩ : الآية ٤٥٢ ب ١٥ ح٧.
٢ ـ سورة الشورى : الآية ٢٣.
٣ ـ الكلمة ص ٤٨ ، تأويل الآيات الظاهرة ص ٢٢٢.
الفضل والمنزلة عند الله تعالى سواء» (١).
وكم كان يوصي بهم الله ورسوله الكريم صلىاللهعليهوآله ، ويأمر الأُمّة بتقديسهم وتبجيلهم واحترامهم وتقديرهم بما يستحقّون ، وهم أهلٌ لذلك كلّه ، وكذلك يأمرنا بإدخال السرور عليهم عليهمالسلام كيفما استطعنا.
وهذا الإمام الحسين عليهالسلام يحدّث عن جدّه الرسول صلىاللهعليهوآله بذلك ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «مَنْ أراد التوسّل إليّ ، وأن يكون له عندي يدٌ أشفع له بها يوم القيامة فليصل أهل بيتي ، ويدخل السرور عليهم» (٢).
فهل فعلت الأُمّة ما أمرها به رسولها الكريم محمد صلىاللهعليهوآله بأهل بيته الأطهار؟!
أم أنّهم فعلوا عكس كلّ الوصايا بهم ، فقتلوهم وشرّدوهم تحت كلّ شجر ومدر ، وكأنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله أوصاهم بقتلهم وتشريدهم؟!
فأئمّتنا الكرام عليهمالسلام خاصّة ، وأهلهم عامّة قُتلوا ولوحقوا وما زالوا إلى اليوم ، وصدق الإمام المعصوم الذي قال : «ما منّا إلاّ مسمومٌ أو مقتول» (٣). وبطلة كربلاء عقيلة الهاشميين سيّدتنا زينب الكبرى عليهاالسلام تقول : «الموتُ لنا عادة ، وكرامتنا من الله الشهادة» (٤).
__________________
١ ـ كمال الدين ١ ص ٢٩٦ ، ب٢٤ ح١٢.
٢ ـ أمالي الشيخ الطوسي ١ ص ٢٥٩.
٣ ـ بحار الأنوار ٢٧ ص ٢١٦ ، الصراط المستقيم ٢ ص ١٢٨.
٤ ـ بحار الأنوار ٤٥ ص ١١٨.