الحسين (ع) والوهّابيّة

جلال معاش

الحسين (ع) والوهّابيّة

المؤلف:

جلال معاش


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القارئ للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

وعكس الورع يكون الطمع ، فالطمع في أي شيء من متاع الدنيا ولذّائذها وشهواتها ، وإن كانت حلالاً ، يخرجها إلى حدِّ الإفراط فيها فينقلب إلى الحرام ، ويسبّب فعلها اللوم والعقاب ؛ ولهذا فإنّ العبد المؤمن دأبه مراقبة نفسه واتّهامها على الدوام.

يقول الإمام الحسين عليه‌السلام : «إنّ المؤمن اتّخذ الله عصمتهُ ، وقولهُ مرآته ، فمرةٌ ينظرُ في نعتِ المؤمنين ، وتارةً ينظر في وصف المتُجبّرين ، فهو منه في لطائف ، ومن نفسه في تعارفٍ ، ومن فطنته في يقين ، ومن قدسه على تمكين» (١).

فالعبد المؤمن يعتصم بالله لا بسواه ، ويجعل مرآته في كلّ حركاته وسكناته ، كتاب الله وآياته في القرآن الكريم.

فمرّة ينظر في آيات القرآن باحثاً عن الآيات التي تصف المؤمنين ، فيجمعها ويلتزم بها قدر الإمكان ، لا سيما آيات سورة المؤمنون ، وأواخر سورة الفرقان وغيرها من آيات الذكر الحكيم التي تصف المؤمنين ، ويبحث عن نداءات أهل الإيمان (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) ، وقد بلغت (٨٩) مورداً في القرآن ، ويتدبّر فيها ؛ ليعلم ماذا يريد ربّنا سبحانه منّا ، فيفعله إذا كان أمراً ، أو يرتدع عنه إذا كان نهياً وزجراً.

ومرّة أُخرى يبحث في الكتاب العزيز عن وصف المتجبّرين ، كالفراعنة والقوارين ـ جمع قارون ـ وجنودهم وأذنابهم ، ويدرس صفاتهم ويحاول قدر المستطاع أن يطهِّر نفسه من تلك الرذائل اللعينة ، والفيروسات الروحيّة القاتلة.

__________________

١ ـ تحف العقول : الآية ١٧٨ ، موسوعة البحار ٧٨ ص ١١٩ حديث ١٥.

١٠١

ويبحث في القرآن الكريم عن لطائف الحكمة ، وروائع الآيات الروحانيّة ، متنسّماً لتلك النسائم العبقة التي تهبّ على روحه ونفسه من خلال تنقّله في رياض الآيات القرآنيّة الكريمة ، ويتعرّض إلى نفحات ربّ العالمين الرحمانيّة.

وأمّا نفسه فإنّه دائماً وأبداً يتّهمها ؛ فهي أمارة بالسوء ، وهو يعرفها حقّ المعرفة ، وربّنا سبحانه يقول : (بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) (١). فلا أحد أعلم بك منك إلاّ الذي خلقك ورزقك وسوّاك وعدلك ؛

ولهذا يكون الإنسان على يقين من أعماله التي عملها ، وهو على إصلاح نفسه وتقديسها وتزكيتها قادر قوي متمكّن ؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى ألطف وأرحم بنا من أنفسنا ، ولن يحاسبنا على شيء لا نقدر عليه.

وبهذا المعنى يقول الإمام الحسين عليه‌السلام : «ما أخذ الله طاقةَ أحدٍ إلاّ وضع عنه طاعتهُ ، ولا أخذ قُدرتهُ إلاّ وضع عنه كُلفته» (٢).

وهذا يكون أجمل تفسير لقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا) (٣) ، وقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ مَا آتَاهَا) (٤). والقاعدة التي تقول : إذا أخذ ما أوهب أسقط ما أوجب. فالتكليف يكون بالقدرة والقدر والسعة وليس زائداً ؛ لأنّه يكون ظلماً وجوراً وتكليف بما لا يُطاق ، وحاشا لله أن يفعل بعباده مثل هذا.

__________________

١ ـ سورة القيامة : الآية ١٤.

٢ ـ تحف العقول ص ١٧٦.

٣ ـ سورة البقرة : الآية ٢٨٦.

٤ ـ سورة الطلاق : الآية ٧.

١٠٢

الفصل الخامس

البعد العاطفي في حياة الإمام الحسين عليه‌السلام

١٠٣
١٠٤

الحسين عليه‌السلام قتيل العَبْرة

ولكن ما موقف الإنسان المؤمن من الإمام الحسين عليه‌السلام؟

إنّ هذا الحديث له شؤون وشجون ونفثات في الصدور لا تهدأ أبداً. لقد جاء على لسان جدّه الحبيب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنَّ لِقَتْل الحسين حرارةٌ في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً» (١).

تلك الحرارة ، بل الجذوة المتوقّدة بالحبّ الخالص ، والولاء النقي للإمام الحسين عليه‌السلام أبي الأحرار وسيّد الشّهداء الذي قدّم نفسه الشريفة وأهله وكلّ ما يملك في سبيل الله ، فليس غريباً أن يعطيه الله سبحانه تلك المكانة الرفيعة في القلوب.

والعجيب أنّ الإمام عليه‌السلام يعطينا علامة للمؤمن المحبّ ، والموالي الحقيقي له ، وذلك بحديثين وروايتين تُنقلان عنه (صلوات الله عليه) ، وهما :

قال عليه‌السلام : «أنا قَتيل العَبرةِ ، لا يذكرني مُؤمنٌ إلاّ بكى» (٢).

__________________

١ ـ مستدرك الوسائل ١٠ ص ٣١٨.

٢ ـ كامل الزيارات ص ١٠٨.

١٠٥

وقال عليه‌السلام : «أنا قتيلُ العبرةِ ، لا يذكرني مؤمنٌ إلاّ استعبر» (١).

البكاء على المولى الشهيد ، بل سيّد الشهداء ، الإمام الحسين عليه‌السلام تلك هي مسألة المسائل في هذا العصر الحديث ، وما هذا الكتاب ، وهذه الدراسة إلاّ نفثة مصدور ـ كما تقدّم ـ ردّاً على اُولئك الذين يريدون مصادرة الإمام الحسين عليه‌السلام منّا ، ومنعنا حتّى من البكاء عليه. فما ذنبنا إذا كنّا نحبّ ، بل نعشق ذاك الإمام العظيم؟ ونعمل على تجديد ذكراه الأليمة ؛ لنجدّد العزم على الطلب بثأره في كلّ عام ، وفي كلّ يوم إن استطعنا بإعلان الولاء المطلق له ، والتبرؤ من أعدائه وقاتليه قديماً وحديثاً وفي كلّ زمان ومكان.

فلسفة البكاء على سيّد الشهداء عليه‌السلام

والبكاء يا عزيزي ناتج عن رقّة القلب ، واهتياج النفس الناجم عن شدّة الحزن أو الفرح ؛ لأنّ الإنسان عندما يضحك كثيراً يبكي ، أو عندما يُفاجأ بأمر جميل قد يجهش بالبكاء. وهذا ما نسمّيه بـ (دموع الفرح ، أو بكاء الفرح).

وأمّا بكاء الحزن والمصيبة ، فهو أمر معروف ومألوف لدى جميع البشر إلاّ مَنْ حرمهم الله من نعمة البكاء ، وهؤلاء يتمنّون لو أنّهم يستطيعون البكاء أحياناً.

فالبكاء نعمة حقيقية لِمَنْ يتأمّلها ، أو يتدبّرها بعين فاحصة ، وفكر وقّاد ، وبصيرة منارة بأنوار الوحي الإلهي ، ولا بأس بنا ، يا أخي الكريم ، هنا من أن نلتفت إلى عالمنا المعاصر وثورته العلمية ، لا سيما مجال الطبّ البشري

__________________

١ ـ أمالي الصدوق ص ١١٨ ، مجلس ٢٨ ، ح٧.

١٠٦

والتشريعي منها.

فعلماء الأحياء ، وأطباء العيون ، يقولون : إنّ البكاء له فوائد عظيمة وجليلة للعين الباكية ، وللجسد الحامل لها ، وللنفس التي تحرّك ذلك الجسد الباكي أو المتباكي.

فإفراز ذلك الدمع وغزارته يكون من الغدد الدمعية ، (وقديماً كانوا يعبّرون عنها أنّها من بخار الدم) ، فأوّل ما يفعله الدمع أنّه يغسل العين من الداخل وينقّيها من الشوائب العالقة أو الطارئة الواقعة فيها.

ثم تفتح الأقنية الواصلة ما بين العين والأنف فينظّف الأنف كذلك ، وتتفتَّح المجاري التنفسية الهوائية ، وكذلك أقنية التهوية للأذن ، ولهذه العملية ما لها من الفائدة على الأذن الوسطى والسمع بشكل عام.

إنّ الإفرازات التي تخرج من العين والأنف تخفّف الضغط عن الرأس ، فيرتاح الإنسان كثيراً عندما يبكي ، لا سيما إذا كانت به علّة في رأسه كالصداع وغيره.

والبكاء يريح النفس ، ويسكن القلب المضطرب ؛ ولهذا فإنّ العلماء ينصحون الإنسان بالبكاء والنحيب عوضاً عن الحصر والكبت ؛ لأنّ البكاء يعيد للجسم والنفس التوازن المفقود من جرَّاء الضغوط عليهما.

ولهذا ترى أنّ علماء النفس والأخلاق لم يجدوا بين الصّفات الإنسانيّة كلّها صفة أفضل وأشرف من الرحمة ، ورقّة القلب على الآخرين ، حتّى إنّ بعض الفلاسفة عدل عن تعريف الإنسان (بالحيوان الناطق) إلى أنّه (حيوان عطوف) ، وعليه فلا إنسانيّة مطلقاً بدون عطف على مصائب الآخرين ، وبدون الرحمة

١٠٧

والرقّة لنكبات المظلومين.

فالبكاء على المظلومين والشهداء ، وعلى رأسهم الإمام الحسين عليه‌السلام ، أمر طبيعي وعقلاني ، وظاهرة فطرية في مقابل قساوة القلب والغلظة وتحجّر الضمير ، وهي أخطر الأمراض النفسية المعبَّر عنها بموت القلب.

ولهذا ترى أنّه من الطبيعي جدّاً أن يحبب الإسلام البكاء ويحضّ عليه ؛ لأنّه يحلّ العقد النفسيّة التي يعجز العلم عن معالجتها ؛ لأنّ الأزمات والخسائر التي تصدم الإنسان ترسب في قلبه على شكل عقد لا يحلّها سوى الانتقام والثأر ممّن سبّب له تلك النكبة.

وبما أنّ الإسلام دين متسامح لا انتقامي ، لا سيما وأنّ الإنسان ظالم جائر في كثير من ألوان الانتقام التي يرغب فيها بطبيعته السبعيّة الحيوانيّة ، تتضافر الأديان والقوانين والشرائع على صدِّه ومنعه من ممارستها.

فلا تجد تلك العقد النفسيّة مجالاً للتعبير والتنفيس اللذين يروِّحان عنها ، بل تظلُّ في أعماق النفس تأكل بعضها بعضاً ، وتأكل الإنسان من الداخل حتّى تنقلب تحت الكبت الطويل إلى حقد يجعل صاحبه شرّيراً يحب الوقيعة في كلّ أحد ، بعد أن كان يريد الانتقام من خصمه فقط ؛

لأنّه لا يشعر بالراحة إلاّ إذا رأى الدماء البريئة تُراق ، ودموع الثكلى تسفح وتنهمر ، ولا يطمئن بغير الأنات الجريحة ، والآهات الحارّة.

ووجود الحقد في النفوس بلاء وبيل ، إذا أصاب مجتمعاً فإنّه يلتهب ويحرق الأخضر واليابس ولا يدعه إلاّ بلاقع ، ولا ينجو من ويلاته مجرم ولا بريء ؛ ولذا فلا بدَّ من إزالته بمختلف الطرق قبل أن يستفحل ويستعصي على العلاج ،

١٠٨

والإسلام الحنيف حين يوصي بالبكاء يحاول حلّ هذه العقد النفسية قبل أن تترسّب في النفوس ، وتعاني الكبت الطويل فتتحوّل إلى أمراض نفسيّة خطيرة.

ولذا فإيّاك أن تلتفت إلى اُولئك الذين يرون أن البكاء منقصة ، وأنّ الرجال لا يبكون ، أو أنّه من المعيب أن تبكي لأنّك رجل ، وغير ذلك من الأقوال الضّالة المضلّة التي تُنبئ عن قسوة قائلها ، وجفاف قلبه ، وتصلّب أحاسيسه ومشاعره.

الرحمة في بكاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو الرحمة المهداة إلى بني البشر كان يبكي خوفاً من الله ، وشوقاً إلى رحاب قدسه ، ورقّة لعباده المؤمنين ، وعند فقد أعزًَّته.

فإنّه (صلوات الله عليه وآله) بكى على ولده إبراهيم حتّى انتفض منكباه ، وقال : «القلبُ يخشع ، والعينُ تدمع ، ولا نقول ما يُغضب الربَّ» (١) ، أو أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «العينُ تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلاّ ما يُرضي الربّ ، وإنّا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون» (٢).

كما إنّه (صلوات الله عليه وآله) بكى على أصحابه الأوائل من المسلمين عندما كان يراهم يتقلّبون تحت سياط الشرك والحقد الجائرة كآل ياسر ، وبلال ، وعمّار ، وأبي ذرّ الغفاري (رضوان الله عليهم أجمعين) ، وغيرهم من تلك الطبقة الراقية في دنيا الإيمان والإسلام.

__________________

١ ـ موسوعة البحار ١٢ ص ٣٢٥.

٢ ـ صحيح البخاري ١ ص ١٩٨ ، باب الجنائز.

١٠٩

وكم مرّة بكى وأبكى (صلوات الله عليه وآله) على أهل بيته ، وما سيجري عليهم من ظلم وجور من بعده ؛ فإنّه كان يبكي كلّما أخبره جبرائيل عليه‌السلام عن مصيبة من مصائبهم ، أو شهادة أحدهم ، فكم مرّة تنقل كتب السيرة أنّه بكى على فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، أو أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي كان يسمّيه (أنت المظلوم من بعدي) ، أو على سبطه الأكبر الإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام ، أو على سبطه الآخر سيّد الشهداء ، وتلك هي المصيبة العظمى ، والطامة الكبرى (صلوات الله عليه وآله الأطهار).

المظلوميّة في بكاء زين العابدين عليه‌السلام

إنّ الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما‌السلام ، ذاك الإمام السجّاد العظيم الذي شهد واقعة الطفّ ورآها بأمّ عينيه ، قد بكى أكثر من ثلاثين سنة على والده الحسين وآله وأصحابه عليهم‌السلام ، ما وضِع بين يديه طعام إلاّ بكى ، ولا شرب إلاّ وبكى ، حتّى قيل له في ذلك ، فكان يجيب ويبيّن عذره لسائله عن ذاك البكاء العجيب.

قيل : إنّه عليه‌السلام كان يخرج إلى سوق الجزّارين ، فإذا رأى جزّاراً يريد أن يذبح شاة يقول له : «هَلْ سَقيتها الماء؟».

فيقول الرجل : نعم يابن رسول الله ، إنّا لا نذبح حيواناً حتّى نسقيه ولو قليلاً من الماء.

فيبكي عند ذلك ويقول عليه‌السلام : «ولكن ذُبح أبو عبد الله عليه‌السلام عطشان».

وقال له أحد مواليه : أما آنَ لحزنك أن ينقضي ، ولبكائك أن يقل؟!

فقاله له : «ويحك! إنَّ يعقوب النبيّ عليه‌السلام كان له اثنا عشر ولداً ، فغيّب الله

١١٠

عنه واحداً منهم ، فابيضّت عيناهُ من الحزن من كثرة البكاء ، واحدودب ظهرهُ ، وابنهُ حيٌ في دار الدنيا ، وأنا نظرت إلى أبي وإخوتي وعمومتي وسبعة عشر شاباً من بني عمومتي مجزَّرين كالأضاحي ، ونظرت إلى عمّاتي وأخواتي وقد أحاط بهنّ أهل الكوفة وهنّ يستغثنَ ويندبنَ قتلاهنّ ، والله ما ذكرت ذلك اليوم إلاّ وخنقتني العبرة» (١).

وفي رواية عجيبة مرويّة عن الإمام زين العابدين عليه‌السلام أنّه كان إذا أخذ إناءً ليشرب فإنّه يبكي حتّى يملأ الإناء دمعاً ، ويقول : «كيف لا أبكي وقد مُنع أبي من الماء الذي كان مطلقاً للسباع والوحوش؟!» (٢).

فالبكاء للرجال عند الحقيقة ولوجه الله تعالى هو من أعظم الموارد وأكبر القربات لديه سبحانه. وفي الرواية عن المعصوم عليه‌السلام أنّه : «مَنْ ذرفت عينه دمعةً من خشية الله كان تحت ظلّ الله يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه» (٣).

وفي رواية تخصُّ المولى أبا عبد الله الحسين عليه‌السلام : «مَنْ بكى على الحسين عليه‌السلام عارفاً بحقّه ، وجبت له الجنّة» (٤).

__________________

١ ـ سيرة الأئمة الاثني عشر ٢ ص ١٢١.

٢ ـ مناقب آل أبي طالب ٤ ص ١٦٦.

٣ ـ موسوعة البحار ٤٤ ص ٢٨٥.

٤ ـ المصدر السابق.

١١١

البكاء الواعي

البكاء على الإمام الحسين عليه‌السلام الذي يوجب الجنّة هو البكاء المقرون بالمعرفة والولاء ، فمعرفتك بالإمام الحسين عليه‌السلام والتزامك بالولاية له ، والسير على نهجه وهداه ، وتتبّعك لمسيرته المباركة المظفّرة ، وقيامك بشعائره المقدّسة هو الذي يوصلك إلى الجنّة.

وإذا كنت من أُمّة جدّه الحبيب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا شك أنّه يجب أن تبكي على الإمام الحسين عليه‌السلام ؛ لأنّه قال لبضعته الزهراء عليها‌السلام عندما سألته مَنْ يبكي لقتله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا فاطمة ، إنّ نساء اُمّتي يبكون على نساء أهل بيتي ، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي ، ويجدّدون العزاء جيلاً بعد جيل في كلّ سنة» (١).

فتجديد العزاء واجبنا الشرعي في هذا العصر العجيب الغريب في تعقيداته وانقلابه الأخلاقي والقيمي ، وربما نستفيد من الأحاديث السالفة الذكر أنّ البكاء ، وحتى التباكي توجب كلّها الجنّة. هذا التدرّج هو بلحاظ اختلاف الزمان ، فكان كلّما ابتعدنا عن واقعة الطفّ ضعف تأثيرها في قلوب الأُمّة ؛ لجفاف الأحاسيس ، وغلظة الأفئدة.

واجباتنا تجاه عاشوراء الحسين عليه‌السلام

ولذا أرى لزاماً علينا أن نتوقّف في هذه الأيّام لنسأل أنفسنا عن واجباتنا تجاه الإمام الحسين عليه‌السلام. والإمام الشيرازي (رضوان الله عليه) يوجزها في ثلاث نقاط :

__________________

١ ـ موسوعة البحار ص ٢٩٢.

١١٢

أوّلاً : يلزم علينا أن نعمل ؛ لكي نعرض قضية الإمام الحسين عليه‌السلام ومبادئه وأهدافه من خلال أحدث الأجهزة العصرية ، عن طريق محطّات البثّ المرئية والمسموعة ، والإنترنت والكتاب والشريط المسجّل ، وكلّ ما يصدق عليه الإعلام لإيصالها إلى العالم بأجمعه بشكلّها الذي أراده الإمام الحسين عليه‌السلام ، وأن نعظّم الشعائر التي تقدّمها الهيئات الحسينيّة من ذكر لأبي عبد الله الحسين عليه‌السلام والبكاء والعزاء ، ومختلف مواكب الحزن. كما يحسن أن تُعطّل الأسواق والمحلاّت ، ونشر مظاهر الحزن والعزاء خلال أيّام عاشوراء ، لا سيما يوم العاشر ؛ إشعاراً بالحزن على أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام ، فقد قال الإمام الرضا عليه‌السلام :

«إنّ المحرمُ شهرٌ كان أهلُ الجاهليّة يُحرّمون فيه القتال فاستُحلّت فيه دماؤنا ، وهُتكت فيه حرمتنا ، وسُبي فيه ذرارينا ونساؤنا ، وأُضرمت النيران في مضاربنا ، وانتُهب ما فيها من ثقلنا ، ولم تُرعَ لرسول الله حرمة في أمرنا ، إنّ يوم الحسين عليه‌السلام أقرح جفوننا ، وأسبل دموعنا ، وأذلّ عزيزنا بأرض كربٍ وبلاءٍ ، وأورثتنا يا أرض كربٍ وبلاءٍ ، أورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء. فعلى مثل الحسين فليبك الباكون ؛ فإنّ البكاء يُحطّ الذنوب العظام».

ثمّ قال عليه‌السلام : «كان أبي عليه‌السلام إذا دخل شهر المحرّم لا يُرى ضاحكاً ، وكانت الكآبة تغلب عليه حتّى يمضي منه عشرة أيّام ؛ فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه ، ويقول : هو اليوم الذي قُتل فيه الحسين» (١).

__________________

١ ـ أمالي الشيخ الصدوق ص ١٢٨ ، المجلس ٢٧ ح٢.

١١٣

وقال عليه‌السلام : «مَنْ ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة ، ومَنْ كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه يجعل الله (عزّ وجلّ) يوم القيامة يوم فرحه وسروره ، وقرّت بنا في الجنان عينه ، ومَنْ سمّى يوم عاشوراء يوم بركة وادّخر لمنزله شيئاً لم يُبارك له فيما ادّخر ، وحُشر يوم القيامة مع يزيد وعبيد الله بن زياد وعمر بن سعد لعنهم الله إلى أسفل درك من النار» (١).

ثانياً : مثلما سار الإمام الحسين عليه‌السلام في طريق تطبيق الإسلام ، والعمل بقوانين القرآن ، يتوجّب علينا كذلك أن تكون خُطانا إثر خطاه ، وأن نسعى لتطبيق أحكام الإسلام في بلدان العالم الإسلامي.

ثالثاً : علينا أن نقيم وأينما كنّا مجالس العزاء لأبي عبد الله الحسين عليه‌السلام على أفضل نحو ممكن ؛ لأنّ بقاء الإسلام إلى آخر الزمان هو الهدف الذي من أجله استشهد الإمام الحسين عليه‌السلام ، فإنّ الإسلام سيبقى حيّاً إلى الأبد بفضل دم سيد الشهداء عليه‌السلام ، ودماء الشهداء الذين تربّوا في مدرسته عليه‌السلام ، والذين يدافعون عن العقيدة الإسلاميّة المقدّسة طوال التاريخ.

إنَّ إقامة المآتم والعزاء والبكاء أيّام عاشوراء على الإمام أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام ، وإقامة المآدب لإطعام الناس في ذلك ، وإحياء عاشوراء ، فهذه المراسم وأمثالها هي التي حفظت لنا روح التشيّع ، والتمسّك بالقرآن والعترة الطاهرة عليها‌السلام (٢).

__________________

١ ـ علل الشرائع ص ٢٢٧ ح١.

٢ ـ قبس من شعاع الإمام الحسين عليه‌السلام ص ٣٨.

١١٤

فهل نُلام على البكاء يا عقلاء العالم أجمع؟

أو هل يعذر أحد منكم في عدم البكاء أو التباكي على سيد الشهداء عليه‌السلام؟

والآن يا عزيزي هل عرفت معنى قول الإمام الحسين عليه‌السلام : «أنا قتيلُ العبرة»؟

بل هناك مقاصد أُخرى هي :

أ ـ إحياء الشريعة الإسلاميّة وحفظها على مدى الأيام ، وتعاقب الأجيال الإسلاميّة.

ب ـ تقويم الاعوجاج الذي يُصيب المسيرة الإسلاميّة ؛ ليكون الإمام الحسين عليه‌السلام هو قطب دائرة الرحى في ذلك ، وبالتالي نشر الصلاح بين أفراد الأُمّة اقتداء بالروح والأخلاق الحسينيّة الفاضلة.

وهذا التعريف لتأكيد الصّلة بين ذكر مقتله عليه‌السلام وبين البكاء عليه ؛ لأنّ لوعة المصاب به لا تُطفأ ، ومضض الاستياء له لا ينفد ؛ لاجتماع تلك الكوارث عليه ، وملاقاته لها بصدر رحيب ، وصبر تعجبت منه ملائكة السماء ؛ فأوّل ما يتأثّر به السامع لها أن تستدرّ دموعه ، فلا يذكر الحسين عليه‌السلام إلاّ والعبرة (الدمعة) تسبق الذكر.

أضف إلى ذلك : المودّة الكامنة له في قلوب أحبائه وشيعته ، بحيث إذا انضمّت إلى كلّ ما سبق كانت أوعى ، لتأكيد الصّلة بين ذكره الشريف وبين البكاء الكثيف عليه (١). ولا سيما إذا قرأت مع إمامك الحجّة بن الحسن (صلوات الله

__________________

١ ـ مقتل الحسين ـ للمقرم ص ٩٨.

١١٥

عليه وآله ، وعجّ الله تعالى فرجه الشريف). يقول في زيارته المقدّسة : «لأندبنك صباحاً ومساءً ، ولأبكينّ عليك بدل الدموع دماً» (١).

وفي دعاء الندبة نقول : «فعلى الأطايب من أهل بيت محمد وعلي (صلّى الله عليهما وآلهما) فليبكِ الباكون ، وإيّاهم فليندب النادبون ، ولمثلهم فلتُذرف الدموع ، وليصرخ الصارخون ، ويضجّ الضاجّون ، ويعجّ العاجّون ، أين الحسن أين الحسين ، أين أبناء الحسين ، صالحٌ بعد صالح ، وصادقٌ بعد صادق» (٢).

وأنت يا عزيزي لا يحقّ لك البكاء فقط ، بل هو واجب عليك لنصرة المولى أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام ؛ لأنّه «قتيل العبرة الساكبة» ، أو أنّه عليه‌السلام : «عبرة كلّ مؤمن ومؤمنة». جعلنا الله من الباكين عليه في الدنيا والآخرة ، وحشرنا معه تحت لوائه إله الحقّ آمين.

الإمام الحسين عليه‌السلام يبكي على أعدائه

وهل تعلم يا أخي الكريم أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام بكى على أعدائه ؛ لأنّهم سيدخلون النار بسببه ، فهذا عجب عُجاب في عالم البشر ، وقاموس الإنسانيّة؟!

فالإمام الحسين عليه‌السلام ، وبعد أن اجتمع على قتاله لا أقل من ثلاثين ألف مقاتل ، وعظهم مراراً وتكراراً ، إلاّ أنّهم لم يفهموا قوله ، وتسابقوا إلى قتاله ، فراح ينظر إليهم وهو يصلح حبائل سيفه ويبكي ، وإذا بسيّدتنا زينب الكبرى ،

__________________

١ ـ مفاتيح الجنان ص زيارة الناحية المقدّسة.

٢ ـ مفاتيح الجنان ص دعاء الندبة.

١١٦

أُمّ المصائب عليها‌السلام تمرُّ به وهو بتلك الحالة ، فتبادر قائلة : فداك أبي وأُمّي يا أبا عبد الله! أوَ تبكي وأنت بمثل هذا الحال؟

فقال لها عليه‌السلام : «يا أُخيّة ، أبكي على هؤلاء الذين سيدخلون النارَ بسببي».

الله أكبر ما أعظمك ، وأجلّ شأنك سيدي ومولاي يا أبا عبد الله ، تبكي على أُمّة اجتمعت لتتقرّب إلى الخليفة الفاسق بسفك دمك ومَنْ معك من الآل والأصحاب الكرام؟!

إنّها الأخلاق الحسينيّة ، وما أعظمها من أخلاق رحمانيّة نورانيّة ، كان يبكي لأنّه كان علَمَ هدايةٍ ورشاد ، والمفروض أنّ الأُمّة تدخل الجنّة معه وليس العكس ، إلاّ أنّ بني أُميّة وشياطين الإنس والجنّ أبوا إلاّ الرذيلة والدنيّة ، وإقحام الأُمّة في الفتنة والضلال في الدنيا ، وفي النار وغضب الجبّار في الآخرة.

١١٧
١١٨

الفصل السادس

الأخوّة الإسلاميّة والنهج الحسيني

١١٩
١٢٠