أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء

المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام

أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء

المؤلف:

المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: ليلى
الطبعة: ١
ISBN: 964-5688-21-3
الصفحات: ٢٤٤

قتلُ مسلم بن عقيل ، وهانئ بن عروة ، وعبد الله بن يقطر ، وقد خذلنا شيعتُنا ، فمَنْ أحبَّ منكم الانصراف فلينصرفْ في غير حرج ليس معه ذمام».

فتفرّق النّاس عنه وأخذوا يميناً وشمالاً ، حتّى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة ونفر يسير ممّن انضمّوا إليه ، وإنَّما فعل ذلك لأنّه عليه‌السلام علم أنّ الأعراب الذين اتّبعوه إنّما اتّبعوه وهم يظنّون أنَّه يأتي بلداً قد استقامت له طاعةُ أهله ، فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون على ما يقدمون (١). فلمّا كان السَحَر أمر أصحابَه فاستقَوْا ماءً وأكثروا ، ثمّ ساروا.

لقاء الإمام الحسين عليه‌السلام مع الحرّ

وبينما كان الإمام عليه‌السلام يسير بمَنْ بقي معه من أصحابه المخلصين وأهل بيته وبني عمومته إذا بهم يرون أشباحاً مقبلة من مسافات بعيدة ، وظنّها بعضهم أشباح نخيل ، ولكن لم يكن الذي شاهدوه أشجار النخيل ولكنّها جيوش زاحفة ، فبعد قليل تبيّن لهم أنّ تلك الأشباح المقبلة عليهم هي ألف فارس من جند ابن زياد بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي ، أرسلها ابن زياد لتقطع الطريق على الحسين عليه‌السلام وتسيّره كما يريد ، ولمّا اقتربوا من ركب الحسين عليه‌السلام سألهم عن المهمّة التي جاؤوا من أجلها ، فقال لهم الحرّ : لقد اُمرنا أن نلازمكم ، ونجعجع بكم حتّى ننزلكم على غير ماء ولا حصن ، أو تدخلوا في حكم يزيد وعبيد الله بن زياد (٢).

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٧٥ ـ ٧٦ ، والبداية والنهاية ٨ / ١٨٢ ، وأعيان الشّيعة ١ / ٥٩٥.

(٢) تأريخ الطبري ٣ / ٣٠٥ ، ومقتل الحسين ـ للخوارزمي ١ / ٢٢٩ ، والبداية والنهاية ٨ / ١٨٦ ، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٧٥.

١٨١

وجرى حوار طويل بين الطرفين وجدال لم يتوصّلا فيه إلى نتيجة حاسمة ترضي الطرفين ، فلقد أبى الحرّ أن يمكِّنَ الحسينَ من الرجوع إلى الحجاز ، أو سلوك الطريق المؤدّية إلى الكوفة ، وأبى الحسين عليه‌السلام أن يستسلم ليزيد وابن زياد (١)، وكان ممّا قاله الحسين عليه‌السلام وهو واقف بينهم خطيباً : «أيّها النّاس ، إنّي لم آتِكم حتّى أتتني كتبُكم وقدمِتْ عليّ رُسُلُكُم أنِ اقدم علينا ؛ فإنّه ليس لنا إمام ، لعلّ الله أن يجمعنا بك على الهُدى والحقِّ. فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم فأعطوني ما أطمئنُ إليه من عهودكم ومواثيقكم ، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين اِنْصَرَفْتُ عنكم إلى المكانِ الذي جئتُ مِنه إليكم». فسكتوا عنه ولم يتكلّم أحد منهم بكلمة ، فقال للحرّ : «أتريد أن تصلّيَ بأصحابك؟». قال : لا ، بل تُصلّي أنت ونصلّي بصلاتك ، فصلّى بهم الحسين عليه‌السلام (٢).

وبعد أن صلّى الإمام عليه‌السلام بهم العصر خاطبهم بقوله : «أمّا بعد ، فإنّكم إنْ تتّقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله تكونوا أرضى لله عنكم ، ونحن أهل بيت محمّد ، وأولى بولاية هذا الأَمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم ، والسائرينَ فيكم بالجوْرِ والعدوانِ ، وإنْ أبيتم إلاّ الكراهية لنا والجهل بحقّنا ، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم ، وقدمت به عليَّ رُسُلُكُم انصرفت عنكم» (٣)، فقال له الحرّ : أنا والله ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر. فقال الحسين عليه‌السلام لبعض أصحابه : «يا عقبة بن سمعان ، أخرج الخرجين اللّذين فيهما كتبهم إليَّ». فأخرجَ خرجين مملوءين صُحُفاً فنُثرت بين يديه. فقال له الحرّ : إنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك ، وقد أُمِرْنا إذا نحن لقيناك ألاّ

__________________

(١) تأريخ الطبري ٣ / ٣٠٥ ، مقتل الحسين عليه‌السلام ـ للخوارزمي ١ / ٢٢٩ ، البداية والنهاية ٨ / ١٨٦ ، بحار الأنوار ٤٤ / ٣٧٥.

(٢) الإرشاد ٢ / ٧٩ ، والفتوح ـ لابن أعثم ٥ / ٨٥ ، ومقتل الحسين ـ للخوارزمي ١ / ٥٩٦.

(٣) الفتوح ـ لابن أعثم ٥ / ٨٧ ، وتأريخ الطبري ٣ / ٢٠٦ ، ومقتل الحسين ـ للخوارزمي ١ / ٣٣٢.

١٨٢

نفارقك حتّى نُقدِمَكَ الكوفة على عبيد الله.

فقال له الحسين عليه‌السلام : «الموت أدنى إليك من ذلك». ثمّ قال لأَصحابه : «قوموا فاركبوا». فركبوا وانتظروا حتّى ركبت نساؤهم ، فقال لأصحابه : «انصرفوا». فلمّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف ، فقال الحسين عليه‌السلام للحرّ : «ثَكَلَتْكَ اُمُّك! ما تريد؟!». قال له الحرّ : أما لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر اُمّه بالثكل كائناً مَنْ كان ، ولكن والله ما لي إلى ذكر اُمِّك من سبيل إلاّ بأحسن ما نقدر عليه (١).

النزول في أرض الميعاد

أقلقت الأخبار عن تقدّم الإمام الحسين عليه‌السلام نحو الكوفة ابن زياد وأعوان السّلطة الاُموية ، فأسرع بكتابه إلى الحرّ بن يزيد الرياحي يطلب فيه أن لا يسمح بتقدّم الإمام حتّى تلتحق به جيوش بني اُميّة ، وتلتقي به بعيداً عن الكوفة ؛ خشية أن يستنهض أهلها ثانية ، وليستغلّ ابن زياد ظروف المنطقه الصّعبة للضغط على الإمام عليه‌السلام واستسلامه.

وبغباء المنحرف السّاذج ، وجهالته ردّ حامل كتاب ابن زياد على أحد أصحاب الحسين عليه‌السلام ـ يزيد بن مهاجر ـ مدافعاً عمّا جاء به قائلاً : أطعت إمامي ووفيت ببيعتي. فقال له ابن مهاجر : بل عصيت ربّك وأطعت إمامك في هلاك نفسك ، وكسبت العار والنار ، وبئس الإمام إمامك ، قال الله تعالى :

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٨٠ ، تاريخ الطبري ٣ / ٣٠٦.

١٨٣

(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ) (١).

وحالت جنود ابن زياد قافلة الإمام الحسين عليه‌السلام دون الاستمرار في المسير ، فقد منعهم جيش الحرّ بن يزيد ، وأصرّوا على أن يدفعوا الإمام عليه‌السلام نحو عراء لا خضرة فيها ولا ماء.

وكان زهير بن القين متحمّساً لقتال جيش الحرّ قبل أن يأتيهم المدد من قوات بني اُميّة ، فقال للحسين عليه‌السلام : «إنّ قتالهم الآن أيسر علينا عن قتال غيرهم» ، ولكنّ الإمام عليه‌السلام رفض هذا الرأي ؛ لأنّ القوم لم يعلنوا حرباً عليه بعد ، وما كان ذلك الموقف النبيل إلاّ لما كان يحمله الإمام من روح تتسع للاُمّة جمعاء ، وأيضاً لعظيم رسالته التي يدافع عنها وقِيَمهِ التي كان يسعى إلى بنائها في الاُمّة رغم أنّها بدت تظهر العداء سافراً ضدّه ، فقال عليه‌السلام : «ما كنت لأبدأهم بقتال».

وكان نزول الإمام في كربلاء في يوم الخميس الثاني من محرّم سنة إحدى وستين (٢) ، ثمّ اقترح زهير على الإمام عليه‌السلام أن يلجأوا إلى منطقة قريبة يبدو فيها بعض ملامح التحصين لمواجهة الجيش الاُموي لو نشبت المعركة.

وسأل الإمام عليه‌السلام عن اسم هذه المنطقة فقيل له : كربلاء ، عندها دمعت عيناه وهو يقول : «اللّهمّ أعوذ بك من الكرب والبلاء». ثمّ قال : «ذات كرب وبلاء ، ولقد مرّ أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفّين وأنا معه فوقف ، فسأل عنه فاُخبر باسمه فقال : ها هنا محطّ ركابهم ، وها هنا مهراق دمائهم. فسُئل عن ذلك فقال : ثقل لآل بيت محمّد

__________________

(١) سورة القصص / ٤١.

(٢) تأريخ الطبري ٣ / ٣٠٩ ، ومعجم البلدان ٤ / ٤٤٤ ، وإعلام الورى ١ / ٤٥١ ، والأخبار الطوال / ٢٥٢ ، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٨٠.

١٨٤

ينزلون ها هنا» (١).

وقبض الإمام الحسين عليه‌السلام قبضةً من ترابها فشمّها وقال : «هذه والله هي الأرض التي أخبر بها جبرئيل رسول الله أننّي اُقتل فيها ، أخبرتني اُمّ سلمة» (٢).

فأمر الإمام عليه‌السلام بالنزول ونصب الخيام إلى حين يتّضح الأمر ، ويتّخذ القرار النهائي لمسيرته.

جيش الكوفة ينطلق بقيادة عمر بن سعد

وفي تلك الأثناء خرج عمر بن سعد من الكوفة في جيش قدّرته بعض المصادر بثلاثين ألفاً ، وبعضها بأكثر من ذلك ، وفي رواية ثالثة : إنّ ابن زياد قد استنفر الكوفة وضواحيها لحرب الحسين ، وتوعّد كلّ مَنْ يقدر على حمل السّلاح بالقتل والحبس إن لم يخرجْ لحرب الحسين.

وكان من نتائج ذلك أن امتلأت السّجونُ بالشّيعة واختفى منهم جماعة ، وخرج مَنْ خرج لحرب الحسين من أنصار الاُمويّين ، وأهل الأطماع والمصالح الذين كانوا يشكّلون أكبر عدد في الكوفة ، أمّا رواية الخمسة آلاف مقاتل التي تبنّاها بعض المؤرّخين فمع أنّها من المراسيل ، لا تؤيّدها الظروف والملابسات التي تحيط بحادث من هذا النوع الذي لا يمكن لأحد أن يقدِمَ عليه إلاّ بعد أن يُعِدَّ العُدَّة لكلّ الاحتمالات ، ويتّخذ جميعاً لاحتياطات ، وبخاصّة إذا كان خبيراً بأهل الكوفة وتقلّباتهم وعدم ثباتهم

__________________

(١) مجمع الزوائد ٩ / ١٩٢ ، والأخبار الطوال / ٢٥٣ ، وحياة الحيوان ـ للدميري ١ / ٦٠.

(٢) تذكرة الخواص / ٢٦٠ ، ونفس المهموم / ٢٠٥ ، وناسخ التواريخ ٢ / ١٦٨ ، وينابيع المودّة / ٤٠٦.

١٨٥

على أمر من الأُمور (١).

وتوالت قطعات الجيش الأموي بزعامة عمر بن سعد فأحاطت بالحسين عليه‌السلام وأهله وأصحابه ، وحالت بينهم وبين ماء الفرات القريب منهم ، وقد جرت مفاوضات محدودة بين عمر بن سعد والإمام الحسين عليه‌السلام أوضح فيها الإمام عليه‌السلام لهم عن موقفه وموقفهم ودعوتهم له ، وألقى عليهم كلّ الحجج في سبيل إظهار الحقّ ، وبيّن لهم سوء فعلهم هذا وغدرهم ونقضهم للوعود التي وعدوه بها من نصرته وتأييده ، وضرورة القضاء على الفساد.

ولكن عمر بن سعد كان أداة الشرّ المنفّذة للفساد والظلم الاُموي ، فكانت غاية همّته هي تنفيذ أوامر ابن زياد بانتزاع البيعة من الإمام عليه‌السلام ليزيد أو قتله وأهل بيته وأصحابه (٢) ، متجاهلاً حرمة البيت النبوي ، بل وحاقداً عليه كما جاء في رسالته لعمر : أن حُلْ بين الحسين وأصحابه وبين الماء ، فلا يذوقوا قطرة كما صُنع بالتقي الزكي عثمان بن عفان (٣).

__________________

(١) سيرة الائمّة الاثني عشر القسم الثاني / ٦٨.

(٢) الإرشاد ـ للمفيد ٢ / ٨٥ ، الفتوح ٥ / ٩٧ ، بحار الأنوار ٤٤ / ٢٨٤ ، إعلام الورى ١ / ٤٥١ ، البداية والنهاية ٨ / ١٨٩ ، مقتل الحسين ـ للخوارزمي ١ / ٢٤٥.

(٣) إعلام الورى ١ / ٤٥٢.

١٨٦

البحث السادس : ماذا جرى في كربلاء؟

ليلة عاشوراء

نهض عمر بن سعد إلى الحسين عليه‌السلام عشية يوم الخميس لتسع مضين من المحّرم ، وجاء شمر حتّى وقف على أصحاب الحسين عليه‌السلام فقال : أين بنو اُختنا؟ ـ يعني العباس وجعفر وعبد الله وعثمان أبناء عليّ عليه‌السلام ـ. فقال الحسين عليه‌السلام : «أجيبوه وإن كان فاسقاً ؛ فإنّه بعض أخوالكم». وذلك أنّ اُمّهم اُمّ البنين كانت من بني كلاب وشمر بن ذي الجوشن من بني كلاب أيضاً.

فقالوا له : ما تريد؟ فقال لهم : أنتم يا بني اُختي آمنون فلا تقتلوا أنفسكم مع أخيكم الحسين والزموا طاعة يزيد. فقالوا له : لعنك الله ولعن أمانك! أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟

وناداه العباس ابن أمير المؤمنين : تبّت يداك ، ولعن ما جئتنا به من أمانك يا عدوّ الله! أتأمرنا أن نترك أخانا وسيّدنا الحسين بن فاطمة وندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء؟!

ثمّ نادى عمر بن سعد : يا خيل الله اركبي وبالجنّة أبشري. فركب النّاس ثمّ زحف ابن سعد نحوهم بعد العصر والحسين عليه‌السلام جالس أمام بيته محتبٍ بسيفه ، إذ خفق برأسه على ركبتيه ، فسمعت اُخته زينب الصّيحة ، فدنت من أخيها وقالت : يا أخي ، أما تسمع هذه الأصوات قد اقتربت؟ فرفع الحسين عليه‌السلام رأسه فقال : «إنّي رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله السّاعة في المنام فقال : إنّك تروح إلينا». فلطمت اُخته وجهها ، ونادت بالويل ، فقال لها الحسين عليه‌السلام : «ليس لكِ الويل يا اُخيّة ، اسكتي رحمك الله».

١٨٧

وقال له العباس : يا أخي ، أتاك القوم. فنهض ، ثمّ قال : «يا عباس ، اركب ـ بنفسي يا أخي أنت ـ حتّى تلقاهم وتقول لهم : ما بالكم ، وما بدا لكم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم». فأتاهم في نحو من عشرين فارساً ، منهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر ، فسألهم ، فقالوا : قد جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم. قال : فلا تعجلوا حتّى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم. فوقفوا ورجع العباس إليه بالخبر ، ووقف أصحابه يخاطبون القوم ويعظونهم ، ويكفّونهم عن قتال الحسين عليه‌السلام.

فلمّا أخبره العباس بقولهم قال له : «ارجع إليهم ، فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة ، وتدفعهم عنّا العشية ؛ لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة ، وندعوه ونستغفره ؛ فهو يعلم أنّي كنت اُحبّ الصّلاة له ، وتلاوة كتابه ، وكثرة الدعاء والاستغفار».

فسألهم العباس ذلك ، فتوقف ابن سعد ، فقال له عمرو بن الحجّاج الزبيدي : سبحان الله! والله لو أنّهم من الترك أو الديلم وسألونا مثل ذلك لأجبناهم ، فكيف وهم آل محمّد؟! وقال له قيس بن الأشعث بن قيس : أجبهم ، لعمري ليصبحنّك بالقتال. فأجابوهم إلى ذلك.

وجمع الحسين عليه‌السلام أصحابه عند قرب المساء. قال الإمام زين العابدين عليه‌السلام : «فدنوت منه لأسمع ما يقول لهم ، وأنا إذ ذاك مريض ، فسمعت أبي يقول لأصحابه : اُثني على الله أحسن الثناء ، وأحمده على السرّاء والضرّاء ، اللّهمّ إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة ، وعلّمتنا القرآن ، وفقّهتنا في الدين ، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة فاجعلنا لك من الشّاكرين.

أمّا بعد ، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي خيراً ، ألا وإنّي لأظنّ أنّه آخر يوم لنا من هؤلاء ، ألا وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم منّي ذمام ، هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه

١٨٨

جملاً ، وليأخذ كلّ واحد منكم بيد رجل من أهل بيتي ، وتفرّقوا في سواد هذا الليل وذروني وهؤلاء القوم ؛ فإنّهم لا يُريدون غيري.

فقال له إخوته وأبناؤه ، وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر : ولِمَ نفعل ذلك؟! لنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك أبداً. بدأهم بهذا القول أخوه العباس ابن أمير المؤمنين واتّبعه الجماعة عليه فتكلموا بمثله ونحوه.

ثمّ نظر إلى بني عقيل فقال : حسبكم من القتل بصاحبكم مسلم اذهبوا قد أذنت لكم. قالوا : سبحان الله! فما يقول النّاس لنا ، وما نقول لهم؟! إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ، ولم نرم معهم بسهم ، ولم نطعن معهم برمح ، ولم نضرِب معهم بسيف ، ولا ندري ما صنعوا! لا والله ما نفعل ذلك ، ولكنّنا نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ، ونقاتل معك حتّى نردَ موردك ؛ فقبّح الله العيش بعدك.

وقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي فقال : أنحن نخلّي عنك وقد أحاط بك هذا العدّو؟! وبِمَ نعتذر إلى الله في أداء حقّك؟! لا والله لا يراني الله أبداً وأنا أفعل ذلك حتّى أكسر في صدورهم رمحي ، وأضاربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ، ولو لم يكن معي سلاح اُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ولم اُفارقك أو أموت معك.

وقام سعيد بن عبد الله الحنفي فقال : لا والله يابن رسول الله ، لا نخلّيك أبداً حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا فيك وصيّة رسوله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والله لو علمت أنّي اُقتل فيك ثمّ أُحيا ثمّ اُحرق ثمّ اُذرّى يُفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حِمامي دونَك ، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ثمّ أنال الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟

وقام زهير بن القين وقال : والله يابن رسول الله ، لوددت أنّي قُتلت ثمّ

١٨٩

نُشرت ألف مرّة وأنّ الله تعالى يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن نفس هؤلاء الفتيان من إخوانك وولدك وأهل بيتك.

وتكلّم بقيّة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً وقالوا : أنفسنا لك الفداء ، نقيك بأيدينا ووجوهنا ، فإذا نحن قُتلنا بين يديك نكون قد وفينا لربّنا ، وقضينا ما علينا» (١).

وأمر الحسين عليه‌السلام أصحابه أن يُقرّبوا بين بيوتهم ، ويُدخلوا الأطناب بعضها في بعض ، ويكونوا بين يدي البيوت ؛ كي يستقبلوا القوم من وجه واحد ، والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم قد حفّت بهم إلاّ الوجه الذي يأتيهم منه عدوّهم.

وقام الحسين عليه‌السلام وأصحابه الّليل كلّه يُصلّون ويستغفرون ويدعون ، وباتوا ولهم دويّ كدويّ النحل ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد ، فعبر إليهم في تلك الليلة من عسكر ابن سعد اثنان وثلاثون رجلاً.

قال بعض أصحاب الحسين عليه‌السلام : مرّت بنا خيل لابن سعد تحرسنا ، وكان الحسين عليه‌السلام يقرأ : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) ، فسمعها رجل من تلك الخيل يُقال له : عبد الله بن سمير ، فقال : نحن وربّ الكعبة الطيّبون ميّزنا منكم. فقال له برير بن خضير : يا فاسق ، أنت يجعلك الله من الطيبين؟! فقال له : مَنْ أنت ويلك؟! قال : أنا برير بن خضير. فتسابّا ، فلمّا كان وقت السّحر خفق الحسين عليه‌السلام برأسه خفقة ثمّ استيقظ ، فقال : «رأيت كأنّ كلاباً قد جهدت تنهشني ، وفيها كلب أبقع رأيته أشدّها عليّ ، وأظنّ أنّ الذي يتولّى قتلي رجلٌ أبرص» (٢).

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٩٣.

(٢) راجع أعيان الشّيعة ١ / ٦٠١.

١٩٠

يوم عاشوراء

انقضت ليلة الهدنة ، وطلع ذلك اليوم الرهيب يوم عاشوراء ، يوم الدم والجهاد والشّهادة ، وطلعت معه رؤوس الأسنّة والرماح والأحقاد وهي مشرعة لتلتهم جسد الحسين عليه‌السلام ، وتفتك بدعاة الحقّ والثوّار من أجل الرسالة والمبدأ.

نظر الحسين عليه‌السلام إلى الجيش الزاحف ، ولم يزل عليه‌السلام كالطود الشّامخ ، قد اطمأنت نفسه ، وهانت دنيا الباطل في عينه ، وتصاغر جيش الباطل أمامه ، ورفع يديه متضرّعاً إلى الله تعالى قائلاً : «اللّهمّ أنت ثقتي في كلّ كَرْب ، وأنت رَجائي في كلّ شِدّة ، وأنت لي في كلّ أمر نَزَلَ بي ثقةٌ وعدَّةٌ ، كم مِنْ همٍّ يَضْعَفُ فيه الفؤاد ، وتقلّ فيه الحيلة ، ويخذُلُ فيه الصّديق ، ويشمت فيه العدوّ ، أنزلته بك وشكوته إليك ؛ رغبة منّي إليك عمّن سواك ففرّجته عنّي وكشفته ، فأنت وليّ كلّ نعمة ، وصاحب كلّ حسنة ، ومنتهى كلّ رغبة» (١).

خطاب الإمام عليه‌السلام في جيش الكوفة

أخذ جيش عمر بن سعد يشدِّد الحصار على الإمام عليه‌السلام ، ولمّا رأى الحسين عليه‌السلام كثرتهم وتصميمهم على قتاله إذا لم يستسلم ليزيد بن معاوية ، تعمّم بعمامة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وركب ناقته ، وأَخذ سلاحه ، ثمّ دنا من معسكرهم بحيث يسمعون صوته وراح يقول : «يا أهل العراق ـ وجُلُّهُمْ يسمعون ـ فقال : أيّها النّاس ، اسمعوا قولي ولا تعجلوا ؛ حتّى أعظَكم بما يحقّ لكم عليَّ ، وحتى أُعْذَرَ إليكم ، فإن أعطيتموني النّصف كنتم بذلك أسعد ، وإن لم تعطوني النّصف من أنفسكم فاجمعوا رأيكم

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٩٦.

١٩١

ثمّ لا يكن أمركم عليكم غُمَّةً ، ثمّ اْقضوا إليَّ ولا تُنظِرونِ (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) ثمّ حمد الله وأثنى عليه ، وذكر الله تعالى بما هو أهله ، وصلّى على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى ملائكته وأنبيائه ، فَلَمْ يُسْمَعْ متكلمٌ قطّ قبلَه ولا بعدَه أبلغُ في منطق منه. ثمّ قال : «أمّا بعد ، فانسبوني فانظروا مَنْ أنا ، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاكُ حُرمتي؟! ألَسْتُ ابنَ بنتِ نبيّكم وابنَ وصيِّه وابن عمّه ، وأوّل المؤمنين المصدّق لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بما جاء به من عند ربّه؟! أوَ ليس حمزةُ سيدُ الشهداء عمّي؟ أوَ ليس جعفر الطيار في الجّنة بجناحين عَمّي؟! أو لم يبلغكم ما قال رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لي ولأخي : هذانِ سيّدا شباب أهل الجّنة؟ فإنْ صدقتموني بما أقول ـ وهو الحق ـ فوالله ما تعمدتُ كذباً منذ علمت أن الله يَمْقُتُ عليه أهله ، وإنْ كذبتموني فإنَّ فيكم مَنْ إذا سألتموه عن ذلك أخبركم ، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري ، وأبا سعيد الخِدْري ، وسهل بنَ سعد السّاعدي ، وزيد بن أرقم ، وأنسَ بن مالك يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لي ولأخي ، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟! ثمّ قال لهم الإمام الحسين عليه‌السلام : «فإن كنتم في شكّ من هذا فتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم؟! فوالله ليس ما بين المشرق والمغرب ابنُ بنتِ نبيّ غيري فيكم ولا في غيركم. ويحكم! أتطلبونني بقتيل منكم قَتَلْتُه ، أو مال لكم استهلكته ، أو بقصاص جراحة؟! فأخذوا لا يكلمونه ، فنادى : «يا شبث بن ربعي ، ويا حجّار بن أبجر ، ويا قيس بن الأشعث ، ويا يزيد بن الحارث ، ألَمْ تكتبوا إليَّ أنْ قد أينعت الثمار ، واْخضرّ الجَنابُ ، وإنما تقدِم على جند لك مجندة؟!». فقال له قيس بن الأشعث : ما ندري ما تقول ، ولكن اِنزل على حكم بني عمّك. فقال له الحسين عليه‌السلام : «لا والله ، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أفرُّ فِرار العبيد». ثمّ نادى : «يا عبادَ الله ، إنّي عذْتُ بربّي ورَبِّكم أنْ ترجمُونِ. أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبر

١٩٢

لا يؤمن بيوم الحساب» (١).

لقد أبى القوم إلاّ الإصرار على حربه والتمادي في باطلهم ، وأجابوه بمثل ما أجاب به أهل مدين نبيَّهم كما حكى الله (عزّ وجلّ) عنهم في كتابه الكريم : (مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً) (٢).

الحرّ يُخيّر نفسه بين الجّنة والنّار

وتأثر الحرّ بن يزيد الرياحي بكلمات الإمام الحسين عليه‌السلام وندم على ما سبق منه معه ، وراح يدنو بفرسه من معسكر الحسين تارة ويعود إلى موقفه أخرى ، وبدا عليه القلق والاضطراب. وعند ما سُئل عن السّبب في ذلك قال : والله ، إنّي أُخيِّرُ نفسي بين الجّنة والنّار ، وبين الدنيا والآخرة ، ولا ينبغي لعاقل أن يختار على الآخرة والجنّة شيئاً. ثمّ ضرب فرسه والتحق بالحسين عليه‌السلام ، ووقف على باب فسطاطه ، فخرج إليه الحسين عليه‌السلام ، فانكبَّ عليه الحرّ يُقبّل يديه ويسأله العفو والصّفح ، فقال له الحسين عليه‌السلام : «نعم ، يتوب الله عليك وهو التّواب الرحيم». فقال له الحرّ : والله لا أرى لنفسي توبة إلاّ بالقتال بين يديك حتّى أموتَ دونك. وخطب الحرّ في أهل الكوفة ، فوعظهم وذكّرهم موقفهم من الإمام عليه‌السلام ، ودعوتهم له ، وحثّهم على عدم مقاتلة الإمام عليه‌السلام ، ثمّ مضى إلى الحرب فتحاماه النّاس ، ثمّ تكاثروا عليه حتّى استشهد (٣).

المعركة الخالدة

حصّن الإمام عليه‌السلام مخيّمه ، وأحاط ظهره بخندق أوْقَد فيه النار

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٩٨ ، إعلام الورى ١ / ٤٥٩.

(٢) سورة هود / ٩١.

(٣) الإرشاد ٢ / ٩٩ ، الفتوح ٥ / ١١٣ ، بحار الأنوار ٥ / ١٥.

١٩٣

ليمنع المباغتة والالتفاف عليه من الخلف ، وليحميَ النساء والأطفال من العدوان المحقّق.

نظر شمر بن ذي الجوشن إلى النار في الخندق فصاح : يا حسينُ ، تعجّلت النار قبل يوم القيامة. فردّ عليه : «أنت أولى بها صِلِيّاً» (١). وحاول صاحب الحسين عليه‌السلام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم ، فاعترضه الإمام ومنعه قائلاً : «لا ترمه ؛ فإنّي أكره أن أبدأهم» (٢).

ويقول المؤرخون : إنّ بعض أصحاب الإمام خطب بالقوم بعد خطبة الإمام الاُولى ، وإنّ الإمام عليه‌السلام أخذ مصحفاً ونشره على رأسه ووقف بإزاء القوم ، فخاطبهم للمرّة الثانية بقوله : «يا قوم ، إنّ بيني وبينكم كتاب الله ، وسنّة جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله». ثمّ استشهدهم عن نفسه المقدّسة وما عليه من سيف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ودرعه وعمامته ، فأجابوه بالتصديق ، فسألهم عمّا أقدمهم على قتله ، قالوا : طاعةً للأمير عبيد الله ابن زياد. فقال عليه‌السلام : «تبّاً لكم أيتها الجماعَةُ وترحاً! أحين استصرختمونا (٣) والهين ، فأصرخناكم موجفين ، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم ، وحَشَشْتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم ، فأصبحتم إلباً (٤) لأعدائكم على أوليائكم ، بغير عدل أفشوه فيكم ، ولا أمل أصبح لكم فيهم ، فهلاّ ـ لكم الويلاتُ! ـ تركتمونا والسيفُ مشيم ، والجأش طامن ، والرأي لمّا يستحصفْ ، ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدَّبا (٥) ، وتداعيتم عليها كتهافُتِ الفراش ، ثمّ نقضتموها ، فسُحْقاً لكم يا عبيدَ الأُمّة ، وشُذّاذَ الأحزابِ ، ونبذة الكتابِ ، ومحرّفي الكلِمِ ، وعصبة الإثمِ ، ونفثةَ الشّيطان ، ومطفئي السُنَنِ ، ويْحَكم! أهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون؟! أجل والله

__________________

(١) مقتل الحسين ـ للمقرّم / ٢٧٧.

(٢) مقتل الحسين ـ للمقرّم / ٢٧٧ ، تاريخ الطبري ٣ / ٣١٨.

(٣) استصرختمونا : طلبتم نجدتنا.

(٤) إلباً : مجتمعين متضامنين ضدّنا.

(٥) الدَّبا : الجراد الصغير.

١٩٤

غدرٌ فيكم قديم ، وشجت عليه اُصولكم ، وتأزّرت فروعكم ، فكنتم أخبثَ ثمر شجىً للناظر ، وأكلةً للغاصب. ألا وإنّ الدعيَّ ابن الدعي قد ركز بين اثنتين ؛ بين السِّلة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة! يأبى اللهُ لنا ذلك ورسولُه والمؤمنون ، وحجورٌ طابت وطَهُرَتْ ، واُنوفٌ حميةٌ ، ونفوسٌ أبيّةٌ من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام. ألا وإنّي زاحف بهذه الاُسرة على قلّة العدد ، وخذلان الناصر. ثمّ أنشدَ أبياتِ فروة بن مسيك المرادي :

فاِنْ نَهْزِمْ فهزّامون قِدْماً

وإن نُهْزَمْ فغيْرُ مهزَّمينا

وما إن طبَّنا جُبْنٌ ولكن

منايانا ودولةُ آخرينا

فَقُلْ للشامتين بنا أفيقوا

سَيَلْقى الشامتون كما لقينا

إذا ما الموتُ رَفَّعَ عن اُناس

كلاكله أناخ بآخرينا (٤)

أما والله ، لا تلبثون بعدها إلاّ كريثما يُركبُ الفرس حتّى تدور بكم دور الرَّحى ، وتقلق بكم قلق المحور ؛ عهد عهده إليّ أبي عن جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) (٢) ، (تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاّ هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣)». ثمّ رفع يديه نحو السّماء وقال : «اللّهمّ احبس عنهم قطر السّماء ، وابعث عليهم سنينَ كسنيّ يوسف ، وسلِّطْ عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبَّرةً ؛ فإنّهم كذّبونا وخذلونا وأنت ربّنا عليك توكلّنا وإليك المصير» (٤).

كلّ ذلك وعمر بن سعد مُصرّ على قتال الحسين عليه‌السلام ، والإمام الحسين عليه‌السلام يحاور وينصح ويدفع القوم بالتي هي أحسن. ولمّا لم يجدِ النصح مجدياً قال لا ابن سعد : «أيْ عمر ، أتزعم أنّك تقتلني ويولّيك الدعيّ بلاد الرّيّ وجرجان؟

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر ٦٩ / ٢٦٥ ، اللهوف في قتلى الطفوف ـ ابن طاووس / ٥٩ و١٢٤.

(٢) و (٣) سورة يونس / ٧١. سورة هود / ٥٦.

(٤) مقتل الحسين ـ للمقرّم / ٢٨٩ ـ ٢٨٦ ، مقتل الحسين ـ للخوارزمي ٢ / ٦ ، تاريخ ابن عساكر ، ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام / ٢١٦ ، راجع إعلام الورى ١ / ٤٥٨.

١٩٥

والله لا تتهنّأ بذلك ، عهد معهود ، فاصنع ما أنت صانع ؛ فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة ، وكأنّي برأسك على قصبة يتراماه الصبيان بالكوفة ، ويتخذونه غرضاً بينهم». فصرف ابن سعد وجهه عنه مغضباً (١).

واستحوذَ الشّيطان على ابن سعد فوضع سهمه في كبد قوسه ثمّ رمى باتجاه معسكر الحسين عليه‌السلام وقال : اشهدوا أنّي أوّلُ مَنْ رمى. ثمّ ارتمى النّاس وتبارزوا (٢).

فخاطب الإمام عليه‌السلام أصحابه قائلاً : «قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بدّ منه ؛ فإنّ هذه السّهام رسل القوم إليكم» (٣).

فتوجهوا إلى القتال كالأُسود الضارية لا يبالون بالموت ، مستبشرين بلقاء الله (جلّ جلاله) ، وكأنّهم رأوا منازلهم مع النّبيين والصّديقين وعباده الصّالحين ، وكان لا يُقتل منهم أحد حتّى يقول : السّلام عليك يا أبا عبد الله ، ويوصي أصحابه بأن يفدوا الإمام بالمهج والأرواح ، واحتدمت المعركة بين الطرفين ، (فكان لا يُقْتَلُ الرجل من أنصار الحسين عليه‌السلام حتّى يَقْتل العشرة والعشرين) (٤).

استمرت رحى الحرب تدور في ساحة كربلاء ، واستمر معه شلاّل الدم المقدّس يجري ليتّخذ طريقه عبر نهر الخلود ، وأصحابُ الحسين عليه‌السلام يتساقطون الواحد تلو الآخر ، وقد أثخنوا جيش العدو بالجراح ، وأرهقوه بالقتل ، فتصايح رجال عمر بن سعد : لو استمرت الحرب برازاً بيننا وبينهم لأتوا على آخِرنا ، لنهجم عليهم مرّة واحدة ، ولنرشقهم بالنّبال والحجارة.

__________________

(١) مقتل الحسين ـ للمقرّم / ٢٨٩.

(٢) الإرشاد ٢ / ١٠١ ، اللهوف / ١٠٠ ، إعلام الورى ١ / ٤٦١.

(٣) مقتل الحسين ـ للمقرّم / ٢٩٢.

(٤) سيرة الأئمّة الاثني عشر ٢ / ٧٦.

١٩٦

فبدأ الهجوم والزحف نحو مَنْ بقي مع الحسين عليه‌السلام ، وأحاطوا بهم من جهات متعدّدة ، مستخدمين كلّ أدوات القتل وأساليبه الدنيئة حتّى قتلوا أكثر جنود المعسكر الحسيني من الصحابة.

وزالت الشّمس وحضر وقت الصلاة ، وها هو الحسين عليه‌السلام ينادي للصّلاة ، وقد تحوّل الميدان عنده محراباً للجهاد والعبادة ، ولم يكن في مقدور السّيوف والأسنّة أن تحول بينه وبين الحضور في ساحة المناجاة والعروج إلى حظائر القدس وعوالم الجمال والجلال.

ولم يزل يتقدّم رجل رجل من أصحابه فيقتل حتّى لم يبقَ مع الحسين عليه‌السلام إِلاّ أهل بيته خاصّةً ؛ فتقدّم ابنه عليّ بن الحسين عليه‌السلام ـ واُمّه ليلى بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثّقفيّ ـ وكان من أصبح النّاس وجهاً ، فشدَّ على النّاس وهو يقول :

أنا عليُّ بن الحسين بن علي

نحن وبيت الله أولى بالنَّبي

تالله لا يحكم فينا ابنُ الدَّعي

ففعل ذلك مراراً وأهل الكوفة يتَّقون قتله ، فبصر به مرّة بن منقذ العبديّ فقال : عليَّ إثم العرب إن مرَّ بي يفعل مثل ذلك إن لم أثكل أباه. فمرَّ يشدُّ على النّاس كما مرَّ في الأوّل ، فاعترضه مرّة بن منقذ فطعنه فصُرع ، واحتوشه القومُ فقطّعوه بأسيافهم ، فجاء الحسين عليه‌السلام حتّى وقف عليه فقال : «قتل الله قوماً قتلوك يا بُنيَّ ، ما أجرأَهم على الرّحمن وعلى انتهاك حرمة الرّسول!». وانهملت عيناه بالدُّموع ، ثمّ قال : «على الدُّنيا بعدك العفا!». وخرجت زينب أخت الحسين مسرعةً تنادي : يا أُخيّاه وابن أُخيّاه ، وجاءت حتّى أكبّت عليه ، فأخذ الحسينُ برأسها فردَّها إلى الفسطاط ، وأمر فتيانه فقال : «احملوا أخاكم». فحملوه حتّى وضعوه بين يدي الفسطاط الّذي كانوا يقاتلون أمامه.

١٩٧

ثمّ رمى رجلٌ من أصحاب عمر بن سعد يُقال له : عمرو بن صبيح عبد الله بن مسلم بن عقيل رحمه‌الله بسهم ، فوضع عبد الله يده على جبهته يتّقيه ، فأصاب السّهم كفَّه ونفذ إلى جبهته فسمّرها به فلم يستطع تحريكها ، ثمّ انتحى عليه آخر برمحه فطعنه في قلبه فقتله.

وحمل عبد الله بن قُطبة الطائي على عون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه فقتله.

وحمل عامر بن نهشل التّيميّ على محمّد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه فقتله.

وشدَّ عثمان بن خالد الهمدانيّ على عبد الرّحمن بن عقيل بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه فقتله.

قال حميد بن مسلم : فإنّا لكذلك إذ خرج علينا غلام كأنَّ وجهه شقَّة قمر ، في يده سيف وعليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع شسع إحداهما ، فقال لي عمر بن سعيد بن نفيل الأزديّ : والله لأشدَّنَّ عليه. فقلت : سبحان الله! وما تريد بذلك؟! دعه يكفيكه هؤلاء القوم الّذين ما يبقون على أحد منهم. فقال : والله لأشدَّنَّ عليه ، فشدَّ عليه فما ولّى حتّى ضرب رأسه بالسّيف ففلقه ، ووقع الغلام لوجهه فقال : يا عمّاه ، فجلى (١) الحسين عليه‌السلام كما يجلي الصقر ، ثمّ شدَّ شدّة ليث أُغضب ، فضرب عمر بن سعيد بن نفيل بالسّيف فاتّقاها بالسّاعد فأطنَّها من لدن المرفق ، فصاح صيحة سمعها أهل العسكر ، ثمّ تنحّى عنه الحسين عليه‌السلام ، وحملت خيل الكوفة لتستنقذه فوطأته بأرجلها حتّى مات.

وانجلت الغبرة فرأيت الحسين عليه‌السلام قائماً على رأس الغلام وهو

__________________

(١) جلّى ببصره : إذا رمى به كما ينظر الصقر إلى الصيد. «الصحاح ـ جلا ـ ٦ : ٢٣٠٥».

١٩٨

يفحص برجله ، والحسين يقول : «بُعداً لقوم قتلوك ، ومَنْ خصمهم يوم القيامة فيك جدُّك». ثمّ قال : «عزَّ ـ والله ـ على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا ينفعك ، صوت ـ والله ـ كثرَ واتروه ، وقلَّ ناصروه». ثمّ حمله على صدره ، فكأنِّي أنظر إلى رجلي الغلام تخطّان الأرض ، فجاء به حتّى ألقاه مع ابنه عليِّ بن الحسين والقتلى من أهل بيته ، فسألت عنه فقيل لي : هو القاسم بن الحسن بن عليِّ بن أبي طالب عليهم‌السلام.

ثمّ جلس الحسين عليه‌السلام أمام الفسطاط ، فاُتي بابنه عبد الله بن الحسين وهو طفل فأجلسه في حجره ، فرماه رجل من بني أسد بسهم فذبحه ، فتلقّى الحسين عليه‌السلام دمه ، فلمّا ملأ كفَّه صبَّه في الأرض ثمّ قال : «ربّ إن تكن حبست عنّا النّصر من السّماء فاجعل ذلك لما هو خير ، وانتقم لنا من هؤلاء القوم الظّالمين». ثمّ حمله حتّى وضعه مع قتلى أهله.

ورمى عبد الله بن عقبة الغنويّ أبا بكر بن الحسن بن عليِّ بن أبي طالب عليهم‌السلام فقتله.

فلمّا رأى العبّاس بن عليّ (رحمة الله عليه) كثرة القتلى في أهله قال لإخوته من اُمِّه ، وهم عبد الله وجعفر وعثمان : يا بني اُمِّي ، تقدّموا حتّى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله ...

فتقدّم عبد الله فقاتل قتالاً شديداً ، فاختلف هو وهانئ بن ثبيت الحضرميّ ضربتين فقتله هانئ (لعنه الله). وتقدّم بعده جعفر بن عليّ عليه‌السلام فقتله أيضاً هانئ. وتعمّد خوليُّ بن يزيد الأصبحيّ عثمان بن عليّ عليه‌السلام وقد قام مقام إخوته ، فرماه بسهم فصرعه ، وشدَّ عليه رجل من بني دارم فاحتزَّ رأسه.

١٩٩

وحملت الجماعة على الحسين عليه‌السلام فغلبوه على عسكره ، واشتدَّ به العطش ، فركب المسنّاة (١) يريد الفرات وبين يديه العبّاس أخوه ، فاعترضته خيل ابن سعد ، وفيهم رجل من بني دارم ، فقال لهم : ويلكم! حولوا بينه وبين الفرات ولا تمكِّنوه من الماء. فقال الحسين عليه‌السلام : «اللّهمّ أظمئه». فغضب الدّارميُّ ورماه بسهم فأثبته في حنكه ، فانتزع الحسين عليه‌السلام السّهم وبسط يده تحت حنكه فامتلأت راحتاه بالدَّم ، فرمى به ثمّ قال : «اللّهمَّ إنِّي أشكو إليك ما يُفعل بابن بنت نبيِّك». ثمّ رجع إلى مكانه وقد اشتدَّ به العطش.

استشهاد الإمام الحسين عليه‌السلام

لم يبقَ مع الإمام الحسين عليه‌السلام سوى أخيه العباس الذي تقدّم إليه يطلب منه الإذن في قتال القوم فبكى الحسين وعانقه ، ثمّ أذن له فكان يحمل على أهل الكوفة فينهزمون بين يديه كما تنهزم المعزى من الذئاب الضارية وضجّ أهل الكوفة من كثرة مَنْ قُتل منهم ، ولمّا قُتل قال الحسين عليه‌السلام : «الآن انكسر ظهري ، وقلّت حيلتي ، وشمت بي عدوّي» (٢).

وفي رواية اُخرى : إنّ الإمام الحسين عليه‌السلام اتجه إلى نهر الفرات وبين يديه أخوه العباس ، فاعترضته خيل ابن سعد (لعنه الله) ، وفيهم رجل من بني دارم ، فقال لهم : ويلكم! حولوا بينه وبين الفرات ولا تمكّنُوهُ من الماء. فقال الحسين عليه‌السلام : «اللّهمّ أظمئه». فغضب الدارمي ورماه بسهم فأثبته في حنكه ، فانتزع الحسين عليه‌السلام السّهم ، وبسط يده تحت حنكه فامتلأت راحتاه من الدم ، فرمى به ثمّ قال : «اللّهمّ إنّي أشكو إليك ما يُفعل بابن بنت نبيّك». ثمّ رجع إلى مكانه

_____________________

(١) المسناة : تراب عال يحجز بين النهر والأرض الزراعية. «تاج العروس ـ سنى ـ ١٠ : ١٨٥».

(٢) سيرة الأئمّة الاثني عشر ٢ / ٧٧ ، بحار الأنوار ٤٥ / ٤٤٠ ، المنتخب ـ للطريحي / ٤٣١.

٢٠٠